الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (9)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (9)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل التاسع

الفصل التاسع

حـادث 4 فبرايـر

(1)

لست من أنصار تضخيم أثر حادث ٤ فبراير رغم اعترافي بضخامة وتكرار واستعذاب الحديث عنه في كل أدبيات السياسة المصرية، ولكن لا بد لي أولا من أن أذكر سبب هذا التضخيم، فقد كانت صراحة النحاس في عداوته للبريطانيين تفوق الحد، وهكذا فإن الموقف الذي تمثل في طلبهم تولي النحاس رئاسة الوزارة كان بمثابة حدث كبير أو فرصة ضخمة لأعداء النحاس لكي ينالوا من الرجل ومن الوفد، ذلك أن الموقف الأخير خلق نوعا من المفارقة المسرحية التي لم يكن من الذكاء (في نظر أعداء النحاس) عدم الإمساك بها والقبض عليها في محاولة لإدانة النحاس.

ومع هذا فإنه مع مضي الأيام ومع مرور ما يقرب من سبعين عاما علي هذا الحادث، ومع تكشف الأسرار وإعلان الأدوار والإفراج عن الوثائق فإن المرء يكاد يعجب من أن يركز البعض علي هذا الحادث، وينسون حقيقة مهمة كان يمكن لهم أن يستغلوها في الإطار نفسه، وهي أن عودة الوفد إلي الحكم في بداية الخمسينيات لم تأت أيضًا بناء علي رغبة الملك أو القوي الناشطة في القصر، وإنما جاءت أيضًا بناء علي طلب الإنجليز (وإن كان الطلب في هذه المرة جاء بطريقة غير مباشرة)، وقد كان البريطانيون صرحاء حين أدركوا أن مشروع معاهدة صدقي ـ بيفن قد توقف في النهاية لأن بعض أعضاء هيئة المفاوضة التي شكلها صدقي عارضوه.. وهكذا عاد البريطانيون في نهاية الأربعينيات إلي إدراك أنه لا بد من التفاوض مع حكومة أغلبية، ثم جاءت خطوة أخري أكدت هذا المعني، وهي محاولة النقراشي عرض القضية المصرية علي مجلس الأمن وما تردد عن محتوي برقية النحاس القائلة بأن النقراشي لا يمثل مصر، وهكذا صدرت التوجيهات البريطانية للملك بضرورة عودة الوفد، وجاء السكرتير الصحفي للملك كريم ثابت وغيره من أقطاب الحياة السياسية «الرمادية» أو مَنْ يسمون في بعض أدبيات «غير المسئولين» ليلعبوا هذا الدور بالاتصال بحسين سري لتشكيل وزارة تجري الانتخابات، ولم يكن هناك شك في أنها، أي الانتخابات، ستعود بالحكم إلي الوفد، وتمت هذه الخطوة علي مرحلتين: تشكلت وزارتان: وزارة ائتلافية ثم وزارة محايدة وكانت كلتاهما برئاسة سري باشا وأجريت الانتخابات وعاد الوفد وبالأغلبية الساحقة التي تعود الشعب أن يرد بها علي القوي المصممة علي الحد من نفوذه وصلاحياته.

ونقرأ مذكرات كريم ثابت فنجده يظن نفسه، أو يصورها، ويظننا سنصدقه في أنه كان صانع السياسة الجديدة التي عادت بالوفد إلي الحكم، ولكن القراء الأذكياء المدركين لحقائق اللعبة يدركون من هذا أنه كان يؤدي دورا إمبرياليا بحتا وأن نرجسيته هيأت له (كما هيأت، فيما بعد، لمن أصفه دومًا بأنه الصورة الفيروسية المستنسخة من كريم ثابت) أن يقنعنا أنه كان هو الذي أدار الأحداث وصنعها.

علي أنني لا أحب أن أترك هذه النقطة من دون أن أشير إلي حدث ثالث في هذا الاتجاه، وكان أسبق من هذين الحدثين (فبراير ١٩٤٢) و(يناير ١٩٥٠)، ولست أدري لماذا يتجاهله الوفديون والذين هاجموا الوفد، ذلك أنه بعد نجاح الائتلاف الذي قام ضد الانقلاب الدستوري الأول (١٩٢٦)، أجريت الانتخابات وفاز كل من سعد زغلول ومصطفي النحاس وحدث ما نعرفه من تدخل المندوب السامي ضد تولي سعد رئاسة الوزارة، ومن ثم قبل سعد أن يتولي رئاسة البرلمان وأن يتولي عدلي يكن رئاسة الوزارة، فلما بدأت مشاورات تشكيل الوزارة رشح الوفديون اسم النحاس فما كان من المندوب السامي إلا أن اعترض عليه، وهكذا عُوض النحاس هو الآخر بمنصب وكيل مجلس النواب علي نحو ما نعرف. وهكذا لا يمكن القول بأن الإنجليز هم الذين أتوا بالوفد أو بالنحاس في ١٩٤٢ دون أن نكمل بقية الصورة ونذكر أنهم هم الذين أمروا بعودته أيضًا في ١٩٥٠ وأنهم هم أيضًا الذين اعترضوا علي دخوله هو نفسه الوزارة في ١٩٢٧.

(2)

ومن العجيب أن يتجدد، من حين لآخر، اتهام الوفد والنحاس بالنقائص في حادث 4 فبراير علي الرغم من كل ما هو متاح عن وثائق تبرئ ساحة الوفد، بل إن هذا الحادث نفسه قد سجل في عدة محاضر رسمية نشرت تباعا، كان أولها المحضر التفصيلي لاجتماعي الزعماء بالقصر يوم ٤ فبراير لمناقشة الإنذار البريطاني، ثم مناقشة حادث الدبابات، أما المحضر الثاني فقد نشره مصطفي مؤمن في كتابه «صوت مصر»، أما المحضر الثالث فقد أذاعه محمود حسن باشا، كبير المستشارين الملكيين، في الصحف اليومية ونشرته جريدة الأهرام يوم ٢٣ نوڤمبر ١٩٤٥.

(3)

ونبدأ بإيراد النص الرسمي المتاح عن تكليف الملك للنحاس بتشكيل الوزارة، ورد النحاس عليه:

«عزيزي مصطفي النحاس باشا»

«يسرني وقد عرفت فيكم أصالة الرأي، وسداد التدبير، وقوة الإخلاص أن أسند إليكم رياسة مجلس وزرائنا».

«إن مصر وطننا العزيز لأحوج ما تكون في هذه الآونة الدقيقة إلي تضافر الجهود، وضم الصفوف، وجمع القوي، وبذل التضحية، وإنكار الذات في سبيل حفظ كيانها، وإعلاء شأنها، ورفاهة شعبها، ذلك ما أرجو أن يكون بتوفيق الله وعظيم تأييده».

«وقد أصدرنا أمرنا هذا إلي مقامكم الرفيع، للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض المشروع علينا، لصدور مرسومنا به».

«والله المسئول أن يوفقنا جميعا إلي العمل علي ما فيه إسعاد الأمة والبلاد».

«صدر بقصر عابدين في 18 المحرم 1361 (٤ فبراير ١٩٤٢)».

فـاروق

وهذا هو رد النحاس باشا:

«يا صاحب الجلالة»

«تفضلتم جلالتكم فعهدتم إليّ مهمة تأليف الوزارة في هذه الظروف الخطيرة، وأبيتم إلا أن تزيدوني شرفا فوق شرف بأن أعربتم، بلسانكم الكريم المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة، عن ثقتكم في وطنية هذا الضعيف، وإنكاره لذاته، مؤكدين أن هاتين الصفتين الكريمتين اللتين شاء فضلكم أن تسندوهما إليّ تقضيان عليّ بأن أتقدم لإنقاذ الموقف، وأتحمل مسئولية تطورات علم الله أن لم يكن لي يد فيها، بل جلبها علي البلاد غيري بأعماله أو بإهماله، فأصبح من واجبي كمصري وكوطني، إذا اتسعت لذلك جهودي، أن أنقذ البلد من نتائجها، وأجنبها وزرها، بعد إذ ظهرت بوادرها، وتكررت نذرها».

«قدرت المسئولية، ووزنت عبء أثقالها، فرجحت أمام عيني كفة ضعفي عن احتمالها، فاعتذرت عن قبول الوزارة، فتفضلتم فأصررتم، فزادني إصراركم علي الثقة بي خشية من الثقة بنفسي، لكني إزاء أمركم الصادر إليّ باسم العرش ومصر، قبلت، وعلي الله توكلت».

مصطفي النحاس

(4)

ونأتي إلي بعض الروايات التي تصور كواليس الحادث ورتوشه.

وربما كان من الأوفق أن نبدأ بالرواية التي قدمها الأستاذ محمد كامل البنا فيما رواه علي لسان النحاس باشا، وفي هذه الرواية التي لن نقطع تواصلها بأي حال من الأحوال ما يكفل لنا تصوير الأمور من الضفة الوفدية أو الضفة النحاسية علي أقل تقدير.

وقد كان من حسن الحظ أن روي سكرتير النحاس باشا نفسه في فقرات لا هي مطولة ولا هي قصيرة سيناريو الأحداث التي شهدتها الأيام الأولي من فبراير 1942، حيث وقع حادث 4 فبراير، ومع أننا نكاد نعرف جوهر ما يرويه النحاس من مناقشات وآراء وأخذ ورد وتحديد مواقف علي مستوي البريطانيين والملك والوفديين وغير الوفديين، فإن من حق النحاس علينا في كتاب يتحدث عنه أن نورد نص ما يرويه عن تلك الأيام التي بدأت حين كان في قنا أثناء رحلة له إلي القواعد الوفدية ما بين أسوان والأقصر وقنا وجرجا وسوهاج وأسيوط.

وسنبدأ فيما ننقله من رواية النحاس بوصوله إلي منزل أحد أقرباء مكرم عبيد بعد أن قام بزيارة سيدي عبد الرحيم القنائي، وعلي الرغم من طول ما سننقله عن مذكرات النحاس فإني أراه ضروريًا في ظل كثرة ما نقل (مرارًا وتكرارًا) عن مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل علي سبيل المثال، كما أن هذا النص التلقائي الشفاف الذي بين أيدينا يرينا كثيرًا من الحقائق النفسية الكفيلة بتفهم ما حدث علي نحو أعمق:

«… ووصل الموكب إلي منزل إسحق عبيد، وكان قد أعد المنزل لاستقبالي وسبقني إلي هناك شيوخ القبيلتين وأعيان قنا ووجهاؤها، ووصلت وسلمت عليهم واستأذنتهم في أن اغتسل لأن التراب في الطريق قد ملأ ملابسي وعفّر جسمي، ودخلت الحمام ولم أكد أمكث فيه نحو عشر دقائق أو تزيد حتي طرق باب الحمام، سألت من؟ فقال: كامل، قلت له في حدة ماذا تريد؟ قال: إن إسماعيل تيمور باشا كبير أمناء جلالة الملك علي التليفون ويصر علي أن يكلمك لأمر خطير، فقلت: اعتذر له بأني في الحمام، قال: إنه منتظر حتي تخرج علي مهلك، قلت: فلينتظر حتي أتم حمامي، قال: إن مكرم باشا إلي جانبي ويريد أن يكلمك، فقلت من خلف الباب: ماذا يا مكرم، قال إن تيمور باشا قضي وقتًا طويلًا علي السماعة وأظن أنه من اللائق أن تكلمه، قلت انتظروا حتي أفرغ، فقال لقد طال الانتظار، فطلبت «البرنص» وناوله لي كامل، فسترت به جسمي وفتحت باب الحمام، وأخذت سماعة التليفون ودار بيننا الحديث التالي:

«تيمور: الحمد لله علي سلامتك من رحلة الأقصر، ومبروك الاستقبال الذي استقبلك به أهل قنا».

«أنا: شكرًا لك يا باشا علي شعورك».

«تيمور: جلاله الملك يحييك ويطلب إلي رفعتك أن تتشرف بمقابلته غدًا… بقصر عابدين».

«أنا: بلغ جلالة الملك شكري علي تحيته واعتذاري عن تلبية دعوته، ذلك لأني كما تعلم مسافر في رحلة بعيدًا عن القاهرة، وداري في مصر مغلقة منذ مدة بعيدة والمسافة طويلة فأكرر شكري لجلالة الملك وعذري عن استطاعتي التلبية غدًا».

«تيمور: إن الأمر الذي يريد جلالته أن يكلمك فيه أمر خطير جدًا يتعلق بالموقف الراهن ولا بد من الحضور وقد أصدر الأمر لقطار الصعيد الذي يصل إلي القاهرة صباحًا أن يظل منتظرًا في محطة قنا حتي تستعد لركوبه مهما طال الوقت، أما إذا كان الأمر يتعلق بارتداء بدلة الردنجوت فليس ضروريًا، المهم أن تحضر رفعتك في الموعد المحدد للضرورة القصوي».

«أنا: آسف يا تيمور باشا إذ أني لا أستطيع إذا كنتم تريدون رأي في الموقف الحاضر فهو عندكم مدون في المحضر الذي أمليته علي عبد الوهاب طلعت باشا حين زارني في عام 1940 بكفر عشمة وقد أعطيته صورة واحتفظت بصورة».

«هنا فاجأني مكرم بأن اختطف سماعة التليفون وقال: سعادة تيمور باشا رفعة الباشا سيحضر يا فندم في الموعد الذي حدده له جلاله الملك، وأنا في دهشة من هذا التصرف».

«فنظرت إلي مكرم في غضب وقلت له لماذا فعلت هذا وأحرجتني (ووضعتني) أمام الأمر الواقع فإما لا أذهب فيؤول عدم ذهابي بأن الوفد منشق علي نفسه السكرتير في ناحية والرئيس في ناحية أخري وإما أن أذهب وسيكون الاجتماع تافهًا كالاجتماعات التي سبقته. وزارة قومية ائتلافية، ائتلاف أحزاب، وجواب مني لا، وتنتهي المسألة كما ابتدأت حلقة مفرغة».

«قال لا أنا متأكد أن الحالة أصبحت لا تطاق وأن الأمر جد في هذه المرة، قلت إني ضيق الصدر من هذا التصرف وما كنت أحب أن نصل إلي هذا الحد وعلي أي حال فأنا مضطر للسفر وترك الأسرة في الوابور تقضي الليلة في قنا وغدًا نذهب إلي جرجا وننتظر هناك حتي إذا ما انتهت المقابلة عدت فلحقت بها ولذلك لن أصحب إلا كامل البنا وأما الباقون سيظلون في الانتظار».

«فقال مكرم وأنا سأسافر معكم، واستأذنت من المجتمعين في منزل إسحاق عبيد، أسرعت إلي الوابور فحدثت الأسرة بما استقر عليه الرأي واتصلت بفخري عبد النور بك لينتظر الواربور في جرجا وأوصيته بحراسته فقال اطمئن سيرسو تحت منزلي وسيحرسه رجالي وأنا معهم، وحجزت ثلاث أسرّة في عربة النوم وخرجت قنا كلها مسلمة مودعة داعية متمنية».

«استغرقت هذه العملية وقتًا من الزمن وكان القطار قد وصل إلي المحطة في موعده الرسمي حوالي الساعة السادسة،ولكنا لم نستطع ركوبه إلا بعد الثامنة وجلست في المقطورة المخصصة لي وتناولنا العشاء واستأذنت في أن أوي إلي مضجعي لأن مجهود اليوم قد أتعبني كثيرًا، وخرج مكرم وكامل وخلوت إلي نفسي استعرض حوادث اليوم شريط سينمائي يمر أمام ناظري في ساعات معدودات أصل واستقبل واستريح وأودع وأغير برنامج رحلتي وأترك أسرتي وحدها ولست أدري أوجست خيفة من هذه الرحلة المحددة غدًا وسوس لي الشيطان أن مكرم ربما يكون يعلم أشياء كتمها عني ولكني طردت هذا الوسواس لأني لا أشك فيه بعد عشرة قرابة ربع قرن من الزمان، جهاد ونفي واضطهاد وتشريد وكفاح أيعقل أن يكون بعد هذا كله يكتم عني شيئًا لا أظن، وسمعته يحدث البنا في المقصورة التي إلي جانبي فما أعرت لحديثهما اهتمامًا.. ولكن بعض الكلمات وصلت إلي سمعي.. «إن لم نغتنم هذه الفرصة فلعلها لا تعود».. ولم أهتم.. وألقيت القلم والورق إلي جانبي واستسلمت للنوم».

«وصلنا إلي القاهرة في الساعة السابعة صباحًا وقصدت إلي منزل صهري عبد الواحد الوكيل بك في مصر الجديدة وتناولنا طعام الإفطار ورأيت أنه لا بد من أن أذهب إلي القصر الملكي ببذلة رسمية [ردنجوت] حسب التقاليد المرعية وسألته، أبحث لنا عن شخص يكون جسمه مناسبًا لجسمي نستعير منه بدلة رسمية ففكر قليلًا ثم قال إن الحسيني زعلوك أقرب ما يكون لقوامك ولا بد أن يكون لديه بدلة لأنه موظف كبير وكثيرًا ما يحضر حفلات رسمية، وأحضر لي بدلة فوجدتها مناسبة، وبقيت مشكلة الحذاء اللماع، فقال البنا عندي حذاء لم استعمله ومقاس قدمي يضاهي قدمك وذهب فأحضره فرأيته ملائمًا، وفي الساعة الرابعة والنصف قصدت ومعي البنا إلي قصر عابدين وهناك استقبلني السيوفي بك/أحد الأمناء علي الباب الخارجي مرحبًا وعند الباب الداخلي استقبلني إسماعيل تيمور باشا كبير الأمناء وصحبني إلي حجرة رئيس الديوان أحمد حسنين باشا فتركت البنا معه ودخلت إلي قاعة الاجتماع».

«ودخلت القاعة فوجدت رئيسي الشيوخ والنواب ورؤساء الأحزاب السياسية وسلمت عليهم وجاء الملك فأخرج ورقة قرأ فيها أن الموقف دقيق جدًا والحالة خطيرة، وقد دعوتكم لتتناقشوا وتنتهوا إلي رأي لحل الأزمة، وتركنا وغادر القاعة وبدأ الحديث».

«تكلم محمد حسين هيكل باشا رئيس الدستوريين ومحمد محمود خليل بك رئيس مجلس الشيوخ وكان حديثهما متشابهًا.. الموقف خطير والحالة سيئة ولا يمكن الخروج منها إلا باتحاد الأحزاب وتأليف وزارة قومية تنقذ الموقف».

«رددت عليهم بأن رأي الوفد في هذه المسألة معروف ولا داع لتكراره وإضاعة الوقت في إعادته، تكلم أحمد ماهر وقال إن الحالة الآن جد خطيرة وتستدعي التضحية منا جميعًا قد اجتمع رأينا علي ألا منفذ للخروج من الأزمة إلا باتحاد الأحزاب تحت وزارة قومية برئاستك تستطيع أن تسير بالبلاد علي بر السلامة».

«قلت لهم للوفد رأي دونه عبد الوهاب طلعت باشا عندما حضر لي في كفر عشمة عام 1940 وما أزال عند هذا الرأي لا أحيد عنه، طال النقاش حول هذه الفكرة وتحمس الحاضرون لها ولكني أعدت عليهم أن هذا هو رأي الوفد ولن أتخلي عنه قالوا كيف تطلب في هذه الظروف الدقيقة إجراء انتخابات علي يد وزارة محايدة وهل البلد تحتمل معركة انتخابية وهي في هذه الظروف أجبتهم: حتي لا تكون معركة فالوفد مستعد أن يترك للأحزاب الأخري مقاعد لا يرشح فيها وأن تكون الانتخابات في مدة قصيرة المدي كما سبق لعلي ماهر أن فعل قبيل توقيع المعاهدة وكانت البلاد مهددة بحرب كذلك، فأبوا وأبيت وعاد الملك إلي الحجرة وسأل علي ماذا انتهيتم قالوا لم نتفق بعد قال إذًا فلتعودوا للاجتماع غدًا عسي أن تنتهوا إلي رأي».

«وخرجنا وقضيت الليلة في منزل صهري».

«عدنا إلي الاجتماع في القصر الملكي ودار الحديث كما دار بالأمس حول الحكم والوزارة القومية وقالوا إن حسين سري وضع الاستقالة تحت أمر جلالة الملك ولا يمكن أن يترك البلد في هذه الأوقات من غير حكومة، قلت فليؤلف أي شخص محايد الحكومة ويعلن احترام الدستور وحل مجلس النواب وموعد انتخابات المجلس الجديد وأنا أؤيده، قالوا هذا غير ممكن الآن قلت لهم هذا هو ما انتهيت إليه أمس مع زملائي أعضاء الوفد المصري وما أصروا عليه».

«ودخل الملك ووجهه ممتقع وأخرج ورقة بيد مرتجفة وقرأها فإذا بها إنذار من الحكومة البريطانية إذا لم تؤلف وزارة يرضي عنها النحاس باشا فليتحمل الملك مسئولية عمله، وأردف فقال اتفقوا علي شخص يؤلف الوزارة يرضي عنه النحاس باشا وسأترككم لتتناقشوا».

«وأعادوا أحاديث الأمس وكلها تدور حول وزارة يمثلون فيها وقالوا ستكون الأغلبية فيها للوفد، قلت لهم إنني أرفض مبدأ الائتلاف في الحكم لأن التجارب الماضية أثبت أنه لا يمكن أن يكون انسجام في إدارة الدفة الدولة بين جماعة مختلفة أفكارهم متنافرة سياستهم، وقد جربت هذا في أيام السلم فلم أنجح، ولست مستعدًا ولا البلد تتحمل تجربة جديدة من هذا النوع».

«قال أحمد ماهر إن الإنجليز يطلبون أن ترضي عن الوزارة لأنك متفق معهم علي ذلك، قلت له محض افتراء وإذا كنا لا نزال في المناقشة ونوجه الاتهام اعتباطًا ونجري وراء الشائعات فهل يمكن أن تقوم وزارة علي هذا الأساس».

«قالوا هذا تدخل من الإنجليز في شئوننا الدخلية، قلت لهم اكتبوا احتجاجًا وأرفضوا هذا التدخل وأنا أول من يوقعه لأني لا أقبل بحال من الأحوال أن تتدخل إنجلترا في أي شأن من شئوننا الداخلية، وحسبي هذا الآن ولا داعي لنبش الماضي ولا البحث عن الذي كان السبب في هذا التدخل، وتمكسوا وتمسكت وأخذوا يلحون ويرجون ويحومون حول الوزارة والائتلاف ولم أتزحزح عن رأيي».

«وأخذ محمد محمود خليل يرجوني واقترح أن اختار من الأحزاب الأشخاص الذين استريح إليهم ويمكن التفاهم معهم ولو من كل حزب وزيرًا أو وزيرين حتي يلتئم الانسجام فرفضت، وأخذ هيكل باشا وصدقي باشا وحلمي عيسي باشا وهم ممثلو أحزاب الأقلية يعيدون ويرددون حديث الوزارة القومية، فقلت لهم وأنا أتمالك أعصابي حتي لا أثور: أنتم تعلمون رأيي (الذي) لم أصل إليه إلا بعد أن اجتمعت مع إخواني أعضاء الوفد مرات ومرات، وتعلمون أنني رفضت الوزارة القومية في عهد صدقي باشا عام 1932 ففكروا في شيء غير هذا نخرج به من الأزمة فلفوا وداروا حول رأيهم».

«وجاء الملك وسأل: علي ماذا استقر رأيكم، قالوا لم نصل إلي حل لأن النحاس باشا مصمم علي رأيه، قال إن الموقف أخطر ما تتصورون وإن السفير البريطاني يلح عليّ باسم حكومته أن أحل الموقف في أقرب فرصة، فقالوا لا فائدة، قالوا إذًا نفض هذا الاجتماع، وتعودون إلي الاجتماع لعل الله يوفقكم إلي رأي جماعي».

«وانفض الاجتماع وعدت إلي دار صهري فاتصلت بأسرتي عن طريق فخري عبد النور بك لأخبرهم أنني غالبًا سابرح القاهرة مساء غد بعد الاجتماع في القصر الملكي».

«لقد أرهقتني هذه الاجتماعات وجاء أعضاء الوفد فاجتمعوا بي وحدثتهم بالتفصيل عما دار وقلت لهم إن كان أحد منكم له رأي غير الذي قررته في القصر الملكي فليصارحني، فأجمعوا في أن هذا قرارنا منذ سنين خلت وما نزال ثابتين عليه ونؤيدك في كل خطواتك».

«اجتمعنا مرة ثالثة وانضم إلينا في هذا الاجتماع حسين سري باشا رئيس الوزارة المستقيلة وأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي، وجاء الملك بحالة غير طبيعية وقال حاولوا اليوم أن تتفقوا علي رأي لأن السفير البريطاني يلح عليّ في إنهاء الأزمة وقد طال النقاش فيها».

«وتكلم أحمد ماهر وقال يا باشا لماذا تصر علي الانتخابات وحل البرلمان وأنت تري أن الحالة تزداد سوءًا علي سوء وأن الضغط البريطاني شديد علي جلالة الملك، وتحدث سري باشا وقال إنني مستقيل منذ عدة أيام وتركت الأمر لجلالته بآرائه السديدة وحكمته ودرايته، فلماذا لا تؤلف يا باشا [والحديث لي] وزارة قومية برئاستك تختار فيها أعضاء يمثلون الأحزاب ولك الأغلبية ولك التصرف، قلت يا حسين باشا هذه المسألة قتلناها بحثًا وتمحيصًا وانتهينا منها فلماذا نعيدها الآن.. فكروا في حل دستوري ينقذ الموقف ويحول دون الإنجليز والتدخل السافر في شئوننا الداخلية».

«وتكلم هيكل باشا فقال إذا كنت تري عدم تأليف وزارة قومية تشترك فيها الأحزاب ألف أنت وحدك وزارة وفدية بحتة لتنقذ الموقف، فقلت ولا هذا لست أرغب في أن أكون رئيسًا لوزارة، إنني متمسك بالمحافظة علي الدستور وعودة الحياة النيابية الصحيحة لتكون سياجًا للأمة في أزمتها ويمكن الرجوع إلي ممثليها الحقيقيين عندما يحتاج الأمر».

«وانتهي الاجتماع علي لا شيء وانصرفنا، ورأيت أن المسائل قد يطول شرحها وأنا تارك أسرتي في جرجا فلما عدت إلي المنزل اتصلت بفخري بك عبد النور وطلبت إليه أن يعمل الترتيبات لعودة الأسرة إلي القاهرة، ثم بدا لي أن منزل صهري لا يتسع للاجتماعات وإنني مضطر إلي التوجه إلي النادي السعدي لمقابلة إخواني أعضاء الوفد فانتقلت إلي منزل أحمد حسين بك زوج خالة حرمي في الدقي بالجيزة وانتقل النشاط إلي هناك».

«دعيت للذهاب إلي القصر الملكي فذهبت، ووجدت نفس الأشخاص الذين كانوا بالأمس، وجاء الملك وهو في حالة اضطراب شديد وحوله أحمد حسنين، وعبد الوهاب طلعت، وإسماعيل تيمور، وحسين سري، وعمر فتحي، ودخل ممتقع اللون وقال: إني تلقيت إنذارًا من السفير البريطاني يقول فيه: [إن لم يشكل النحاس باشا الوزارة في ظرف أربع وعشرين ساعة فأحملك مسئولية ما يحدث] قال هذا ثم اتجه إلينا وقال: أنتم ترون أن الأزمة بلغت أقصي حد فدبروا الأمر فإن عرشي مهدد والبلد كلها في خطر، ثم قال: ألف الوزارة يا نحاس باشا، قلت له: اعفني يا جلالة الملك أنا لا أقبل مطلقًا أن أؤلف وزارة بأمر الإنجليز، وأنا أول من يحتج علي هذا الإنذار، وعلي إقحام اسمي فيه».

«فقال أحمد ماهر: إنك متشبث بموقفك من أجل أن تستأثر بالحكم أنت وحزبك وتكون قد توليت الأمر مستندًا إلي حراب الإنجليز، فقلت له: اخرس.. أنت آخر من يتكلم فإنك أنت وحزبك والأقليات هي التي وصلت بالبلد إلي هذا الحد وتهالككم علي الحكم وتشبثكم بالكراسي هو الذي جعل الإنجليز يتدخلون في شئون البلد تدخلًا سافرًا، ولو كنتم احترمتم الدستور من أول الأمر واحتكمتم إلي الأمة لما وقع شيء من هذا، وإني أحملك أنت وأحزاب الأقلية مسئولية تردي الموقف إلي هذا الحد».

«فقال هيكل باشا: يجب أن نرد علي هذا الإنذار بالرفض وبأن إنجلترا ليس لها الحق في التدخل في أمر من أخص أمورنا الداخلية، قلت: اكتبوا الاحتجاج وأنا أول من يوقعه قبلكم، فقال الملك: اسكت يا ماهر باشا أنا الذي أكلف النحاس باشا بتأليف الوزارة لا السفير البريطاني، واسحب الكلام الذي قلته».

«وحرروا ردًا علي الإنذار معنونًا باسم السفير البريطاني وقررنا فيه أن تأليف الوزارة واستقالتها أمر من أمور مصر الداخلية الصرفة وليس لإنجلترا الحق في أن تتدخل فيه ولذلك نحن نرفض الإنذار الموجه إلي صاحب الجلالة، وكنت أول الموقعين، وتبعني الحاضرون، وأستأذنت وانصرفت وانفض الاجتماع، وعدت إلي منزل حسين بك في الجيزة فخلعت ملابسي، وصعدت إلي الطابق العلوي لاستريح، وتركت إخواني مجتمعين في الصالون يتباحثون. وكان الوقت قرابة العصر فاسترحت بعض الوقت ثم استيقظت، وظللت ملازمًا الحجرة، وكان مكرم ونجيب وصبري وأمين والبنا ومأمون الريدي يصعدون إليّ كلما جد جديد».

«وأقبل الظلام، وأمست القاهرة خالية من الأنوار نظرًا لظروف الحرب والغارات المستمرة عليها. وحوالي الساعة الثامنة مساء كنت أتحدث بالتليفون مع جرجا لأطمئن علي الأسرة وأعلم أخبارها، وإذا بكامل البنا يصعد إليّ في لهفة ومعه جندي برتبة [بشجاويش] من حرس السراي الملكية، وفي يده مظروف كبير وهو يتكلم مضطربًا وأسنانه تصطك: يا رفعة الباشا السراي الملكية محاصرة بدبابات مصفحة وقوات إنجليزية وقد خرج معالي حسنين باشا من الباب الخلفي وأعطاني هذا الخطاب لرفعتك».

«فأخذت الخطاب منزعجًا وقلت في حدة وألم: وقع ما كنت أخشاه، استدعيت أعضاء الوفد من الصالون، وفتحت الخطاب فإذا به خطاب من الملك يكلفني فيه بتأليف الوزارة، ويطلب إليّ الحضور إلي القصر الملكي حالًا، فارتديت ملابسي وسارعت بالذهاب إلي قصر عابدين، فوجدت الملك ينتظرني وهو في أشد حالات الهلع وبادر بقوله: كلفتك بتأليف وزارة وفدية، قلت له: يا جلالة الملك اعفني من هذا التكليف، والأفضل أن تعهد إلي شخص محايد يؤلف الوزارة، قال: أرجوك أن تقبل، قلت: لا أستطيع، لا معني لقبولي تأليف وزارة وفدية من غير الطريق الدستوري، وهذا يعني إني جئت إلي الحكم بإرادة الإنجليز، قال: دعنا من كلام أحمد ماهر وغيره لقد أغرقوني بآرائهم، أنا صاحب الأمر، وأنا الذي أطلب إليك بمحض اختياري أن تؤلف الوزارة. وهذا خطاب أرسلته إليك، أجبت: أنا آسف يا صاحب الجلاله إذ أعتذر لجلالتك عن هذه المهمة الخطيرة، قال: أرجوك ولا تعر كلامًا غير كلامي أي التفات، اعمل معروف!! أنقذ عرشي، إن العرش مهدد، والبلد كلها ستضيع، وفي يدك مفتاح الموقف، وقد عرفت من أقرب المقربين إلي المرحوم والدي جلالة الملك فؤاد أنك أخلص رجل لمصر وأنك الوحيد الذي لا مطمع لك في جاه ولا في مركز، فقدم لي هذه الخدمة ولن أنساها لك أبدًا».

«قلت: يا جلالة الملك إنك تركبني مركبًا خشنًا، وتطلب إليّ أن أتنكر لتاريخي ومبدئي الذي اعتنقته طول حياتي».

«قال: أنا واثق من أن هذا العمل تضحية كبيرة منك فمن أجلي ومن أجل انقاذ البلد من الخطر أرجو أن تضيف هذه التضحية إلي تضحياتك السابقة».

«كانت كلمات الملك وعباراته تستدعي الإشفاق والرثاء، ولقد تأثرت من إلحاحه ورجائه وتحيرت بماذا أجيب، وسكت برهة أفكر ماذا أصنع وأخيرًا قلت له: يا جلالة الملك إذا كنت تلح عليّ هذا الإلحاح، وترجوني كل هذا الرجاء، وتري أن قبولي الوزارة علي كره مني فيه مصلحة لإنقاذ عرشك وإنقاذ الشعب فدعني أذهب أولًا إلي السفير البريطاني أعنفه علي إنذاره وأطلب إليه أن يسحبه، واشترط علي الإنجليز شروطي لقبول الوزارة ما داموا يرون هذا في مصلحتهم العسكرية والحربية، فقال: لا.. أرجو ألا تذهب (وألا تزد) الموقف تعقيدًا، قلت له: إذا لم أذهب وأرغم السفير علي سحب الإنذار وتنفيذ طلباتي فأرجو جلالتك أن تعفيني، قال: أوتري أنه يقبل منك طلباتك، قلت: إذا كان مضطرًا أو محتاجًا فلا بد أن يقبلها راضيًا أو كارهًا.. قال: الله معك».

«قصدت إلي دار السفارة البريطانية، والظلام دامس، وأنا متأثر من حالة الملك الشاب الذي انتظرنا الخير للبلد علي يديه فأتلفته بطانة السوء وجلساء السوء وحدثت نفسي لعل ما وقع يكون درسًا فيتعلم (ألا) يتحدي شعور الأمة ويعبث بمقدساتها، ووصلت إلي السفارة، وطلبت مقابلة السفير فحضر إليّ فبادرته: كيف تقحم اسمي في إنذار رسمي لملك البلاد متخطيًا بذلك نصوص المعاهدة المبرمة بين البلدين؟، قال: في معركة الحياة أو الموت في هذه الحالة يستباح كل شيء، قلت: أيستباح أن تسيء إلي تاريخ الناس وسمعة الناس؟ قال: كيف؟، قلت: بإنذارك الذي بعثته إلي الملك وقواتك ودباباتك التي حاصرت بها القصر، قال: اضطررت لأن أقوم بهذا العمل فقد حاولت قبل قيام الحرب النصيحة إلي الملك أن يطبق الدستور ويترك البلد تحكم طبيعيًا فركب رأسه، وتركته لأنه لم يكن ثمة خطر علينا، فلما قامت الحرب ظننته سيتنبه من تلقاء نفسه ويحل الموقف فأبي، فحاولت مرة ومرة بالحسني فلم أفلح، ولما رأيت الخطر محدقًا وجيوش المحور تعدت الحدود المصرية، وأنا أعلم تمام العلم أنه بإحتلال مصر ينتهي كل شيء ويكسب أعداؤنا الحرب، أرغمتني الظروف المحيطة بي إرغامًا علي أن أوجه الإنذار وأن أقرن القول بالعمل لأرغمه علي أن يصحح موقفه ويصحو من غفوته».

«قلت: إنك بهذا أسأت إليّ أبلغ إساءة وكلفتني شططًا، قال: أعهد إليك الملك بتأليف الوزارة؟ قلت: نعم، قال: إذًا ضمنا سلامة الجبهة الداخلية وكسبنا قوة لمقاومة جيش الأعداء، فقلت له: ومن أين لك أني قبلت لقد اعتذرت له لأني لا أقبل أن يلطخ اسمي ويسود تاريخي، قال: أوتري إنقاذ بلدك يسيء إليك؟ قلت: لا.. إن تدخلكم السافر وإرغامكم الملك هو الذي أساء إليَّ، قال: ما كان يمكن غير الذي فعلت بعد أن صبرت طويلًا وأصبحت الحالة خطيرة والجيوش الألمانية علي الحدود فأرجو أن تقبل تأليف الوزارة».

«قلت: أنت تري في قبولي الوزارة مصلحة لبلدك فأي مصلحة تعود علي بلدي، أنتم محتلون، وأعداؤكم إذا حلوا محلكم فسيكونون محتلين، ومصر بينكما كالمستجير من الرمضاء بالنار، قال: أرجو أن تقبل تأليف الوزارة، قلت له: إني تحت ضغط الملك وإلحاحه أقبل تأليف الوزارة علي شروط أطلبها منكم لأنكم أنتم السبب في هذا الموقف».

«قال: وما شروطك، قلت: أولًا: أن تسحب الإنذار الذي بعثت به إلي الملك وأقحمت فيه اسمي، وأن يسبق تأليف الوزارة كتاب أرسله إليك بأنه لا حقّ لبريطانيا بمقتضي معاهدة 1926 المبرمة بين البلدين أن تتدخل في شئون مصر وتأليف الحكومات من صميم هذه الشئون، وأنت ترد عليّ بخطاب رسمي تعترف فيه بهذا وتقرر سحب الإنذار».

«ثانيًا: أنت تعلم أن البلد في حالة جوع وليس عنده دقيق ولا قمح ولا ذرة والشعب إذا جاع لا يهمه حزب الأغلبية الحاكم أو حزب الأقلية فإن الجوع كافر فلا بد أن تحل هذه الأزمة قبل أن أقبل تأليف الوزارة».

«ثالثًا: إن الحرب الدائرة الآن لا يعرف نتيجتها أحد فهي إما أن تنته لصالح الحلفاء أو لصالح المحور، فإن انتهت لصالح المحور ضعنا نحن وأنتم، لكن إذا انتهت لصالحكم ماذا يعود علي مصر من فائدة عند انتصاركم؟ قال اطلب ما تريد، قلت له: إني أطلب فوق الشرطين السابقين تصريحًا رسميًا من الحكومة البريطانية أنه في حالة الحرب وانتصارها تجلو الجيوش البريطانية عن مصر بلا قيد ولا دون انتظار للموعد المحدد الذي نص عليه في المعاهدة للجلاء وهو 1956».

«فرد عليَّ قائلًا: أما فيما يختص بالشرط الأول وهو سحب الإنذار فإني أوافق علي ما طلبت، أما الشرط الثاني فإني أعدك إذا وافقت علي قبول الوزارة فإن في عرض البحر الأحمر مركبًا كبيرًا عليه أكثر من خمسة آلاف طن من الدقيق الفاخر وسأصدر الأمر لها بأن تفرغ عبوتها في السويس وأن تستولي الحكومة علي الدقيق حتي تحل أزمة التموين.. أما الشرط الثالث فإني لا أستطيع أن أتصرف فيه إلا إذا استشرت حكومتي لكني أعدك أن اتصل فورًا، وأشير، وأشرح الحالة كلها، وأملي كبير في أن أجيبك عن سؤالك الثالث بالموافقة».

«خرجت من دار السفارة وعدت إلي قصر عابدين فوجدت الملك في انتظاري فقصصت عليه ما دار بيني وبين السفير فبرقت أساريره وظهر الفرح علي محياه وقال: برافو.. برافو… أي واحد غيرك ما كان يستطيع أن يفعل جزءًا مما فعلت وأنا أشكرك جدًا، وأرجو لك التوفيق».

«عدت إلي المنزل مرهقًا مكدودًا فوجدت الزملاء في انتظاري فقصصت عليهم ما جري، وكلفتهم أن يكتبوا كتاب الرد علي تأليف الوزارة مرفقًا به كتابًا إلي السفير البريطاني بسحب إنذاره، وكلفتهم أن يستدعوا سكرتير مجلس الوزراء ليحضر الوثائق اللازمة لذلك، وتركتهم في حجرة المكتب وصعدت إلي الطابق العلوي، وقد بلغ بي التعب مبلغه فخلعت ملابسي وتحاملت علي نفسي، وظللت منتظرًا أن أقرأ مسودة الكتابين اللذين عهدت إلي بعض الزملاء بإعدادهما، وبعد فترة من الوقت صعد إليَّ مكرم ونجيب وصبري، وقالوا إن الخطابين قد أعدا ويعتبران وثيقتين خطيرتين».

«وأطلعت علي خطاب السفير البريطاني وترجمته وأضفت إليه بعض العبارات لكي يكون واضحًا، ثم قرأت الرد علي خطاب تكليف الملك بتأليف الوزارة فرأيته وافيًا بالمراد، واشترطت أن يعود الوزراء الذين أقيلوا في مطلع عام 1938 إلي هيئة الوزارة ردًا لاعتبارهم وأن يكمل بقية الأعضاء من الذين لهم في التضحية تاريخ واضطهدوا في العهود الماضية، وذهبت إلي مضجعي منهوك القوي شديد الإرهاق وقبل أن استغرق في النوم صعد مكرم وقال: لقد رتبنا كل شيء وأعددنا الوثائق وأسندنا إلي كل وزير من الوزراء المقالين عام 38 وزارته».

*    *    *

ثم تقول مذكرات النحاس باشا:

«نشرت الصحف نبأ تأليف الوزارة، وقد احتفظت برئاسة وزارتي الداخلية والخارجية، وهللت الصحف المستقلة، والصحف الوفدية وعدّت قبولي للوزارة في هذه الظروف العصيبة تضحية كبيرة لأن البلد في حال بؤس شديد والإدارة الحكومية تكاد تكون معطلة، وقصدنا إلي القصر الملكي لحلف اليمين الدستورية وتقديم الوزراء للملك، وقابلنا مقابلة عادية وسلمت عليه بإنحناءة بسيطة، وصافح هو بقية الوزراء، وأخرج ورقة من جيبه تتلخص في أنه يهنئ الوزارة ويرجو لها التوفيق في خدمة البلد، وانتهت المقابلة، وانصرف الوزراء كل إلي وزارته، وقصدت مجلس الوزراء فوجدت حديقته مكتظة بالمتظاهرين يهتفون ويهزجون، وتكاد الفرحة تنطق علي وجوههم وصعدت بمشقة إلي دار الرياسة، وأطللت عليهم من نافذة المجلس، وخاطبتهم شاكرًا محييًا مثنيًا ونصحت لهم أن ينصرفوا في هدوء ويتركونا لأن هذا وقت العمل لرفع منار الوطن وتعويض ما فات علي الشعب من مشقة وجوع وحرمان مدة سنين الحرب وانصاعوا لكلمتي، وانصرفوا هاتفين».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«وصلت إلي رياسة مجلس الوزراء في الصباح فلم استطع الوصول إلي مكتبي إلا بعد أن أخلي حرس الرياسة الطريق بشق النفس، وبعد قليل جاء السفير البريطاني للتهنئة التقليدية كما كان قد حضر رؤساء الدول المعتمدة في مصر واستقبلتهم جميعًا حسب زمان حضورهم، وطلب السفير أن يبلغني أمرًا مهمًا فاستقبلته في المكتب فقال لي: يسرني أن أخبرك أني اتصلت بحكومة جلالة الملك [يعني بريطانيا] وأعلمت مستر أنتوني إيدن وزير الخارجية بما طلبته من جلاء القوات البريطانية عقب انتهاء الحرب لصالح الحلفاء، وبعد استشارة رئيس الوزراء [مستر تشرشل] وافق علي هذا الطلب وكلفني إبلاغه لك. فشددت علي يديه شاكرًا ممتنًا، وكانت الجماهير في حديقة الرياسة تهتف هتافات تشق عنان السماء، وتعلن عن غبطتها بتولي وزارة الشعب الحكم بشتي طرق الفرح والسرور، وخرجت إلي الشرفة ومعي السفير البريطاني وأشرت إلي الجماهير أن تصمت فسكتت فقلت لهم، بعد شكري وامتناني لشعورهم، إن السير مايلز لامبسون السفير البريطاني أبلغني خبرًا سارًا جدًا أزفه إلي الشعب في أول تولي حكومة الشعب أمور الشعب، ذلك الخبر أنه عند انتهاء الحرب لصالح الحلفاء – إن شاء الله – ستجلو جميع القوات البريطانية عن مصر بلا قيد ولا شرط، ودون انتظار إلي الموعد المحدد في معاهدة الصداقة والتحالف التي بيننا وهو عام 1956، ثم مددت يدي مصافحًا للسفير مكررًا له الشكر أمام الجماهير، وأخذ مصورو الصحف ووكالات الأنباء صورة لي وأنا أصافح السفير وأشد علي يديه».

«ويعجز أبلغ كاتب وأعظم خطيب عن أن يصف حماسة الجماهير وشعورهم عند سماع هذا النبأ السار».

«ومن عجب أن وصلت تقارير البوليس السياسي تقول: إن أحزاب الأقليات أشاعوا ومعهم موظفو القصر الملكي أنك (الضمير يعود علي النحاس نفسه لأنه هو المخاطب بالحديث) رحبت بالسفير البريطاني وعانقته وشددت علي يديه، وأُخذت لكما صور متعددة نُشرت في مختلف الصحف، كل هذا لأنه جاء يهنئك بانتصارك علي الملك والأحزاب، وأنك أدركت تمام الإدراك حسب الاتفاق السابق بينكما أنه هو الذي ضرب ضربته وأرغم الملك والأقليات علي الخضوع لقوته وتهديده».

وسرعان ما يعقب النحاس علي هذا الذي بلورته تقارير البوليس السياسي فيقول:

«فسخرت من هذا وقلت سيأتي يوم يعرف الناس فيه الحقائق، ويسجل التاريخ الوقائع، ثم يحكم لنا أو علينا  سواء أكنا أحياء أم انتقلنا إلي جوار رب عادل كريم».

«تكاثرت الأحداث وتفاقمت المشاكل وتعددت المشاغل وكنا علي طول الخط نكاد نكون مجتمعين في مجلس الوزراء ليعرض كل وزير ما يراه لإصلاح الفاسد في وزارته، وكانت مهمتي أشق المهمات، أرأس المجلس وأقابل الموظفين واستقبل الزائرين والمهنئين ويعرض عليَّ الموظفون أعمالهم، ثم انتقل إلي وزارة الداخلية فأقابل وكلاءها وكبار موظفيها وأنظر فيما يقدمون إليَّ من مذكرات وأعمال ثم انتقل إلي وزارة الخارجية لاستقبل رجال السلك السياسي وكبار الموظفين».

«مقابلات مستمرة، واتصالات دائمة، ولا وقت للراحة ولا حتي لتناول الطعام إلا علي جناح السرعة، وكان أكبر ما يهمني في هذه الفترة حاجات الشعب الضرورية الخبز والطعام والكساء فنبهت علي مكرم ما دام قد أخذ علي عاتقه وزارة التموين أن يوليها اهتمامًا خاصًا وأن يظهر للجماهير نتائج إيجابية حتي لا يخيب ظنهم أو يخفق ظنهم أو يخفق أملهم في حكومة فرحوا بمقدمها ورحبوا بتوليها وأيدوها بمظاهر التأييد، وحتي لا نترك للمتربصين ثغرة ينفذون منها ونخرس ألسنة العارضة التي تنتهز أي فرصة لتشنع وتنتقد وتشهر».

(5)

وقد أجاد حسن يوسف تقديم التاريخ الحقيقي للعوامل التي رسمت الصورة الذهنية التي تكونت لحادث ٤ فبراير في الوجدان المصري، مشيرا إلي حقيقة مهمة وهي أن أول حديث عن هذا الحادث لم يثر إلا بعد ٣ سنوات من وقوعه:

«…وبعد ثلاثة أعوام من وقوع الحادث الذي لم يكن يعلم عنه إلا مَنْ اتصلوا به، وهؤلاء كادوا يتناسونه بحكم حاجات الحياة، وبعد ثلاثة عشر شهرا من إقالة الوزارة الوفدية، خطب النحاس باشا في مناسبة عيد الجهاد الوطني (13 نوڤمبر ١٩٤٥) فأورد إشارة عابرة إلي أن خصوم الوفد هم المسئولون أولا وأخيرا عن ٤ فبراير، لأنهم زيفوا إرادة الأمة في انتخابات سنة ١٩٣٨، وأفسدوا الحياة النيابية، وكانوا سببا في اختلال الأمن واضطراب الأحوال المالية».

«كان خطاب النحاس باشا إيذانا بفتح باب المناقشة، فبادر محمود حسن باشا كبير المستشارين الملكيين إلي نشر محاضر الجلستين اللتين عقدتا في قصر عابدين يوم ٤ فبراير ١٩٤٢، وكان محمود حسن باشا حاضرا بوصفه نائبا لرئيس لجنة قضايا الحكومة، وفجرت جريدة الكتلة نقاشا عنيفا حول موقف النحاس باشا، وذهب مكرم عبيد باشا، الذي كان قد انفصل عن الوفد، إلي القول بأن النحاس كان علي علم بنوايا الإنجليز (في تقديم الإنذار ومحاصرة قصر الملك) ومشتركا معهم».

(6)

وقد قدم حسن يوسف ملخصا ببليوجرافيا سريعا بالمراجع التي أتيح له أن يطلع عليها فيما يتعلق بهذا الحادث، وهي بانوراما دقيقة ومفيدة لكل الذين يعنون بتاريخ هذه الفترة:

«… وبعد تعييني في السراي في يونيو ١٩٤٢ رحت أقلب في أوراق المحفوظات العامة والمحفوظات السرية بالديوان لعلي أجد ما يكشف بعض أسرار هذا الحادث، فلم أعثر إلا علي مذكرة قدمها الأمين الأول (إسماعيل تيمور باشا) لإثبات حالة اقتحام السفير البريطاني لصالونات التشريفات، وصعوده إلي مكتب الملك محاطا بحرس بريطاني مسلح، ومذكرة أخري من ضابط الياوران عما شاهده من تجمع القوات والدبابات البريطانية حول قصر عابدين».

«وكذلك لم أظفر من حسنين باشا رئيس الديوان، رغم أحاديثنا المتكررة علي مر الأيام، ما يكشف الستار عن بعض الأسرار، ولما كان يوم ٤ فبراير هو قمة الصراع بين الملك والسفير البريطاني، فقد حرصت من خلال عملي بمركز الوثائق والبحوث التاريخية بمؤسسة الأهرام، وبعد أن فضت أختام السرية ـ بانقضاء ثلاثين عاما ـ عن محفوظات وزارة الخارجية البريطانية سنة ١٩٧٢، أن أطلع علي وثائق تلك الحقبة وأن أحصل علي صورة منها للمركز».

«وفي أوائل سنة ١٩٧٣ صدرت يوميات (لورد كيلرن) بطل هذا الحادث، وقام «الأهرام» بنشر مقتطفات منها في المدة من ٤ مارس إلي 12 منه، بيد أنها كانت في حدود ضيقة للغاية، ولذا فقد حرص المركز علي نشر الوثائق السرية وقد ضمها ملف مستقل به نحو ستين برقية ورسالة تبادلها السفير البريطاني مع وزير خارجيته في الفترة بين 18 يناير و١١ فبراير سنة ١٩٤٢ وتقع مستنداتها في نحو مائتي صفحة نشرها «الأهرام» في ستة أجزاء ابتداء من يوم الجمعة 17 إبريل سنة ١٩٧٣».

(7)

ولا ينبغي لنا في هذا المقام أن نتجاوز الحديث عن إنصاف المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في تصوير ابتهاج الشعب بالتدخل البريطاني لإجبار الملك فاروق علي إعادة الوفد للحكم، وفي هذا الصدد فإن عبد الرحمن الرافعي يقول:

«…ولم يخفف من هذا الابتهاج أن جاء بناء علي التدخل البريطاني لأن الشعب ليس مسئولا عن هذا التدخل، وإنما المسئول عنه هو السراي، وليس من العدل ولا من الإنصاف أن يتحمل الشعب مسئولية أخطاء لم يشترك في وقوعها، بل كان يعترض عليها ويقاومها ويحتج عليها، وليس مطلوبا من الشعب أن يتنازل عن حقوقه في سبيل تغطية أخطاء السراي، أو في سبيل عودة الحكم المطلق!».

ثم يقول الرافعي:

«لقد كان الأكرم للسراي وللبلاد أن يكون ذلك تحقيقا لرغبة الرأي العام، لا بناء علي التدخل البريطاني، لكن هكذا سارت الأمور علي غير قاعدة من الحكمة أو الكرامة القومية. فالقاعدة عند السراي أنها لم تكن تكترث لإرادة الشعب، ولا تحسب له حسابا».

(8)

ومن أبلغ الردود علي اتهامات خصوم النحاس له في ٤ فبراير ١٩٤٢ ما كتبه الدكتور عبد العظيم رمضان مثبتا أن تدخل الإنجليز في حادث ٤ فبراير لم يكن لإجبار القصر الملكي علي احترام رأي الأغلبية الشعبية وإعادة الحياة الدستورية، هو الأول من نوعه كما يتصور البعض ممن لا يعلمون! وإنما سبقه تدخل مثيل في ديسمبر سنة ١٩٢٥ عندما أجبر المندوب السامي اللورد لويد الملك فــؤاد علي إقالة حسن نشأت رئيس الديوان الملكي بالنيابة، وعلي إعادة الحكم الدستوري، عندما زاد السخط الشعبي إلي حد يهدد مصالح بريطانيا!

ويجيد الدكتور عبد العظيم رمضان تلخيص موقف النحاس باشا من حادث ٤ فبراير، وهو يلخص الفارق بين موقف النحاس من ناحية، وموقف زعماء الأقلية فيقول:

«… واضح ـ إذًا ـ من موقف النحاس باشا أن المسألة في نظره كانت تقتضي: إما رفض الإنذار البريطاني مع تقبل نتائجه، وإما قبول الإنذار، وعندئذ يتساوي تأليف وزارة قومية أو وفدية. أما زعماء الأقلية فكان موقفهم المبدئي قبول الإنذار علي النحو الذي يحقق مأرب الملك، وهو تأليف وزارة قومية، فلما فشلوا في ذلك رفضوا الإنذار مع تقبل نتائجه، التي عرّضت عرش فاروق للخطر!».

(9)

وهذا رأي مهم في حادث ٤ فبراير ١٩٤٢، أدلي به الأستاذ محمد السوادي الذي عاش حياته صحفيا سياسيا قريبا من مواقع الأحداث والقرار، ومن الجدير بالذكر أن السوادي ينفي عن التهمة التي وجهت للنحاس أن تكون حقًّا أريد به باطل، فهو لا يري فيها أي حق علي الإطلاق:

«لم يقل التاريخ كلمته حتي الآن في وزارة ٤ فبراير ١٩٤٢، ورفض التاريخ ولا يزال يرفض أن يقول كلمته، لأن النحاس امتد به الأجل، كان مجرد وجوده علي قيد الحياة ثقلا يحسب حسابه حتي وهو يمشي إلي التسعين ويرفض أي حديث في السياسة، وإلي أن يقول التاريخ هذه الكلمة أحب أن أغامر برأي لي، وقد عاصرت تلك الأحداث، ليكون مع مختلف الآراء تحت أنظار المؤرخين بعد عام أو بعد مائة من الأعوام».

«أريد أن أقرر أن التهمة التي وجهت إلي النحاس كانت تهمة ظالمة، ولا أريد أن تقنع بالقول بأنها كانت حقًّا أريد به باطل، لأنها لم تكن حقًّا، وإنما قامت الوزارة في ظروف غلفت قيامها بقشرة من الحق، وخدعت عن الحق الكثيرين… دبابات تحيط القصر.. إنذار بخلع فاروق عن العرش إذا لم يشكل النحاس الوزارة.. توسلات من الزعماء للنحاس أن يشكل منهم وزارة ائتلافية، وأن يرفض الإنذار البريطاني، وأن يدافع عن كرامة العرش بوصفه رمزا لكرامة البلد.. إلي آخر ما قيل يومها».

«كلام معقول في ظاهره، لكن الأمر في حقيقته كان علي النقيض تماما».

«كانت الحقيقة أن هؤلاء الزعماء، وعلي رأسهم أحمد ماهر، هم الذين أبعدوا الوفد عن الحكم أربعة أعوام بغير الحق، وحاربوا الشعب عبرها حربا لا رحمة فيها، وزيفوا الانتخابات تزييفا جرد الأحرار منهم من كل التراث الثوري الذي خلفوه وراءهم، والتقي المتخاصمون منهم علي وضع غير طبقي ليتعاونوا بأرخص الوسائل علي أن ينجحوا فيما فشل فيه صدقي باشا بكل وسائله، وكان القصر معهم وأمامهم ووراءهم في كل ما ارتكبوه ضد الوفد والشعب، ولم يكن الملك في تصرفاته مصريا ولا وطنيا، فإذا نشبت الحرب العالمية بعد ذلك كله وتحرج موقف إنجلترا ذلك الحرج، ورأت أن الشعب الغاضب عليها لا يمكن أن يهدأ إلا إذا ردت إليه حقوقه، وتسلم مقاليد الحكم زعيمه، فاقترحت لتأمين ظهرها عودة النحاس، ثم علمت أن الملك يلعب دوره في الخفاء ليشكل أحمد حسنين وزارة للقصر، فهددت الملك بعزله إذا لم يشكل النحاس وزارته، فذلك حق من حقوق إنجلترا كدولة تحارب، وليس ذنبا للنحاس أن تطلب إنجلترا رد حقوقه إليه، وإنما الذي يحاسب عليه النحاس الموقف الذي يختاره هو لنفسه وللوفد وللشعب».

(10)

ويمضي الأستاذ محمد السوادي إلي القول بأن النحاس كان من الحكمة إلي الدرجة التي لم تسمح له لا بالانخداع في نوايا السياسيين المصريين الذين ارتدوا مسوح الوطنية، ولا بالمضي في معاداة بريطانيا وتعريض مصر كلها للضياع تحت حكم عسكري بريطاني مباشر إذا ما هو رفض العرض البريطاني.

والواقع أن رؤية الأستاذ السوادي علي صرامتها ووضوحها تتمتع بقدر كبير من المصداقية:

«ولم يكن النحاس غرا إلي الحد الذي يخدع في الزي الوطني الذي ارتداه يومها أحمد ماهر وزملاؤه، فيمد يده إليهم بعد أن أذاقوا الشعب كأس الذل مترعة أربعة أعوام متوالية، فيقدم إليهم كراسي الحكم في لحظة تاريخية يستطيع الشعب فيها أن يسترد حقوقا سلبت منه طوال ذلك الزمن».

«ولم يكن النحاس غرا حتي يناصب بريطانيا العداء وهي تطالب بعودته إلي الحكم فيعرض مصر كلها للضياع، وتضطر إلي حكم مصر حكما عسكريا تأمينا لظهرها كما تحكم المستعمرات التابعة للتاج».

«والذي صنعه النحاس هو الذي ينبغي أن يصنع، لقد رفض الإنذار البريطاني، ورفض أن يشكل وزارته بناء علي طلب إنجلترا، وإنما هو يشكلها كالعادة باسم الشعب الذي تمثله، ويشكلها وفدية لحما ودما، ويشكلها علي أساس من الانتخاب الحر الذي يثبت أن الشعب لا يزال يؤيد الوفد، ويشكلها في الدرجة الأولي ليكون الحامي لمصر من بطش دولة تحارب، ولا تتردد أمام كارثة روميل في هدم مصر كلها من الشلال إلي البحر إذا كان في هدمها إنقاذ لإنجلترا، وبعد أن ثبت أن الملك وعلي ماهر وغيرهم يؤمنون بفوز هتلر».

(11)

ويؤكد الأستاذ محمد السوادي علي فكرته بما حدث من إقصاء النحاس نفسه بعد انتهاء الحرب:

«وجاءت الأحداث موافقة لرأي النحاس، واستطاع أن يجتاز الحرب كلها بسلام، والدليل علي أن إنجلترا إنما قبلت حكومة النحاس كارهة، أن الحرب العالمية ما كادت تطل علي نهايتها، وما كادت بوادر النصر المحقق للحلفاء تلوح علي الأفق حتي تخلصت إنجلترا منه، وأذنت للملك أن يفاجئه بالإقالة في ٨ أكتوبر سنة ١٩٤٤، والنحاس في مصيفه الرسمي ببولكلي، وأن يكلف بالوزارة خصمه اللدود الذي ثار عليه في أوائل فبراير سنة ١٩٤٢ أحمد ماهر باشا».

(12)

ونأتي إلي قراءة وتأمل بعض القرائن التي تدل دلالة واضحة علي أن النحاس لم يكن متورطا في الاتفاق علي ما حدث، وهو ما سجله النحاس باشا بكل وضوح في خطاب قبوله تأليف الوزارة بعد إلحاح الملك عليه.

وربما يكون من المفيد هنا أن نعود لقراءة الفقرة الأولي للنص الأصلي الذي ورد في كتاب النحاس باشا إلي الملك عند تكليفه بتشكيل الوزارة في ٤ فبراير ١٩٤٢.

وفي نصوص عبارات النحاس باشا معان لم ينتبه كثيرون حتي الآن إلي إبرازها بقدر ما تستحق.

(13)

ولم يكن النحاس في حاجة إلي إثبات توجهه الوطني، فقد كان هذا أمرًا مفروغًا منه، وكان النحاس قادرا علي الموازنة بين مسئوليات الحرب ونصرة الحلفاء من ناحية، وبين التزاماته الوطنية، بل توجهاته الثورية من ناحية أخري، ولعل هذا قد اتضح بأبلغ صورة فيما اتخذه النحاس من قرار بعد شهر واحد من توليه الحكم، أي في ٥ مارس ١٩٤٢، حيث أمر من دون تشاور مع الإنجليز، بالإفراج عن عزيز المصري باشا، وحسين ذو الفقار صبري، وعبد المنعم عبد الرءوف، وذلك علي الرغم مما يعلمه من خصومتهم الواضحة للوفد، وعلي الرغم من علمه بإصرار البريطانيين علي إبقائهم بالسجن لأطول فترة ممكنة.

ومن الإنصاف أن نشير إلي أن النحاس لم يكتف بذلك، بل أمر بشطب القضية أيضًا.

(14)

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإننا نروي هنا واقعة معروفة تدل علي أسلوب النحاس في التعامل مع سلطات الاحتلال في ذلك الحين، فقد كان محمد علي الطاهر، وهو من الراديكاليين الفلسطينيين، وصاحب جريدة «الشوري»، قد اعتقل بأمر الإنجليز في عهد وزارة حسن باشا صبري، ثم هرب من المعتقل، مما أثار الكثير من مخاوف الإنجليز وألحوا في ضرورة ضبطه وإيداعه المعتقل، لكن محمد علي الطاهر سلم نفسه للنحاس في 7 مارس 1942، وأمر النحاس، علي الفور، بالإفراج عنه.

ويروي محمد علي الطاهر أنه سمع النحاس يقول لأمين عثمان باشا: «قل للإنجليز إني أطلقت سراح الطاهر فعلا، وسيخرج من عندي حرا، وإن اعترض الإنجليز علي ذلك فقل لهم ألا يفتحوا لي هذه السيرة، فأنا قد أطلقته وانتهي الأمر».

(15)

ويجيد حسن يوسف تصوير اتخاذه جانب الموضوعية من حادث ٤ فبراير الذي وقع قبل عمله بالقصر بأربعة شهور، لكنه يكرر في كتابه الإشارة إلي واقعة مهمة وهي أن مكرم عبيد كان قد طلب منه صبيحة هذا الحادث (باعتباره مديرًا للرقابة) منع الإشارة في الصحف والمجلات إلي اسم أمين عثمان باشا تصريحا أو تلميحا، ويبدو أن حسن يوسف يريد بإشارته هذه إلي أن ينبهنا إلي ما أدركه فيما بعد من حقيقة موقف مكرم عبيد المبكر من الهلع البالغ من صعود نجم أمين عثمان، وهو الموقف الذي كان له في رأيي أكبر الأثر في انفصام مكرم عبيد عن الوفد وعن النحاس، ذلك أن مكرم عبيد كان أقرب ما يكون إلي ذلك الذي يريد أن يظل بمثابة الشخص الوحيد الذي يعرف الإنجليزية والإنجليز بين أقطاب الوفد، وكان صعود نجم أمين عثمان يقلقه، ومع أن النجاح الذي حققه أمين عثمان في تلك الفترة كان يصب كما نعرف في مصلحة عودة الحق في الحكم إلي الوفد، وبالتالي إلي مكرم عبيد، إلا أن أنانية مكرم كانت أقوي بكثير من سعادته، وهكذا فإنه لم يكن سعيدًا بنجاحات أمين عثمان علي الرغم من أنها كانت تصب في مصلحته:

«ورغم كل ما كتب وما نشر عن ٤ فبراير، فإن سياجا من الغموض ظل يحيط بما وقع فيه، وكنت ما زلت أذكر التعليمات التي تلقيتها من مكرم باشا في اليوم التالي (٥ فبراير)، وكنت مديرا لمراقبة النشر وقتها، بمنع الإشارة في الصحف والمجلات إلي اسم أمين عثمان باشا تصريحا أو تلميحا».

(16)

ويؤكد إبراهيم فرج أنه لم يحدث أي اتصال بين النحاس والإنجليز وربما لا يمنع هذا الإنكار من نفي ما هو ثابت من أن الوزير الوفدي أمين عثمان كان وثيق الصلة بالإنجليز ودائم التحدث في شئون العلاقات بين الوفد والإنجليز ويقول:

«وهذا ثابت من الوثائق الرسمية البريطانية.. وآخرها ما نشره الأستاذ محسن محمد في جريدة «الجمهورية»، ومنها جواب من إيدن إلي اللورد كيلرن.. يقول له فيها: «احذر أن يعرف النحاس باشا بهذه المناورات التي تحدث».

*    *    *

وقد سارع النحاس باشا إلي الرد علي تلك المزاعم ونشرت له جريدة «المصري» بيانا مستفيضا: «الحقائق العشر» عن حادث ٤ فبراير، وكذلك نشرت له جريدة «الأهرام» بتاريخ ٢٣ نوڤمبر تعليقا علي المحضر الذي سجله كبير المستشارين الملكيين، ثم ناشدت الصحافة إقفال باب المناقشة في هذا الحادث المشهور.

(17)

وينبغي لنا أن نتوقف هنا لنشير إلي أن الأستاذ فكري مكرم عبيد شقيق مكرم عبيد قد أشار إشارات واضحة وصريحة في عدد من مقالات ذكرياته التي نشرها في الأهرام في سنوات قريبة إلي أن النحاس باشا لم يكن علي علم بنوايا الإنجليز، ولا مشتركًا معهم، وقد أفاض الأستاذ فكري مكرم عبيد في رسم سيناريوهات الأيام السابقة علي هذا الحادث بما لا يدع مجالا للشك في إمكان حدوث ما دفعت الخصومة الحزبية بمكرم عبيد نفسه إلي الادعاء به في ذلك الوقت.

(18)

ويذكر إبراهيم فرج ثلاث قرائن أخري يدلل بها علي عدم تورط النحاس في علاقة مع الإنجليز في حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ بأي صورة من الصور، وهي قرائن بسيطة لكنها تؤكد المعني الذي يريد إبراهيم فرج تأكيده فلم يكن لدي النحاس الزي الرسمي لمقابلة الملك، كما أنه تباطأ في الوصول إلي المحطة حتي يفوته القطار، وقبل هذا فإن الذي تولي الرد علي مكالمة القصر لم يكن النحاس وإنما مكرم باشا عبيد.

ولنقرأ هذا الجزء من رواية إبراهيم فرج:

«وسأقول لك واقعة.. وهي أن النحاس باشا لم يكن عنده «ردنجوت» ليقابل به الملك لأن منزله كان مغلقا.. فهل هذا دليل علي ترتيب بينه وبين الإنجليز؟! والنحاس باشا كان وقتها في مدينة قنا بالوجه القبلي عند مكرم باشا.. واتصل إسماعيل تيمور الأمين الأول للملك بمكرم باشا في منزله بقنا وطلب منه أن يتحدث مع النحاس باشا، لكنه رفض أن يرد عليه في التليفون.. فقال مكرم لإسماعيل تيمور: «قل لي أنت عايز إيه وأنا أقول له».

«فقال له: الملك عايز يقابله بكره…».

«فتعهد له مكرم بإقناع النحاس باشا بمقابلة الملك. ولما فاتحه فيما قاله إسماعيل تيمور رفض بشدة.. وقال إنه مرتبط بمواعيد لمقابلات مع كبار الوفديين في الوجه القبلي وبالاحتفالات التي سيقيمونها له. ثم إن هذه الرحلات التي يقوم بها ترفه عن نفسه.. ورفض.. ولكن مكرم باشا أخذ يلح عليه بشدة إلي أن وافق علي السفر للقاهرة.. وتحضرني هنا واقعة طريفة، فقد كان النحاس باشا يتثاقل في التوجه إلي محطة قنا عسي أن يفوته القطار فلا يسافر، وفطن فــؤاد سراج الدين ـ وكان معهم بالرحلة ـ إلي هذا التباطؤ فتوجه إلي المحطة وأبلغ ناظرها دقة الموقف وطلب إليه أن يتوقف القطار بالمحطة حتي يحضر النحاس مهما تأخر، وبالفعل تأخر ساعة وسافر بعدها».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

هكذا تصور الروايات الأمينة بما لا يدع مجالًا للشك أن حادث 4 فبراير لم يكن كما صوره أعداء الوفد، وإنما كان كما صوره الشعب قبل الوفد، حلقة من حلقات الصراع ضد الاستبداد الظالم الذي لا يزال يصور نفسه مرتديًا لمسوح المظلومين..

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com