الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقدمة د. الجوادي لكتاب على هوامش الأدب

مقدمة د. الجوادي لكتاب على هوامش الأدب

الأدب أشهر من أن يعرّف، وهوامشه بالتالي أعرض من أن تحدد.

يمتد الأدب بمظلته ليشمل كل ما له قيمة مما ينطقه الإنسان أو يكتبه، وكذلك تمتد هوامشه لتحيط بهذا كله: تجلو، وتفسر، وتمنطق، وتؤول، وتعرّف، وتشرح، وتشّرح، وتركب، وتقارن، وتوازن، وتؤرخ، وتحلل، وتفاضل، وتناظر، وتصف، وتوصف، وتحسن، وتقبح، وتعلى، وتخفض، وتمدح، وتقدح، وتقيم، وتقوم، ولكنها مع كل هذه الوظائف ـ وغيرها ـ لا تستطيع  أن تحذف من النص الأدبي ما هو فيه حتي إن استطاعت أن تكشف عن انتحال بعض أجزائه، كما أنها لا تستطيع أن تضيف إلى النص الأدبي ما ليس فيه حتي إن كانت الإضافة التي تأتي بها الهوامش لازمة إلي الحد الذي لا يستقيم من دونها فهم النص الأدبي (بل قد لا يستقيم كيانه ووجوده نفسه).

وقد تكون بعض هوامش الأدب أدباً، بل قد تعلو القيمة الأدبية لبعض الهوامش عن النص ذاته، ولكن هذا يستبقي لها قيمتها من حيث هي نص من دون أن يجعلها هي والنص شيئا واحدا أو سواء بسواء، ولهذا فإن الأذكياء من أصحاب الهوامش يصرون علي أنها هوامش ولا يندفعون بنزق غيرهم إلي أن يجعلوا هوامشهم نصوصا، ومن ثم فإنهم يظلون طيلة فترة إبداعهم أو إنتاجهم حريصين علي أن يخرجوا بهوامشهم إلي حيث ينبغي أن تكون وأن يجعلوها حيث هي هوامش، وهم يفعلون هذا عن وعي بأن بعض الهوامش قد تكون أكثر قيمة من النصوص التي تتعرض لها، ولكنهم يدركون أن النص الأصلي شيء، وأن الهامش شيء آخر.

وهوامش الأدب تتسع لتشمل أنواعا كثيرة من النقد وأشباه النقد، ولكن النقد وحده لا يمثل كل هوامش الأدب، كذلك فإن الدراسات الأدبية لا تستطيع أن تستولي على كل هوامش الأدب التي تتسع للملاحظات العابرة دون أن تطلب (أي الهوامش) إلى هذه الملاحظات أن تؤيد نفسها بدراسات أدبية.

كذلك تتسع هوامش الأدب للعلم والتاريخ بل للفقه والقانون، ولا تقف حدود الهوامش عند ما هو متاح من هامش «مساحي»، فبوسع هذا الهامش أن يمتد من جميع الجهات إلى ما شاء له الامتداد دون أن تملك أية سلطة القوة القادرة على فرض حصار عليه.

كذلك فإن الهوامش نفسها تتقبل الهوامش، وفي تراث الحضارة الإسلامية كانت كثير من كتب العلوم الشرعية واللغوية تشمل المتن ثم الشرح ثم الحاشية على الشرح ثم التعليق عل الحاشية، بل إن بعض هذه الكتب كانت تُنسخ ضامة شرحين مختلفين لنفس النص، وكان هذا في الغالب من فضل القرآن الكريم على اللغة العربية وتراثها الأدبي حيث كانت التفاسير تتعدد ويُجمع بين بعضها في نسخة واحدة.

علي أن ما يهمنا في هذا الجانب هو أن النقد نفسه يتقبل النقد، كذلك يتقبل نقد النقد النقد، وقد أردت حتى في ترتيبي لفصول هذا الكتاب أن أؤكد هذا المعني فجعلت النصوص التي تناولت بها كتب الدراسات الأدبية تأتي قبل الفصول التي تناولت بها الأعمال الإبداعية. وإذا صح أن في هذا بعض التزيد فإنه نتيجة لعجبي من تنامي ظن بعض المشتغلين المعاصرين بالصحافة الأدبية من أن كتب النصوص النقدية والدراسات الأدبية لا تحتمل التعليق ولا تستأهله، وعقيدتي أن مثل هذا الظن المسيطر على جيل من وراء جيل آخر سيصبح بمثابة واحد من أهم أسباب تدهور الحياة الأدبية نفسها.

وقد حاولت أن أوجز في هذه المقدمة بقدر ما أستطيع، وأن أجعلها بمثابة «تصدير» لهذا الكتاب فحسب، ذلك أني خصصت الباب الأول من هذا الكتاب لعرض بعض آرائي العامة في ماهية النقد، وهي آراء عامة العمومية ليس فيها أي قدر من التخصص ولا أية مسحة منه، وقد أردت بهذه الآراء أن أيسر علي أقراني وزملائي من أصحاب المهن المختلفة نظرتهم إلي الأدب وأن أشجعهم علي أن ينظروا بقدر أكبر من الاحترام لقدرتهم علي إبداء الآراء وصياغتها فيما يتلقون من فنون الأدب مكتوبا أو ملقي أو ممثلا علي المسرح أو السينما أو الشاشة الصغيرة أو علي شبكات الإنترنت.

ولا أخفي أني سأعتبر نفسي قد حققت غاية النجاح إذا أنا استطعت أن أزيل من عند بعض قراءي الرهبة من أن يمارسوا بعض النقد، والخوف من أن يكون شيئا محرما عليهم أو مغلقا دونهم.

وإذا جاز اللجوء إلى التبسيط فإني أحاول أن أجعل القراء يتناولون النصوص الأدبية بنفس الروح القادرة على اكتشاف ما يعتريها من قصور يحول بينها وبين الأداء المثالي، ولا يستقيم هذا بالطبع من دون أن أحاول الأخذ بيد هؤلاء القراء لإدراك مناحي العظمة والرقي في الأداء النموذجي من دون أن يعني هذا رفعا من قيمة نص على نص إلا من حيث ما احتواه من مزايا وتمكن فيه من سجايا.

فإذا جاز التشبيه بعد هذا من أجل مزيد من التبسيط والإيضاح فإنما شأني شأن الشقيق الذي تمرس بقيادة السيارات، وهو يطلع شقيقه على جوانب الاكتمال في أداء السيارة وقيادتها من ناحية، كما أنه يطلعه من ناحية أخري على جوانب القصور في هذا الأداء وعلام تدل.

ولا يستقيم هذا بالطبع إلا بقدر من السير معا بالسيارة، وهو ما أحاول أن أفعله في فصول هذا الكتاب.

وفي كتابنا هذا نقدم للقارئ مجموعة مختلفة من الكتابات على هوامش الأدب، سواء في هذا ما كتبه الأدباء ودارسو الأدب ونقاده من دراسات أدبية أو تراجم أو شعر أو مسرح أو رواية أو قصة أو مقال، بل إننا نمتد للحديث عن محاولة رائدة لكتابة مرجع عن صناعة المعجم اللغوي الحديث، بل للحديث عن معجم جديد وموسوعة جديدة.

ولا يكتفي كتابنا بهذا.. لكنه يقدم مجموعة من المقالات التي تتناول الحياة الصحفية من حيث هي أهم أوعية الأدب في العصر الذي نعيشه، ويتفرع في هذه المجموعة حديث ذو زوايا متعددة عن الصحافة والحرية، والصحافة والقانون، وعن وكالة الأنباء، كما يناقش تجربتين مهمتين يتضمنهما مقالان كتبا في الترحيب بإصدار طبعة عربية من مجلة عالمية، وفي تقييم إصدار قدر له أن يصبح ليبرالي التوجه وذلك في مناسبة مرور 4 سنوات من عمره، ومن ناحية أخري نعرض لأزمة النشر، ولمستقبل النشر العلمي.

والواقع أن هذا الكتاب عزيز علي قلبي لأنه ظل فترة طويلة في ذهني ينتظر اليوم الذي يكون فيه علي هذه الصورة، أي علي الورق، وفضلاً عن هذا فإن ما سجل منه علي الورق كان مبعثرا هناك وهنالك علي مدي خمس عشرة سنة، ولم يكن جمع مادته بالأمر السهل، كذلك فإن فصوله تمثل ما استطعت جمعه والعثور عليه من كتابات فترة شباب ماضية لم يكن المرء يكف فيها عن المشاهدة والملاحظة والقراءة وتسجيل كل ما يعن له من ملاحظات نقدية أو تعريفية في الأساس، وقد كنت أتمني أن أجمع كل هذه الكتابات النقدية المبكرة بين دفتي كتاب واحد، وقد وفقني الله ـ اليوم إلي جمع بعض هذه الفصول ومازلت أتمني أن أوفق في جمع فصول أخري لم أعثر لا علي أصولها ولا علي صور منها، وإن الإنسان ليعجب من أن تأخذه حركة الحياة عن أن يدرك أهمية العناية بأصول ما يكتب، ولكن الغرور يصور للإنسان أن ما كتبه سيبقى، لأنه سينشر، ولأن ما هو منشور يحظى بالتالي بالخلود، ولكن ما هو السبيل إلي الوصول إلي ما هو منشور، وما هو السبيل إلي الوصول إلي أصول ما لم ينشر، هذا هو السؤال.

وسوف يلاحظ القارئ فيما كتبت روحا حريصة على الإنصاف بقدر المستطاع، ومع هذا فإن سورة الشباب وعنفه (كما يقولون) لا تزال تتبدي في كثير من فقرات بعض المقالات أو الفصول التي يضمها هذا الكتاب.

ولست أنكر أنني أعدت كتابة كل هذه الفصول لتكون أقرب إلي ذوق القارئ المعاصر وفهمه، ولتكون أقرب إلى النضج ولتكون أخلي من العبارات أو التعبيرات «الوحشية» والصياغات القديمة للجمل، فقد كنت في تلك الفترة السابقة من حياتي أقفز على بعض المعاني وبعض الجزئيات متصورا أن بإمكان القارئ أن يدرك ما أقصد، فلما مرّ الزمن بي أدركت أن من واجبي أن أكون واضحا بقدر المستطاع حتى لو شكا بعض الأذكياء من أني أفرط في الشرح والتوضيح.

 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com