الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (10)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (10)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل العاشر

الفصل العاشر

النحاس في منتصف عهد فاروق

(1)

نستطيع أن نفهم طبيعة علاقة الملك فاروق بالنحاس باشا في أثناء توليه الحكم ما بين فبراير ١٩٤٢ وأكتوبر ١٩٤٤، من إدراك حقيقة أن الخيار في تولي النحاس الحكم لم يكن للملك، صحيح أن النحاس قد أنقذ عرش الملك فاروق، لكننا نعرف أن الملوك لا يحفظون مثل هذا الجميل، وإنما يحرصون علي إنكاره ونفيه والتقليل من قيمته.

وربما كانت نفسية النحاس السوية قد صورت له أن الملك فاروق سيكون أفضل حالا، وأسلس قيادة، وأقل غطرسة من حاله فيما قبل ذلك، لكن الأيام سرعان ما أثبتت أن الملك كان هو الملك، وأن فاروق كان هو فاروق، وأن الدس والوقيعة والتآمر والتشفي بدأ منذ اللحظات الأولي لتولي النحاس الحكم، وسرعان ما ظهرت أصابع الملك والقصر اللاعبة بمكرم عبيد وبغير مكرم عبيد، وسرعان ما بدأت المواجهات والمماحكات، وسرعان ما تحولت المواجهات إلي خلافات وتحديات سافرة، ونحن نستطيع أن نجد أن أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي كان قد دخل منطقة الحماقة بالمشاركة في إشعال كل هذه الخلافات، وتغذية كل هذه المؤامرات، كذلك كان الإنجليز سعداء بما يحدث، وإن أبدوا امتعاضهم الرسمي والقلبي دون الفعلي!!

لكننا، وهذا هو مصدر العجب، نجد أن الشخص الوحيد الذي كان يحاول، في بعض الأوقات، تهذيب الخلاف وحصره كان هو الملكة نازلي والدة الملك فاروق، ولم يكن لدورها مهما تعاظم أن يحد من غلواء الملك فاروق في شططه، بل ربما كان داعيا إلي مزيد من المكابرة والعناد.

وقد تناول كثيرون من المؤرخين وأصحاب الأدبيات التاريخية الحديث عن الخلافات المكررة التي نشبت في تلك الفترة، لكننا سنؤثر أن ننقل بعض ما يصور الأدوار العامة لهذه التحرشات، وأن نركز علي قصة الكتاب الأسود وما تمثله من دور كريه للقصر، وما تمثله أيضًا من فشل ذريع أيضًا للقصر، وللقوي التي أخذت جانبه، بما فيها القوي التي كانت وفدية الانتماء حتي ذلك الحين.

(2)

تصور مذكرات حسن يوسف تنامي الخلاف بين الملك ومصطفي النحاس في أثناء وزارتي الوفد الخامسة والسادسة (١٩٤٢ ـ ١٩٤٤) وربما كانت سنة ١٩٤٣ هي السنة التي وصل فيها الاستقطاب بين الرجلين إلي ذروته، ونحن نري تصوير حسن يوسف، مع انحيازه التقليدي للملك بالطبع، يعبر عن مدي ما تنامت إليه قوة النحاس من إنشاء مؤسسة باسمه، وعزف نشيد له، والتفاف للجماهير، وإحاطة بالوزراء المسئولين، وأكثر من هذا كله مواجهته القصر بالانتقادات العلنية.. وهذا كله مما يصور قوة الوفد والنحاس التي لم يكن لها من رصيد تستند إليه وتسحب منه إلا الرصيد الشعبي بالطبع:

«تراءي للملك أن يقوم برحلة خاصة إلي الصعيد، ومع أنه استقبل النحاس باشا يوم ٧ فبراير فإنه لم يخبره بما يفكر فيه، وفي مساء ٩ فبراير كلفني الملك بأن أتصل بوزيري الداخلية والصحة العمومية وإبلاغهما عزمه علي زيارة تفتيش المطاعنة».

«… وفي صباح يوم الخميس ١٠ فبراير (عشية عيد ميلاده) سافر الملك وبصحبته حسنين باشا رئيس الديوان، ومراد محسن باشا ناظر الخاصة الملكية، وعمر فتحي باشا كبير الياوران، وثلاثة من كبار الصحفيين، حيث أمضي يومين في زيارة قنا وأسوان، ومواساة المنكوبين».

«وكان لتلك الزيارة أثرها في تنبيه الأذهان إلي خطورة الموقف، وجرت في الأسبوع الأخير من فبراير مناقشات حامية في البرلمان حول نقص المواد الغذائية وانتشار الملاريا، وقد ألقي النحاس باشا بيانا استغرق أربع ساعات، دافع فيه عن سياسة حكومته وأنحي باللائمة علي الوزارات السابقة لأنها أعاقت مشروع تعلية خزان أسوان، ثم ألقي بالمسئولية علي بعض كبار الملاك في الوجه القبلي لأنهم يعطون أجورا غير مجزية للعمال الزراعيين! ومعروف أن الخاصة الملكية لها تفاتيش واسعة في تلك المناطق».

«وإمعانا في تجسيم المنافسة بين الملك والنحاس، قام الأخير في 13 مارس بزيارة أسيوط والمنيا واستصحب معه وزراء العدل والأشغال والمعارف والداخلية والصحة و الأوقاف، وأعلن عن زيارته إلي قنا وأسوان بعد قليل، وتمت الرحلة فعلا يوم ١٣ مارس حيث افتتح النحاس باشا عددا من المنشآت والساحات الشعبية وأطلق عليها «مؤسسة مصطفي النحاس»، وفي الخطب التي ألقاها الوزراء في تلك المناسبة ركزوا علي أن الحكومة تعمل الكثير لأبناء الصعيد، بينما القصر لا يعمل شيئا».

(3)

ومن بين الانفرادات التي أتاحها العمل في الديوان لحسن يوسف معرفته بالدور الذي لعبته الملكة نازلي في التقريب بين الوفد وبين أحمد حسنين باشا، ونحن نعرف أن الملكة نازلي كانت علي الدوام وفدية الهوي، وقد أفاد الوفد من موقفها في بعض المراحل، لكنها بالطبع لم تنتصر علي طول الخط علي الميول المعادية للوفد والحاقدة عليه ، وهي ميول كانت بارزة ومسيطرة علي شخصيات كثيرة كشخصية أحمد حسنين:

«… في ٨ يونيو ١٩٤٣ سافر النحاس باشا إلي القدس وكانت السيدة حرمه قد سبقته إليها واتصلت بالملكة نازلي التي كانت تستجم وقتها في ربوع فلسطين ولحق بهم حسنين باشا، ويبدو أن الملكة بذلت من المساعي الحميدة ما كاد يؤدي إلي تصفية الخلاف بين رئيس الوزراء ورئيس الديوان، وكان من علامات هذا التحسن أن الملك أوفد كبير أمنائه إلي النحاس باشا يوم 15 يونيو لتهنئته بعيد ميلاده الرابع والستين، وهي لفتة ملكية لم نألفها من قبل، وقد أحدثت ذعرا في صفوف المعارضة».

«وعندما عادت الملكة نازلي إلي مصر في يوليو كان الملك والنحاس باشا في استقبالها في محطة القاهرة ومعه جميع الوزراء بملابسهم الرسمية، ولم يتخلف منهم سوي وزيري المعارف والدفاع (ربما نشير هنا إلي ما لم يشر إليه حسن يوسف، وهو أن وزير المعارف كان هو أحمد نجيب الهلالي، وأن وزير الدفاع كان هو أحمد حمدي سيف النصر)، وبتنا في الديوان نترقب إجراء تعديل وزاري يترتب عليه إخراج الوزيرين، وكان هذا شرطا أو مطلبا أساسيا لحسنين باشا في سبيل المصالحة مع الوزارة، ثم تبين لنا أن تخلف الوزيرين عن هذا الاستقبال كان بناء علي طلب القصر لأن الملك قرر عدم مصافحتهما ونزل النحاس باشا علي رغبة الملك ولم يشأ أن يحدث أزمة في تلك المناسبة».

(4)

وعلي الرغم من أن حسن يوسف ينتبه إلي أهمية الإنصاف في عرضه لمظاهر المنافسة بين تحركات الملك والنحاس، فإنه حين يعود إلي مفكرته ينحاز كثيرًا إلي صف الملك فاروق ويكرر المزاعم التي كان الملك ينطق بها في مواجهة الإنجليز، وربما كانت هذه الرواية دليلا علي الفارق بين حكم الإنسان «المسئول» في ذكرياته، وبين حكمه «المتحيز» في مذكراته:

«… علي إثر عودة الملك من رحلة الصعيد استدعي رئيس الوزراء، كما اجتمع بوزراء الداخلية والشئون الاجتماعية والأوقاف والتموين والصحة العمومية، ولفت أنظارهم إلي سوء حالة التغذية والتموين وانعدام الرعاية الصحية في المناطق التي زارها، وكانت هذه الاجتماعات إيذانا بإعلان الخلاف بين القصر وحكومة الوفد».

«وقد سجلت في مفكرتي يوم ١٠ إبريل العبارة الآتية: «اجتمعت الأدلة علي أن زيارة النحاس باشا إلي قنا وأسوان أحيطت بمظاهر تعلو علي ما هو مقدر لرئيس وزارة، فقد جمع الأموال من عامة الشعب، وفديين وغير وفديين، وأقام علي جمعها رجال الإدارة، والمديرين والمرافقين، ولما وصلت إلي مائة وثلاثين ألفا من الجنيهات أعلن باسم الوفد أنه قرر إنشاء مؤسستين اجتماعيتين تحملان اسم «مصطفي النحاس» لكل منهما مائة ألف جنيه».

«وتدل هذه العبارة علي ما كنا نحس به في القصر من الضيق، وكان قد اتصل بعلمنا أن النحاس باشا أمر بإعداد نشيد خاص تصدح به الموسيقي عند حضوره في المناسبات، أسوة بما يتبع في التشريفات الملكية».

(5)

يجدر بنا هنا أن نشير إلي ما أشارت إليه الوثائق البريطانية من أن البريطانيين أبلغوا الملك فاروق أن قصة النشيد الخاص بالنحاس كانت قصة مختلقة!! ومع هذا فإن حسن يوسف يتركها عالقة أو معلقة(!!) ومن العجيب أن في تاريخنا كثيرًا من هذه القصص المختلفة التي يتركها رواتها معلقة علي هذا النحو.

(6)

وفي موضع آخر يستأنف حسن يوسف (أو يكرر) الحديث عما يسميه المباراة بين القصر والوزارة فيقول:

«وجاءت أشهر الصيف فأتاحت الفرصة للمباراة بين القصر والوزارة علي استمالة الطلبة والعمال. أقام الملك في 17 أغسطس حفلة شاي للطلبة المتفوقين وأمر بإنشاء جائزة فاروق الأول للعلوم والفنون، كما أقام مأدبة إفطار في قصر عابدين لستمائة من الطلبة الغرباء، وكان رد الحكومة علي هذا أن قرر مجلس الوزراء إنشاء جائزة للعلوم يطلق عليها «جائزة مصطفي النحاس».

«وفي 29 أغسطس دعا الملك ستمائة عامل إلي إفطار في قصر عابدين، كما دعا مندوبي نقابات العمال بالإسكندرية إلي مأدبة إفطار يوم ٤ سبتمبر في قصر رأس التين».

(7)

ويروي حسن يوسف كيف أن حسنين باشا كان لا يفتأ يحرض السفير البريطاني ضد حكومة الوفد، علي حين كان السفير البريطاني (للأسف) أكثر موضوعية ومؤسسية من ديماجوجية أحمد حسنين أو براجماتيته:

«في ٦ إبريل (١٩٤٣) ذهب حسنين باشا إلي السفير البريطاني وحدثه في شأن الكتاب الأسود، معربا عن رأيه بأن البيانات المدعمة بالوثائق الملحقة بالعريضة تكفي للحكم علي تصرفات رئيس الوزراء وبعض الوزراء، ولكن السفير ارتأي إما تقديم الاتهامات إلي القضاء، وإما مناقشتها بالطرق الدستورية في البرلمان، وبعث السفير إلي حكومته يقول: إنه يبدو من محادثتي مع حسنين ومن تقرير مندوبنا المتصل بدوائر القصر أن الملك يعتزم استدعاء النحاس باشا لكي يسأله عما ورد في الكتاب الأسود، وأن جلالته تحت ضغط زعماء المعارضة قد يلجأ إلي إقالة الوزارة لهذا السبب…».

(8)

ويشير حسن يوسف إلي مقابلة ثانية لحسنين باشا مع السفير البريطاني الذي كان علي درجة من الوعي أهلته للحديث الصريح عن الآثار السيئة لإقالة النحاس في ديسمبر ١٩٣٧:

«وفي ٩ إبريل (١٩٤٣) قابل حسنين باشا السفير مرة أخري، وقد نصحه الأخير بالتريث وذكره بالآثار السيئة التي ترتبت علي إقالة النحاس باشا في ديسمبر سنة ١٩٣٧».

(9)

ويبدو مما يرويه حسن يوسف، والغالب أنه استند في تذكره وترتيبه إلي ما اطلع عليه من الوثائق البريطانية، يبدو بوضوح أن حالة من هستيريا الرغبة في إقالة النحاس كانت قد سيطرت علي حسنين باشا فجعلته يوالي مقابلة السفير البريطاني في أيام متقاربة علي نحو غير معهود في مثل هذه الظروف.

وها هو حسنين، حسب رواية حسن يوسف، يواصل محاولاته الفاشلة وغير المسئولة:

«عاد حسنين باشا إلي مقابلة لورد كيلرن يوم 13 إبريل ١٩٤٣ بعد أن أعرب زعماء المعارضة عن مؤازرتهم لما ورد في الكتاب الأسود من اتهامات، قال حسنين للسفير: إن أربعة أو خمسة من تلك الاتهامات لا تحتمل المناقشة، وإنها تدين النحاس باشا وأسرته».

«كان من رأي السفير إعطاء فرصة للنحاس للدفاع عن نفسه أمام القضاء أو بإجراء استفتاء عام! قال حسنين للسفير: إن النحاس باشا لم يلجأ إلي القضاء، وإذا رأي السفير إجراء انتخابات فمن العدل أن تجريها وزارة محايدة، وهنا قال السفير: إنه لا يضمن نزاهة تلك الانتخابات وإن الرجوع إلي البرلمان القائم هو خير وسيلة لإعطاء النحاس باشا فرصة للدفاع عن نفسه».

«قال حسنين: إن التهم الموجهة إلي رئيس الحكومة إذا لم تثبت براءته منها فإن اللوم سوف يوجه بطريقة غير مباشرة إلي السفارة البريطانية لأنها تحتضن وزارة فاسدة! فأجاب السفير بأن المسألة ليست احتضان وزارة فاسدة وإنما نحن نطلب إعطاء فرصة للمتهم لكي يدافع عن نفسه، وأن كل ما نطلبه أن تكون بمصر وزارة تحرص علي تنفيذ المعاهدة وتكون حائزة لثقة الأغلبية التي تمكنها من تنفيذ المعاهدة ونحن في زمن حرب».

(10)

علي هذا النحو، الذي صوره حسن يوسف بدقة، نري حسنين باشا وقد استنفد أسلحته في الهجوم علي النحاس باشا ووزارته متظاهرا بأنه يستجيب لانتقادات المعارضة بينما هو الذي صنع هذه الانتقادات.

وقد بلغ حسنين باشا في حماقته حدًّا جعله يصور لنفسه أنه وصيّ علي الشعب وعلي البريطانيين، وتمادي في هذا التصوير القاتل حتي أوصل الأمور إلي حد الانتحار السياسي بأن قدم استقالته من منصبه:

«وفي ختام هذا الحديث أكد حسنين أنه إذا صمم السفير علي رأيه فإنه (أي حسنين) سوف يقدم استقالته، وفعلا خرج حسنين من دار السفارة ليقابل الملك ويقدم استقالته في اليوم التالي من رياسة الديوان».

(11)

ولسنا نعرف الآن إلي أي حد كان الوفد يعلم بتفاصيل ما وصل إليه حسنين باشا في مناقشاته ومناوراته مع السفير البريطاني، وهل بقيت استقالته في إطارها الوظيفي أم أنها خرجت عن هذا الإطار، لكن حسن باشا يوسف يدلنا علي أن اتصال حسنين بالقصر الملكي (أو به علي التحديد) لم يتوقف ولم يتضاءل، مما يعني أن الاستقالة كانت درجة من درجات المناورات القاتلة:

«… ورغم اعتكاف حسنين باشا، فإني كنت أطلعه يوميا في داره علي أعمال الديوان، وهنا أنقل من مفكرتي عن يوم 17 إبريل: «قابلني سير والتر سمارت صدفة عند باب منزلي فاستوقفني وسأل بعد المقدمة المتعارفة عن الجو والسكن: هل استقالة حسنين باشا جدية؟ فأكدت له ذلك، فقال: إنها خسارة أن يكون قد تسرع في هذا العمل.. فقلت له: إن الخسارة تعود علي الطرفين».

«ثم سأل عما إذا كانت السفارة تستطيع الكتابة إليّ بالنيابة، فأجبت بالنفي، إذ ليست لي صفة رسمية أستطيع بها الرد عليهم إذا ما استدعي الحال ردا».

(12)

نتوقف هنا لنشير إلي ذكاء سمارت الذي أراد أن يكشف تصرف حسنين بطريقة لا يمكن لحسن يوسف الفكاك منها، ولو أن استقالة حسنين كانت حقيقية لكان رد حسن يوسف غير ذلك الرد الذي كشف جزءًا من الملعوب، ويبدو أن حسن يوسف قد أحس بهذا فاضطر لقطع الحديث علي نحو ما يعترف:

«وقطعت الحديث بأن سألته أن أوصله إلي محل عمله فاعتذر شاكرا، وانصرف إلي نادي الجزيرة ليستقل سيارته».

(13)

علي أن أحمد حسنين باشا علي حسب ما يقدمه حسن يوسف من تلخيص وتصوير وتسجيل حاول أن يعوض كل هذا الفشل المتوالي بأن ينقل ميدان معركته مع الوفد إلي داخل بريطانيا، وربما نرثي لهذا السلوك من جانب حسنين باشا لكننا نعود لنعترف له بالدأب حتي في المؤامرات، لكن الفشل يواجه حسنين مرة أخري في محاولة خارج الحدود، ويبدو لنا أن حسنين لم يكن علي ذكائه مدركًا لآليات العمل «المتئدة» في الإمبراطورية البريطانية التي كان لدي أجهزتها ما يشغلها مما يفوق موضوعات مؤامرات حسنين أهمية:

«استأنف رئيس الديوان نشاطه بتدبير حملة إعلانية في إنجلترا، إذ أوفد رسولا مسموع الكلمة في الأوساط البريطانية إلي لندن وزوده بنسخ من الكتاب الأسود.. غير أن الحملة لم تفلح لأن الرسول وجد القوم هناك مشغولين بأحداث الحرب عما عداها من الأمور.. وفي تلك الفترة كتب النصر لقوات الحلفاء باستيلائهم فجأة علي تونس وميناء بنزرت».

«وأوشك شهر إبريل علي النهاية وكانت مناقشات البرلمان عن الكتاب الأسود مستمرة وبطريقة روتينية ولا تخرج عن سؤال يقدمه نائب وفدي وجواب يلقيه الوزير المختص، وموقف متشدد حيال المعارضة».

«في مجلس الشيوخ قدم هيكل باشا استجوابا عن دستورية المناقشة في البرلمان، ولماذا لا يقدم مكرم باشا إلي القضاء للنظر في الاتهامات الموجهة إلي الوزراء؟ وقد أجاب النحاس باشا بأن هذه الأمور تدخل في نطاق المسئولية الوزارية طبقا للدستور ولا تدخل في اختصاص المحاكم».

«وفي 27 إبريل رفض رئيس مجلس النواب استجوابا قدمه مكرم باشا نظرا لأن بياناته غامضة.. ولأن وقائعه غير محددة!».

(14)

ويجيد حسن يوسف وصف تصرفات أحمد حسنين باشا المناهضة للنحاس في أثناء الحادث الذي وقع للملك فاروق، وهو يشير إلي تعمد حسنين باشا التصرف بطريقة تضايق النحاس من جميع النواحي، فمن عدم تمكينه من مقابلة الملك، إلي دعوة زعماء المعارضة للالتقاء بالملك الذي لم يلتق بالنحاس، وإلي تكليفهم بما كان من الطبيعي أن يقوم النحاس به، ومن الطريف أن نذكر القارئ بأن كل محاولات الملك ورئيس ديوانه قد باءت بالفشل الذريع:

«… لم يسافر النحاس باشا إلي مكان الحادث وانتدب وزير الداخلية عقب علمه بالحادث في مساء اليوم نفسه، وعندما توجه النحاس باشا في اليوم التالي للاستفسار عن صحة الملك لم يمكنه حسنين باشا من مقابلة الملك إلا بعد أن تحسنت صحته يوم 20 نوڤمبر، ولم يكتف حسنين باشا بهذا، بل إنه لم يلبث أن دعا زعماء أحزاب المعارضة إلي القصاصين للاجتماع بالملك في اليوم التالي، حيث ناقشهم في الموقف السياسي، وكان مؤتمر الحلفاء إذ ذاك منعقدا في القاهرة، فأشار الملك علي زعماء المعارضة بانتهاز تلك الفرصة فأوعز إليهم بتقديم مطالب مصر القومية إلي الثلاثة الكبار، ولهذا التوجيه مغزاه من تجاهل الملك للوزارة القائمة».

ومن الجدير بالإشارة أن هؤلاء الزعماء (!!) لم يمكنوا من لقاء زعماء الحلفاء بالطبع، ويبدو أن حسنين باشا كان يسيء تقدير كل المواقف، وكان يظن رياسة الديوان منصبا دوليا ذا قيمة له أن يأمر وأن ينهي حتي علي مستوي رؤساء أو زعماء الحلفاء.

(15)

أما الدكتور رفعت السعيد فيروي عن مصطفي أمين أنه كان قد كتب في الأسبوع الأخير من شهر يوليو سنة ١٩٤٢ مقالا في مجلة «الاثنين» محاولا أن يزيد من الوقيعة بين الملك والنحاس، وقد وجد الدكتور رفعت السعيد فيما تضمنه مقال مصطفي أمين ما يدل علي شجاعة النحاس وجسارته في مواجهة الملك، وذلك علي الرغم مما يذهب إليه رفعت السعيد من أن مصطفي أمين كتب المقال من باب السعي إلي الوقيعة بين الملك والنحاس بتصوير زعيم الأمة متجاوزا في حق الملك:

«… (كتبت مقالا) أحيي فيه حضرة صاحب الجلالة الملك، بمناسبة ذكري توليه سلطته الدستورية، وكان المقال عاديا، وصفت فيه شعوري نحو مليك البلاد وهو شعور كل مصري، وكان طبيعيا أن يجيز الرقيب المقال، فليس فيه انتقاد للوزارة، وليس فيه مديح لخصم من خصوم الوزارة، وليس فيه مهاجمة لنائب وفدي، وليس فيه شكوي من التموين، أو المطالبة بالجلاء، وهذه كلها كانت ممنوعات لا تجيز الرقابة نشرها بأمر من صاحب المقام الرفيع النحاس باشا الحاكم العسكري، ولكني دهشت عندما طلب رقيب المجلة عرض المقال علي مدير الرقابة، وعندما حمل الأستاذ الشافعي البنا رقيب المجلات الأسبوعية مقالي إلي رفعة الحاكم العسكري ليعرضه عليه، هالني بعد ذلك أن علمت أن رفعته أمر بأن يعرض عليه شخصيا كل ما أكتبه عن جلالة الملك، وفي اليوم التالي حضر الأستاذ الشافعي البنا يحمل المقال ويقول: إن رفعة النحاس باشا أمضي الليل كله في حذف وتعديل المقال، ورأيت المقال فإذا بأغلبه محذوف بخط صاحب المقام الرفيع، حذف رفعة الحاكم العسكري قولي إن الملك فتح قصره لكل الأحزاب وكل الزعماء، فليس للملك حزب لأن مصر كلها حزبه، وليس له رجال لأن المصريين كلهم رجاله، وحذف رفعة الحاكم العسكري كل كلمة فيها إشادة بالملك، أو أضاف إليها وحكومة جلالته، وحذف الحاكم العسكري أن الملك فاروق ملك دستوري لا يرضي بالدستور بديلا، وأن الدستور لم يعطل في عهده يوما واحدا، ولم أصدق أن صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا تبلغ به الجرأة ويبلغ به الاستهتار، ولا أقول كلمة أخري، فيحذف بيده التحية الموجهة إلي ملك البلاد».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ثم يقول رفعت السعيد بعد أن نقل ما يمكنه تسميته بالمقال الأصلي علي نحو ما أثبته مصطفي أمين، ما نوافقه عليه:

«وليس من شك في أن موقفا كهذا من جانب النحاس كان يعبر عن شجاعة منقطعة النظير، وعن إصرار لا يكل علي مجابهة الملك، ومعارضة نفوذه».

(16)

وقد وصل اندحار الملك فاروق أمام النحاس باشا في هذه الحقبة إلي حد أنه كان يتحسس بنفسه أخبار الزعيم الوطني الكبير، وقد نقلنا في كتابنا «علي مشارف الثورة» عن صليب سامي ما رواه عن حوار عابر جري بينه وبين الملك فاروق في فندق مينا هاوس (عقب حادث 4 فبراير) حيث تقابلا مصادفة، علي حين كان النحاس مقيما في ذلك الوقت في الفندق هو وزوجته السيدة زينب الوكيل:

«وبينما كنتُ (الضمير يعود علي صليب سامي) جالسًا يومًا في ردهة فندق مينا هاوس أقبل الملك (فاروق) مع الملكة فريدة والحاشية، وإذا بي أمامه وجهًا لوجه، فوقفت دون أن أتقدم لتحيته، خشية أن يكون غاضبًا عليّ فيبدو منه ما يسيء إليّ. لكن الملك نفسه قد أبدي استعداده للسلام عليّ، فتقدمت إليه وصافحني يدًا بيد».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ربما كان من المهم هنا أن نتوقف لنشير إلي السبب في ذلك الحذر والتوجس اللذين يعترف بهما صليب سامي، وهو أنه كان عضوا في الوزارة التي استقالت في مطلع فبراير 1942، بل كان هو نفسه السبب الظاهر لاستقالتها، بسبب موقفه من حكومة فرنسا.. إلخ:

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«وبعد أن دخل الملك ومن معه الغرفة التي كانت معدة لهم، خرج ووقف، حدثني طويلًا وكان أكثر حديثه عن النحاس باشا الذي كان يقيم في الفندق نفسه، فكان يسألني عما يفعله، وعمن يستقبله، وهل رأيت حرمه، وهل تشترك معه في مقابلة الزائرين».

«وكان جوابي علي ذلك أني لست علي اتصال بالنحاس باشا، ولم أر حرمه، ولا أعلم شيئًا عنهما».

(17)

وفي خضم كل هذا كان النحاس لا يفتأ يعبر عن ثقته بقواعده الشعبية، ويفضي لها بهمومه في الحكم وفي السياسة، وقد اخترنا أن ننقل للقارئ نص خطابه في عيد الجهاد (نوڤمبر ١٩٤٣)، الذي صادف العيد الفضي للوفد المصري:

«باسم الله الذي بيده زمام القلوب.. ومقاليد النفوس… باسم الله العلي القادر، أفتتح هذا المؤتمر الجامع، والعيد الوطني الرائع».

«وباسم مصر الكريمة، والوفد المصري الأمين، أحييكم تحية صادقة مقرونة بشكر خالص علي تفضلكم بتلبية دعوتنا ومشاركتنا في ابتهاجنا وتمجيدنا لهذا اليوم العظيم.. يوم عيد الوفد الفضي، عيد مصر الحرية الذي تبدي فيه مناقبها، وتسجل مفاخرها في فترة من فترات تاريخها، طبعت حاضرها وخطت مستقبلها».

«تحيتي وشكري لحضرات الوافدين من الأقطار العربية والشرقية ورسل الصحافة الأجنبية الذين التقت عواطفهم جميعا بعواطفنا، فجاءوا من بعيد يشهدون عن كثب مؤتمرنا وينقلون إلي بلادهم وصحافتهم نهضة مصر في مختلف مواقفها، ويصفون ما شهدوا فيها من حياة جديرة بالتسجيل، جديرة بالتقدير».

«وأتوجه بالتحية الخاشعة إلي روح سعد الطاهرة.. أول من حمل اللواء، ولبي النداء، وبث مبادئ الوفد في النفوس، وثبتها في القلوب، فقوي الله به الوفد أركانا ورفع بنيانا، ومنه استلهمنا مبادئ قويمة، وسننا كريمة، لم تكتب في سطور بل نقشت في الصدور، تميز بها الوفد وطبعت شخصيته».

«فالصلابة في الكفاح والثبات علي المبدأ والسياسة التي تسير في النهار المبصر، والأمانة والاستقامة، كل هذه بعض صفاته، ومن أخص ميزاته، نقشها سعد بأقواله وأعماله علي صفحات القلوب، وورثناها من بعده غرسا صالحا تعهدناه سقيا وريا حتي استوي أخلاقا لا تتبدل،وطباعا لا تتحول».

«وأحيي معه أرواح أولئك المجاهدين من أعضاء الوفد الثابتين الذين استجابوا لوطنهم وأخلصوا جهادهم، وفاضت أرواحهم، وفي إيمانهم علي الجهاد فطابت نفوسهم في مثواها، وعطرت سيرتهم في ذكراها، فإليهم وإلي الشهداء الذين رووا أرض الوطن بدمائهم الزكية الطاهرة أرسل تحية مصر الخالدة، في هذه المناسبة الوطنية الرائعة، وأستمطر عليهم رحمة الله الغفور الرحيم».

«منذ أقدم العصور تحتفل الأمة منذ التاريخ المجيد بالمناسبات الكريمة والحوادث البارزة في تاريخها لتسجل مفاخرها، وتدون مآثرها، وتشيد بذكري ضحاياها وتضحياتها، مطمئنة إلي حاضرها، متحفزة إلي مستقبلها فتعين علي جلال ماضيها الباهر، عظمة مستقبلها الزاهر».

(18)

ونري النحاس باشا في خطابه للشعب يؤصل لفكرة احتفال الوفد باليوبيل تأصيلًا يحفظ للمعني السامي هيبته ومقامه:

«وفكرة اليوبيل فكرة قديمة، كانت في أول أمرها دينية، ثم تطورت علي الأيام فصارت اجتماعية وسياسية، وصحب هذا التطور في الصفة، تطور في عدد السنين، فهي قرن أو نصف قرن، وهي ثلاث وثلاثون سنة أو خمس وعشرون، وعلي هذا السنن الحميد، والتقليد المجيد، انعقد إجماع الوفد المصري علي أن يحتفل بأخلد أيامه وأقدس ذكرياته وأنبل تضحياته في تاريخ مصر الحديث».

«فمنذ ربع قرن، وفي مثل هذا اليوم من سنة ١٩١٨ نهضت مصر بأسرها تذود عن حريتها، وترفع الصوت عاليا طالبة استقلالها، باذلة في سبيل ذلك الأرواح البريئة، والمهج الغوالي، متحملة من أليم المشقات، ونبيل الآلام والاضطهادات ما لا يحتمله إلا شعب أبي عزيز النفس، كبير الآمال».

«من أجل ذلك رأي الوفد أن يقيم في هذا اليوم يوبيله الفضي بعد أن قضي خمسا وعشرين سنة من حياته المجيدة الخالدة إن شاء الله جاهد فيها جهادا كبيرا، وانتصر انتصارا مبينا، وأحدث في الحياة المصرية تبدلا هائلا، وتقدما واضحا، حتي لقد طبعها بطابعه، وصبها في قالبه».

«لقد كانت الأمة قبل قيامه ممزقة طرائق قددا بسبب الدين والسياسة، فإذا به يؤلف شتاتها، ويجمع كلمتها، فتنطلق منها تلك القوي العظيمة إلي أبعد مداها وأسمي غاياتها، ولم يكد الوفد ينهض نهضته، ويقوم قومته حتي جرت الحياة في النفوس المصرية فإذا المصريون إلي جانب نضالهم السياسي، يقبلون علي العلم إقبالا لم تعهده مصر من قبل، وينشطون في ميادين الاقتصاد والاجتماع إلي حد بعيد».

«علي أن فتح الوفد في السياسة كان أعظم، وفوزه في ميدانها أجل وأكبر، فقد حقق لمصر استقلالها، وكان الاستقلال قبله حلم الحالم، وأمنية المتمني فأصبح الحلم واقعا ملموسا،والأمنية حقًّا مشهودا، واستعاد للأمة دستورها، وركز حياتها النيابية، ووطدها، وما زال عاملا علي تمكين الروح الدستورية وإقرارها في النفوس حتي لا يعبث بها في المستقبل عابث، ولا يطمع فيها طامع».

«والوفد هو الذي جاء بوثيقة الاستقلال، وهو الذي يدرك روحها ويفهم مراميها، ويحرص علي تنفيذها تنفيذا دقيقا أمينا، وهو الذي أبلي البلاء الحسن في استرجاع دستور الأمة وحياتها النيابية، وامتازت سياسته الداخلية بالمحافظة عليها، والحرص علي قيامها، وشهدت له مواقفه كلها بأنه شديد التمسك بالدستور نصا وروحا، لا يبدي في هذا تسامحا، ولا يعرف لينا».

(19)

وهذا هو بعض من خطاب النحاس باشا في عيد الدستور (15 مارس سنة ١٩٤٣):

«استطاعت مصر الصامدة، الصابرة، بما قدمته من غالي التضحيات منذ اندلاع ثورة سنة ١٩١٩ بقيادة الزعيم سعد زغلول،وبما استشهد في سبيلها من أرواح طاهرة أبية، وبما سال علي أرضها من دماء ذكية، وبتلك الوقفات الباسلة خلف الزعامة الصامدة التي أذهلت العالم بقوة شكيمتها وتمسكها بحقوق شعبها في حياة مستقلة حرة كريمة، استطاعت مصر بصمودها وتصميمها أن تحصل علي دستورها في 15 مارس سنة ١٩٢٣ بينما كان سعد زغلول ومصطفي النحاس وزملاؤهما ما زالوا في المنفي بمقتضاه أصبحت الأمة بحق مصدر السلطات.. (وإن الملك يملك ولا يحكم) (لكنه يحكم بواسطة وزرائه المنتخبين بمعرفة الشعب انتخابا حرا لا ضغط فيه ولا إكراه)».

«ومن ذلك اليوم اتخذت مصر هذا اليوم لها عيدا تحتفل به كل عام».

(20)

وهذه فقرة من فقرات واحد من محبي الوفد في التعقيب علي حب النحاس لعيد الدستور ودفاعه البليغ عنه:

«… ولو أن هذا العيد اعتدي عليه وعلي جلاله وجماله بعض نفر من أصحاب الأغراض والغايات الخارجين علي إجماع الأمة الذين لا يفكرون إلا في مصالحهم الشخصية، فراحوا يتآمرون مع سلطة الاحتلال والملك علي صاحب العيد (الدستور)، تارة بالتعطيل، وتارة بالإلغاء، وتارة بالتفسير المخل، وتارة باستبداله، ولو أنهم آمنوا بوطنهم ومواطنيهم كما آمنت الكثرة لأخلصوا للدستور، ولو أخلصوا العمل والنوايا وعملوا لمجد الوطن لأنه الباقي علي الدوام، آه لو أنهم مضوا مع نصوص الدستور وروحه كما تمسك به سعد زغلول ومصطفي النحاس لكنا أمة من أرقي الأمم الديمقراطية وأعرقها وأقدمها اليوم، وأصبحنا مضرب الأمثال. آه لو تمسكنا بروح الدستور ونصوصه لسلمنا من النكسات والثورات وحكم الأقليات والحكم الشمولي بما فيه من اعتقالات وحراسات ووأد للحريات، ولجنبنا مصر الكثير من الأخطاء والآثام التي نشكو منها هذه الأيام».

«لقد كانت مصر تتخذ من هذا اليوم عيدا قوميا لها، ضمن أعيادها الرسمية، تعطل فيه الوزارات والمصالح الحكومية اعترافا بما لهذا العيد من أثر عظيم في نهضتنا السياسية».

(21)

والواقع أن النحاس ظل طيلة الفترة التي حكم فيها منذ فبراير 1943 وحتي أكتوبر 1944 يعاني من ألاعيب غير مسئولة لم يكف أعداؤه عن تذكيتها وتغذيتها، وكان الملك فاروق نفسه واحدًا من هؤلاء.

وقد وصل الحال بالنحاس إلي إعادة الحديث عن أعداء الديمقراطية في فقرات صريحة من خطابه في عيد الدستور سنة ١٩٤٤ في أثناء رئاسته للوزارة حيث قال:

«لا يظنّ ظانّ أن جهادنا للدستور وتوطيد دعائمه قد انتهي، وأنه أصبح بمنأي عن الخطر بعيدا عن التبييت له والائتمار به.. لا.. فإن للدستور خصوما يكيدون له، وللحياة النيابية أعداء يتربصون الدوائر، ومن حق هذا الوطن علينا أن نبصره بالعواقب ونفتح عيونه علي ما ينتظره من حادثات، بل إن واجب مصر في أعناقنا بعد أن أصبح بلدا له مركزه الممتاز، ومكانته السامية بين أمم الشرق والغرب، ومن حق بلادنا علينا وعلي كل محب لها، مخلص في خدمتها، أن يعض علي الدستور بالنواجذ، ويعمل جهد المستطاع علي أن تظل أحكامه سارية لفظا وروحا، معني ومبني، حتي تصبح مصر حقيقة بالمنزلة التي وصلت إليها، والمكانة التي تنتظرها، وإذا لم تكن الأمة حرة كل الحرية في شئونها، مطمئنة كل الاطمئنان علي مظهر حريتها، وعنوان قوميتها، فلا خير يرجي منها، ولا ينتظر من غيرها أن يقتدي بها ويتخذها نبراسًا وهاديًا».

«إلا أن الحرية بغير الدستور هي حرية مهملة، والكرامة الوطنية بغير الدستور هي كرامة مهلهلة».

(22)

ونأتي إلي ما تسجله أدبياتنا علي اختلاف مشاربها عن إقالة النحاس في أكتوبر 1944 بعد أطول فترة متصلة قضاها في رياسة الوزارة:

وهذا أولا هو نص كتاب الإقالة :

«عزيزي مصطفي النحاس باشا»

«لما كنت حريصا علي أن تحكم بلادي وزارة ديمقراطية، تعمل للوطن، وتطبق أحكام الدستور نصا وروحا، وتسوي بين المصريين جميعا في الحقوق والواجبات، وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب، فقد رأينا أن نقيلكم من منصبكم».

«وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع، شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم ما أمكنكم أداؤه من الخدمات أثناء قيامكم بمهمتكم».

«صدر بقصر عابدين في 21 شوال 1363 (8 أكتوبر 1944)»

فـاروق

(23)

وقد تحدث حسن يوسف عن ذكرياته عن إقالة النحاس في أكتوبر ١٩٤٤ حديثًا باردًا لا يحظي بما حظيت به تلك الواقعة من تصوير درامي علي يد الفئات المناوئة للنحاس والوفد، حيث كانوا في منتهي السعادة بتمكن أحمد حسنين أخيرًا من الخلاص من وزارة الوفد:

«… في هذا اليوم بالذات الخميس ٥ أكتوبر (١٩٤٤)، قرر الملك عزل النحاس باشا وأعد حسنين باشا خطة محكمة أحيطت بالسرية والكتمان الشديدين مع الاستعداد لجميع الاحتمالات بحيث لا يتمكن النحاس باشا من تقديم استقالته».

«بعد ظهر يوم الخميس تم إعداد كتاب الإقالة، وتوليت كتابته بخط يدي ضمانا للسرية، وقدمته إلي الملك فوقعه وكان بادي الارتياح فلم يعلق علي رداءة الخط الذي كتبت به الوثيقة، خلافا لما يحرره الموظفون المختصون في قلم التوقيع بالديوان».

(24)

هكذا نري أن أقصي هدف لرئيس الديوان (حسنين باشا) كان ألا يمكن رئيس الوزراء من أن يكون صاحب قرار الاستقالة لتبدو المسألة أنها رغبة ملكية تمكنت من فرض إرادتها بعد 32 شهرا من حكم الوفد، علي الرغم من محاولات القصر الدائبة أو المستميتة لإبعاد الوفد عن الحكم.

(25)

ولا يجد حسن يوسف حرجًا في أن يروي أنه أخفي خبر الإقالة عن النحاس في لقائه به بالإسكندرية، بل إنه يعترف أنه شارك في خداع النحاس وصرف نظره إلي موضوعات فرعية، ويفاجئنا حسن يوسف بأن الموعد الذي كان قد حصل عليه من النحاس أصبح بمثابة موعد لتسليمه كتاب الإقالة دون أن يدري النحاس بعناصر المؤامرة.

ومن الجدير بالذكر أن أزمة من الأزمات الصغيرة كانت قد استخدمت لتصعيد اختلاف الملك مع النحاس باشا، وكانت هذه الأزمة تتعلق بمحمود غزالي ضابط الشرطة الكبير الذي أمره الملك فاروق أن يزيل اللافتات التي قرنت الترحيب بالنحاس مع الترحيب بالملك عند ذهابه للصلاة، وأن تتم الإزالة بحيث لا يراها الملك في طريق عودته،فلما صدع الغزالي لأمر الملك من دون الرجوع إلي وزير الداخلية عاقبته الحكومة بوقفه عن العمل!! ونحن نري فيما يرويه حسن يوسف دليلًا علي مدي تورط القصر في الأزمة، حتي وإن استغلها للتعمية علي الغدر بالوزارة الوفدية.

«… وكنت مدعوا إلي حفلة الغداء التي يقيمها رئيس الوزراء في قصر أنطونيادس بالإسكندرية يوم السبت بمناسبة توقيع بروتوكول الجامعة العربية، وسافرت بالقطار صباح الجمعة إلي الإسكندرية وفي حقيبتي أمر الإقالة ونزلت بفندق وسط المدينة غير لافت للأنظار وغير بعيد عن فندق سيسل حيث يقيم النحاس باشا، وفي عربة البولمان (إحدي عربات القطار) التقيت بالشيخ يوسف ياسين السكرتير الخاص لجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، وبالشيخ السليمان رئيس ديوان الأمير فيصل، وكانا ذاهبين إلي الإسكندرية لحضور المأدبة، ودار بيننا حديث في العموميات، وحول موضوع الجامعة العربية، وقد فهمت من الشيخ يوسف أن موافقة الملك عبد العزيز علي نصوص الميثاق بصفة نهائية لم ترد بعد».

«في يوم السبت ٧ أكتوبر عقب مأدبة الغداء وبعد انصراف المدعوين، انتحيت جانبا مع النحاس باشا في حديقة القصر وقلت له: إن جلالة الملك يود أن يعرف ما تقرر بشأن محمود غزالي وقد مضي علي وقفه عن العمل ثلاثة أسابيع، قال النحاس باشا: إنه كان منشغلا بالرد علي الإنجليز الذين أقحموا أنفسهم في الأزمة، بما يعتبره تدخلا في شئوننا الداخلية! ولما قلت لرفعته إن جلالة الملك يري إعادة غزالي بك إلي عمله ولو بصفة مؤقتة، قال: إذا كانت هذه هي رغبة الملك فلا بد من استجواب غزالي لماذا تصرف دون الرجوع إلي الوزير المختص، فأجبت بأن الوزير كان بالإسكندرية ولم يكن الوقت ليتسع، لأن الملك أمر بنزع اللافتات علي الفور بحيث لا يراها عند عودته من المسجد عقب صلاة الجمعة اليتيمة».

«وكانت هناك مسائل أخري معلقة بين القصر والوزارة، منها تعيين عضوين في مجلس الشيوخ تحدثنا فيها وطلبت من النحاس باشا موعدا في الغد، فحدد الساعة الخامسة بعد ظهر الأحد، لأعرض عليه نتيجة اتصالاتي مع الملك في القاهرة».

(26)

ونصل مع حسن يوسف إلي وقائع اليوم الذي شهد إقالة الوفد، وكيف أدي حسن يوسف نفسه دوره البروتوكولي في ذلك اليوم :

«في الصباح الباكر من يوم الأحد ٨ أكتوبر (١٩٤٤) اتصل بي حسنين باشا تليفونيا وطلب عودتي إلي القاهرة فورا! سافرت بالقطار، وبلغت قصر عابدين حوالي الواحدة بعد الظهر وقابلت حسنين باشا وأخذ يحدثني عن تردد الإنجليز في الموافقة علي إقالة النحاس باشا، وقال: إنه سألهم بصفة قاطعة إذا كانوا غير قادرين علي التدخل لدي النحاس باشا لإنهاء مشكلة غزالي، فلماذا يعترضون علي أن يقيل الملك رئيس وزرائه وهو حق من حقوقه الدستورية؟ ثم تكلم عما نشرته صحيفة «البلاغ» لسان حال الوفد بتاريخ أمس من تحذير لمن يضعون العراقيل أمام النحاس باشا في سبيل ممارسة حقوقه الدستورية، وتداولنا فيما أشيع اليوم من أن النحاس باشا دعا إلي عقد مجلس الوزراء في الساعة السابعة مساء لتقديم استقالة الوزارة، بدعوي تدخل الإنجليز في شئون مصر الداخلية، كما أشيع أنه سوف ينشر الكتابين المتبادلين بينه وبين مستر شون في مسألة غزالي بك».

«ذكرت حسنين باشا بموعدي مع النحاس باشا في الساعة الخامسة، فاتصل علي الفور برئيس مصلحة الركايب الملكية لإعداد سيارة تقوم فورا إلي الإسكندرية وغادرت القاهرة في منتصف الثالثة بعد الظهر، ووصلت إلي فندق «سيسل» في الخامسة إلا ربعا، حيث استقبلني النحاس باشا في الصالون المجاور لغرفته، وبعد أن أبلغته تحيات الملك، سلمته أمر الإقالة فأخذ يتلوه بصوت مسموع».

(27)

ثم يردف حسن يوسف ما رواه بعبارات قصيرة يقول فيها:

«لم أسجل تفصيل ما قاله النحاس باشا بعد أن قرأ أمر الإقالة، وكان الموقف دقيقا بالنسبة لي، فقد أرتج عليّ، بيد أني أذكر أنه قال:

«ربنا يوفق جلالة الملك، ويلطف بالبلاد..»، ثم استأذنت داعيا له بالصحة والرفاهية».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(28)

ها هو ذا النحاس قد ترك الحكم، وها هو ذا يتحدث للجماهير عن مشاعره بعد شهر واحد من هذا التخلي في خطابه في عيد الجهاد (نوڤمبر ١٩٤٤) فيقول:

«أيها السادة… هذا يوم ميزته الأقدار فبقي فيها فريدا، وزينته الشدائد والأخطار فاتخذته مصر لها عيدا، ظل كالنبت تسقيه حروف الليالي بالمحن والأرزاء، وهو مما يعل وينهل كأنه السيف في ساحة الهيجاء».

«هذا يوم الذكريات الحلوة المرة، والتضحيات التي طبعت في جبين الدهر غرة. هذا عيد الجهاد الذي ما رأيت عيدا تضفي عليه الشدائد روعة وبهاء، وتكسوه الحادثات جلالا ورواء مثل هذا العيد. ذلك أنه يستمد من الكفاح اسمه، ومن الجلاء طابعه ورسمه. فيا له من عيد يأتي كل عام بجديد. وأهلا به يوما من أمجد الأيام وأكرم الأعياد. ومرحبا به موقفا نذكر فيه ما لقينا من آلام ومحن شداد».

«مرحبا به يوما أوقدت شرارته جذوة الوطنية فينا فطهرت من الخور قلوبنا، ومن الضعف نفوسنا، ووقفت مصر يتقدمها سعد وصاحباه في وجه الأسد الرابض… صفا واحدا في أروع صور الأبطال، وأمجد مواقف الاستبسال، شامخة البنيان، ثابتة الأركان، راسخة العزيمة، قوية الإيمان، لا تفزع تحت الضربات، ولا تهتز دون الصدمات».

«فيا لها من ذكري أمة صممت علي أن تحطم أغلالها، واعتزمت علي أن تكسر أصفادها، ووضعت هذا الهدف نصب عيونها وجعلته قبلتها، لا ترضي بديلا، ولا تبغي عنه حولا. وكم سلط عليها من الاضطهاد صروف، ومن المغريات صنوف فلم يصرفها بطش جبار عنيد، ولم يحولها وعد أو وعيد، وارتفعت بجهادها فوق الأغراض والغايات، ومضت في كفاحها تضرب للأمم أروع الآيات البينات في الجهاد والتضحية والثبات».

«ويا عيد الجهاد وإنا نستقبلك اليوم بقلوب أثبت يقينا، وأشد إيمانا، ونفوس أكبر في المستقبل أملا، وأعظم رجاء، فالظلام الحالك يتبعه السنا الباهر، والصبح السافر،والعاصفة الهوجاء تمر سريعا وتهدأ وشيكا، وإن مع الضيق لفرجا، وإن مع العسر يسرا».

(29)

ولا يخلو تصوير الوفديين لمواقف الملك من النحاس ومواقف النحاس من الملك فاروق في هذه الفترة من بعض المواقف الفولكلورية، ومنها هذا الموقف الذي رواه علي سلامة في كتابه:

«… هرعت جموع الشعب لاستقبال الزعيم بمحطة مصر عند عودته من مصيفه بالإسكندرية سنة 1946، وسار موكب الزعيم في رتل من السيارات مخترقا شارع الملك (رمسيس الآن) وجميع الشوارع المؤدية إلي منزله بجاردن سيتي، وقد تصادف مرور موكب الملك في هذه اللحظات التي اضطر رجال المرور أن يمنعوا السير في هذه الطرق، وأبي الزعيم وموكبه إلا أن يمضي في طريقه دون توقف مما اضطر رجال المرور إلي الإذعان أمام إصرار الزعيم ورجاله للمضي في طريقهم، والتقي موكب الزعيم وموكب الملك في ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا)، ولقد علق الزعيم علي هذا الحدث إثر وصوله قائلا في جموع مستقبليه: «وها أنتم الآن قد رأيتم عندما التقي الجمعان، جمع يحيط به الرحمن، وجمع يحيط به الشيطان فانعقد النصر لجمع الرحمن».

(30)

وقد بلور النحاس رؤيته لطبيعة العداوة التي فرضها أعداؤه عليه وعلي الوفد، ووصل في هذه البلورة إلي أن وصف أسالبيهم بأنها أساليب «حروب العصابات»، وهو وصف قاسي بلا شك، غير أن معرفتنا بأساليب أعداء النحاس يجعلنا نعذره فيه:

«أيها السادة… الآن وقد شرحت لكم الموقف في الداخل والخارج بما اتسع له المقام جريا علي عادتي في كل عام، لم يبق لديّ ما أقوله إلا كلمة أسف بالغ علي ما يحيق بمصر علي أيدي بعض المصريين من أبنائها المحسوبين عليها.. أجل.. إني ليحزنني أن تنزل الخصومة إلي هذا القاع السحيق، وأن تستعمل في الحرب السياسية تلك الأسلحة التي لا تستعمل إلا في حرب العصابات، والخاسر في هذا كله مصر المنكوبة التي لم يرد لها ذكر علي لسان واحد من هؤلاء الحاكمين منذ انزلق بهم اللسان، وخانهم البيان، وانشغلوا بحربنا عن ذكر مصر ومصالح مصر. ولكن مصر التي عرفتهم وخبرتهم وأعرضت عنهم وأقصتهم ستعلمهم من جديد أن لها إرادة من حديد، وأن بأسها لشديد».

«أيها المصريون.. إنها تجربة باطشة وابتلاء من الله لصقل أرواحكم، وتطهير نفوسكم، فاصبروا وجاهدوا، عضوا علي دستوركم، واغضبوا لكرامتكم، وكونوا رجالا لا تقعد بهم أحداث الزمان من الوصول إلي الغاية وارتقاب النهاية، وإنها لنهاية سعيدة إن شاء الله، فيها يفرح المجاهدون المخلصون بنصر الله ﴿ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾».

«أيها المصريون.. كيفما تكونوا يـول عليكم فإن كنتم أهلا للحياة الحرة الكريمة كان الله معكم وشد من أزركم، إنها لمحنة وابتلاء ﴿ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾».

(31)

ولم يكن خروج النحاس باشا من الحكم كافيا لتهدئة نفوس خصومه، لكن هؤلاء بدءوا يحاولون النيل منه عن طريق إعادة استخدام الكتاب الأسود بأسلوب آخر!! ولم يكن مثل هذا الأسلوب كفيلا بالنجاح في مواجهة النحاس وصلابته، وهنا نشأت فكرة الزج بالدولة والحكومة في خصومة مع النحاس عن طريق تقديمه للمحاكمة!! وعلي الرغم من بريق هذه الفكرة إلا أنها سرعان ما لقيت مصيرها الطبيعي، وهو الوأد.

ويلقي كريم ثابت في مذكراته بأضواء مهمة علي ما دار في الكواليس «عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج الوفد من الحكم» من أجل تدبير محاكمة للزعيم الوطني الكبير مصطفي النحاس، ويعزو كريم ثابت قرار الملك بالرجوع عن محاكمة النحاس إلي ذكاء مَنْ استشارهم الملك، وهو ينسب السبب في هذا الموقف إلي وجهة نظر أحمد ماهر القائلة بأنه لن يوافق علي هذه المحاكمة إلا إذا أثبت له أن إدانة النحاس محققة بنسبة 150٪ وليس مائة في المائة فقط، وفي خبث شديد يحاول كريم ثابت أن ينهي إلينا أن تأييده لرأي أحمد ماهر كان له شأن في إقناع الملك بالرجوع عن قرار محاكمة النحاس، ولنقرأ القصة كاملة:

«حدث بعد تأليف وزارة أحمد ماهر بأمد قصير أن قال لي فاروق يوما: إنني حائر فيما يبلغونني إياه عن موضوع محاكمة النحاس.. هذا يقول لي شيئا وذاك يقول لي شيئا آخر.. فأريد منك أن تذهب إلي أحمد ماهر كأنك ذاهب إليه لعمل صحفي، فإذا اختليت به قلت له إنني أوفدتك إليه لكي أعرف حقيقة رأيه في هذا الموضوع، علي أن يبقي الأمر سرا بينكما لا يعلم به أحد سواي!».

«فقلت له: وكيف أثبت له أنني أسأله هذا السؤال بأمر من جلالتك إذا لاحظت أنه متردد في الإجابة عنه؟».

«فأطرق لحظة ثم قال: قل له «بأمارة» ما سمعته مني عن بدلة «الردنجوت».

«ونفذت تعليماته بحذافيرها، فقال لي أحمد ماهر: إن موضوع محاكمة النحاس أخطر جدا مما يظن بعضهم.. أنا لا يكفيني أن يقال إن نسبة احتمال إدانته 90 في المائة أو 100 في المائة لكي أوافق علي محاكمته.. إذ لا يخفي أن محاكمته ـ لو تقررت ـ يجب أن تجري أمام محكمة عليا خاصة، ينص الدستور علي كيفية تأليفها، وسيكون ضمن رجالها بعض أعضاء مجلس الشيوخ، وهؤلاء يحتم الدستور اختيارهم بالقرعة، وقد يكونون جميعا أو أغلبهم من الوفديين، فينبغي لي والحالة هذه أن أحسب حسابا لجميع الاحتمالات، لذلك فإني لن أوافق علي محاكمته إلا إذا ثبت لي أن إدانته محققة 150 في المائة لا مائة في المائة، بحيث إذا خسرنا «خمسين» لتفاوت الآراء في التقدير ظل هناك مائة في المائة لضمان الإدانة!».

«وأردف أحمد ماهر ما تقدم بقوله: وأرجوك أن تقول لجلالة الملك إنه لو حوكم النحاس وبرئ لضاع كل شيء.. هذه الوزارة.. وهذا النظام.. وعرشه أيضًا!».

«فقلت له: سأبلغه هذا كله حرفيا».

«فقال: وما رأيه هو في الموضوع؟».

«فقلت: إنه يميل إلي المحاكمة طبعًا، ولكني توقعت أن تسألني دولتك هذا السؤال، فسألته عما يكون ردي عليه، فقال لي إنه يترك تقدير الموضوع لك، وإنه إذا قيل لك غير ذلك فلا تصدق!».

«فقال: وهو كذلك.. إن هذا يريحني كثيرًا!».

«وكان شعوري بعد هذه المقابلة أن أحمد ماهر لا يريد هذه المحاكمة».

«ولما اجتمعت بالملك أعدت عليه حديث أحمد ماهر برمته، فسألني: وأنت ما رأيك؟».

«فقلت له: رأيي يا مولاي إن أحمد ماهر رجل عاقل، وإن كلامه في محله!».

(32)

علي هذا النحو صور كريم ثابت نهاية مشروع مسرحية هزلية ربما ظن أصحابها أنهم قد يكسبون بها شيئا، لكن قوة النحاس عند عارفيه، وعلي رأسهم علي ماهر، كانت كفيلة بإلغاء فكرة المسرحية.

ومن الإنصاف لتاريخنا أن نذكر أن النصف الثاني من الأربعينيات قد حفل بعدد كبير من المسرحيات التي استهدفت النحاس، لكن مكانة زعيم الأمة كانت قد بنت مسرحًا صادقًا وساحرًا قادرًا علي ابتلاع كل هذه المسرحيات بل علي ابتلاع أبطالها ومؤلفيها ومخرجيها كذلك.. وليس أدل علي صواب رأينا هذا من أن النحاس عاد في عام 1950 بأقوي مما كان عليه في عام 1944.. وهو ما سنناقشه في فصل تالٍ.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com