الرئيسية / المكتبة الصحفية / التاريخ العسكري لحرب أكتوبر

التاريخ العسكري لحرب أكتوبر

لايزال التاريخ العسكري لمصر المعاصرة في حاجة إلي كثير من الجهد لاستيفاء أساسياته . وقد عاني هذا التاريخ من نظرات ضيقة الأفق ، ونظرات أخري قصيرة النظر ، كما فرض عليه أن يكون ضحية للأهواء والمجاملات والانفعالات علي نحو لم يشهده تاريخ عسكري ولا سياسي من قبل ، ولست أحب أن أفيض في الحديث عن الأسباب التي أدت إلي هذا الظلم فنحن اليوم في مقام احتفال ، وظني أن الأولي في مقام الاحتفال هو الإشارة إلي الايجابيات التي تحققت والحث علي دفع الآخرين إلي المشاركة في الايجابيات.
ولعلي أقفز مباشرة إلي الحث علي الحصول من القائد البطل ابراهيم فؤاد نصار – مدير المخابرات الحربية في هذه الحرب وهو اكبر قادتها الذين لا يزالون علي قيد الحياة – علي مذكراته أو ذكرياته أو تصحيحاته أو توجيهاته ، ليس من المعقول أن يكون هذا الرجل موجوداً بيننا ولا نستفيد من وجوده.
وقد كان من حسن الحظ أن القائدين اللذين توليا رئاسة الأركان وهما الجمسي والشاذلي قد كتبا مذكراتهما عن هذه الحرب وبقيت هذه المذكرات بمثابة مرجع مهم لكثير من التفصيلات وقد تدارست مذكرات هذا وذاك في كتابي “النصر الوحيد“.
أما القادة الثلاثة الذين تولوا قيادة الجيش الثاني والثالث فقد كتب اثنان منهما مذكراتهما ومن حسن الحظ أن عبد المنعم خليل الذي كان قائدا للمنطقة المركزية وتولي قيادة الجيش الثاني بعد الثغرة نشر مذكراته مرتين ، أما قائد الجيش الثاني في بداية الحرب وهو الفريق سعد مأمون فلم تنشر له حتي الآن مذكرات من أي نوع وأما قائد الجيش الثالث الفريق عبد المنعم واصل فقد نشر مذكرات موجزة في فترة متأخرة عن أقرانه .
في مقابل هذا فإن قادة الأفرع الرئيسية الثلاثة لم يتركوا مذكرات بالمعني المعروف وإن كانوا قد تركوا كثيرا من الأحاديث والحوارات وكان أكثرهم في هذا الرئيس مبارك ثم المشير محمد علي فهمي قائد قوات الدفاع الجوي الذي ترك كتابا عن القوة الرابعة لكنه قصر في نشر المذكرات الخاصة به أما الفريق أول فؤاد أبو ذكري قائد القوات البحرية فبدا وكأنه متعفف تماماً عن نشر مذكرات أو أحاديث.
وفيما بين قادة الفرق التي شاركت في هذه الحرب يأتي الفريق يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 في المقدمة فقد كتب مذكرات تدارستها في كتابي “النصر الوحيد” ، علي حين استشهد احد قادة هذه الفرق في الحرب وهو الشهيد احمد عبود الزمر وعلي حين استشهد أحد قادة هذه الفرق بعد الحرب بسنوات قليلة وهو قائد الفرقة 7 المشير أحمد بدوي وزير الحربية وبقي من قادة هذه الفرق من طالت بهم الحياة لكنهم لم ينشروا مذكرات رغم المناصب العليا التي وصلوا اليها ومن هؤلاء : رئيسا الأركان المتعاقبان : عبد رب النبي حافظ ، وإبراهيم العرابي ورئيس هيئه العمليات حسن أبو سعدة والمحافظ فؤاد عزيز غالي وقائد الفرقة الرابعة المدرعة الشهيرة عبد العزيز قابيل وقائد الفرقة السادسة محمد ابو الفتوح محرم ومن بين قادة الأسلحة المقاتلة فإن مدير سلاح المدفعية وهو اللواء محمد سعيد الماحي لم يترك مذكرات رغم أنه تولي منصب مدير المخابرات العامة ومحافظ الاسكندرية لكن مدير سلاح المدرعات كمال حسن علي القائد العسكري الوحيد الذي وصل الي رئاسة الوزراء ترك مذكرات مطولة بعد أن نشر مذكرات موجزة أما مدير سلاح المهندسين جمال محمد علي وقائد الصاعقة نبيل شكري وقائد المظلات محمود عبد الله فقد اكتفوا بالأحاديث الصحفية.
وقد كنت ولا أزال أعتقد أن مذكرات القادة العسكريين الذين تولوا مسئولية حرب أكتوبر 1973 هي مذكرات أمة كتب عليها أن تعاني معاناة شديدة، وأن تفوز بنصر ساحق، ذلك أنها انتقلت في ربع قرن فقط (1984 ـ 1973) من دولة تندفع بلا خبرة إلي حرب سهلة في تصورها فتفقدها، إلي دولة  أصبحت في وضع حرج لا يمكن لها معه أن تتمتع بحق  مواصلة الحياة إلا أن تمضي قدما وبدون تردد إلي حرب غاية في الصعوبة والاستحالة فإذا هي تمضي إليها بكل ما استطاعته من استعداد ودراسة وشوق إلي النصر فتكسبها تماما.. ولم يكن هذا بالطبع إلا نتيجة ظروف غاية في القسوة أتاحت لها الدرس نفسه مرة ومرتين وثلاثا حتي صهرت معدنها ووصلت به إلي أن يكون كما كان في أزمنة غابرة أنفس المعادن.
وفيما بين الروحانيات السامية والمتسامية والوقائع الدانية والمتدنية عاش قادة أكتوبر أياما متتالية،وخبرات متوالية، وتجارب متناقضة، ولم يكن يدور بخلد أحد منهم علي الإطلاق أن يتنبأ بكل ولا ببعض هذا الذي خبروه في حيواتهم القصيرة، لكنهم كانوا مرة ثانية يواجهون القدر القوي القاهر الذي لم يكن في وسعهم إلا أن يذعنوا له وهم ينتصرون، وأن يذعنوا له أيضا ـ من قبل ـ وهم يتلقون الهزيمة.
ولقد كنت أتمني أن يكون هناك عدد أكبر من المذكرات لعدد أكبر من قادتنا العظماء في حرب أكتوبر،لكنني للأسف أعلن أننا مقصرون تماما في أن نجري وراء هؤلاء يوماً بعد يوم حتي يكتب كل منهم (أو يروي) ما اطلع عليه من بعض جوانب هذه الملحمة العظيمة ذلك انه الي وقت قريب كان أغلب قادتنا لايزالون يعيشون بيننا وإن كان الموت  قد اختطفهم واحداً بعد واحد.
ومع هذا فإن في صحافتنا ووسائلنا الإعلامية (علي مدي 39 عاما حتي الآن) ذخيرة كبيرة من الأحاديث والروايات التي تمثل مذكرات لا غني للباحث المؤرخ عنها.
ومع أن معظم هذه المذكرات تركزت علي حرب أكتوبر وما سبقها من حروب، فإن كتاب  “مشاوير العمر” الذي تضمن  مذكرات كمال حسن علي قائد سلاح المدرعات في حرب أكتوبر المجيدة الذي وصل إلي رئاسة الوزارة فيما بعد، تخطت الحرب إلي آفاق السياسة والإدارة، حتي إنني وصفته عند مدارستي له بأنه الكتاب الوحيد من بين كتب السياسيين التي كُتبت بعد الثورة ليبقي بين أيدي المؤرخين مرجعا دائما علي نحو ما فعل الدكتور محمد حسين هيكل بكتابه “مذكرات في السياسة المصرية” ، وذلك لما يتميز به من الإلمام الواعي بالتفاصيل المهمة في مجريات الأحداث علي الرغم من أن احتلال مؤلفه لموقع متقدم في الصفوف الأولي جاء في سن كبيرة نسبيا إذا ما قورن بالدكتور محمد حسين هيكل.
ولكننا لابد أن نذكر طبيعة الفرق بين عهدين، عهد كانت الطبقة الحاكمة فيه ثابتة بل ومعروفة سلفا، وكان طريق السياسيين يبدأ مبكرا، وعهد آخر كانت صفوة العسكريين القريبين من السلطة من أكثر الفئات تعرضا للقصف بسبب وبدون سبب.
تخطيط-حرب-اكتوبر
وقد كان كمال حسن علي الوحيد في مصر وربما في العالم كله الذي تعاقبت عليه  خمسة مناصب رفيعة، قيادة أحد الأسلحة المهمة وهو سلاح المدرعات في حرب أكتوبر ثم رئاسة جهاز المخابرات ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية ورئاسة الوزارة.  وقد بقي هذا الرجل في هذه المواقع في الصف الأول تماما عشر سنوات كاملة ومتواصلة (75 ــ 1985)  وقريبا جدا من الصف الأول (70 ــ 75) في السنوات الخمس التي سبقتها، ولكن الذي لا شك فيه أن قارئ مذكرات كمال حسن علي يخرج منها بانطباع أنه كان أبرز نموذج في حياتنا السياسية المعاصرة للمحظوظ بعد فوات الأوان.
ومع هذا فقد كان وجوده في هذه المواقع أقرب إلي الوصف الشائع “النسيم العليل” ! وقد ملأ كل هذه المناصب بما لم يكن متصورا له من أحد أن يملأه، ويكفي علي سبيل المثال أنه خلف المشير الجمسي في وزارة الحربية  علي حين كانت أذهان الناس كلها مقتنعة بأن الوحيد الذي يصلح وزيرا للحربية هو الجمسي، وأن الجمسي سيظل وزيرا للحربية مدي الحياة (!!) و علي حين كان الناس ـ بحكم تقاليد ذلك العصر ـ لا يعرفون مَنْ هو الرجل الذي يشغل منصب مدير المخابرات.
وتتميز مذكرات كمال حسن علي “مشاوير العمر” بأنها تحتوي تفكيرا ابتكاريا من نوع ممتاز، يعرض علي القراء المعلومات التي يعرفونها والتي لا يعرفونها ثم يخرج من هذه المعلومات إلي أحكام يصعب علي كثيرين من القراء أن يتقبلوها للوهلة الأولي رغم صوابها الشديد، ولكنهم – حتي وإن رفضوها – يقرون في تسليم شديد بمدي قدرة كاتب المذكرات علي التحليل الدقيق والعرض الحي لوقائع متعددة تباعد بها الزمان.
والواقع أن كمال حسن علي قد استعان بمجموعة كبيرة من أفضل المعاونين مكنته من أن يقدم هذا الكتاب علي هذا النحو المشرف، ولكن العظمة الحقيقية أنه أجاد إدارة أفكار هذه المجموعة وصهرها في”مشاوير العمر”.
ومع هذا فقد كانت هذه الصيغة بحاجة إلي شيء من عناصر إعادة الترتيب لإحداث التشويق المطلوب في كتاب  مذكرات ضخم مثل هذا الكتاب، فقد كان المؤلف خليقا بأن يتنبه مثلا إلي أن يقلب الوضع في الهامش والمتن فيجعل متن الكتاب مخصصا لذكرياته هو، ويجعل الهامش حافلا بالآراء التاريخية الموجودة في كتب التاريخ العام ووثائقه، ولكن كمال حسن علي للأسف اتبع الأسلوب العكسي علي طول الكتاب فكان يروي الأحداث من وجهة نظر التاريخ العام، ثم يعقب عليها بذكرياته الشخصية في الهامش ببنط صغير مع أن المفروض أن الكتاب يحكي لنا مشاوير عمره وليس مشاوير عمر التاريخ القومي أو العالمي أو تاريخ الأساطير اليهودية أو اليونانية.
وربما يمكن لنا أن نتلمس العذر في ذلك بحرص صاحب المذكرات علي التواضع الشديد، ولكن الكتاب نفسه لا يقبل مثل هذا العذر، لأن التأليف هو التأليف مهما كان قدر المؤلف ومهما كان قدر تواضعه كذلك.
علي أن أهم ما يميز مذكرات  قادة حرب أكتوبر جميعا  هو إلمامها الوافي بالجوانب المختلفة بل والمتناثرة للموضوع العسكري الواحد، وهذا أمر طبيعي في قادة قضي كل منهم السنوات المتقدمة من عمره في أكثر المواقع تقدما في بلده وفي العالم.
وحين يروي واحد من أصحاب المذكرات واقعة من الوقائع التي اشترك فيها فإنه يحرص علي أن يروي ما حدث فعلا لا ما يتخيله كان جديرا بالحدوث، فلا ينسب إلي نفسه أفضالا أو أقوالا لم تحدث.
ولعلي أعود لأكرر هنا فكرتي القائلة بأنه من حسن الحظ أن صحفنا تحفل بكثير من الأحاديث الصحفية وأشباه المذكرات مع عدد كبير جداً من هؤلاء القادة العظماء الذين شرفت بشخصي المتواضع بمعرفة بعضهم فعرفت فيهم الفضل والعظمة والإنسانية في أروع صورها.
وقد كانت آخر مناسبة كبري للحديث عن ذكريات هذه الحرب تلك الاحتفاليات التي أقيمت بمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً علي الحرب والندوة الاستراتيجية التي نظمتها وزارة الدفاع عام ثمانية وتسعين(1998)، أما في 2003 و2008 فقد كانت الاحتفالات أقل بهجة من احتفالات 1998! ولعل احتفالاتنا في هذا العام في ظل الحكم الديمقراطي تكون نواة لاحتفال أعظم في 2013 أن شاء الله بمناسبة مرور أربعين عاما علي حرب اكتوبر وهي مناسبة فريدة .
وقد أتيح لي في نهاية القرن الماضي  أن أنشر كتابا حبيبا إلي قلبي عن حرب أكتوبر 1973 أسميته “النصر الوحيد”  وعرضت فيه مجموعة كبيرة من وجهات نظري في تأريخ وتحليل هذه الحرب وضمنته مذكرات رئيسي الأركان اللذين توليا هذا المنصب في هذه الحرب المجيدة، وثانيهما لم يكن رئيساً للأركان فحسب بل كان رئيس هيئة العمليات منذ ما قبل الحرب بواحد وعشرين شهراً، وأصبح وزيراً للحربية بعد الحرب بأربعة عشر شهراً، وقبل هذا فقد كان هو نفسه رئيس العمليات في قيادة الجبهة في أثناء حرب1967 ، كما ضم هذا الكتاب مذكرات أحد قادة الجيوش، وهو اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني في آخر أيام الحرب، وقد كان قائداً لهذا  الجيش من قبل ،وفي بداية الحرب كان قائداً للمنطقة العسكرية المركزية واستدعي لقيادة الجيش الثاني بعد مرض قائده اللواء سعد الدين مأمون، كما ضم الكتاب مذكرات أحد قادة الفرق الخمس التي كلفت بعبور قناة السويس، وهو اللواء يوسف عفيفي قائد الفرقة 19، الذي تولي فيما بعد قيادة الجيش الثالث نفسه، كما ضم الكتاب مذكرات أحد قادة الألوية،وهو اللواء عادل يسري قائد اللواء 112 الذي كان يتبع الفرقة 18 التي تتبع الجيش الثاني. 
وقد كنت أود لو أن مذكرات الفريق عبد المنعم واصل التي نشرتها “مكتبة الشروق الدولية”  قد لحقت بهذا الكتاب، لكن صدورها تأخر كثيرا.
وهكذا أتيح لكتابي بفضل الحظ الحسن أن يضم  تحليلا لمذكرات لجميع المستويات القيادية حيث شملت  مذكرات رئيسين للأركان ورئيس هيئة العمليات وقائد جيش وقائد فرقة وقائد لواء، وهكذا تمثلت المستويات المتعددة للقيادة العسكرية  في هذه المذكرات التي  تدارستها في كتابي و أتيحت للمكتبة العربية، وقدمت للقارئ والباحث والمؤرخ كثير من المعلومات الدقيقة الخطيرة الصادقة الكفيلة بأن نتفهم وجه الصواب في إشكاليات أمور جدلية كثيرة  لا تزال تطرح  للاسف علي بساط البحث آناً بعد آخر وهي تطرح في بعض الأحيان لأغراض أخري غير الحق والحقيقة.
ومن حسن الحظ أن المذكرات التي كتبها هؤلاء  القادة العسكريون قد تكفلت بإضاءة كثير من  نقاط الخلاف إضاءة واعية، لكن من سوء الحظ أننا في كثير من الأحيان نأبي أن نمضي في الطريق المضيء زاعمين أن الضوء الذي فيه صناعي وأننا لابد أن نبحث عن ضوء طبيعي. ومن العجيب أن بعضنا لا يزال يتصور أن ضوء الكهرباء وضوء البترول صناعي بينما هو قبس من الطبيعة نفسها ! وهذا تقريباً هو جوهر موقف الذين لا يزالون يظنون أن جيشنا كان كفيلاً بالقضاء علي الثغرة لو أنه حرك لواءين أو ثلاثة من الشرق إلي الغرب، أو أن تطوير الهجوم كان ينبغي أن يتم منذ السادس من أكتوبر نفسه ، وما إلي ذلك من دعاوي يستسهل مروجوها أن يطلقوها هكذا في الهواء الطلق وفي الحديث المطلق والكلام المرسل دون أن يدروا حقيقة الإنجاز، وما بذل من أجله من جهد جبار حرك الجبال الرواسي وشق الصخر القاسي.
وتنبهنا المذكرات التي كتبها القادة العسكريون إلي أن مصاعب الحرب لا تقف عند حد التوقعات، لكنها تتعداها إلي ما لا قبل للنفس البشرية بمواجهته إذا لم تكن قد فرطت تماماً في حرصها علي وجودها من أجل استبقاء الحياة للوطن كله، ونحن نري كثيراً من الانتصارات تتحقق علي غير المتوقع ،كما نري كثيراً من العقبات تنشأ علي حين فجأة، وأحياناً ما تكون المقدمات غير متفقة مع النتائج، ومن عجائب المفارقات علي سبيل المثال أن فرقتي الجيش الثالث (7 و19) كانتا ستعبران علي كوبريين، لكن الفرقة السابعة اضطرت إلي أن تستخدم كوبري الفرقة 19 بعد أن استحال إقامة المعبر الخاص بعبورها، ومع هذا فإن الجيش الثاني وكان يضم ثلاث فرق مشاة عبرت جميعاً كان هو الجيش الذي شهد حدوث الثغرة في منطقته.
ومن حسن الحظ أن الشاذلي والجمسي وهما  الرجلان اللذن توليا رئاسة الأركان شرحا هذه المعاني بكل صراحة وبكل عمق في مذكراتهما، وان لم يكن بهذا الوضوح الذي قدمته في  كتابي وهو وضوح ساعد عليه تمرس القلم بالكتابة. وقد أفاض القائدان  في شرح هذه المعاني بكل وضوح وبكل نية صادقة، وبكل إخلاص، حتي إننا عندما نطالع لهما الحديث عن جزئية تطوير الهجوم نجد الشاذلي الذي نسب إليه في وقت من الأوقات الاندفاع والحماس في تطوير الهجوم يتحفظ تماماً علي هذه الفكرة أثناء العمليات وحتي علي وجودها عند التخطيط لأنه كان يعرف مخاطرها، بل ويقدم لنا نص الخطة الذي تضمن هذا الهدف واصفاً إياه بأنه نص غير ملزم وغير محدد التوقيت، ونري في ذات الوقت المشير الجمسي الذي اشتهر بأنه صاحب الخطة وكشكولها يهمس في أذن زميله بأنه مهما كان من تحفظه علي فكرة التطوير فإنها أقرت، وهكذا أصبحت ملزمة لجميع القادة.
ونحن نقرأ في مذكرات القادة العسكريين التي نشرت عبر الأعوام الثلاثين الماضية كيف كان الفريق الشاذلي يختلف تمام الاختلاف مع الفريق أول محمد احمد صادق منذ الشهور الأولي لتوليهما منصبيهما الكبيرين في حدود ما نحن قادرون عليه بقواتنا المسلحة وإمكاناتها المتاحة، كما سنقرأ في مذكرات المشير الجمسي كيف أن أحمد إسماعيل وهو مدير للمخابرات سأله حين لقيه في المطار بالصدفة : متي تحاربون ياجمسي؟ وأن الجمسي أجابه : عندما تعين أنت وزيراً للحربية، وحين عين أحمد إسماعيل وزيراً بعد شهور واجتمع بالشاذلي سارع رئيس الأركان ليذكر الوزير بتقرير المخابرات العامة حول شكل المعركة القادمة، وهو ما كان يتفق تماماً مع رأي الشاذلي نفسه ومع إمكانات القوات المسلحة المتاحة حين كتب أحمد إسماعيل التقرير. وهنا أضاف الشاذلي لأحمد إسماعيل قوله: إن إمكانات القوات المسلحة طيلة هذه الشهور ظلت علي نحو ما كانت عليه، ولم يطرأ عليها تغيير جذري..  وإذا كان من حسن حظ وطننا أن وُجد فيه هؤلاء القادة فإن من حسن حظ مكتبتنا العربية  أن وجدت فيها هذه المذكرات التي كتبوها .
وسنجد أنفسنا أمام ملاحظة مهمة جدا في حديث الجمسي عن الإعداد للحرب، فهو ـ علي سبيل المثال ـحينما يحدثنا عن عرض التوقيتات المناسبة التي كان أمام الرئيس السادات أن يختار من بينها، لا يجد أي حرج في أن يذكر أن المشير أحمد إسماعيل هو وحده الذي اصطحب هذه الأوراق إلي الرئيس السادات، ومع أن الرئيس السادات نفسه قد روي الواقعة في كتابه “البحث عن الذات” بالطريقة التي فهمنا منها (وأنا أقصد كل الذين قرأوا الكتاب) أن الجمسي نفسه كان حاضرا عملية اتخاذ هذا القرار . فإن الجمسي رغم مكانته الكبيرة في القوات المسلحة يومها، يحرص علي أن يذكر الحقيقة علي نحو ما حدثت لا علي نحو ما توحي به رواية السادات نفسه، ولعل هذا المثل البسيط يرينا كيف ظل الجمسي بمثابه الجندي المخلص جنديا إلي أخمص قدميه في كل الأوقات، وأنه لم يكن علي استعداد أبدا لأن يكون من أولئك الذين توعدهم القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالي: {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فبشرهم بعذاب أليم}، وكأنه كان حريصا علي أن يعطينا صورة  أخري غير تلك التي قد نكون رسمناها له في أذهاننا، فهو رغم كل شيء جندي ملتزم بأن يثبت حقيقة قد تبدو وكأنها لا تقدم ولا تؤخر حين يذكر أنه ـ علي سبيل المثال ـ كان يرفع المذكرات والاقتراحات البدائل من خلال رئيسه أو قائده” القائد العام”  ليعرضها هذا القائد علي القائد الأعلي الذي يتخذ القرار.
ولك أن تقارن هذا الموقف بكل ما فيه من ثقة بالنفس بأي موقف آخر من المواقف التي تقرأ عنها لأناس من الصف الرابع لا يجدون حرجاً في الزعم بأنهم كانوا أصحاب القرار أو أصحاب الفكرة. حرب اكتوبر 2
وعلي هذا النحو نجح  المشير الجمسي في عرض كل  وقائع الحرب وما قبلها وما بعدها، فإذا ما استطعنا أن ندرك هذه الطبيعة في كتابة المشير الجمسي وكتابه، فإننا نستطيع أيضا أن نفهم لماذا كان الجمسي حريصا ودقيقا وشبه هامشي إلي أبعد الحدود فيما كتبه عن حرب عام 1967 وعن التاريخ العسكري لمصر المعاصرة علي وجه العموم.
والحقيقة  إن المشير الجمسي قد نجح وتفوق في أن يقدم لنا وثيقة دقيقة بأكثر مما نجح في تقديم صورة بانورامية، ونجح وتفوق في أن يقدم لنا مجموعة من رؤي صادقة ونفاذة بأكثر مما نجح في أن يقدم لنا رؤية واحدة يحكمها هدف واحد ، ونجح ثالثا في تقديم لقطات متتابعة بأكثر مما نجح في أن يقدم هذه اللقطات متواصلة مع بعضها ومترتبة علي بعضها.
ومع كل هذا فإن مذكراته تظل نموذجا رفيعا لعفة اللسان إن صح أن توصف الكتب بهذا الوصف، ففي كل واقعة من وقائع هذا الكتاب نجد اللفظ عفا نقيا لأنه يصدر عن قلم مخلص وحريص علي الحقيقة والوطنية والصدق والحيوية.
في مقابل هذا فإن الفريق الشاذلي ترك لنا عملا أقرب الي الأدب والفن  فقد كان حاداً في كثير من المواقف ، حريصا علي أن يسبق الرواية بذكر رأيه الواضح في الأحداث ومع هذا فإن كمية التفصيلات التي احتوتها مذكرات الشاذلي جعلت منها عملا تاريخيا عظيما لا يمكن التقليل من قيمته بأي حال من الأحوال.
المصدر : أخبار اليوم

تاريخ النشر: 13 أكتوبر 2012

لقراءة وتحميل كتاب “النصر الوحيد” لمؤلفه د. الجوادي اضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com