الرئيسية / المكتبة الصحفية / قاموس « المكنز الكبير »:  فتح عظيم في عالم المعجمات العربية  

قاموس « المكنز الكبير »:  فتح عظيم في عالم المعجمات العربية  

منذ أكثر من ثلاثة أعوام أتاح لي الاستاذ  مصطفى نبيل رئيس تحرير الهلال  شرف الكتابة عن عمل جليل قدمه الدكتور أحمد مختار عمر للمكتبة العربية بعنوان «صناعة المعجم الحديث»، وتمنيت على الله أن يهيئ لنا على يد هذا العالم الجليل عملا علميا ضخما يضاف إلى رصيده في وضع معجم «لاروس»، وها قد حقق الله هذا الأمل بإصدار الدكتور أحمد مختار عمر لعمله الموسوعي الضخم «المكنز الكبير»، وهو كما كتب على غلافه في جملة واحدة ثرية بالإيحاء بالمعني المكثف: «معجم شامل للمجالات والمترادفات والمتضادات».

وليس من سبيل إلى وصف هذا المعجم الفريد الجديد إلا وصفه بأنه مجموعة معاجم في معجم واحد، بل إن هذا الوصف لا يوفيه حقه من التقدير، فهو لا يجمع هذه المعاجم معاً ولا يضيفها إلي بعضها أو ينسقها، لكنه يفعل ما هو أرقي وأنقي وأعقد وأعرض وأروع وأرفع من هذا بكثير، إنه يقدم مستويات متعددة من العمل المعجمي في نفس اللحظة، وكأنه صورة متقدمة من فن التصوير الذي كان يُعرف ـ ولا يزال ـ بأنه الإيحاء بوجود بُعد ثالث، فإذا بهذا «المكنز» يقدم لنا كل الأبعاد الممكنة وغير الممكنة بما فيها بالطبع البُعد الرابع المرتبط بالزمن بل بما فيها بعض ما لا تتكفل به إلا الحاسة السادسة.. وهو يفعل هذا من خلال فكرة ذكية تعمد إلي استغلال كل مدخل لكل ما يمكن من استخدام وتوظيف لغوي وأدبي ودلالي بل ومجازي أيضاً.

بهذه الفكرة الذكية التي قد تبدو ـ الآن وبعد إنجازه عمله العظيم ـ بسيطة تمكن هذا العالم الجليل من أن يطوع مفردات اللغة وجذورها لقراءة جديدة تنطلق من حيث تبدأ كي لا تنتهي إلا وقد أحاطت باللغة واستقصتها استقصاء علميا محددا كفيلا بأن يستوعب كل ما هو متصل بالمدخل من قريب أو بعيد.

ولا يظنن ظان أن عصر المعلومات وحده كان كفيلا بأن يحقق هذا الذي تمكن الدكتور أحمد مختار عمر من تحقيقه، ولا يظنن ظان آخر أن مثل هذا الجهد ليس إلا نتاج مؤسسة ونتاج روح المؤسسة، ولا يظنن ظان ثالث أن مثل هذا الجهد قابل للتكرار أو الاحتذاء أو التقليد.. ذلك أن سر وجود هذا العمل علي نحو ما وجد عليه لم يكن إلا «الروح» ولم يكن روح ذلك العمل إلا هذا العالم الجليل نفسه الذي تواضع فوصف دوره علي غلاف المعجم بأنه رئيس فريق المتخصصين بينما هو روح المكنز، ولولا هذه الروح ما قدر للمكنز أن يكون علي هذا النحو الذي وجد عليه كيانا معجميا حيا نابضا بالحياة والحركة والإبداع والفهم والإيحاء والدلالة والعلم والمعاني والبيان والتحديد والتعريف والتدقيق والتفريق والتمييز والحصر والإحصاء والتصنيف والترتيب والإسناد والتأويل والتصوير والتخيل وكل ما تقوم به علوم اللغة من وظيفة سواء للغة نفسها أو للعلوم والفنون المختلفة التي هي وعاؤها الأول وربما الأخير، وإنما كان أقصي ما يمكن لهذا المعجم أن يكونه من غير روح الأستاذ هو أن يكون مجموعة من البيانات المعجمية أو غير المعجمية فحسب.

وإني أكاد أتخيل عالمنا الجليل وقد جلس إلي هذا المعجم وأخرج الدنيا كلها من اهتماماته حتي إذا صفت له نفسه أخذ ينظر  إلي الدنيا وإلي الحياة وإلي الطبيعة وإلي ما وراء الدنيا وما وراء الحياة وما وراء الطبيعة، ثم يمعن في هذه النظرة من آفاق محلقة يحيط بكل ما في اللغة من أسرار، ثم يرتفع إلي آفاق أعلي ليحيط بالأجواء البعيدة ثم يعود ليهبط مقتربا من الألفاظ ليحدد الفوارق وليميز عن قرب ثم يعود ليعلو مبتعدا كي تنفسح أمامه مجالات الملاحظة والاكتشاف، وهو في كل هذا الصعود والتسامي والتحليق صورة بشرية متخيلة من الطائر الذكي الذي زوده ربه بقدرة لا نهائية علي دقة الملاحظة وعبقرية الربط بين كل شىء، وكأنه لا يري في كل شىء إلا بعض صورة من غيره، حتي لو كان هذا بالتضاد أو التشابه أو التخالف أو الترادف أو التكامل أو التفاضل، وهو معني باستخدام كل قدراته العقلية من تحليل وربط وتركيب وتجريد وتجسيم وتشبيه وتصور وتخيل واستنتاج واستنباط واستقراء، وهو في كل هذا قادر قدرة منحها له الله سبحانه وتعالي علي أن يصل في سرعة البرق إلي هذه القرارات اللغوية التي تستلزم جهود المجامع وتستنزف جهود الإدارات وربما لا تصل بعد هذا كله إلي بعض ما وصل إليه.

وللغة العربية أن تفخر اليوم بهذا المكنز الذي أضاف إليها مما فيها من عبقرية، وقد تمكن من تجلية بعض هذه العبقرية علي نحو لم يُسبق فيه، ومبلغ حدسي أنه سيظل متفرداً فيما سبق إليه وحققه، وقد قدم نموذجاً يُحتذي في عبقرية المنهج وكثافة العمل ودقة الأداء وتوظيف الإمكانات المتاحة إلي أقصي حد، وقبل هذا كله ففي هذا العمل بعض ما نطمح جميعا إليه دون أن ننجح وهو أن نعتصر التراث كله اعتصاراً ثم نجعل من هذا الرحيق الناشئ عن الاعتصار الذكي بعض مكونات إنجازنا الحديث.

ولو أن مسار القرون يُتنبأ به من خلال بدايتها فإنه يمكن لنا القول بأن القرن الحادي والعشرين سيشهد نهضة توظيف للغة العربية إلي آفاق لم تصلها طوال تاريخها علي نحو ما تبدي في وضع هذا المعجم العظيم في بداية هذا القرن الذي ربما يكون من حظه في نظر  خلفائنا أن يعرف بأنه القرن الذي شهد في بدايته وضع «المكنز الكبير» وصدور طبعته الأولى.

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com