الرئيسية / المكتبة الصحفية / توثيق المفارقة

توثيق المفارقة

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 31]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 31]

كان أستاذي قادرًا على استكشاف عناصر التاريخ في كثير من الوقائع التي تمر بنا، سواء أكان هذا العنصر نمطًا أم حدثًا أم مفارقة، وإني أذكر له كثيرًا من المواقف الجميلة في هذا الصدد.

حدثته ذات مرة أني رويت له أني أرسلت مائة خطاب إلى الجامعات الأمريكية من أجل اختيار جامعة أو مركز أستمتع فيه بمنحة السلام التي حصلت عليها؟ كتبت العناوين على الكمبيوتر وقصصتها ولصقتها على الأظرف، وحدث أن اللصق الذي كان على أحد هذه الأظرف كان ضعيفا أو مؤقتا فوصل الخطاب إلى أمريكا بدون عنوان للمرسل إليه.

قال: وكيف عرفت القصة؟

قلت: أعادوه إلىّ!!

قال: هذا طبيعي، فاسمك مكتوب على ظهره كمرسل.

قلت: الحق أنه لم يكن مكتوبا على الظرف، وإنما كان مكتوبا في الرسالة الداخلية المطبقة فوق بعضها، لكنهم بوسائل القراءة الذكية قرؤوا الاسم والعنوان وكتبوه على المظروف وأعادوا إلىّ الظرف في القاهرة!!

عند هذا الحد شرع أستاذي يحدثني عما شهده من عظمة البريد المصري فيما قبل الثورة حين كان الخطاب يصل في نفس اليوم في بعض المناطق إلى المناطق الأخرى، وفي اليوم التالي على أقصى تقدير ثم أخذ يعدد بعض شكاواه من البريد في هذه الأيام وهو يستطرد ويقول: إنه على كل حال أحسن حالا مما كان قد وصل إليه من انهيار في الستينيات والسبعينيات.

قلت لأستاذي: هل لك في شيء من الأنباء الباعثة على الأمل والطموح؟

قال: أخشى أن يكون الطموح زائدًا فأصاب بالإحباط.

قلت: لك أن تحكم بعدما تسمع.

قال: هات ما عندك.

قلت: لقد ظللت مشدوهًا إلى ما أسمعه عن صورة البريد المصري فيما قبل الثورة حتى قرأت عن البريد الإنجليزي في تلك الفترة فزالت دهشتي.

قال أستاذي: وماذا يتوقع أن يزيل دهشتك؟

قلت: هو ما أدهشني؟

قال: وما أدهشك؟

قلت: كان موزع البريد في لندن يمر على الموقع الواحد ست مرات في اليوم في ساعات محددة ومعروفة.

قال أستاذي وقد تهلل وجهه: ست مرات في كل يوم.

قلت: نعم.

قال: ومعنى هذا أنني من الممكن في اليوم نفسه أن أصل في مراسلاتي معك إلى قرار يقتضي أخذًا وردًا وأخذًا وردًا وأخذًا ورداً؟

قلت: نعم.

قال: إذًا فالاندهاش الذي تتحدث عنه لا يفي للاعتراف بهذه العظمة.

قلت: ومع هذا كله فإن التقدم لم يقف عند حدود البريد، وإنما تسارع إلى البرق، والتلكس، والفاكس، والبريد الإلكتروني.

قال أستاذي: الملاحظ يا محمد أن لكل وسيلة من هذه الوسائل ميدانها الذي لا تزاحمها فيه الوسائل الأخرى (وقال الكلمة بالإنجليزية Domaine)، لكن العجيب أن بعضها قد بقى على الرغم من صعوباته التكنولوجية.

قلت: لعلك تقصد التلكس؟

قال: بل التلغراف أيضاً.

قلت: مبلغ علمي أن التلغراف يملي الآن بالتليفون، وربما يرسل بالفاكس أيضاً.

قال: هل تذكرني إذًا بتكنولوجيا التلكس وكيف يعمل؟

قلت: بطريقتي.

قال: قل.. وأنا أسمع… وأمري إلى الله.

قلت: الفاكس تليفون وماكينة تصوير معاً.

قال: هذه أفهمها.

قلت: والتلكس تليفون وماكينة كاتبة معاً.

قال: الآن تذكرتك وأنت تشرح هذا الشرح منذ سنوات حين بدأ الناس يستخدمون الفاكس. لقد كان هذا قريبًا جدًا أليس كذلك؟!

قلت: هي رفاهية لم نعرفها إلا بعد معاناة طويلة.

قال: وهل نستحقها؟

قلت: لا أدري.

قال: أخشى ما أخشاه أن نعبث بهذه الوسائل فنحيلها عذابًا لأنفسنا وللأمن كما هو الحال في كل تقدم ندخل إليه.

قلت: وأنت الذي تقول هذا.

قال: أنا الذي أقول هذا.. هل تعتقد أنني راض عما تفعله التنظيمات السياسية السرية؟

قلت: لا.. ولكن التصريح بمثل هذا الذي قلته يجلب المتاعب.

قال: هي مجلوبة مجلوبة.. من هؤلاء وهؤلاء.

ثم أردف قائلاً: هل نعود إلى البريد؟

قلت: وهل تأذن لي في رواية طرفة جديدة؟

قال: تفضل.

قلت: تأتيني بصفة أسبوعية رسائل من إدارة للبيئة في منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة والعنوان مكتوب بالإنجليزية، وفي كل مرة تتم ترجمة العنوان بنفس الخط اليدوي ويأتيني الظرف.

قال: وماذا بعد.

قلت: طلبت هذه الهيئة مني أن أرشح لها بعض مَنْ ترسل لهم هذه المطبوعات بصفة دورية فرشحت عميد كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات البيئية بجامعة عين شمس وآخرين.

قال: وماذا حدث؟

قلت: أتت الخطابات في نفس الأظرف التي تعود الموظف القائم بمهمة فرز البريد المركزي في القاهرة على أنها مرسلة إلىّ فإذا به يترجم كل هذه الأسماء والعناوين الجديدة إلى اسمي وعنواني وتكون الكتابة بالإنجليزي: الأستاذ الدكتور عميد كلية الإعلام جامعة القاهرة الأورمان ـ جيزة، بينما الترجمة بالعربي د. محمد الجوادي ص .ب 178 الزقازيق، ويأتيني الظرف كل أسبوع مع ظرفي. كما تكون الكتابة بالإنجليزي: الأستاذ الدكتور عميد معهد الدراسات والبحوث البيئية ـ العباسية ـ عين شمس، وتكون الترجمة العربية لهذا العنوان: د. محمد الجوادي ص.ب 178 ـ الزقازيق، ويأتيني الظرف.. هكذا… وهكذا تتعدد الأظرف القادمة لي كل أسبوع.

قال: ماذا تفعل في هذا البريد؟

فلت: من آن لآخر أجمع هذه الأظرف وأرسلها لأصحابها.

قال: ألم تحتفظ ببعضها على سبيل الذكرى؟

قلت: أية ذكرى.

قال: اسمع كلامي واحتفظ بنموذج من هذه الخطابات، وبعد سنوات ستقدر قيمة نصيحتي.

قلت (وكنت لا أزال قليل التجربة): مع أني لا أظن فائدة لهذا فإني بما جبلت عليه من طاعة سأنفذ نصيحتك.

قال: وأنا أرجو مرة ثانية أن تسمعه، بمعني التنفيذ لا بالمعنى الفسيولوجي للسماع.

قلت: أفعل إن شاء الله.

وقد فعلت.

ومن حسن حظي أني لازلت أحتفظ ببعض الأظرف التي لها قصص من قبيل هذه القصة الطريفة!! ولست أبالغ إذا قلت : إن هذه القصة تكررت فيما بعد أكثر من عشر مرات في رسائل وبرقيات.

***

لم تمر شهور إلا وحدث ما هو أكثر طرافة، وكان أستاذي أكثر سعادة وهو يكرر رواية هذه القصة لأصدقائه، واحدًا بعد الآخر، مردفًا بالقول إني أستحي من روايتها مع أني صاحب الحق في روايتها، والقصة أن الهيئة المسؤولة عن منتدي «سالزبورج» الذي كنت قد حضرته في العام السابق على ذلك العام أرسلت لي، كعادتها، استمارات ترشيح لمن أرى أنهم قد يفيدون في حضور برامج المنتدي للعام الجديد، ورشحت ضمن مَنْ رشحت أحد الأساتذة في كلية من كليات جامعتنا وكان يشغل منصب العمادة، وكان مدير مكتبه يفتح الخطابات الواردة ويلخص ما فيها ويعرضها بالتلخيص، فإذا ما أراد الأستاذ الاطلاع على تفاصيل وجد الملف مرفقا بالتلخيص، كان الورق على عادة ملفات منتدى سالزبورج وعلى عادة مراسلات الأجانب كثيرا، وبه استمارات وتفصيلات… إلخ، وقد فهم مدير المكتب، وكان رجلا له حظ من النباهة، الموضوع على أنني مرشح بفتح الشين ولست مرشحا بكسر الشين، وأعد مذكرة بأن الأستاذ العميد يرشحني لحضور هذه الندوة، وضمّن هذه المذكرة تزكية كاملة لي عبر فيها عن شعور العميد تجاهي وكان ذلك العميد يحبني بالفعل، كما كنت أحبه، ونظرا لأن مثل هذه المشاركات لابد أن تمر بالجامعة لصدور القرار الخاص بها، فقد أعد المذكرة وعنونها بأنها للعرض على الأستاذ الدكتور رئيس الجامعة، لكن العميد بثاقب نظره رأي الأمر محتاجًا إلى دراسة، ولأنه يثق بي ولأنه كان مشغولا جدا عن أن يقرأ الورق المرفق فقد أشر في ورقة خارجية بأن أقرأ المذكرة والورق وأعدل ما أشاء مع استعداده التام لكل تزكية مطلوبة منه.. وهكذا اتصل بي مكتب العميد لأطلع على المذكرة وأراجعها!

بعد الظهر كنت في العيادة مع أستاذي، وأتيح لنا وقت قصصت فيه القصة عليه وقلت له: إني في موقف صعب جدًا مع الطرفين، حياء من هؤلاء الذين زكوني بينما أنا الذي زكيتهم.. ولا أدري ماذا أفعل، هل أعتذر عن هذا الترشيح وأبين الحقيقة للعميد؟ هل أترك الأمور تمضي في طريقها ثم أوقف إرسال الخطاب؟ هل أبدأ قصة جديدة من الحديث عن القصة كما هي لا كما سارت عليه؟

قال أستاذي وهو يبتسم: احرص على ألا تكرر تجربتي مع ال «برت»… ولا تجربة رسائل الأمم المتحدة.

قلت: وماذا أفعل؟

قال: ليس هناك غير حل واحد: احك القصة كلها لصديقك العميد.

قلت: ولكنني لن أفعل.

قال: ولم؟

قلت: لأنك علمتني الحياء.

قال: لن تخسر شيئا.. والحياء خير كله

……………………………………………………………………

ولم أكن قد حكيت هذه القصة حتى يومنا .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

حماس على طريق النصر

لما ظهرت حركة حماس إلى الوجود دارت مناقشات متعددة حول جدواها ومستقبلها، ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com