الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقدمة من مقام الرصد لقصة النائب عمر سليمان

مقدمة من مقام الرصد لقصة النائب عمر سليمان

أبدأ بالتلخيص الشديد قبل التشويق المفيد، فمقام الرصد هو نفسه مقام الراست، لفظ الرصد تركي، ولفظ الراست فارسي، أما المقابل العربي فغير قابل للاستعمال موسيقيا لأنه هو المستقيم، ولمن لا يعرفون المقامات الموسيقية إلا بالأغاني المشهورة فإن هذا المقام هو المقام الغالب على اللحن الذي وضعه الفنان الأستاذ سيد مكاوي لأغنية يا مسهرني للسيدة أم كلثوم، وأظن أن هذا التلخيص على قصره كاف للتعبير عن مقدمة الجزء الأول من قصة النائب عمر سليمان. كان النائب عمر سليمان قد بنى كل مستقبله على أنه سيرث الرئيس مبارك وربما أنه “تسلم” نبوءة بهذا المعنى تسلمها استماعًا أو قراءة أو رمزًا أو إيماء.. لكن هذا لم يحدث فيما يتعلق بالرئاسة، وإن كان قد ورثه بالفعل في منصب نائب الرئيس الذي ظل شاغرا من 1981 وحتى 2011 وقد قضى فيه النائب عمر سليمان عدة أيام قبل أن يطلب إليه المجلس العسكري أن يغادر مكتبه في الرئاسة، فلم يعد هذا المكتب له، لم تعد هناك رئاسة ولا رئيس ولا نائب رئيس.

تُرى لو أن النائب عمر سليمان رفض منصب نائب الرئيس وبقي في المخابرات العامة، هل كان المجلس العسكري يزيحه من منصب مدير المخابرات العامة بالسرعة التي أزاحه بها من منصب نائب الرئيس؟ بالطبع كان الأمر سيأخذ بعض الوقت وكان الصراع مع المجلس العسكري سيتخذ صورة أخرى مفيدة للثورة بطريقة أو بأخرى، فقد كان التنافس بين جهاز المخابرات العامة ودولته التي هي دولة داخل الدولة، وبين القوات المسلحة كفيلًا بأن يسرب أو يمرر للثورة بعض ما ينفعها وبعض ما يحفظها مما حاق بها على يد القوة الوحيدة أو القطب الأوحد في موازين القوى في ذلك الوقت. تعجل النائب عمر سليمان بقبول منصب نائب الرئيس في وجود الرئيس ظنًّا منه أن نائب الرئيس خطوة للخلافة، بينما أنها في مثل هذه الظروف لا يمكن أن تكون خطوة للخلافة.


ليس سرًّا أنني لم أكن من المفتونين بالنائب عمر سليمان ولا حتى من المعجبين به رغم أنه كان يملك عوامل الدفع إلى الافتتان والإعجاب على نطاق واسع، وكان كل من يحيطون بمواقع نشاطي بلا استثناء (أو فلنقل كل من أعرفهم ) يرون فيه شيئًا كبيرًا إلا إياي، فقد كنت أتوقع ما حدث له بالضبط، وبلغ الأمر في ثقتي بحكمي هذا عليه أنني أدليت بحديث لجريدة نهضة مصر، وقد نُشر من باب المصادفة قبل الثورة بشهر أو أكثر، وقلت فيه إن الذي سيخلف مبارك هو المشير طنطاوي وليس عمر ولا نظيف ولا سرور ولا جمال ولا صفوت الشريف ولا زكريا عزمي.

وكان كثيرون يتعجبون من هذا الرأي الذي كنت أدلي به كثيرًا، فكنت أقول لهم إن القوة التي على الأرض للمشير، وقيمة نائب الرئيس أو رئيس المخابرات أو ابن الرئيس تنتهي مع الرئيس لكن الجميع بلا استثناء كانوا يعتقدون أنني لا أعرف ما يعرفون؛ لأنني كنت في أقصى تقدير قريبًا من المطبخ ولم أكن في المطبخ كما كانوا هم فيه. وفي ظل ما شاع من اعتراضات منْ يسمعون عن رأيي هذا، كنت ألتقي بكثيرين يحرصون على أن يفتحوا النقاش معي لينبهوني إلى ما يظنونني غافلًا عنه من ترتيبات النائب عمر سليمان أو ترتيبات جمال مبارك.. وكنت على عادتي أروي لهم بعض القصص التي تقرب لهم رأيي:

– كنت أقول إن بعض السيدات لا يطبخن، ولا يستطعن الطبخ لكنهن يضفّن على الطبخ حرف الميم صرفا وطبخا حين يستطعمن الطبخ، بأن يشرفن على الطبخ فيخرجن أو ينتجن وجبات ممتازة، وإن أبناء الطبقة القديمة في مصر يصفون أداء مثل هذه السيدة بالقول بأن نَفَسها في الطبخ، ومن المتفق عليه أن الطباخ الماهر مهما بلغت مهارته لا يستطيع أن يتم الطبخ بدون هذا النفَس، فإذا افتقد النفس خرج الطبخ عاديًّا، وكأنه طبيخ في مطعم المستشفى أو مطعم المدينة الجامعية أو في ميز الضباط، وكان المستمعون يضحكون ويستمتعون.

– كنت أقول إن مبارك كان يعرف أن النائب عمر سليمان أكفأ عسكريا من المشير طنطاوي، لكنه فضل المشير طنطاوي لسبب آخر يفتقده النائب عمر سليمان ويحبه مبارك، وهو ذلك الاتزان في الأداء العاطفي، وقد كانت حظوظ المشير طنطاوي من هذا الاتزان في عواطفه يفوق حظ النائب عمر سليمان بمراحل.

– سألت أحد الأطباء القريبين جدًّا من النائب عمر سليمان عن حقيقة معاملة طنطاوي للنائب عمر سليمان، باعتبار هذا الزميل كان من ضباط الجيش الأطباء وانتدب للمخابرات، فحكى لي مجموعة مواقف أبرزها أنهم في أزمة من الأزمات انتهوا منها قبل أن يأتي فريق المخابرات، فقال المشير طنطاوي ما معناه: بلغوا اللواء عمر أن الحريق أطفئ ولا داعي لإرسال معونته.. (اللواء.. هكذا كانت رتبته التي اختارها المشير لوصفه، وليس عمر بك، وليس الوزير عمر).

– كان المشير طنطاوي من مواليد 1935 وتخرج في 1956، أما النائب عمر سليمان فقد كان من مواليد 1936 وتخرج في 1955، وفي المناصب القيادية من هذا الوزن؛ فإن شهادة الميلاد لها قيمة أكبر من شهادة الكلية الحربية، وهذا هو ما حدث مع الرئيس مبارك نفسه الذي كان من أكبر أبناء دفعته سنًّا، وكان هناك كثيرون من مواليد السنوات التالية لمولده تخرجوا قبله في الكلية الحربية.
– بل إن هذا نفسه هو ما حدث بعد ذلك في حالات معروفة.

وهكذا حدث ما حدث وأصبح النائب عمر سليمان خارج الصورة تمامًا في الوقت الذي بدت الثورة تبحث فيه عن يديه! أصبح المشير طنطاوي الآمر الناهي، وظل هو الآمر الناهي وكان من اتزانه الذي زادته السنوات صقلا لا يصور الثورة إلا على أنها كرة نار سقطت في حجره ولا بد أن يتعامل معها بالجدية التي تمنع انتشار الحريق.. هكذا كان يقول. لكن النائب عمر سليمان الطامح إلى منصب الرياسة أصبح فجأة متقاعدا فلم يبن حزبًا علنيًّا يستوعب به مؤيديه ومعجبيه وتلاميذه ومنتظريه، مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه، وإنما آثر أن ينتظر حتى تناديه الجماهير، ويبدو أنه لم يكن يعرف أن الجماهير لا تنادي من تلقاء نفسها.. وأنه ظل معتقدًا في صواب ما يقوله له أصحاب المصلحة في دفعه للترشح. أستطرد هنا لأقول إن هذا كان هو حال أحمد شفيق أيضا، فإنه لم يبن حزبًا علنيًّا يستوعب به مؤيديه ومعجبيه وتلاميذه ومنتظريه، مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه. بل الأدهى والأمر من هذين المثلين هو أن عمرو موسى لم يبن حزبًا علنيًّا يستوعب به مؤيديه ومعجبيه وتلاميذه ومنتظريه، مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه.

بل إن الأدهى والأمر من هذه الأمثلة الثلاثة هو أن محمد البرادعي القادم من خارج دائرة مبارك والمبشر بالديموقراطية والتعددية والتنافسية والصندوق لم يبن حزبًا علنيًّا يستوعب به مؤيديه ومعجبيه وتلاميذه ومنتظريه مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه. أما غاية الأمر وأقصاه ومنتهاه في هذه الدواهي المعبرة، فهو أن أكثر الناس حاجة إلى استعراض وتنظيم قواعده الجماهيرية بعد خروجه من الإخوان المسلمين وهو عبد المنعم أبو الفتوح لم يبن حزبًا علنيًّا يستوعب به مؤيديه ومعجبيه وتلاميذه ومنتظريه، مع أن الفرصة كانت متاحة أمامه. ولا تقل لي إنه أدرك هذه الحقيقة مؤخرا حين أسس حزب مصر القوية فقد أدركها بعد فوات الأوان بوقت طويل. ولهذا كله لك لم أكن مندهشا من وقفة من وقفوا مع مشروع الانقلاب من هذه الأسماء التي قدمت على أنها أسماء كبيرة إذ أنهم في حقيقة الأمر ليسوا أصحاب مشروع وإنما أقرب إلى أن يكونوا (مع كل الاحترام) طلاب وظائف رئاسية. وأعود إلى النائب عمر سليمان لأذكر القراء بأنه لما جاء وقت الترشيح ظهر النائب عمر سليمان ليعتذر ذات يوم ثم ليترشح في اليوم التالي، وكأنه يترشح بناء على طلب الجماهير، مع أن طلب الجماهير هذا لا يكون إلا في أفلام السينما، لكنه فعل.


وفي الروايات المتاحة يُجمع من كانوا قريبين من المشير طنطاوي ومن اللواء النائب عمر سليمان على أنه سأل المشير طنطاوي رأيه، فقال له المشير بصراحة: إن المن ليس زماننا.. وإننا كبرنا خلاص. ومع هذا، فقد تقدم النائب عمر سليمان وكأنه لا يعرف أن هناك قرارًا [سياديًّا] برفض ترشيحه، وأن هناك قرارًا [أعلى] باختفائه من الساحة السياسية. وعلى حين كان القرار الأول يصادف نوعًا من التصديق المنطقي؛ فإن القرار الثاني لم يكن يصادف أي نوع من المنطق البشري. وأقول بكل وضوح، ولست أبالغ، بإن كثيرين من الصحفيين لا يزالون ينتظرون النائب عمر سليمان أو ينتظرون ظهور عمر سليمان. وبعضهم لا يزال (حتى الآن) على هذا الأمل أو الظن.

أعود إلى اليوم الفاصل بين اعتذار النائب عمر سليمان وترشيحه ثم الأيام الفاصلة بين ترشيحه وشطبه؛ وقد شطب اسمه كما هو معلن لأن الأصوات المزكية له في محافظة أسيوط كانت أقل من الحد الأدنى المطلوب من كل محافظة. قرأت بيان النائب عمر سليمان عن ترشحه فعرفت كاتبه من مفرداته وأسلوبه ولست في حل هنا من ذكر اسمه فاتصلت به على الفور وقلت له: إن البيان كتابته جيدة لكن موضوعه سيئ، ففزع فزعة خفيفة للوهلة الأولى ثم قال لما أفاق: ماذا تقصد؟، فأجبته بصراحة، ففزع أكثر، وأردف بسرعة إنه رجل وطني، وإنه يظن أنني لا تربطني به (أي بالنائب عمر بك شخصيا) إلا علاقات الاحترام.

قلت: هذا صحيح فهو يستحق الاحترام، لكنه انساق إلى أسوأ نوع من الأداء.
قال صديقي الكبير: اسمح لي يا دكتور محمد أن أقول لك إن هذه أول مرة أسمع فيها مثل هذا الحكم القاسي على مثل هذا الرجل العظيم.
قلت له: وربما آخر مرة فليس في حياته مواقف تستدعي مثل هذا الهجوم.
قال: عجبا، فكيف تقول هذا؟
قلت: لأنه ليس في حياته مواقف تستحق الاحترام الكبير والحقيقي.
قال وهو يحاول أن يشجعني بنعومة على الاستطراد المفيد: نحن يا دكتور مهما بلغنا من العلم لا نصل إلى بحورك، فقل لي ماذا تقصد؟

بدأتُ فحللت له بطريقة “مخابراتية” أداء النائب عمر سليمان طيلة السنوات الممتدة التي لم يحظ غيره فيها بمنصبه في رئاسة مخابرات وطنه. وقد تعمدت أن يكون تحليلي بطريقة تعلي من “قيم المخابرات” الحقيقية من ضمان الأمن القومي بمعانيه المختلفة، وبناء حائط الصد، واختراق ما ينبغي اختراقه، وتهذيب أو ضبط التعاملات مع الأعداء والأصدقاء والجيران على حد سواء، وتنمية الوعي بسيادة الوطن وأمنه وحدوده وعلاقاته، وتأمين حاجات المواطن والمؤسسات وضمان أكبر قدر من الانضباط الكفيل بعدم تحلل القيم أو انهيار مؤسسات المجتمع.. إلخ.

وللأسف الشديد، فقد كان تقييمي لأداء النائب عمر سليمان في رأيي في هذه الميادين أقل من الحدود التي أتصورها لدرجات النجاح. ومن الإنصاف أن أقول إن صديقي الكبير شاركني رأيي في كثير من هذه الجزئيات، بل إنه كان يسارع في بعضها إلى أن يعطي أداء النائب عمر سلمان صفرًا من 10.
ثم قال صديقي الكبير: فماذا بقي من النائب عمر سليمان إذًا بعد هذا التشريح القاسي.
قلت: رئاسة معقولة ومنضبطة لجهاز يحتاج رئاسة معقولة ومنضبطة.
قال: وهل يساوي هذا أن يبقى في منصبه كل هذا الوقت.
قلت: بمنطق الرئيس مبارك وبمنطق الشخصيات المتاحة في هذا الجيل يستحق.
كان صديقي من الذكاء النظري بحيث سألني مباشرة: أليس النائب عمر سليمان أحسن من أي عسكري آخر متاح من طراز الفريق شفيق أو الطرز الأخرى المرشحة.
قلت: هو أحسن بلا شك.
قال: ألا يستحق أحسن الوحشين تأييدًا.
قلت: لكن إن كان هناك مدنيون، فإنني أفضل أيهم بل حتى أسوأهم على أحسن الوحشين هؤلاء.

وبأسى شديد قال صديقي: عندك حق.
قلت: إن مصلحة الجيش أن يأتي رئيس مدني.
قال: لقد عرفت من أكثر من مصدر أنهم بلغتهم كلمتك هذه، ولا شك في أن هناك من بينهم أنصارًا لك يؤيدونها بشدة.
قلت: لا أعلم عن هذا، قال: وهم يعلمون أنك لا تعلم.
فلم أشأ أن أسأله عن تفصيل ما وصل إليه، ذلك أن أي سؤال سيقلل من قيمة الفكرة، وأزعم أني كنت على حق.
قال صديقي: وما احتمالات فوز السيد عمر سليمان؟
قلت: لا تزيد عن صفر في المائة.
صعق وقال إن له أنصارًا كثيرين وأردف: أنا مثلا سأعطيه صوتي.
قلت: يا أستاذنا أنت سألتني عن احتمالات فوزه لا عن نسبة الأصوات التي سيحوزها.

قال وهو يضحك، جامعا بين السخرية الشديدة والإعجاب الذي لا بد منه: نسيت ما رويته لي ذات مرة من أنك كنت الأول في الثانوية العامة في فرع الاحتمالات من مادة الرياضيات الحديثة، ومع ذلك دخلت الطب وتخرجت في الطب، وتدرجت في مناصب الجامعة لتكون أستاذًا للعلوم السياسية، وتقطع علينا أكل عيشنا.
قلت: يا أستاذنا أنت كتبت البيان للرجل بناء على طلبه، وقلت له: إن هذا شرف! فأرجوك في المكالمة التالية أن تقول له: إنه أكبر من هذا.
قال صديقي: هذه جملة لا أقولها… ولن أقولها ولا حتى منسوبة إليك.
قلت: إذاً سيقولها له المجلس العسكري بطريقة غير مباشرة.
وقد كان.

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com