ما هو النقد؟

[محاضرة مسجلة مع بعض التنقيحات، ألقيت في كلية الآداب جامعة الزقازيق، 11 سبتمبر 1989]

 

[محاضرة مسجلة مع بعض التنقيحات، ألقيت في كلية الآداب جامعة الزقازيق، 11 سبتمبر 1989]

هل لي أن بدأ هذا الحديث بأن أستوضح معكم رؤية حضراتكم لمدى التداخل الذي قد يكون بين ثلاث من الوظائف المرتبطة بالأدب والتي ربما تجتمع القدرة علي أدائها جميعا [أو بعضها] لشخص واحد [أو لا تجتمع].

بعبارة أخري فإني أحب أن أفرق لكم أو معكم بين الأديب والناقد وأستاذ الأدب،،وأكرر أني أحب أن أبدأ فأؤكد لكم أنه ليس مطلوب منا جميعا أن نجمع بين الوظائف الثلاث أو أن ننبغ في الوظائف الثلاث.. إذ ليس بالإمكان لكل واحد منا من أن يتمكن من  هذه الوظائف الثلاث.. بل ليس بالإمكان كذلك أن يكون نجاح المرء في وظيفة من هذه الوظائف الثلاث متناسبا مع نجاحه في الوظيفة الأخرى، بل ليس بالإمكان قبل ذلك ـ بالطبع ـ أن يكون إسهامه في إحداها متناسبا مع إسهاماته في أخرى.

دعونا الآن من تقييم النجاح الذي ناله بعض مَنْ نعرفهم من المعاصرين الذين حاولوا الجمع أو نجحوا في الجمع بين هذه الوظائف، دعونا من هذا المبحث المتاح أو قريب المأخذ لأنه قد يصعب علينا أن نقيم نجاح الأعلام الذين نعرف إنتاجهم في مجالات ثلاثة بمثل هذه السرعة حتي وإن بدا لي ولكم أن هذا أمر ممكن أو أنه من البدهيات المستقرة، إني أريدكم أن تسلكوا معي مسلكاً آخر يبدأ من تأمل ما هو موجود بالفعل من آثار أدبية.. تأملوا معي الإسهام.. أنتم تجدون واحدا من المشتغلين بالأدب الروائي كنجيب محفوظ أو إحسان عبدالقدوس أو يوسف السباعي وتتأملون إنتاجه الأدبي  فإذا 99% من هذا الإنتاج يندرج تحت مظلة الأدب، علي حين لا يمكن وضع مظلة الناقد أو أستاذ الأدب علي بعض إنتاجهم.. لنتأمل بعد هذا أديبا كبيرا من طراز آخر هو يحيي حقى، ها نحن نجد مساحة من إسهاماته [قد تبلغ 10%] مثلا تغطيها مظلة النقد الأدبي بينما تتبقي المساحة الأكبر من تراثه للأدب.. ثم تأملوا بعد ذلك كاتبا من طراز ثالث كالدكتور محمد مندور تجدون إسهاماته تتوزع ما بين أستاذ الأدب وما بين الناقد.. وهنا ظهر للمرة الأولي في حديثنا اليوم معني أستاذية الأدب.. ثم تأملوا بعد هذا إنتاج الدكتور شوقي ضيف حيث تجدون أكثر من 80% من إسهاماته يندرج تحت مظلة أستاذ الأدب وإن كان قد أبدع في الأدب وفي النقد علي حد سواء.. ثم القوا نظرة بعد هذا علي إنتاج الدكتور طه حسين فإذا أنتم تجدون إنتاجه يتوزع علي هذه الوظائف الثلاث.. وربما كان للأديب الذي يقصر إنتاجه علي شكل واحد من الأشكال الأدبية التي تعترفون بها حظ من الشهرة أقل قدرا من الشهرة التي يحوزها طه حسين كأديب، وتعجبون من أن يقف حظه عند حد معين، وليس لكم أن تعجبوا.

لا أحب لكم أيها السادة أن تتقيدوا بما أبديت من آراء في تحديد هذه المساهمات أو الإسهامات، ولكنني أحب لكم بالتأكيد أن تمضوا بنفس الروح في تأمل كل مَنْ يقابلونكم اليوم من المشتغلين بالأدب [معاصرين أو سابقين] علي مدار مطالعاتكم وتعاملاتكم مع ثمار الأدب الذي تطالعونه في كل حين!!

ثم إني أحب لكم ـ بعد هذا ـ أن تتأملوا كيف يمكن لنا أن ننزلق إلي صياغة تعبيرات تدل دلالة قطعية علي الخيوط الفاصلة بين هذه الوظائف الثلاث، وربما أبدأ بأن أدعوكم أو أن أستأذنكم في أن توافقوني [أو أن تختلفوا معى] في أن الخط الفاصل بين الناقد وأستاذ الأدب قد يكمن في تغليب الناقد لرؤيته، وتغليب أستاذ الأدب لرؤية العلم أو الفن أو للمنهج النقدى.. قد يؤذيكم [أو يؤذي التركيب العلمي في عقلياتكم] أن تسمعوني الآن وقد اختزلت مثل هذه القضية الكبري إلي مثل هذا التعبير عن هذا الفارق التعسفى، ولكني مع هذا أحب وأسعد بأن تنفعلوا وأنتم تستمعون إلي مثل هذه التحديدات غير الدقيقة لتخرجوا معي أو لتخرجوني أنا من تحديدات أقل دقة إلي تحديدات أكثر دقة.

بيد أني أحب لكم قبل هذا أن تبدأوا بأن تتأملوا في نقاط الاتفاق أو التداخل (بيني وبين عقيدتكم أو خلفياتكم) بأكثر مما تتأملون في نقاط التفريق أو الفصل.. ولهذا فإني أستأذنكم في أن أقفز مما نحن فيه من مناقشة الأصوليات إلي أن أحدثكم عن وجود ما يسمي بالنقد الإبداعى.. ذلك النقد الذي هو صورة من صور الإبداع الأدبي نفسه، وأحب أيضا وبذات القدر أن أحدثكم أيضا عن وجود ما يسمي بالنقد المنهجي الذي هو بلاشك ثمرة من ثمار أستاذية الأدب، أو خطوة من الخطوات في الطريق إليها أو في الانتفاع بها من ناحية أخرى.

أنتم ترونني وكأنني قد قاربت أن أفصح عما أريده من النظر  إلي النقد علي أنه حلقة متوسطة بين الأدب وأستاذية الأدب.. فهو قد يأخذ من الأدب بعض إبداعه فيصبح نقدا إبداعيا أياً ما كانت صورة الإبداع.. وقد يأخذ من أستاذية الأدب المنهجية فيصبح نقدا منهجيا أياًما كان المنهج، ثم هو في النادر قد يكون قادراً علي أن يجمع بين الإبداعية والمنهجية في مزيج متوازن مبدع فيصبح عندئذ محتلا ـ عن جدارة ـ لقمة من قمم المعرفة الإنسانية لا من قمم النتاج الفكري فحسب.

أحب لكم بعد هذا الاستطراد المقصود أن تعودوا إلي هذه الأشكال الهرمية التي رسمتها وقد وزعت عليها الوظائف الثلاث، وأفدت من التباديل والتوافيق في ذكر الاحتمالات المختلفة لترتيب هذه الوظائف فيما بينها علي النحو التالى:

ها أنتم ترون هذه الأهرامات الستة وقد تبادلت الوظائف الثلاث المواقع المختلفة فيما بينها.. وربما أرجوكم أن تنظروا الآن إلي هذه الأهرام لتختاروا الهرم الذي يتناسب مع تقدير كل منكم للمكانة التي تحتلها كل وظيفة من الوظائف الثلاث بالمقارنة بالوظيفتين الأخريين، قد تختارون الترتيب الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع أو الخامس أو السادس.. ولكنني أرجوكم أن تحاولوا إبداء مبرراتكم الموضوعية أو حتي الذاتية لهذا التفضيل الذي يجعل كل وظيفة في المكانة التي اخترتموها لها، ربما يقودنا هذا إلي مناقشات طويلة تستغرق أياما وأسابيع، وعلي كل حال ففي وسع كل من حضراتكم أن يتبني النموذج الذي يري أنه أقرب إلي الصواب، ثم يتناول هذا النموذج بقدر من التبرير والتسويغ والتنظير في مقال كامل يعلي فيه من القيمة التي يري إعلائها علي أن يقدم مبرراته وأسبابه لهذا الإعلاء، ولعلكم تصدقونني إذا قلت لكم إن في وسع كل منكم أن يكتب في هذا الموضوع فصلاً جميلاً يعبر به لنفسه أولا (قبل أن يعبر لأي قارئ) عن كثير من جوانب فهمه واستيعابه للأدب إبداعا ودراسة، وللنقد وظيفة ومنهجا، ولا يظنن أحدكم أن في هذا صعوبة، ولا يظنن آخر أنه قد يكون عاجزاً عن أن يأتي في مثل هذا الموضوع بشىء يستحق الكتابة، فالأمر أبسط من هذا بكثير جداً، بل إنه البساطة عينها، لأن المعاني وتفصيلاتها واضحة تماماً في أذهانكم حتي لو ظننتم غير هذا، وسوف تريكم التجربة صدق ما أقول.

ولكني مع هذا سأدعوكم إلي أن نتجاوز هذه النقطة إلي أجل مسمى!! فالحقيقة أن النظرة الحضارية الحقة لا تختار ولا تفرض ولا تتبني ولا تحبذ أيا من هذه الترتيبات السابقة، وإنما هي تضع كل هذه الوظائف في مرتبة واحدة تماما علي نحو ما تفعل الحضارات المتقدمة عند مساواة الطبيب بالمهندس بالمدرس بالضابط بالموظف بالبناء بالنجار بعامل النظافة بالفلاح، لأن هؤلاء جميعا صناع حضارة مثلهم في هذا كمثل الأديب والناقد وأستاذ الأدب، وإنما يكون التفاضل عند أهل الحضارات في قيمة إسهام كل فرد في عمله ومدي جديته وإضافته وإنتاجه وإبداعه وأمانته في هذا العمل، لا بمجرد النظر إلي المهنة أو اللقب المهني الذي يحمله فحسب.. وأنتم تعرفون مدي الخطورة التي تنشأ إذا حدث وقام التفاضل بين أفراد المجتمع علي أساس من اللقب المهني من دون الإسهام الحقيقى، أنتم تعرفون خيراً مني أن هذا بلاشك هو أول مؤشرات الانحطاط الحضارى.

كأني لا أريد لكم إذن أن ترتفعوا بقيمة أستاذ الأدب علي قيمة الناقد، ولا بقيمة الناقد علي قيمة أستاذ الأدب، ولا بقيمة أستاذ الأدب علي قيمة الأديب، ولا بقيمة الأديب علي قيمة أستاذ الأدب، ولا بقيمة الناقد علي قيمة الأديب، ولا بقيمة الأديب علي قيمة الناقد، ولا أن تختاروا أيا من الترتيبات الستة السابقة، وإنما أريد لكم أن تتصوروا الأمر علي هيئة دائرة مستديرة لا يدري أين طرفاها تتكامل فيها الصورة علي هذا النحو:

وإنما أردت لكم من رسم الأهرام الستة السابقة أن تأخذوا هذه الأهرام من وجهة نظر أخري تتمثلون معها كيف يتنامي الإنسان منا بموهبته وقدراته لينتقل من الانفراد بمجال واحد إلي الجمع بين مجالين اثنين أو ثلاثة، فهو علي سبيل المثال ينمي من موهبته  كأديب فيكون بعد حين قادراً علي أن يكون ناقدا ثم أستاذا للأدب، أو هو في حالات أخري يتنامي بخبرته كناقد ليكون أديبا أو أستاذا للأدب، أو كيف يتنامي بعلمه كأستاذ للأدب ليكون ناقدا وأديبا أيضا… وهكذا.

ها أنتم ترونني في كلامي القافز الذي يبدو وكأنه متكررات أو مراوغات أو جمل متساوية وقد اختصصت كل وظيفة من الوظائف الثلاث بسمة بارزة من السمات فجعلت الموهبة من نصيب الأديب، والخبرة من نصيب الناقد، والعلم من نصيب أستاذ الأدب، ويبدو لكم أنني قد مررت هذه الفكرة في براعة أو نعومة من دون أن أحظي بموافقتكم عليها، وربما يري بعضكم في هذا التقسيم [أو الإسناد بلغة البلاغيين] نوعا من المهارة التي يحسدونني عليها، وربما يري بعضكم وأنا معهم أنه نوع من التعسف، ولكني أضيف إلي وصفهم فأقول إنه التعسف اللذيذ.

ربما لا يوافقني بعضكم علي هذا الفهم المتماسك حتي وإن بدا رشيقا، ولكن المؤكد أن معظمكم معجب جدا بهذا التقسيم والاختصاص.

ومع هذا فإني أكرر أنني أنا نفسي أول المتحفظين علي أن يُفهم من هذا الذي فعلت أني أقصر متطلبات الأدب علي الموهبة، أو أقصر النقد علي الخبرة، أو أني أقصر أستاذية الأدب علي العلم.. فلاشك أن هناك جانبا من الخبرة وجانبا من العلم في تكوين الأديب.. ربما يتضاءل قدرهما بالنسبة للموهبة، ولكن الخبرة والعلم ضروريان في تكوين الأديب، وقل مثل هذا عن الموهبة والعلم في تكوين الناقد، وعن الموهبة والخبرة في تكوين أستاذ الأدب.

 

إنما ينبغي لي الآن بعد هذا أن ألفت أنظار حضراتكم إلي أن الخبرة نفسها ـ علي سبيل المثال ـ تحمل في طياتها ومكنوناتها القدرة الفائقة علي تنمية العلم بل  وصياغته.. والقدرة علي تنمية الموهبة كذلك!

ربما تتعجبون لمثل هذا الكلام وأن يصدر بهذه الصيغة عن رجل جامعي مثلكم، ولكني أستطيع أن أدلكم علي بعض ما ييسر عليكم قبول هذا الذي أدعيه، فإن ما يسميه علماء النفس بالذكاء المهني وهو أحد أنواع الذكاء ليس في حقيقته إلا ذلك الذكاء المتولد عن الخبرة.. أنتم ترون كثيراً من الصناع بل من الموظفين الإداريين تقودهم خطوات حياتهم إلي وظائف روتينية رتيبة جدا يصعب معها أن يتبقي من الذكاء قدر ولو ضئيل.. ولكنكم مع هذا تجدونهم أروع ما يكونون قدرة، وأصفي ما يكون البشر ذهنا في الجزئية التي خبروها حتي يتعجب الناس من نوعية ودرجة هذا الذكاء الخاص الذي يتمتعون به في هذه الجزئية بذاتها.. وهكذا يمكن لكم أن تتصوروا من ملاحظة أنماط أخري من الحركة الفعلية كيف يمكن  للخبرة أن تنمي من الموهبة.

أما قضية أن الخبرة تنمي العلم فهي قضية رابحة ـ كما يقولون في المحاكم وأمام القضاء ـ وأظنكم توافقونني علي أنها ـ أي هذه القضية ـ لا تحتاج مني إلي كثير من الجهد لإقناع حضراتكم وبخاصة إذا كنا أنا وأنتم في رحاب هذا الحرم الذي اسمه الجامعة والذي قام في الأساس علي احترام التجريب واعتباره مدخلاً من مداخل العلم، بل إن الفكر الجامعي  ـ بالذات ـ قد وضع التجريب ـ بالذات ـ في أسمي مراتب هذه المداخل. وعلي كل الأحوال فإن المشكلة ليست في الاقتناع بأن الخبرة تنمي العلم، لكنها تتمثل في أن بعض المشتغلين بالعلم يصلون في مرحلة مبكرة أو متأخرة إلي العجز عن اكتساب الخبرة أو عن تقبل ما تسفر عنه، وهاتان قضيتان خطيرتان تتعلقان بالطبع بالتكوين العلمي وما اعتوره من الإصابة ـ العارضة أو النهائية ـ بالعقم في مراحل معينة كانت كفيلة بتوقف خصوبته عند حد معين.

يقودنا المنطق بعد هذا إلي البحث أو التأمل في الآليات التي يمكن للعلم أن ينمي بها من الموهبة، وربما أنكم لستم بحاجة إلي أن نتجادل ونتأمل في إمكانية هذا، لكنكم مع هذا تظلون بحاجة إلي التأمل في طبيعة هذه التنمية، وربما تتحفظون ولكم الحق في هذا مطالبين بضرورة افتراض وجود الموهبة من الأساس، لأنه يستحيل أن ينمي العلم من موهبة غير موجودة كأنكم تريدون أن تقولون إن العلم ينمي الموهبة إذا كانت موجودة، ولكنه لا ينشئ موهبة من الأساس، ويبدو أننا نتفق معا علي صواب هذه الحقيقة دون جدال كبير .. بل أظنكم لا تحتاجون التأمل فيها ولكن مجرد التذكير.. كما أن في وسعكم أن توافقوني أيضا علي أن العلم نفسه هو خير المؤثرات في صياغة نتائج الخبرة والتعبير عن هذه النتائج علي نحو أسمي وأرفع وأنفع، بل ربما أعطيتموني الفرصة لأستطرد من هذه النقطة إلي حقيقة مهمة نلمسها في العلوم الطبية الإكلينيكية حين نجد طبقة من الأطباء الممارسين وهي قادرة بحكم ما أوتيت من علم جيد وخبرة جيدة علي اكتشاف وتسجيل ووصف كثير من العلامات المرضية الظاهرة (أو الباطنة)، لكنهم يقفون عاجزين عن أن يصلوا بهذا التشخيص إلي ما يستطيعه أساتذة علماء من طبقة أرقي علما وأكثر خبرة؛ إذ يستطيع علماء هذه الطبقة أن يستنتجوا مما سجله لهم زملاؤهم حقائق طبية وتشخيصية يعجز الأولون عن الوصول إليها رغم توصلهم بالفعل إلي كل معطيات الحقائق العلمية ومفرداتها، وليس علي هؤلاء من سبيل إذا هم وقفوا دون حدود الكشف عن طبيعة الحقائق ماداموا قد وصلوا إلي التسجيل الدقيق والأمين لما وجدوه واكتشفوه، بل ربما كان التزامهم حدودهم خيراً من الانصراف إلي محاولة فرض تفسير متعسف يعتمد علي ما يقع في دائرة علمهم، ومن ثم فإنهم يلجأون إلي إعادة التفكير في صياغة ما وجدوه ليجعلوه متوافقاً مع ما توصلوا إليه من فرض نظري مع أن الفرض الذي توصلوا إليه ليس بالضرورة كفيلاً بالصواب.

ومواطن العبرة في هذا المثل الذي أضربه ليس في التأكيد علي فكرة الطبقات المتتالية بين رجال العلم ـ حتي  إن بدا هذا المعني ظاهراً واضحاً ـ ولكنه في المقام الأول يكمن في لفت النظر إلي جوهر ما يعطيه العلم للخبرة من قراءة أكثر خصوبة، وأصوب رؤية، وأعمق فكرا، والأمر في هذا شبيه بما يحدث حين يسمع الابن الشاب ووالده الشيخ حديث شيخ آخر خصم لهما فإذا الشاب لا يلتفت إلي المعاني التي يلمح بها الخصم مكتفياً بظواهر الأقوال علي أنه في ذات الوقت إذا كان قادراً علي الفكر فإنه سرعان ما يفيد من استنتاجات والده الشيخ ويبدأ في الإفادة منها، فإذا كان متحمسا للتجربة إلي درجة كبيرة أو كان متشبعاً بفكرة إلي حد عميق، فإنه ـ وهذا وارد ـ ربما يسرف في تطبيق منهج والده الشيخ حتي ليجعله هذا ـ فيما يبدو للناس بل ولنفسه ـ أكثر إحساسا بالمؤامرة أو الغدر أو أكثر تحسبا للمؤامرة والغدر، ولكن حكمة الشيوخ الناشئة (أو الناجمة) عن الخبرة تصل إلي نقطة الاتزان أو التعادل بحيث إنها في النهاية تكون أقرب إلي ما هو معقول، إذ أنها لا تهون ولا تهول.

تستطيعون حضراتكم للمرة الثالثة أن تتعمقوا العلاقة بين الموهبة وبين الخبرة.. والعلاقة بين الموهبة وبين العلم علي نحو ما فعلنا من قبل، وأظنكم الآن في غير حاجة إلي كلام كثير تستطيعون أن تفهموه وتستنتجوه بمجرد الإشارة.

وهكذا تجدون حضراتكم في جوهر النظرة إلي هذه المكونات الأساسية الثلاثية التي بلورناها للأديب والناقد وأستاذ الأدب جوهراً مرناً خصباً يحمل في طياته أو في نواته مكمن القدرة علي صياغة بقية المكونات الثلاثة الأخري للأديب والناقد وأستاذ الأدب.. أو بعبارة أدق فإن النواة التي في الذرة المعبرة عن كل وظيفة من هذه الوظائف كفيلة من تلقاء نفسها بتنمية النواة التي تتمثل في ذرتي الوظيفتين الأخريين من غير تعارض.

لعلكم مللتم هذا الحديث شبه المنطقي أو شبه الفلسفى، وأظنكم محقين في هذا، ولهذا فإني سوف أنقلكم مباشرة إلي أفق مختلف تماما طارحا عليكم سؤالا أظنكم أقدر مني علي إجابته وهو: لماذا إذن ساد في فترة من الفترات ذلك الاعتقاد القديم الشائع بأن الناقد أديب فاشل، وبأن المخرج هو الآخر ممثل فاشل!! ولماذا إذن يتردد همسا (أو جهرة) في بعض الأحيان قول مغلوط بأن أبعد الناس عن الإبداع في الأدب (أو الألمعية في النقد) هم أساتذة الأدب في الجامعة؟

هل تجدون تفسيرا يقنعكم قبل أن يقنعني بصواب هذه الاعتقادات أو هل تجدون تفسيراً آخر يقنعكم بمجافاتها للصواب؟ أم أن هذه الأقوال لا تعدو أقوالا قيلت في ظرف خاص بصياغة عبقرية فإذا هي تتكرر عند الحاجة إليها؟

هل تستطيعون أن تتأملوا معي الإنسان الفذ يبدأ حياته أديبا ولا يفتأ ذكره يرتفع في عالم الأدب.. وتمضي السنون فإذا هو قادر تماما بعد حين علي أن يضع اسمه كناقد في مرتبة رفيعة بسهولة ويسر.

نعم أنتم تستطيعون أن تتذكروا الكتابات النقدية ليحيي حقي أو لصلاح عبد الصبور علي بُعد ما بين الرجلين في مجال إبداعهما الأدبى، وأحكموا علي هذا الذي أقوله  من أن روائية هذا أو شاعرية ذاك قد استطاعت أن تسهم في إفراز نقد مقروء علي مختلف المستويات بما فيها رجال الشارع.. بل إن واحداً من حضراتكم كان يقارن لي بين إحدي مقالات أحدهما وبين النقد الذي ينشر الآن في بعض صحفنا اليومية، وقد كتبه أكثر من ناقد من المتفرغين للدراسات الأدبية.. لكنه نقد غير قابل للقراءة من ناحية، ولا للاستماع من باب أولى، ولا أنكر أنني وافقته كل الموافقة علي هذا الذي صرح به، بل ربما أبديت له بعض التأييد (أو التكييف) النظري (القانونى) الذي كان هو بحاجة إليه من أجل التأكيد علي الأفكار الي طرحها في تقييم ما هو متاح من نقد ينسب إلي مَنْ ينسبون أنفسهم إلي النقد بينما هم بعيدون تماما عن النقد وعن الدرس الأدبي حتي وإن أطلقوا ـ أو أطلق لهم ـ علي هذا الذي يسطرونه مسمي النقد.

ويبدو أنني عند هذا الحد مضطر إلي أن أتحفظ بسرعة وأقول إننا لا نرتفع بقيمة قدر نقد علي نقد آخر، ولكننا في الحقيقة نريد أن نفهم النقد علي نحو ما هو نقد في تاريخ الآداب العالمية جميعا وليس علي نحو ما يراد للصفحات أن تحتل فحسب، ويبدو أن هذا لا يتحقق إلا بعد أن ننبه إلي تفاعل الصفات الأساسية عند المشتغلين بالأدب أيما كانت الوظيفة التي آثروها كوعاء أول لجهدهم في الأدب، فإذا حدث أن مرّ الأدب (أو النقد أو أية مهنة من المهن في فترة من الفترات) بما جعل كيان «المهنة» أو «الوظيفة» أمام الناس محملا بما ليس منها، فإن هذا لا يجبر المهنة علي أن تقبل ما سمي باسمها، فلا يمكن لعلماء الدين أن يتقبلوا الزندقة ولا الهرطقة علي أنها من علوم الدين، ولا يمكن لعلماء الفلسفة أن يتقبلوا السفسطة علي أنها من علوم الفلسفة، ولا يمكن للأطباء أن يتقبلوا فن الدجل أو الأحجبة علي أنه طب، ولا يمكن للعلماء أن يتقبلوا الشطحات النظرية علي أنها نظريات، وهكذا فإنه لا يمكن للنقد الحقيقي ولا لرجاله أن يتقبلوا قص فقرة من نص أدبي واتباعها بفقرة من نص نقدى، أو اتباع فقرة من نص نقدي لها ومحاولة تطويع هذه لتلك ثم القول بأن هذا نقد.

 

هل تراكم الآن قادرون علي أن تكتموا اندهاشكم حين تجدون العامة من الناس وقد اضطرهم ظرف ما إلي أن يوجهوا إليكم السؤال عن وظيفتكم ثم يردفون السؤال الأول مباشرة بالسؤال عن إنتاجكم الأدبى.. فإذا أنتم في حيرة من هؤلاء العامة الذين يظنون أستاذ الأدب [أو المعيد في قسم الأدب] مطالبا بأن يكون أديبا أو ناقدا..

أعرف أنكم تندهشون لهذا السؤال..

ولكني أحب لكم أن تكونوا في المستقبل أو منذ الآن مستعدين للرد عليه وأن يكون ردكم عليه شيئا آخر غير كل هذا الذي سبق لنا أن ناقشناه، أعني ألا يكون ردكم علي مثل هذا السؤال بالتفريق بين الوظائف الثلاث علي نحو ما فعلنا ولا نزال نفعل اليوم في هذا اللقاء، تسألونني إذن كيف يكون الرد؟ وأظنكم أصبحتم تتوقعون مني كيف يكون الجواب، وهو أن يكون الجواب نفسه إنتاجا أدبيا أو نقديا يؤكد للناس أن دراستكم للأدب لم تذهب هباء.. وأنكم تحولتم من متأملين إلي منتجين  للتأمل، ومن دارسي مذاهب إلي أصحاب رؤى.

وأحب أن أطمئنكم و أؤكد لكم أن هذا الذي أطالبكم به لا يمكن علي الإطلاق أن يكون مقياسا من مقاييس نجاحكم في عملكم.. وأن افتقادكم إياه كذلك لن يهبط بأقداركم في الجامعة ولا خارجها علي الإطلاق.. ولكنني أكون مقصرا إذا أنا لم أذكر لكم أن شأنكم حين تنصرفون تماما إلي دراسة الأدب من دون أن تنتجوا شيئا في درسه أو نقده أو صنعه سوف يكون شأن مالك الأرض الذي يكتفي بتبويرها عاما بعد عام، بينما يبذل جهدا صادقا كل صباح في قياس حدودها ووصف أبعادها وتسجيل كل ذلك علي ورق مصقول حينا،وبالصورة الفوتوغرافية حينا  آخر.. وربما بصور من الطائرة حين يفتح الله عليه.. وبأجهزة الاستشعار عن بعد حين يبلغ قمة الفتوح!

 

كأني أريدأن أقول لكم إن في النقد علما وفنا.. يأتينا العلم من الدراسات الأدبية التي أنتم أكثر الناس تمكنا منها.. بل ربما أنكم أنتم أكثر الناس مسئولية عنها.. بيد أن سعة الأفق تمثل بلاشك الجانب الأعمق من الدراسات الأدبية، وهو الجانب الذي يعطي للكلمة وللعبارة وللجملة أبعادا يستحيل علي غير أصحاب الأفق الواسع أو العقل الواعي الإلمام بكل ما تحمله من شحنات، وليس للشحنات التي تحملها الكلمات  حدود، وهذا وجه من أوجه الصعوبة.

 

قلنا إن العلم الذي في النقد يأتينا من هذه الدراسات الأدبية، فمن أين يأتينا الفن؟ ظني أنه من تلك القدرات المتباينة للبشر علي أداء ذات الوظيفة.. وليس أدل علي هذا المعني من أن نتأمل في صورة الشىء الواحد يرسمه فنانون يختلفون قدرة فإذا صورة أحدهم ترتفع بنا وبصاحبها وبموضوعها إلي السماء، وإذا صورة الآخرين وهم غالبية المتوسطين أو مَنْ يسمون في الفرنسية بطبقة «الموديكر» تبقي نموذجا راقيا مرتقيا للاجتهاد المحض.. وإذا صورة الثالث تهبط بنا وبأذواقنا إلي درجة نلعن معها الفن الذي تدني إلي حيث تدنينا نحن المتذوقين إلي لعنه، مع أن الفن الحق لا يحتمل اللعن ولا يقبل اللعنة.

أظنكم بعد هذا قادرين علي أن تجيبونني علي السؤال السائل عن كيف يتفاعل العلم والفن أو كيف يتوازنان في النقد؟

نعم.. هل يمكن للنقد أن يكون فنا فحسب؟

وهل يمكن للنقد أن يكون علما فحسب؟

وهل يمكن للنقد أن يوازن بين العلم والفن؟

هذا هو ما أحب لكم أن تتأملوه معى..

ولكني أسبقكم إلي القول إنه إذا اتزن الفن والعلم في النقد فقد أصبح النقد أدبا.. قد يزعجكم هذا القول لا بما يتضمنه من تقرير لم تتعودوه مني طيلة هذه المناقشة، فبوسعكم أن تنفروا من مثل هذا التقرير،ولكني منتبه إلي أن هذا القول مزعج من ناحية أخرى، ذلك أنه مزعج بما يوحيه من أن النقد الذي يغلب العلم فيه علي الفن ليس بأدب، ومن أن النقد الذي يغلب الفن فيه علي العلم ليس بأدب!! وأظنكم كنتم تفضلون ـ لو كان الأمر بيدكم ـ أن تقصروا وصف الأدب علي النقد حين يغلب عليه الفن، ولكني أعود لأؤكد لكم أن الأدب نفسه ليس إلا حلقة متوسطة بين العلم والفن، وأن النقد إذا وازن بين العلم والفن فإنه يصبح هو الآخر جزءا من الأدب بحكم انتمائه إلي هذه الحلقة المتوسطة بين العلم والفن.

ربما أستطرد هنا لأشير إلي معني مهم وخبرة ذات قيمة، وهي أن النقد الإبداعي أو الفني أصعب بكثير جداً من النقد المذهبى، ولا يغرنكم ما ترونه من مصطلحات كثيرة وتأويلات كثيرة في مقال نقدي كتب تبعا لمذهب من المذاهب فذلك أمر يسير إذا ما قورن بالنقد الإبداعي أو الانطباعي الذي هو في حقيقة الأمر نقد فني ذو مكانة سامقة ، وعملية إبداعية تتطلب جهداً ومعاناة.

ألمح ضجراً من هذا التزيد الذي لا مبرر له في وضع خطوط حدود فاصلة وحاسمة تفصل بين أنماط من الإنتاج البشري لا تحتمل كل هذا التحديد، ولا تتقبل كل هذه الأحكام القاطعة، ولكني مع هذا مرتاح أشد الارتياح لأن أصور الأمور علي هذا النحو الكفيل بإيجاد هيكل صلب قادر علي أن يرسم حدودا واضحة الملامح تتكفل برؤية قادرة علي تلمس حدود الحقائق علي نحو ما أنا متشوق للوصول إلي الحقيقة نفسها، كأنما أفلسف الحقيقة وأتمني أن تكون فلسفتي نفسها نوعا من الحقيقة، ولكني مع هذا أقدر لكم تساؤلاتكم وظنونكم.

وربما يجعلني هذا أعود بكم إلي الدقائق الأولي من هذه المحاضرة وأستعيد معكم ما قلت في سرعة أو في عجالة إن النقد قد يأخذ من الأدب إبداعه (وكنت أقصد بالطبع تلك المكونات الفنية) فيصبح نقدا إبداعيا.. وقد يأخذ من أستاذية الأدب المنهجية فيصبح نقدا منهجيا.. ثم هو في النادر قد يجمع بين الإبداعية والمنهجية فيصبح (وكنت أقصد بالطبع تلك المكونات العلمية) قمة من قمم المعرفة الإنسانية لا من قمم النتاج الفكري فحسب.

أليس هذا هو ما قلناه!!

هل خرجت الآن ـ بعد كل هذه التفصيلات ـ علي ما ذكرت  في البداية؟ لا أظنني ناقضت نفسى، ولكنني زدت أفكاري وضوحا بعدما كانت أحكاما عمومية شائعة فإذا هي الآن أحكام شبه علمية قابلة للمناقشة.

دعونا ننتقل الآن إلي بعض الأطر العامة الكفيلة بأن تصور لنا النقد ، وسأتجاوز عن أن أطلق علي هذه الأطر أسماء كبري من قبيل المبادئ أو الأصول أو القواعد وسأوثر أن أسميها «ملحوظات» فحسب .

إذاً فإني أحب أن أتطرق في عجالة إلي بعض المعاني التي ينبغي لنا أن ننتبه إليها ونحن معنيون بالنقد وتعريفه، ولست أدعي أن هذه المعاني هي كل ما يجب أخذه في الحسبان عندما نصوغ نقداً  أو نكتبه ، ولكني بإحساسي بما هو مضطرب أو متحرك في ساحة النقد والدراسات الأدبية أعتقد في أهمية ما أود الإشارة إليه علي هيئة ملحوظات متتالية :

النقد ضوء وليس سيفا

الملحوظة الأولى: أنني أود لو أني استطعت أن أهمس في أذن بعض النقاد ألا يقسوا علي الأدباء حين يخالفون أصلاً من أصول العمل الفنى، وأقفز لأضرب مثلا مباشرا يتعلق باستخدام عنصر «المصادفة» في الفن الروائي أو المسرحى، وقد لقي هذا الاستخدام كثيرا من النقد فيما مضي حتي أصبح الأدباء يظنون أن اللجوء إلي المصادفة نوع من أنواع اللاأدب، وكانت النتيجة بالتالي أنهم أخذوا يحلون بعض معضلات البناء الأدبي أو الدرامي باللجوء إلي السذاجة.. علي حين أن بعضا آخر منهم قد أخذ يلجأ إلي القفز علي الزمان أو المكان أو علي ما هو في الإمكان من أجل أن يحل هذه المشكلة.. وهنا يسترجع الإنسان منا الخبرة الإنسانية في الأدب فيجد العرب القدامي وقد أجازوا ما أسموه بالضرورات الشعرية، وما هو من قبيل «الزحافات والعلل» في العروض، وكأني بهؤلاء الأوائل كانوا يدركون أهمية فتح الطريق أو فتح الباب لاستغلال عنصر «المصادفة» في لحظات معينة من قبيل الاستثناء حتي لا يجد المبدع نفسه سجينا أو مقيدا، كأني أريد أن أكرر ما أذكره دائماً من أن هامشاً ضئيلاً من البطالة هو أكبر ضمان ضد التضخم وارتفاع أسعار الخدمات، ومن أن هامشاً ضئيلاً من الفساد الفسيولوجي هو الضمان لعدم انتشار الفساد اللافسيولوجى، ومن أن ثقباً صغيرا في المرجل هو الضمان بعدم انفجار المرجل بما فيه، ومن أن ثغرة بسيطة في حصار العدو تهيئ لجنوده الانسحاب هي الكفيلة بزيادة النصر  والحد من الخسائر وتقليل العداءات وحل الموقف وتحقيق الهدف في النهاية.

علي هذا النحو فإني أريد لكم أن تفكروا في النقد ألا يكون حاسما حازما صارما قاطعا، وإنما الأولي به أن يكون مرشدا مضيئا هاديا هادئا.

ولست أريد أن أضرب أمثلة كثيرة علي ما أظنكم تعرفونه من معني يعبر عنه باختصار قولي إن الاعتماد علي المصادفة المصطنعة خير من الاضطرار إلي السذاجة الإجبارية.

النص النقدي للعموم لا للخاصة

الملحوظة الثانية: هي أني أعتقد أن أفضل النصوص النقدية هي تلك النصوص التي تمكنت من أن تخلو من المصطلحات النقدية، كأني أريد أن أقول إن أفضل النصوص النقدية هي تلك التي تبدو وكأنها من كلام الناس العادي الذي يتفوهون به ويتداولونه، ولهذا المعني أهمية كبيرة أظنكم تدركونها، غير أني سأعبر عنها بطريقة «ديموجرافية» فأقول: إن هذا النمط من كتابة النقد يجعله ذا كثافة عالية من حيث عدد السكان أقصد «القراء»، ذلك أنه إذا جاز أن النقد الذي يعتمد علي مفردات «المنهج» في صياغته الأخيرة يصبح صالحا للقراءة عند ألف من البشر فحسب فإن النقد الذي يعتمد علي «اللغة العمومية» يصبح صالحا للقراءة عند مليون من البشر في نفس الظروف.

ومع هذا فإن كثيرين من النقاد لا يكادون يتقبلون هذه الفكرة، ولهم الحق في بعض الأسباب التي يبدونها، وكأني بهم يستنكرون أن يأتي نقدهم خلواً من المصطلحات والتعبيرات النقدية التي تدل علي العلم بالنقد، وكأني بهم لا يتصورون أن تأتي نصوصهم وكأنها نسيج عادي غير مطرز، وكأني بهم يخشون أن يصبحوا بمثابة صورة أخري من صور كتاب الأخبار أو التعليقات السريعة.. ولكني أستطيع أن أجزم بأن شيئا من هذا كله لن يحدث، فالعبرة في النصوص النقدية والأدبية ليست بما يترامي من وصف مفرداتها أو تطريز هذه المفردات، وإنما العبرة الحقيقية بالمعني الذي نخرج منه من هذا النص الذي نطالعه أو نقرأه أو نستمع إليه، وسمو المعاني ودقتها لا يتعارض مع سهولة الألفاظ ولا انسيابية الجمل ولا بساطة البناء أو البيان، إنما يضيف البيان السهل إلي المعاني العميقة عمقا آخر من أعماق الفهم.

ولكني مع هذا أقدر كل التقدير مدي الصعوبة التي يلاقيها الأكاديميون حتي تصبح عباراتهم سهلة بسيطة، ومع أني لا أتوقع أن يحققوا النجاح في الوصول إلي هذه السهولة بين يوم وليلة، فأني أكاد أؤمن بمعني مهم وهو أنهم لن يحققوها ولا بعد عشرات السنين إذا هم لم يضعوها في الحسبان منذ البداية.

ومن الطريف بعد هذا  أن بعضهم يجاهر بأنه لا يحب أن يكون بسيطا فيما يكتب، ولا يحب كذلك أن يكون قريب التناول ولا الفهم.. وهو نمط من السلوك الاستعلائي أو الانطوائي [علي تباعد ما بين هذين النمطين] وهو سلوك منتشر كما أنه يحظي بالطبع بالاحترام ولابد له من الاحترام، وإن لم أكن من أنصاره لا في القريب ولا في البعيد… ولا في السطحي ولا في العميق.

النقد من الداخل لا من الخارج

الملحوظة الثالثة: هي أني لا أعتقد أن من مهمة النقد أن يتعسف في تصوير العمل الأدبي علي غير طبيعته، من أجل أن يضعه في مصاف يظنها هو أرقي من العمل، أو يظن أنه يجامل المبدع بهذا الذي يفعله بنصه أو في نصه!وأظنكم تفهمون المعني جيدا، ولكني سألجأ إلي مثل شعبي ربما يجرح المسامع ولكنه يعبر تماماً عن المعني الذي أريد الإشارة إليه، ألا ترون إلي الذين يصفون جهد بعض الصنّاع المهرة فيبلورون ذلك في قولهم: «إنهم صنعوا من الفسيخ شرباتاً»!! هذا بالضبط هو ما لا أظن أن من حق النقد أن ينزلق إليه، فكما أن للشربات مذاقه وسحره فإن للفسيخ مذاقه وسحره، بل ربما إنكم تدركون أن الرغبة أو الشوق إلي الفسيخ ربما تفوق الرغبة والشوق إلي الشربات، فمن حيث الندرة فهذا أندر من ذاك، ومن حيث المذاق فإن لهذا جوا متكاملا متفردا متميزا موحيا، علي حين أن الثاني أصبح بمثابة الشىء الروتيني الذي ربما يبدو وكأن تناوله لا يقدم ولا يؤخر.

إذن فمن التعسف أن نصور الفسيخ علي أنه شربات، بينما طلاب الفسيخ وراغبوه ومتمنوه أكثر بكثير من طلاب الشربات، ولست أريد أن أتطرق إلي أن أذكر أمثله علي هذا الذي أقول، ولكنكم تعلمون كما أعلم أن العرض السريع (أو المذهبي أو الشللى) لبعض الأعمال الأدبية قد صورها علي نحو أفقدها طلابها الحقيقيين، وإذا ببعض هؤلاء الطلاب الحقيقيين (أو المستهلكين الطبيعيين) يكتشفون بعد مدة أنهم لم يدركوا الطبيعة الحقيقية لهذا العمل الأدبى، وأن هذا لم يحدث إلا بسبب التصوير أو التكييف الذي قدم لهم عنه في وقت صدوره.

ومما يؤسف له أن كثيرا مما يصور علي أنه نقد ليس في الحقيقة إلا كتابة من خارج الخارج، أي من دون أن يقرأ «الناقد» ما يكتب عنه، بل حتي من دون أن يطالع النص لمدة خمس دقائق فقط، بل إن بعضا من النقد ينقل عن بعض آخر ويصيبه تشوه النقل الذي نعرفه جيداً في الدراسات الأكاديمية.

ولعل كتب السير الذاتية المعاصرة هي أكثر الكتب التي تعرضت لهذا التصوير الزائف، أو التصوير الغريب عن محتواها، فإن كثيرا من النقاد (أو العارضين بمعني أدق) يأخذون منها فقرة أو فقرات ترضي رغبتهم في الانتقام من شخص ما أو من توجه ما، ويظل الحديث عن هذه الفقرة بمثابة الجوهر الأساسي أو الكلي لما يسمي عرض الكتاب أو نقده بينما الفقرة موضوع الحديث لا تنقل من العمل الأصلي شيئا ذا بال، وليس لها بموضوعه الأصلي إلا أضعف صلة، بل ربما كانت مقحمة علي نسيج النص الأصلى.

روح القيم لا إطارات القوالب

الملحوظة الرابعة التي أحب لنا حين نكتب النقد أن ننتبه إليها هى: أن نبتعد عن التقليد الواضح في ذات الوقت الذي نتمسك فيه بكل القيم التي أرساها كل من سبقونا من النقاد والمتذوقين.

ولست أستطيع أن أجد تعبيراً يوضح هذا المعني خيرا من أن أقص عليكم قصة قد لا تخالونها حقيقية ولكنها بكل تأكيد قصة موضوعية، ذلك أن أحد هواة الشعر العربي ذهب إلي شاعر كبير يسأله النصح فنصحه بأن يحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر، ثم يعود إليه بعد أن يحفظ هذا القدر،  وبعد ثلاثة أعوام عاد إليه فقال له إن عليه ـ الآن ـ أن ينسي هذه العشرة آلاف بيت من الشعر حتي يمكن له أن يقول الشعر علي نحو ما يرجو من شاعرية بارزة وأفق محلق.

وهذا هو ما ينبغي لنا أن نفعله في تكويننا النقدى: أن نقرأ كل ما كتب من نقد بقدر الإمكان، ثم أن نحرص فيما نكتب علي أن نستلهم روح وباطن ما قرأناه ودرسناه لا أن ننقل نصه وظاهره.

توازي القيم لا توحدها

الملحوظة الخامسة: هي أن ندرك حدود قدرة أدواتنا علي تحقيق ما هو مطلوب منها، فلا نزعم لهذه الأدوات قدرة خارقة، ولا ننتظر منها هذه القدرات الخارقة، ولا نلومها كذلك علي أنها لم تمكنا من هذه القدرات، فنحن نصور أنفسنا علي أنها أدركت ما لا سبيل إلي إدراكه من مرامي الكاتب أو الأديب أو الفنان، ونحن حين نفعل هذا نهين العقل علي حين أننا في ذات الوقت لا نكرم النص، وعندي أن الأولي من هذا أن نقول إننا لم نفهم ماذا يريد الأديب أو الفنان، فلسنا ملزمين بأن نفهم كل شىء، وإنما نحن ملزمون بأن نفهم ما هو قابل للفهم، ونحن نلام حين لا نفهم ما هو مفهوم، ولكن ليس هناك محل للوم إذا كان الأمر علي هيئته التي يطالعنا بها غير مفهوم، وفضلاً عن هذا فإن هناك نوعا من التباين في قدراتنا ـ كنقاد ـ علي الفهم، ومن المهم أن ندرك أن هذا التباين لا يرتبط بالذكاء وحده، فلست أظن أني أفهم كل ما يفهمه مَنْ هم أقل مني ذكاء، كما أني لست أظن أني لا أفهم كل ما لا يفهمه مَنْ هم أكثر ذكاء منى، كأني أريد أن أقول إن القدرة علي الفهم ليست ذات علاقة طردية مع الذكاء، نعم… وليست كذلك ذات علاقة طردية مع الخبرة ولا مع الحس الأدبي ، وإنما هناك عوامل أخري كثيرة تؤثر فيها وتصوغها كالبيئة والمهنة والنشأة الأولي والخبرة الشخصية، وكل ما له علاقة بالثقافة العامة والخاصة للمتلقي أو الناقد.

ومن العجيب أن القدرات التي يعتمد عليها الناقد في عمله ترتبط بجهاز واحد من أجهزة الجسم، وما يرتبط به من جهاز عصبي مركزي وحواس خاصة، وهذه الحواس تمثل في حد ذاتها أجهزة متعددة ولكنها في ارتباطها بالعقل تؤدي له وظيفة المستقبلات من ناحية، والمنفذات من ناحية أخرى، بعبارة أخري فإن صادرات العقل ووارداته تمر من خلال هذه الحواس وعبر الجهاز العصبي المركزى.

لهذا فإن النقد يحتاج قدرا لا بأس به وربما لا نهاية له من تسامي العقل، أو فلنقل إن النقد يتطلب أن يكون في تكوينه أقرب إلي المعقولية المعتمدة علي الحس، وذلك تمييزا عن المعقولية المعتمدة علي الخيال.

وربما يحظي الناقد بقدر كبير من المعقولية ولكنه لا يبذل منها في نقده ما هو كفيل بوصول نقده إلي الدرجة المطلوبة من السمو أو التسامى، وربما لا يحظي الناقد بالقدر المطلوب من هذه المعقولية ولكن رغبته في التسامي وحرصه عليه يدفعه إلي استثمار ما هو متاح له من قدرة عقلية من أجل الوصول إلي ما تسمو إليه نفسه النبيلة المجاهدة من أجل التبرأ عن الهوى.

لعلكم أدركتم المعني الذي أريد أن أقوله وهو أن النقد لا يعتمد علي القدرات العقلية المتاحة فحسب، ولكنه يظل في حاجة إلي وجود «إرادة الحق» أو «إرادة الخير» أو «إرادة الجمال» أو أية إرادة أخري بما فيها ما يمكن أن تطلقوا عليه إرادة المجاملة، فإذا هو ـ أي الناقد ـ أراد قيماً عليا فإن نقده يتسامي معها، وإذا هو أراد أهدافا أو أغراضا أخري فإنه يأخذ نقده في ذات الاتجاه.

ويجدر بنا ألا ننسي أن الإرادة في حد ذاتها كفيلة بتعطيل العقل وبتعطيل الحواس، كما أن إرادة التعبير كفيلة بالتعبير عن النقيض بالنقيض، كما أن إرادة التفكير تتعطل إذا ما استهل صاحبها اللجوء إلي الأفكار الجاهزة.

وهكذا يمكن لنا أن ندرك مدي السطوة التي تتمتع بها الإرادة علي الناقد وعلي إنتاجه، ومع هذا فإننا لا نستطيع أن ننكر أن الظروف الثقافية أو السياسية [أو فلنقل الميكيافيلية] كثيرا ما تفرض علي الحياة أن ترتفع بقيمة الذين يعطلون إرادتهم، وأن تزري وتحقر من قيمة الذين يحترمونها، بل إن الحياة نفسها كثيرا ما تنتصر للذين يريدون الشر، وتحول بين مريدي الخير وبين النجاح.. ولا يدفعنكم هذا إلي اليأس أو فقدان التوجه، فإن هذا كما تعلَمون  وتعلمون من طبائع الأشياء، وقد علمنا التاريخ أن صلاة الحاكم أو صلاحه لا يعني أن قراره صائب، كما لا تحول زندقته  بينه وبين إدراك الصراع السياسي ولا يفيد منه علي نحو ذكى.

التوازن لا الأحادية

الملحوظة السادسة : هي أن نحرص في نقدنا علي تحقيق توازن “عبقرى” بين العناصر المختلفة المكونة له ، وحتي أصور لكم هذه الملحوظة علي  نحو جيد فسابدأ بشئ هو أقرب ما يكون إلي التهويم حول معني مستقر  في علوم البيولوجيا وهي العلوم الطبيعية الوحيدة التي قد تندرج مع علومكم تحت اسم العلوم الإنسانية، حتي إن أبيتم أنتم هذا أو أباه أصحاب هذه العلوم.. هذا المعني الذي أريد لكم أن تتعمقوا فهمه هو مايدل عليه المعني المتمثل في مصطلح نقطة الاتزان أو التوازن.

أنتم تعلمون جميعا أننا إذا رسمنا منحني للعلاقة بين شيئين قابلين للتغير، أي باصطلاح علماء الرياضيات إذا رسمنا علاقة بين متغيرين، فإننا نخصص لأولهما المنحني الأفقى، ونخصص للثاني المنحني الرأسى، ونرسم العلاقة علي هيئة منحني يتكون من النقاط المعبرة عن طبيعة العلاقة بين المتغيرين عند أي تغير في أحدهما. وتعلمون أيضا أن هذه العلاقة قد تتزايد وقد تتناقص.. ولكنها في الأغلب الأعم لا تمضي علي أي من هذين النوعين،وإنما تتأرجح بين الزيادة وبين النقصان!! وفي نقاط كثيرة وفي مواضع كثيرة لا تكون العلاقة محققة لما نرجوه منها.. ولكنها أيضا قد تحقق ما نؤمله في منطقة معينة ومحددة تماما.. فإذا فكرنا في الأمور بطريقة عكسية تراجعية وأخذنا هذه المنطقة علي أنها المستهدف وحددنا من خلالها قيمة كل من المتغيرين، فنحن نكون قد وصلنا إلي نقطة الاتزان.

دعونا من خلال هذا الفهم الناشئ عن تصور هذه العلاقات الرياضية نتأمل صياغة النقد فيما نصادف من أعمال نقدية.. ودعونا نختزل المتغيرات المكونة لهذه العلاقة في متغيرين وحيدين هما العلم والفن.. هل يمكن تحقيق نقد نموذجي إذا خصصنا للعلم 70% وخصصنا للفن 30%، أم أن هذا يتطلب 60% للفن و40% للعلم، أو 80% للفن و20% للعلم، و 50% لكل منهما.. إلخ هذه الاحتمالات التي لا تنتهى!! هل يمكن الوصول إلي «تقدير كميات» ثابت يمكن أن يكون بمثابة سر الصنعة في صياغة النقد؟

ها أنتم ترون أن النقطة المثلي نفسها وهي تكاد  تمثل سرا لا يمكن لأي تحليل رياضي أن يصل إليه.. إلا أن يكون الحصول علي هدي أو ضوء من النص المنقود ذاته.. أي من موضوع النقد.. وليس هذا بالأمر العجيب ولا الغريب ولا هو من معجزات النقد ولا من معجزات الأدب، إنما هي طبائع الأشياء التي خلقها وأبدعها خالق قادر جعل لكل منها خصائصه المميزة التي تميزه عن غيره من النظائر، وعلي سبيل المثال فقد أكون بحاجة إلي أن أذكركم بأن نقطة الغليان وهي إحدي الخصائص الفيزيائية المميزة نفسها تختلف من سائل إلي سائل، وتختلف كذلك تبعا لارتفاعنا عن مستوي سطح البحر.

هل وجدنا الآن مكانا للموهبة وللخبرة بين مقومات النقد؟

أم أنكم لازلتم تفضلون كما أفضل  أن تضعوا النقد كله ـ كما أفعل ـ فيما  بين الجناحين الممتدين للنقد الإبداعي والنقد المنهجى.

الدلالة  لا الظاهر

الملحوظة السابعة:  تتعلق بضرورة تأهيل أنفسنا بقدر ضخم وعميق وممتد من المعرفة باللغة ومعانيها وبنائها قبل أن ننطلق إلي تسجيل نقدنا علي نحو مكتوب وقابل للقراءة، ولايظنن أحدكم أني أضع بهذا عقبة أمام بدء نشاطكم النقدي ولكني ـ في الحقيقة ـ لاأهدف إلا إلي أن أستحثكم علي تقوية معرفتكم باللغة ودلالتها قبل أي شئ ، ذلك أن فهم اللغة ودلالتها بكل ما تعنيه هذه العبارة يمثل الركن الركين في النقد ، وبدون هذا الركن يفقد النقد شيئا لايعوض.

هل تأذنون لي الآن أن أنتقل بكم إلي نقطة متقدمة من فهم طبيعة النقد ودوره حين أتأمل معكم محوراً من  أهم المحاور المؤثرة في صياغة الرؤية النقدية.. ولن أطيل عليكم وانما سأكتفي بأن أشير  إشارة سريعة إلي حديث عابر عن مدي تقدير علماء اللغة والأدب للمصطلح الذي صاغه مالينوفسكي Context of Stituation: وهو المصطلح الذي يشير إلي دراسة دلالات الألفاظ من حيث تتنوع دلالاتها تبعا لموقعها من العبارات المختلفة.. وربما توافقون حضراتكم القائلين بأن البلاغيين العرب قد سبقوا إلي صياغة التعبير عن ذلك المعني بزمن بعيد وربما قبل مالينوفسكي بأكثر من عشرة قرون، حين قالوا «لكل مقام مقال»، و«لكل كلمة مع صاحبتها مقام».

وها أنتم ترون ثلاث كلمات تتطابق  كتابتنا لها إذا كتبناها بالحروف العربية.. فهي جميعا «كان».. ولكن هذه الكلمة تعني في اللغة العربية التعبير عن الفعل الذي وقع في الماضى.. وفي اللغة الإنجليزية تعني التعبير عن الاستطاعة، وفي اللغة الفرنسية تعني اسم مدينة شهيرة يعقد فيها المهرجان السينمائي الشهير، وإن اختلف نطقها بالطبع عن مثيلتيها في الكتابة (العربية والإنجليزية)، ولن نعدم لهذه الكلمة مدلولات مختلفة في كل لغة تقابلنا فهي كلمة من ثلاثة حروف أو من حرفين صائتين بينهما صامت.

بل إن الكلمة الواحدة تتعدد معانيها في اللغة الواحدة، وهذا أمر مفهوم وليس في حاجة إلي كثير  من الأمثلة.

ثم دعونا نخطو خطوة ثالثة لنجد أن الكلمة الواحدة ذات المعني المحدد تعني تبعا لمدلول الكلام عدة معاني مختلفة تماما.. خذوا مثلا كلمة ككلمة «الخليفة» بما تعنيه من معني واضح لنا جميعا.. ها أنتم ترون آية من آيات القرآن الكريم تتحدث عن آدم وذريته، أي عن الجنس البشري علي أنهم خليفة الله في الأرض: «إني جاعلك في الأرض خليفة»، وها أنتم تعرفون تمام المعرفة أن الخليفة يطلق علي الواحد من أولئك الراشدين الأخيار الذين خلفوا  رسول الله صلي الله عليه وسلم.. ثم ها أنتم تدركون أيضا أن لقب «الخليفة» في بلاد من ذوات الضرائح مثل مدينة طنطا يعني ذلك الرجل من تلك الأسرة المسئولة عن المهام المتعلقة بالضريح الكبير والاحتفال بمولده.. ثم أنتم تدركون أيضا ما نقصده بقولنا: إن فلانا خليفة فلان!! أي أنه يمضي علي نهجه، أو أنه هو الذي خلفه في المنصب… إلخ.

إذا استطعنا أن ندرك من حقائق علم الدلالة كل هذه المستويات المختلفة للدلالات وأظنكم تدرسون هذه المعاني لطلابكم بسهولة واقتدار، فليس بالصعب علينا أن نتأمل عبارة واحدة هي نفسها ذات العبارة بكل ما فيها من ألفاظ وتراكيب وترتيب وبناء وقد أعطت كثيرا من المعاني  المختلفة تماما حين وضعت في أنسجة مختلفة تماما من العبارات الأكبر.

وإذا تمكنا من أن نتجاوز ما يطلق عليه اسم المعني الحرفي الذي أمامنا إلي معني أعمق منه مهما تكن درجة هذا العمق، ومهما يكن صواب هذا التعمق، فإننا نكون قد نجحنا في أن نخطو خطوة صائبة من خطوات النقد.

لعلكم تدركون الآن أنني أريد أن أقول إن  فهم اللغة ودلالتها ضرورة أساسية للنقد، وأنه من دون أن نفهم الدلالات التي للألفاظ والعبارات فيما نعالج من نصوص، فإنه يستحيل علينا أن نمضي إلي نقد صائب تماما مهما أوتينا من وسائل نقدية كفيلة بتحقيق النجاح في النقد.

ومع هذا كله فإن في وسع الناقد المتمكن من أساليب النقد أن يصل إلي نقد ممتاز يلقي إعجاب  قرائه وزملائه جميعا، بينما هو قد أخطأ تماما في فهمه للنص إلي الحد الذي يضحك منه المطالعون للنقد الذي سجله وهم يضحكون لأنهم يعرفون حقيقة المدلول الذي غاب عن الناقد، ولم يكن للناقد ذنب فيه ومع هذا فإنه ليس له عذر فيه أيضا، كأنما الذنب لا يزول بالاعتذار ولا الاعتذار يغني عن الذنب، الموقف عندئذ شبيه بما حدث مع طبيب نفساني أمريكي كبير زار مستشفي قصر العيني (كلية طب جامعة القاهرة)، وبينما هو يتجول مع العميد والأساتذة عند غروب الشمس لمح أحد المرضي يتمشي بين الحدائق وقد ارتدي بيجامة فما كان من الأستاذ إلا أن صاح معلنا اكتشافه لحالة من حالات السير في أثناء النوم.. بينما كانت المسألة في منتهي البساطة، وهي كما تعلمون جميعا لا تعدو تلك النزهة اليومية التي تسعد كل مريض من هؤلاء البسطاء الذين هم فخورون بتلك البيجامة التي هي أغلي ما يملك من ثياب.

فأنتم ترون أن كل الملابسات والظروف التي دفعت الأستاذ النفساني الكبير كانت مؤهلة لحكمه أو تشخصيه، وأنه فيما أوتي من علم ومن معطيات، لم يجاوز النجاح والصواب والتشخيص الدقيق فيما تعلم وعلم، ولكنه لم يصل إلي الصواب لسبب واحد وهو إغفاله ما قد يسمي بالمقام أو ما قد يسمي  بـ«Context of Stituation».

 العدل أقرب منالا من الحق

الملحوظة الثامنة : ترتبط بعبارة لن أسأم من ترديدها، وهي أن النقد في أحكامه شىء قريب تماما من فكرة المتوسط الحسابى.. أنتم جميعا تعلمون أننا إذا أردنا أن نأخذ متوسط عدد الحاضرين يوميا في هذه القاعة  من خلال حساب أعداد الحاضرين في الأيام الثلاثة الماضية، فسوف نجد أن هذا المتوسط يساوي 22 + 20 + 23 علي 3، أي يساوي 66.21%.. أنتم تعلمون أنه يستحيل أن يكون عدد الحاضرين 66.21% (إلا إذا كان المعني كوميديا رمزيا يتعلق بحضور الإنسان بينما عقله غائب مثلا عن الحضور ويرتبط بأننا اعتبرنا أن الإنسان الحاضر بينما عقله غائب يساوي ثلثي إنسان).. مع هذا فإن المتوسط الحسابي يظل يتمتع بالاحترام الدائم لتعبيره القريب عن الحقيقة في أضبط صورها!

ومع أن المتوسط الحسابي قد لا يمثل الحقيقة أبدا إلا أنه يظل مع ذلك بمثابة أصدق تعبير عن الحقيقة.

وهذا هو الوضع النموذجي الذي يطلب من النقد أن يكون أصدق ما يمكن ـ أن يكون ـ في التعبير عن قيمة هذا العمل.. لأنه لا سبيل إلي الصدق المطلق.

لا أحب أن أفيض في الحديث عن معني القيم النسبية والقيم المطلقة، ولا في الحديث الذي قد يحلو لكم جميعا أن ترددوه وأنتم توشونه بظلال من الأسف علي الظروف التي جعلت بحوثكم في العلوم الإنسانية والاجتماعية تفتقد بعض الشىء إلي دقة الحقائق علي نحو ما هي متوافرة في العلوم الطبيعية.. ولكني مع هذا سأذكركم بمعنيين واضحين في هذا المجال..

الأول هو الفرق بين الحق والعدل.. فالحق هو تلك القيمة المطلقة التي لا سبيل إلي انتقاصها أبدا.. الحق حق والباطل باطل..

أما العدل فهو القيمة التي بمقتضاها نتمكن من إعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم في ظل تنسيق كفيل بالحفاظ علي حقوق الآخرين في ذات الوقت وذلك من أجل أمن اجتماعي كفيل باستقرار المجتمع.. قد يبتعد بنا العدل عن الحق، ولكنه لا يبتعد إلا ليحقق أو يحق حقا آخر هو الأولي بالوجود أو الأقدر علي الوجود.

ألا تتذكرون حضراتكم تلك العبارة التي نتقبلها ونكررها فنقول إن المساواة في الظلم عدل!!

هل يستطيع أحد منا جميعا أن يتجرأ ليقول إن المساواة في الظلم حق؟!

لا أظن.. ومع هذا فإننا جميعا نوافق تمام الموافقة علي أن المساواة في الظلم عدل!

تذكروا حضراتكم أيها السادة والسيدات أنه إذا كان لكم أن تتغيّوا قيمة عليا من القيمتين في قيمكم النقدية، فإنه لا سبيل أمامكم إلا أن تتغيّوا العدل لا الحق.. لأنه لا يمكن لكم أن تتركوا الممكن من أجل المستحيل الذي لن تطيقوه ولن تحققوه أيضا.

أما المعني الثاني الذي أود أن أشير لكم إليه فهو الفارق بين المقاييس والمعايير، ولن أثقل عليكم بكثير من مصطلحات العلوم الطبيعية، ولكني سأمضي بكم مباشرة إلي مثل حى.. أنتم تعلمون أن هذا المتر الذي عند الترزي وعند بائع القماش شىء ثابت المقدار.. ولكنكم قد تتساءلون ماذا يحدث إذا اختلف اثنان من هؤلاء وكانت نقطة الخلاف: أي المترين أكثر انضباطا؟؟ إلي مَنْ يحتكمون؟

أنتم تعلمون أن نفس القصة قد تحدث أيضا في وحدات قياس الكتلة أي الكيلوجرامات.. هل يجوز أن يختلف ذلك الكيلوجرام الذي عند تاجر التجزئة عن ذلك الذي عند تاجر الجملة؟

لعلكم تعرفون جميعا أن هناك مصلحة لدمغ الموازين والمكاييل تتولي إعادة اختبار هذه المقاييس من آن لآخر للتأكد من مطابقة هذه المقاييس للمقاييس الأصلية.

لعلكم تتساءلون بعد هذا : هل هناك متر أصلى؟ نعم هناك متر أصلى.. إنه محفوظ في ظروف محددة تماما في متحف في مدينة سيفر بالقرب من باريس، وتعريف المتر في وحدات القياس الدولية هو أنه ذلك الطول من مادة معينة في درجة حرارة معينة.. إلخ، وهو تعريف معقد جدا يصعب علي غير الفيزيائيين حفظ مفرداته، ولو سمعتموه علي حقيقته لكفرتم بالمتر تماما.. وهكذا يعرف الجرام.

لا مجال إذن علي الإطلاق لأن يحدث اختلاف في المقاييس، فإذا حدث فإنه لن يعدو انحرافا ضئيل الشأن عن قيمة واضحة محددة ثابتة.

أما المعايير فلها قصة أخرى.. إنها مقاييس نسبية ( تذكروا حضراتكم القيم المطلقة والقيم النسبية) نصنعها أو نصفها ولنا أن نطورها ونحورها من دون أن نخل بالحقوق الأخري  أو القيم الأخرى.. وكلما ابتعدنا عن القيم المطلقة في معاييرنا فقدت هذه المعايير قيمتها، وكلما اقتربنا بها من المقاييس وطبائعها زاد الاحترام الذي لهذه المعايير حتي يميل الآخرون إلي أن يعتبروا هذه المعايير أو ينظروا إليها علي أنها من المقاييس لا من المعايير.. تماما كما يتاح للعدل أن يصبح وكأنه هو الحق.. ومع هذا فإن من المعايير ما يكون في نظر بعضنا ظالما أشد الظلم مجحفا أشد الإجحاف.. ولكننا إذا أحسنا التصرف من خلاله وساوينا بين النصوص المختلفة في إخضاعها له وصلنا في النهاية إلي نقد ذي معني حتي وإن لم يكن هو النقد الحق!!

لأن المساواة في الظلم ـ كما اتفقنا ـ عدل وإن لم تكن حقاً.

أظنكم بعد هذه الملحوظات السبعة في حاجة إلي أن تستمعوا مني إلي الإجابة علي السؤال الذي تردد في الطرقات قبل أن نبدأ هذا اللقاء : ماهي مكانة العروض الصحفية من النقد ، وهل يكفي أن نعرف بالعمل دون أن ننطلق إلي تقييمه ؟ وجوابي علي هذا صريح ومباشر وهو أن أولي صور النقد أو وظائفه – علي ما أعتقد الآن وعلي ما اعتقدت من قبل –  هو التعريف، بل ربما كان النقد في النهاية لا يستهدف إلا التعريف، سواء التعريف بالعمل أو بالقدرات التي فيه، أو التعريف بما ينبغي لقارئ النقد أن ينميه في ذوقه وثقافته حتي يصبح قادرا علي فهم أكثر للعمل الأدبي أو الفني الذي يتلقاه أو يصادفه. بل إن النقد في حقيقته ليس إلا وسيلة متقدمة وأكثر رقيا وتعقيدا لتوصيل المعرفة إلي متلقيها علي نحو أكثر إحاطة وأعمق فكرا إذ تتناولها يد أخري غير اليد التي أنتجتها فتضيف إليها طبقة جديدة من المعرفة التي يستفيد منها المتلقي النهائى، وربما وجد المتلقي النهائي أنه أحس بما أحس به الناقد، أو شعر بما شعر به، أو فكر فيما فكر فيه، أو تردد فيما تردد فيه، أو جال بخاطره ما جال بخاطره، أو تمني ما تمناه، أو ترجي ما ترجاه، أو استنكر ما استنكره، أو استهجن ما استهجنه، وربما وجد المتلقي النهائي الناقد وقد صاغ له تعبيرا جميلا أو دقيقا عن معني مر بخاطره أو فكر فيه أو حام حوله من دون أن يصل إلي دقة الناقد ومهارته وخبرته وقدرته أو شاعريته في التعبير عنه، وربما لفت الناقد نظر المتلقي إلي ما لم يكن قادراً علي الالتفات إليه من المرة الأولي للتلقى، وربما استطاع الناقد أن يبلور للمتلقي فكرة عن مكانة العمل الفني أو الأدبي من الأعمال المناظرة، وعندئذ يستطيع المتلقي أن يحيط علما بصورة الفنون علي نحو ما هي متدرجة أو علي نحو ما هي محيطة بالمحاولات الفنية التي تدور في نطاق من نطاقات تناول الفن علي سبيل المثال.

بل إن الناقد الحق قادر علي أن يصحح للمتلقي الانطباعات الأولية أو الابتدائية التي كونها عن العمل الفني الذي أمامه، وقادر أيضا علي أن يمكن المتلقي من القدرة علي تفسير الأحداث بأكثر من تفسير حين يجد نفسه مقتنعا بما قدمه الناقد وبنفس الدرجة مقتنعا بما توصل إليه هو نفسه من تفسير قبل أن يقرأ أو يتلقي ما كتبه الناقد.

كأنكم ترونني الآن أشبه ما أكون بمن يتحدث عن أداء شاعر وعما يفعله الشاعر فيما يراه وينقله برؤيته هو وصياغته هو فيما ينظم من شعر، ولست أظنكم مبالغين ولا متطرفين فيما فهمتم من حديثى، فجوهر رأيي أن الناقد يفعل بالأدب ما يفعله الشاعر بالطبيعة تماماً بتمام.

وفي كل هذه التفصيلات التي ذكرتها منذ قليل فإن النقد الحقيقي قادر علي أن يقوم بكل الوظائف التي يقوم بها الإبداع، سواء في ذلك الوظائف الجمالية أو القيمية أو التربوية أو المعرفية، وربما يتفوق النقد الحقيقي الفذ في قدرته علي القيام بهذه الوظائف علي الأدب الفذ، بيد أنه في جميع الأحوال يضيف إلي الأدب والفن ولا ينتقص منهما.

ومع هذا كله فإن النقد بالإضافة إلي هذه الوظيفة النبيلة الجميلة قادر علي أن يقوم بالوظيفة التي لن نسميها الآن، لكننا سنبدأ بوصفها بأنها الوظيفة التي يعشقها طلاب الثقافة المصرية المعاصرة من الذين يميلون إلي المذهبية الواضحة ويتخذونها سلاحاً يحافظون بها علي موقف متقدم وموقع عال ينظرون منه ـ في أثناء المناقشات ـ إلي الآخرين ـ أيا كانوا  ـ وكأنهم دونهم، ويعتبرون هذا كافيا لهم وجامعا بينهم.

وربما نبسط القول فنقول إن هذه الوظيفة هي وظيفة التصنيف الأيديولوجى، وهي وظيفة من الوظائف التي يقدر النقد علي أدائها بسهولة، بيد أن اقتصاره في أدائه علي القيام بهذه الوظيفة ـ وقد حدث ـ كفيل بأن يمثل مأساة كبري تصيب الأدب والفن والنقد نفسه في مقتل، ولست أظن أن أحدا من المثقفين المصريين جميعا يتقبل نتيجة نهائية لقصر النقد علي مهمة التوظيف الأيديولوجى!!

وليس سرا أن هذا التوصيف الأيديولوجي مرض يتنامي في خطورته حتي يصبح سائداً ومتسيداً لقلم مَنْ يأخذون به، فإذا هم لا ينظرون إلي أي عمل إلا من منظار ضيق جدا ذي عدسة وحيدة الوظيفة، فإذا كان صاحب العمل من أنصار الأيديولوجية التي ينتصرون لها فله أن ينال من الترحيب والثناء والتقريظ بقدر انتمائه الأيديولوجى، وإذا لم يكن من هؤلاء فلابد من تجاهله تماما، أما إذا كان قد حقق وجودا من قبل فلابد من محاولة هدمه والهجوم عليه، وتلويث أدواته بتهم لا نهاية لها، ثم السخرية من كل ما قدم، والغمز واللمز في أغراضه وفي غير أغراضه.

وهكذا تتوافر لبعض النقاد الصحفيين من ذوي الميول الأيديولوجية قدرة رائعة «لكنها مكشوفة» علي إظهار قمة العظمة «الكاذبة» في الحكم علي الأمور.فهم لا يمدحون كل شىء، ولا يهاجمون كل شىء، ولا يتجاهلون كل شىء، وإنما هم يوزعون هذه المواقف الثلاثة بقسطاس معروف يزين للقارئ خالي الذهن أنهم قضاة عادلون متزنون: يمدحون ويهاجمون ويتجاهلون تبعا لقيمة العمل، بينما حقيقة الأمر أنهم يفعلون هذا بمنطق عنصري بحت يكفيهم فيه اسم صاحب العمل أو اسم من أوصي علي العمل إيجابا أو سلبا.

ومن نعم الله الكبري ومن حسن الحظ أن غالبية المثقفين المصريين يدركون حقيقة هذه الأمور، بل يدركون تفصيلاتها بنسبة كبيرة جدا، وهم لا يتوقفون عند المدح، ولا عند الهجاء، ولا عند التجاهل، وإنما يأخذون مما يطالعون ما توحي به معرفتهم المسبقة، فإذا رأوا هجوما أدركوا أن صاحب العمل ليس من أيديولوجية «صاحب» الصفحة الأدبية، وإذا رأوا مديحا لقلم ناشئ أدركوا أن صاحب القلم الجديد قد دشن نفسه في معسكر القوي الداعية الى الصراع الطبقي والواصفة نفسها بأنها القوي المحبة للسلام.. وهكذا.

 

علي أني بعد كل هذه المناقشات والملاحظات والإجابات  أجد نفسي مضطرا إلي أن ألخص لكم سر نجاح الناقد في ممارسته لنقده، وهو موضوع أحد الأسئلة التي طرحتموها علىّ، ولست أظن نفسي قادرا علي أن أدعي أني كفيل لكم بالإبانة عن هذا السر، ومع هذا فإن من واجبي ألا أبخل عليكم بمعتقدي في هذا الموضوع، وخلاصة القول إن هذا السر يتمثل في أربعة عناصر أساسية:

العنصر الأول: أن يبحث الناقد فيما يعالجه من أدب أو فن أو تاريخ عن عوامل التميز في العمل الذي أمامه مهما كان شأن هذه العوامل أو قدرها ضئيلا، فإذا لم يجد هذه العوامل فإن عليه أن يعيد البحث، فإذا لم يجد هذه العوامل فإن عليه أن يبحث للمرة الثالثة، فإن فشل فإن عليه أن يبتعد بعض الوقت عن العمل ويعود إليه ليبحث عما يمكن أن يكون عاملا من عوامل التميز.. وهكذا فإذا فشل في كل محاولاته فإن عليه أن يبدأ التفكير في الأسباب التي دفعت إلي انعدام التميز، ولا يعني هذا أن يؤجل التفكير في هذه الأسباب إلي المرحلة الخامسة من التفكير، بل ربما إنه يكتشفها منذ القراءة الأولي أو المشاهدة الأولي ويدرك بكل تأكيد أن انعدام التميز لم يأت إلا نتيجة التقليد وأن العمل فشل في التقليد أو نجح فيه علي نحو آخر، أو أنه طور أو أضاف أو قدم وأخر، وهنا يجد الناقد نفسه يمارس ما نسميه الموازنة (بين الأدباء في نفس اللغة) أو الأدب المقارن (بين الأدباء والفنانين من لغات أخرى)، ويأتي هذا كنتيجة طبيعية للبحث عن عوامل التميز، وينبغي أن يوطن الناقد نفسه علي أن الأعمال الأدبية وكذلك الأدباء أنفسهم ربما يتشابهون ويتطابقون ويتماثلون ويتناظرون ولكنهم مع هذا يظلون بشرا وفي كل واحد منهم بصمة إصبع خاصة به تميزه عن غيره من البشر، وهكذا أعمالهم الأدبية، ولهذا فلابد أن يدرب الناقد حواسه وعقله علي إدراك هذا التمايز الأكيد والتعبير عنه.

وفي عقيدتي أن البحث عن «التميز» كفيل بالكشف عن الشخصية وراء كل عمل أدبي أو فني أو تاريخى، مهما كان أمر هذا التميز ضئيلا علي نحو ما ذكرت من قبل، وبوسع الناقد القدير أن ينطلق من عناصر ضيئلة إلي آفاق رحبة للنقد الرفيع.

العنصر الثانى: هو أن يحترم الناقد جهد المبدع مهما بدا له من ضآلة قدر هذا الجهد، أو من ضلاله للطريق الصائب، وبوسع الناقد الذكي أن يكتشف في كل ضلال رغبة في الهداية، وفي كل خطأ رغبة في الصواب، وفي كل تحول تحولا آخر سابقا عليه، وإذا ما استطاع الناقد أن يروض نفسه علي احترام جهد الآخرين، فإنه قادر حتي علي الهجوم القاسي عليهم إذا أراد، لأنه يستطيع عندئذ أن يصور مدي نجاحهم لو أنهم (علي سبيل المثال) سلكوا نفس الطريق في الاتجاه المعاكس، كما أنه يستطيع بكل لباقة أن يصور مدي النجاح الذي افتقدوه وعندئذ يدرك القارئ بطريقة استنتاجية مدي الفشل الذي أحرزوه.. وهكذا.

كذلك فإن في وسع الناقد أن يصور ضآلة الجهد وأن يصور الأسباب التي دفعت المبدع إلي ضآلة الجهد هذه، وبهذا فإنه بطريقة غير مباشرة يوحي بكل وضوح بمدي استخفاف المبدع بإبداع نفسه وبتلقي قرائه لإنتاجهü.

العنصر الثالث: هو أن يعتبر الناقد نفسه في مرتبة أعلي من مرتبة المدرس ومن مرتبة مقدر الدرجات في الامتحانات العامة،، وفي ذات الوقت وبالموازاة لهذا الاعتبار فإن عليه من ناحية أخري ألا يعتبر نفسه في مرتبة أعلي من مرتبة الإبداع نفسه، فالمدرس يصحح للطالب أخطاءه في نفس الكراسة، ويطلعه علي هذه الأخطاء، ومقدر الدرجات لا يعني بتصحيح الأخطاء ولكنه يقدر ما يستحق الطالب من تقدير بطريقة رقمية، وليست هذه أو تلك وظيفة الناقد، وإن كان هذا لا يمنع أنها تمثل بعض البعض في وظيفة الناقد، فمن واجبه ـ ولا نقول من حقه ـ أن يشير إلي الأخطاء، ومن حقه ـ ولا نقول من واجبه ـ أن يقدر قيمة الأعمال بطريقة رقمية عشرية ومئوية، لكن هذا يأتي كعملية جزئية ضمن عملية أكبر بكثير من مجرد التصحيح وإعطاء الدرجات، ولهذا فإن الناس قد يستمتعون بقراءة ناقد يحصي علي المبدع أخطاءه ويخرج من هذه الأخطاء بحكم عام أو خاص، ولكن هذه المحاولة النقدية تظل تسبح في إطار من عملية تصحيح الكراسة ليس إلا، ومجمل القول أن عملية تصويب الأخطاء ليست إلا نواة من نواة ذرة النقد، ولكنها مجرد نواة لم تصل بعد إلي أن تكون ذرة، ولا أن تكون جزىء عنصر.

علي أن هذا المعني ليس وحده هو الذي أريد إيضاحه، إنما ينبغي للناقد أن ينظر إلي وظيفته من بداية أخري غير بداية اكتشاف الأخطاء وتصحيحها، أي أن ينطلق من مفهوم آخر للعلاقة بينه وبين العمل الإبداعي من ناحية، والمبدع من ناحية أخرى.. وأظنكم تريدون الآن أن تقولوا إنني ألف وأدور وأناور كي أقول إن هذه العلاقة لا يمكن أن تكون «سلطوية»، وإذا أردتم أن تبلوروا وجهة نظري في هذه الجملة أو العبارة فإني لا أمانع.

العنصر الرابع: والأهم من هذا كله ، وربما هو أهم ما  في هذه المحاضرة ، هو أن يدرك الناقد مدي مسئوليته عن ذوق الأمة والجماعة التي ينتمي إليها، فكما أن الشرطة تعني بالحفاظ علي الأمن، وكما أن القضاء يعني بالحفاظ علي العدالة، وكما أن الصحافة تعني بإتاحة الحقيقة مهما يكن أمرها، وكما أن الدين يعني بالحفاظ علي الأخلاق العامة والخاصة، فإن «الناقد» في البنيان الحضاري هو المسئول الأول عن الذوق.

ورأيي وقد أكون مخطأ أن «النقد» عملية كفاح انسانية من أجل «الذوق» ، وأن الناقد الأول في وطن من الأوطان لابد أن يمثل سلطة معنوية فيما يتعلق بذوق الوطن علي نحو ما نجد من سلطة الببليوجرافي الأول في الولايات المتحدة أو الجراح العمومي في الولايات المتحدة  أيضاً .

وإذا رأيتم أمة قد انحط ذوقها فاعلموا أن نقادها [ في الفترة السابقة علي الفترة التي تعيشها ] قد قصروا في أداء وظائفهم، وربما يبدي هؤلاء النقاد المقصرون عذرا أمام محكمة التاريخ، وربما تتقبل المحكمة العذر فتمنحهم  نوعا من أنواع الرأفة ، ولكن هذا لا يخلصهم من المسئولية عن فساد الذوق، وربما ـ وهذا وارد ـ أن الظروف السياسية كانت هي التي حالت بينهم وبين أداء وظائفهم، فهي المسئولة الأولي عن فساد الذوق، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن  أداتها في إفساد الذوق لم تكن إلا تقييد النقاد، ولسنا نستطيع أن نطلب من النقاد أن يستشهدوا من أجل النقد ولا من أجل الذوق، فهذا خارج عن حدود العقل والمعقولية، وبخاصة أن «الذوق» يبدو لكثير من البشر ومنهم كثير من الحكام وكثير من السياسيين وكأنه شيئ خارج «حقوق الإنسان» الأساسية، ويتكرس هذا المفهوم في ظل انحطاط الذوق نفسه، فكأن الذوق هو وحده الكفيل بتوليد الذوق، وهذه حقيقة لاشك فيها، لكننا نستطيع أيضاً أن ننبه الدول إلي أنها بتقييد حرية وحركة وقلم النقاد ، أو بتقييد بعض هذا تنحط بالذوق مع ما يستتبع هذا من انحطاط الحضارة، ومع هذا فإن الدول التي تدرك هذا تدركه بالسليقة، علي حين أن الدول التي تدرك هذا بالقراءة تتغاضي عنه بالإهمال. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com