الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة نت / الرؤى الغائبة في صراع الثورات المتضادة

الرؤى الغائبة في صراع الثورات المتضادة

 

 

تاريخ النشر: 2016/5/20

لم يعد بمقدور أحد أن ينكر أن المنطقة التي اصطلح الغرب على تسميتها بالشرق الأوسط أصبحت تستحوذ على أكبر قدر من اهتمام وتركيز صناع السياسة الدولية في الدول الأكثر نفوذا في عالم اليوم.

وقد أضحت الدلائل على هذا أبلغ من أن تحتاج إلى برهان، وبوسع الذين يبنون استنتاجاتهم على تحليل “الحركيات” المؤثرة أن يكتشفوا أن أرض الشرق الأوسط ومشكلاتها قد استغرقت في العام الأخير وعلى مرأى ومسمع من مشاهدي التحركات -التي ترصدها الفضائيات بروتينية- أكثر من خمسين في المائة من وقت وفعاليات شخصية كشخصية وزير الخارجية الأميركية الذي يحتل منصبا من المفترض أنه يمثل رمانة الميزان في السياسات الدولية.

وكما هي العادة في التشخيصات العلمية لأثر التفاعلات الإنسانية والبشرية فإننا إذا أردنا أن نصل إلى لب القضية الحاكمة للمشكلات المتوازية والمتشابكة فمن الواجب أن ننحي الاستنتاجات -والنتائج- الأيديوولوجية والمضمونية مؤقتا دون إهمال لها أو تقليل من شأنها.

وفي مقابل هذا فإن علينا كباحثين عن الحقيقة أن ننطلق بمهارات الغواصين ومقتفي الأثر والمساحين إلى البحث عن عامل عقدي -أو مرتبط بالعقائد الدينية أو بغيرها من العقائد البالغة في تأثيرها حد الدين- قد يمثل سببا في تأجيج الدوافع في اتجاه أو آخر، ومن الطريف أن العوامل العقدية في نزاعات الشرق الأوسط أبرز من أن تحتاج إلى بحث أو تشخيص، كما أنها أيضا أبرز من أن تخضع لتجاهل أو تقليل. 

وعلى صعيد آخر فإننا نجد أنفسنا مطالبين بأن نبحث بجدية واقعية ومادية مفرطة في الآثار المتجسدة للوجدانيات الحاكمة لحركة الشعوب والأسر الحاكمة والطبقات المتنفذة، ومن حسن الحظ أن كل هذه الزوايا أصبحت مضاءة جيدا بفضل الفن والآدب والتاريخ من بعدهما. 

ومن باب إنقاذ الوقت أو توفيره بالولوج مباشرة إلى تحليل الموضوعات الحالة والمتقلبة بمعطياتها فإننا نقترح أو نفضل أن نطرح هنا عددا من الحقائق الجوهرية المغيبة في دراسة الإشكاليات الحاكمة لمستقبل النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط مع الاعتراف المسبق بأن تغييب هذه الحقائق كان أمرا منطقيا ومتسقا -ومن ثم مفهوما- مع روح فهم السياسات، ومع روح بناء الدراسات كذلك؛ ولهذا السبب نفسه تبدو أهمية وخطورة الطرح الذي نقدمه على الرغم مما قد يبدو من لامنطقيته أو من لا معقوليته. 

أول هذه الحقائق هو أن تقدم العقل الغربي بما يوازيه من الذكاء الصناعي قد حسم توجهات القضية الدينية تماما بما جعلها تسير في اتجاه مكونات العقيدة الإسلامية -سواء كان هذا بسبب في جوهر العقيدة نفسها، أو في تطور الحياة الإنسانية أو فيما هو أعمق من هذا وذاك- وهو ما أدى بالتبعية إلى نفاد رصيد فكرة التعويل على الدوافع التاريخية العميقة التأثير فيما يعرف أو يوصف بأنه تجدد لدورات الصراع الصليبي الإسلامي. وقد تكرس هذا الموقف “السلبي” الجديد رغم الجاذبية البالغة لدوافع تجديد الصراع المسيحي الإسلامي ورغم اللمعان غير المنكور في تجاربها الناجحة، ورغم انحيازاتها المفهومة لتبرير قيم قد تكون مستهجنة ظاهريا ومتقبلة في العمق كالعنصرية، بل رغم بقاء تأثيرات لها إلى اليوم.

وقد عرف عني تكرار القول بأن تعميق الانتماء للمسيحية الشرقية يؤدي أوتوماتكيا إلى نصرة الإسلام، كما أن التعويل على نشر المسيحية البروتستانتية والتبشير بها في المجتمعات العربية كان يقوي تلقائيا من الدعوة إلى الإسلام والإيمان به والعمل لأجله، وهكذا فإن دينامية السلوك السياسي تسير بالمجتمعات الغربية المعادية للإسلام سيرا حثيثا في اتجاه هادئ يتكئ على أساس ديني متجرد لا متعصب ويقود إلى الإيمان بقيم الإسلام والدفاع عنها وربما إلى اعتناقه. 

ثانية هذه الحقائق ترتبط بالفهم الجديد لمعنى الثروة في السياسة والثورة وتفاعلاتهما؛ وهي الحقيقة القائلة بأن المال غير الموظف في الخدمة العامة يصبح بمثابة العبء على الاقتصاد والسياسة على حد سواء، بل إن هذا المال يصبح مصدرا من مصادر ضعف الدولة الحائزة له أو الحريصة على تنميته بالاستثمار، وليس من قبيل المبالغة ولا التوحش أن أقول من واقع التأمل في أحداث التاريخ إن إفناء الأموال في الحروب المعلمة للشعوب أفضل بكثير من ادخاره في صناديق سيادية؛ لكن الأفضل من هذين البديلين هو الإنفاق على الخدمات العامة بمفهوميها الواسع والإنساني.

وهنا أؤكد على حقيقة لا أكف عن التغني بها في كل حين وهي أن المرافق العامة -وليست العقارات ولا الأصول الثابتة الأخرى- تمثل أفضل وأذكى وسائط الاستثمار القومي والجماعي إذا ما تعلق الأمر بالسياسة والمستقبل أو بالتنمية والواقع أو بالحرب والسلام، وهو ما أثبتته تجارب الدول التي خاضت الحرب العالمية الثانية بتطوراتها واستنزافاتها ثم بتداعياتها وتوابعها.

ثالثة هذه الحقائق الحاكمة للصراع الحيوي الراهن هي أن الإعلام الموجه المرتبط بمراحل التحول مهما تكثف لا يستطيع استحداث عقول بناءة، وغاية ما يمكن له أن ينجح فيه هو التلاعب بمجموعة كبيرة أو صغيرة من العقول الراغبة في هذا التلاعب أو المرحبة به، وفضلا عن هذا فإن هذا النجاح التقليدي المضمون أصبح ضعيف القيمة إلى حد التلاشي إذا ما قدر له أن ينازل -ولا نقول يواجه- وسائل الاتصال الاجتماعي بإمكاناتها غير المتناهية وبجذورها المتعددة بتعدد خلق الله.

وعلى الرغم من أن أنهار التمويل قد صبت صبا في محاولة خلق وجود رسمي أو سلطوي فاعل في وسائل التواصل الاجتماعي فإن هذا الوجود في حد ذاته تحول وتوجه بطريقة تلقائية في مصلحة روح الثورة لا الثورات المضادة.

ومن الطريف أن مسئولي التوجيه الرسمي لم يدخروا جهدا فيما يفيضون به في شرح توجهاتهم ونجاحاتها بكل ما يمكن لهم وما هو متاح بالفعل من توظيف للفن والمال والمؤسسات الإعلامية المملوكة لهم؛ حتى إذا ظنوا أنهم حققوا درجات النجاح الإعلامي الأقصى إذا بكلمة واحدة أو لقطة واحدة تبتلع كل أثر ممكن لهذه الجهود على نحو شبيه تماما بما فعلت عصا موسى من قبل.

رابعة هذه الحقائق أن عقيدة الدولة أو المجتمع (أو الوطن والشعب) “شيء” راسخ يرتبط بالجموع وبالمجموع وبالشرعية والمشروعية كما يرتبط بالتاريخ والوجدان، وهذا “الشيء” لا يتغير بتصريح متكرر أو عابر من شخص مترهب تترتب له القرعة التي تضعه على كرسي في كنيسة، أو كاتب أو باحث يوضع أو يتموضع على كرسي الشيخ أو المدير أو الوزير، أو من إذاعية تتصايح في فضائية أو أرضية، أو فنانة متوسطة القيمة تتقمص دور الملقنة أو المحاورة. 

وقد أثبتت الحوادث المتفرقة مدى العبثية في التعويل على أي أثر مرتجى من هذه الوسائل القديمة. وفي مقابل هذا فإن الإنسانية الحالية المعاصرة بحكم الزمن لتطورات الاتصال المعرفي والقيمي الجديد أدركت بوضوح أن محاولات العبث بالعقيدة القوية لا تقود إلا إلى تعزيزها وتثبيتها، وتنبيه أهلها للذود عنها، بل إن الناتج أو الأثر السوسيولوجي لمثل هذه المحاولات النزقة يميل تلقائيا في مصلحة خلق تيارات التطرف التي هي في حقيقتها النفسية أو السيكولوجية لا تعدو أن تكون تمسكا بالأصالة في مواجهة العمالة!

ولا يستغربن القارئ من استخدامي لهذا اللفظ أو المصطلح في الموضع الذي كان القراء يتوقعون إن يأتي لفظ المعاصرة، ذلك أن مفهوم العمالة في هذا المقام هو اللفظ الدقيق لوصف شعور جماهير المخاطبين بدعوات “التعابث” بالعقائد، ومن ثم فإن هذا اللفظ وبلا مواربة سوف يمثل المصطلح الوحيد والدقيق الذي يصف توجهات المتلاعبين بالعقيدة أو العابثين بها عند المنتمين لحضارات الشرق الأوسط بدياناتها الثلاث ولغاتها الخمس وسوف يكون هذا اللفظ أقرب من ألفاظ أخرى كالحداثيين والتنويريين.. الخ.

ومالم يدرك اللاعبون على مسرح المشرق العربي الحدود الدرامية لهذا المسرح فسوف يظل فعلهم المسرحي قاصرا عن أن ينشئ وضعا جديدا، أو عن أن يشي بفكر قادر على الاتصال بمستقبل يدهم قبل أن يدعم، ويستشكل ويشكل قبل أن يشّكل أو يتشكل.

تم النشر نقلا عن موقع  الجزيرة نت

ولقراءة المقال على موقع الجزيرة.نت  اضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com