الرئيسية / المكتبة الصحفية / قصة الطرف الثالث …!!

قصة الطرف الثالث …!!

 

(1)

استسهل كثيرون من الذين راقبوا الأحداث بعد ثورة 25 يناير أن يلجأوا إلى تعبير «الطرف الثالث» ليحلوا به أي مشكلة غير منطقية فيما يرونه من أحداث، فكيف يمكن للثورة أن تخرب مسارها بأحداث غريبة ومتناقضة مبكرة مثل أحداث البالون؟

إذاً فلابد أن هناك طرفا ثالثا.

ثم تبلورت الأمور في اتجاهات محددة، وبصفة خاصة بعد أحداث ماسبيرو وما شابهها، حتى إن بعض الكتاب لم يفرطوا في اتهام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأنه هو نفسه الطرف الثالث، أو بأنه الراعي السري أو الفعلي أو الرسمي للطرف الثالث.

وقد صادف هذا المعني هوي من قوي وطنية كثيرة، على الرغم من عدم الرغبة في الاقتناع به، بيد أن الأمر كانت له جذور متفاوتة.

(2)

ومن العجيب أن أذني بحكم اللغة لا بحكم السياسة، انزعجت أيما انزعاج حينما صدر أول تصريح عن المجلس العسكري متضمنا القول بأن المجلس يقف على أبعاد متساوية من جميع الأطراف، وبلغ بي الانزعاج يومها أن قلت على الهواء: إن الذي أشار بهذا التعبير قد خانه الصواب في التعبير عن حقيقة الموقف الذي ينبغي أن يقفه المجلس الأعلى، أو الذي أتصور أن المجلس يحب أو يجب أن يقفه،

ولم أكن أتصور بعد هذا التنبيه القوي الذي أذعته وأشعته أن يعود المجلس إلي استخدام هذه الجملة (القاتلة) القائلة بأنه يقف علي أبعاد متساوية من جميع الأطراف، وعندئذ قلت لأحد قادة المجلس العظام وجها لوجه: إن هذا التعبير خطير جدا علي صورة المجلس وأدائه، ذلك أن معناه لا يقف عند حد أن المجلس يقف متوسطا بين الثورة والثورة المضادة فحسب كما تريدون أن تقولوا مستوحين صورة النزاهة والعدل والتسامي، ولكن معناه الأعمق هو أنكم تعطون شرعية للثورة المضادة التي لا تعطيها أي ثورة ناجحة أي نوع من الشرعية، ولا تكتفون بالاعتراف بها فحسب، وهو أمر لن يمكن فهمه إلا في إطار واحد هو أنكم أميل إلي أن تكونوا ضد الثورة وضد فكرتها كما يقول البعض الآن، وأنكم أصبحتم الآن ضد ما صور من انحيازكم الواضح للشعب في أول فبراير، وكأنكم تريدون أن تأكدوا علي الفكرة التي تقول بأنكم لم تكونوا ضد أي شيء إلا التوريث فحسب

(3)

صمت القائد العظيم، وبدا بوضوح وكأنه وصل إلى الاقتناع بطرحي، واستمهلني، ثم إذا بعد أسبوع من هذا الحديث أجد أن وتيرة استخدام تعبير المسافات المتساوية بدأت تزداد، وكأنما الأمر قد تمت مناقشته وتم اتخاذ قرار في هذا الشأن.

وهكذا انتهي الحال بثورة 25 يناير قبل مضي شهور من اندلاعها إلى أن أصبحت سلطة الدولة تعترف بوجود ثلاثة أطراف:

  • قوي الثورة من ناحية.
  • قوي الثورة المضادة من ناحية ثانية.
  • سلطة الدولة المتمثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة من ناحية ثالثة،

ومن العجيب أن سلطة الدولة هذه كانت كثيرا ما تعبر عن ضيقها إذا وصفت بأنها سلطة الدولة.

(4)

وقد قادني هذا إلي تطوير خطابي السياسي الإعلامي في اتجاه آخر، وهو التوكيد علي مسئولية المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن سلطة رئيس الدولة بكل ما يستتبعه هذا من أداء سيادي، وتنبؤ واجب بما يمكن من أثر أو تأثير للأحداث المقبلة وسياسات مواجهتها، لكني فوجئت علي الناحية الأخرى، وعلي مسمع من الجماهير المشاهدة للفضائيات بأحاديث متكررة من أعضاء المجلس تؤكد علنا علي فكرة انصرافهم التام عن ممارسة سلطة الدولة تحت دعوي عدم رغبتهم و عدم رغبة القائد العام المشير طنطاوي في الاستمرار في السلطة، وكانت هناك دلائل كثيرة علي أن المجلس الأعلى لا يريد أن يمارس هذه السلطة السيادية كما ينبغي، حتي وإن كانت هناك دلائل كثيرة علي أن المجلس يريد تأجيل تسليم السلطة.

وعلي سبيل المثال فإن المجلس أجل تعيين المسئولين في كثير من الوظائف التي يصدر قرار التعيين فيها من رئيس الدولة/ الجمهورية، وأبرزها وظيفة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، كما آثر التجديد خارج الزمن لكثيرين في وظائف من التي كانت تقتضي مثل هذا التعيين.

ووصل الأمر قمته عند تأجيل تعيين الأعضاء المعينين في مجلس الشورى.

(5)

وفي تلك الفترة دار حوار متصل ومتكرر بيني وبين كثيرين من مستويات مختلفة من أبناء الوطن الذين كانوا يريدون الوصول إلى حقيقة الأمر، شأنهم شأن كل إنسان باحث عن الحقيقة ومضطرب في بحثه عنها بين ظواهر متناقضة تقول بالشيء وعكسه.

وبالطبع فقد كانت خبرات معظمنا بالتاريخ والمنطق والنفس البشرية تحكم ما نصوغ من آراء أو اعتقادات، لكننا مع كل مقومات هذا الوضوح العقلي في أذهاننا كنا نواجه بغمام شديد فيما نراه من تصرفات وقرارات وتوجهات وتحالفات وترحيبات تجري أمام أعيننا، وكنا نواجه أيضا بما يتسرب إلينا من إيحاءات بعض أعضاء المجلس للبعض من هذه الفئة أو تلك، وبخاصة من فئات رجال القانون والدستور والمشتغلين بعلم السياسة والإعلام، ولقاءاتهم بالبعض الآخر ودفعهم لهذا في اتجاه ما، واستجابتهم لذاك في اتجاه ما.

(6)

هكذا وصلت دون ذكاء إلى القول بأن المجلس ليس رأيا واحدا، وليس قلبا واحدا، لكنه آراء وقلوب، ومع أنني كررت هذا القول في أكثر من وسيلة إعلامية، فإن أحدا من المجلس لم يرد علي، ولم ينف صحة ظني، ولم يعن بأن يوجهني إلي أني أخطأت الاستنتاج.

وهكذا وجدتني أصرح بعد فترة بأن هناك حقيقتين متلازمتين (وإن كانتا متناقضتين) لا حقيقة واحدة.

  • الحقيقة الأولي هي أن رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة يريد تسليم السلطة والخلاص من كرة اللهب التي ألقيت في يديه (أو في حجره: على حد تعبيره الذي كرره كثيرا للمقربين منه، أو الذين قابلوه من الداخل والخارج).
  • الحقيقة الثانية هي أن بعض أعضاء المجلس لا يرغب في هذا التسليم بأية صورة من الصور، وأن هذا البعض يلجأ إلى كل الأساليب التي تجعل المجلس يحتفظ بهذه السلطة ولا يسلمها لا لمدني ولا لعسكري، وأنه يوظف معارف وخطابات ومشاركات ومداخلات وتعقيبات وأسئلة كثيرين من المتصلين بالمجلس العسكري لهذا الغرض توظيفا مستمرا ودائبا، بل أنه يعمد إلى الاستعانة بما يشبه شركات أو مؤسسات متخصصة في التفكير البدائلي من أجل البحث عن السيناريوهات الكفيلة بأن تنهي الأمل في هذا التسليم تماما.

لم أكن أبالغ فيما قلت، ولم أكن أرجم بالغيب، فقد كانت الأدلة الدامغة واضحة كل الوضوح حتى وإن لم يكن في وسعي التصريح بها الآن، ولا بعد الآن بقليل، وكانت تقول بهذا الذي أقول به الحالة النفسية والوجدانية التي نصادفها ونحن نري وجوه أصحاب القرار وملامحهم علي الهواء تحت الكاميرات الكاشفة والفاضحة.

(7)

لكن هذا كله ظل وكأنه لايزال محصورا في نطاق تشخيص من نسميهم في الطب «الاستشاريين القدامى»، ولم يكن من الممكن لغيرهم أن يدركوه بالوضوح ذاته.

وظل الأمر كذلك حتي ظهر طرف ثالث جديد كان شبقه إلي أن يستمر المجلس العسكري في السلطة أكثر بكثير حتي من شبق أعضاء العسكري الراغبين في هذا الاستمرار، وهنا حدثت المفارقة التي وصفها القدامى بقولهم في وصف مثل هذا الطرف إنه ملكي أكثر من الملك (وعسكري أكثر من العسكري و.. إلخ)، فقد اندفع هذا الطرف الثالث الجديد اندفاعات متوالية من أجل إبعاد السلطة عن يد الشعب بأي ثمن.

وهكذا بدا وكأن هذا الطرف الثالث الجديد أخطر على الشعب من القنبلة الذرية، وأخطر على الثورة من القناصة.

(8)

ومع أن هذا الطرف الثالث الجديد كان بحكم طبائع الأمور منقادا لقائد فإنه ظن أن حماسه الزائد يتيح له أن يفرض علي القائد (الذي يوظفه) ما يراه، وكأنما أصبح الملكي في مكانه أعلي من الملك!! ومن المؤسف أن أحد أعضاء المجلس العسكري بالغ في تقديره لصواب رأي الملكي، وبالغ للملكي في تصوير قدرته على إقناع رئيسه بأن هذا هو الطريق الوحيد الذي أمامه.

بل إن هذا العضو وصل إلي حد الاعتقاد المشوش بأنه بمقتضي ما يكتبه مما يسميه تشريعا أو قانونا أو إعلانا (أو ما يكتب له) يملك سلطة الرب الأعلى في هذا العالم الذي نعيشه، وفي هذا الوطن الذي ننتسب إليه، فإذا جادلته بأن أصول العلم والفن في الدنيا كلها لا تقول بما يقول به، قال: إنه ليس مسئولا عن الدنيا، لكنه مسئولا عن أن يحكم فيما بين يديه بما يعرف هو أنه صواب، وإذا جادلته بأن رأيه يحتمل الخطأ لم يثر، وإنما أجاب في برود بأن هذا الذي يقوله هو الذي سينفذ حتي لو كان خطأ، لأنك لا تستطيع (كما يقول) أن تغير فيما تم إقراره، وإذا قيل له إنه يقود الأمر إلي حافة خطرة قال: إنه يعرف ما يقول ويعرف أن الخطر بعيد.

(9)

وكان الطرف الثالث الجديد الذي يمكن التعبير عنه بلفظ «الملكي» (أي الملكي الأكثر ملكية من الملك) يري هذا الثبات والتعنت الذي يبديه عضو المجلس العسكري فيزداد اطمئنانا إلى أن البناء الورقي ثابت كالأهرام، وبالطبع فإن المراقبين كانوا يرون هذا فيصدقون!

وكنت في كل مناقشاتي مع كل المتنفذين والمطلعين والمراقبين ـ ولا أقول معظمهم ـ قد فشلت تماما في إقناعهم بأننا في عصر مختلف !! .

لكني مع هذا وصلت إلي حالة من إشفاقهم علي أنني أقف وحيدا في صف ليس فيه أحد غيري يؤمن بالرأي الخاطئ (حسب تشخيصهم) الذي لا يعترف بأن البناء الذي يحترمونه (أو يتصورنه حاكما) هو الأساس، وهو الحكم، وكانت قدرتي علي الرجوع إلي الصواب تشفع لي عندهم، فهم يعرفون أني سرعان ما سأعود إلي الصواب ، لكنني مع هذا ظللت أستند إلي ثقتي في نفسي وأقول لهم إن البناء الذي بناه الطرف الثالث ليس بحاجة إلي عود كبريت لإحراقه، وإنما تكفيه نفخة واحدة في وقت مناسب تتواني الرياح الخفيفة (لا المعتدلة) فيها في الاتجاه المطلوب، وعندها يصبح هباء منثورا.

ومع هذا فإنهم كانوا ـ ولا يزالون ـ يظنون بي الجنون

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

لماذا انحاز الجوادي للثورة ورفض الانقلاب عليها؟

بقلم:قطب العربي حين اندلعت ثورة 25 يناير 2011 انحاز عدد كبير من ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com