الرئيسية / المكتبة الصحفية / المكانة المرموقة للشاعر زهير بن أبي سلمى

المكانة المرموقة للشاعر زهير بن أبي سلمى

لاأزال أسأل نفسي سؤالاً أعتبره في غاية الأهمية، يقول السؤال: لو أن بيدك الأمر لتنشئ في عدد من عواصم العالم سلسلة من المعاهد الثقافية المعنية باللغة العربية والثقافة العربية على غرار معهد جوتة الألمانى، فأي الأسماء تطلق على هذه المعاهد؟!

إن الإنجليز محظوظون، فهم سيجمعون بلا أدني اختلاف علي إطلاق اسم شاعرهم الأكبر شكسبير، كذلك فإن الأسبان حسموا الأمر تقريباً بإطلاق اسم شاعرهم سرفانتس،  أما الإيطاليون فإنهم شأنهم شأن الألمان قد سموا هذه المعاهد الثقافية باسم دانتي الليجيري بالفعل.

أما نحن فهل نستطيع أن نصل إلي اتفاق فيما يتعلق بشاعر العربية الأعظم أكاد ألمح عشرة أسماء مرشحة تضم: المتنبى، والبحترى، و المعرى، وأبو تمام، وامرؤ القيس، والنابغة، وزهير بن أبي سلمى، وكعب بن زهير، وشوقى، وحافظ، لكنني لا أستطيع أن أضمن لأحدهم أغلبية مطلقة إذا ترك الأمر للاستفتاء أو للانتخاب في ظل إعلام صارخ وضاغط.

ومع أني شأني شأن كثيرين من أقراني ونظرائي مشغوف بل مفتون تمام الافتتان بالمتبنى، إلا  أني في لحظات كثيرة أري زهير بن أبي سلمي أولي بتمثيل العرب من المتنبى، وعندي لهذا مجموعة من الأسباب العاطفية والشخصية والموضوعية أيضاً.

فقد نجا زهير تماماً من الصراع العنيف الذي اعتري حياة المتنبي حين طالب بأشياء وتنازل عنها، وحين ادعي بطولات لم يكن قادراً عليها، وحين هاجم مَنْ مدحهم من قبل، وحين تحول بمديحه من حاكم إلي حاكم، وحين أقذع في الهجاء بلا مبرر، وحين انتقل بالهجوم من الحاكم إلي شعبه لأن هذا الشعب لم يحصل للمتنبي علي ما كان ينبغي له أن يحصل عليه ثمناً لولاء دفعته إليه الرغبة في المصلحة.

كان زهير علي العكس من هذا تماماً، رجلاً عاقلاً، حكيماً، ذا التزام خلقي بكل ما يتحدث عنه من سجايا وفضائل، وقد بذل شعره في مدح زعماء يمكن تصنيفهم علي أنهم زعماء سلام لا زعماء سلطة.

وعلي نحو ما تميز المتنبي بكثرة أشعاره التي اعتمدت علي اللفظ البسيط، والتركيب السهل، والصياغة السلسة، فقد تميز زهير كذلك بهذه الميزة، وقد يكون من التعسف أن تطلب إلي هؤلاء الذين نظموا أشعارهم من ألف عام أن تكون ألفاظهم بعد عشرة قرون سهلة طيعة وفي متناول أجيال متأخرة من أحفاد أحفادهم، فلم يكن في وسع زهير ولا في وسع المتنبي بالطبع أن يعرف أي الألفاظ  سيظل متداولاً في لغة الشعب، وأيها سيقتصر تداوله علي بطون القواميس والدواوين، هذا حقيقى، لكن الذي لاشك فيه أن الألفاظ في أية لغة تحمل في بذورها وجذورها القدرة علي البقاء وطول الاستعمال، ولهذا فليس من العجيب أن نجد النقاد القدامي وهم يصفون الشاعر من السابقين عليهم باللجوء إلي اللفظ الموحش وإلي أوابد الكلمات أو بالعكس من ذلك، ولست في حاجة إلي أن أدلل علي هذا المعني بنصوص النقاد القدامي أو المحدثين، وذلك لأنني سألجأ إلي حيلة أخرى، وهي أن أدعو القارئ إلي أن يمر الآن بنظره علي أشعار أصحاب المعلقات المعاصرين لزهير بن أبي سلمى، وعلي أشعار زهير نفسه، وسوف يجد ما أردت الحديث عنه من سلاسة ألفاظ زهير وبساطتها، وقابليتها للتداول حتي  الآن، علي حين لن يجد نفس السمة في أشعار مناظريه ومعاصريه.. فإذا تذكرنا أن زهيراً  قال الشعر  قبل المتنبي بفترة طويلة، وأنه لا يقل عن المتنبي العظيم إبانة ووضوحاً لوجدنا أن الظن بفضل زهير علي المتبني والآخرين يستحق بعض التفكير العميق.

ونأتي إلي ما تسميه الدراسات الإعلامية والأدبية بتحليل المضمون، ولست أشك في أن القراء جميعاً يدركون أن شعر الحكمة عند الرجلين قد تضمن أسمي التعبيرات وأدق الصياغات عن مجموعة لا يستهان بها من القيم الإنسانية الرفيعة التي دعا إليها كل من الرجلين، ولكننا إذا تعمقنا تحليل مضمون القيم التي تناولها كل من الشاعرين، فسوف نكتشف بلا عناء مدي سمو القيم الإنسانية التي دعا إليها زهير بن أبي سلمى، ولست أظن أن القيم التي دعا إليها المتنبي لا تحظي بالإعجاب والتقدير والحب والوله والهيام، ولكن القيم التي دعا إليها زهير كانت ولا تزال بمثابة القيم الإنسانية العليا التي لا تتعارض مع ما هو مطلوب من الإنسانية من ارتقاء بالإنسان في الإنسان.

ولست أظنني أعدو الحقيقة إذا قلت إن زهيرا أمضي حياته معنياً في البداية والنهاية بقضايا الإنسان.

ونأتي إلي العامل الرابع الذي يتفوق به زهير، فقد عاش زهير حقبة ما قبل الإسلام بكل ما فيها من قيم جاهلية، لكنه مع هذا استطاع التفوق فيما نسميه الآن بالفرز، وانحاز بوضوح وبحماس إلي القيم الفاضلة، وقد فعل هذا مهتدياً بالفطرة السليمة النقية التي كان حريصاً علي أن يهذبها يوماً بعد يوم، وهكذا فإن حكمته و منطقه واختياراته لم تحظ بالعون الديني وتراث الأخلاق الإسلامية الذي كان متاحاً فيما بعد ذلك أمام المتنبي بعدما قامت حضارة إسلامية كبيرة وازدهرت قيمها وترسخت.

ولست في حاجة إلي أن أصور للقارئ مدي المعاناة التي بذلها زهير حتي وصل إلي وجه الحق والحقيقة في الصراعات الفكرية التي تمخضت عن المواقف الإنسانية التي واجهها طيلة حياته الطويلة.

ومع كل هذا تتبقي للشعراء الآخرين مزايا علي زهير سوف نتحدث عنها عندما نتحدث عنهم، أما ونحن نتحدث عن زهير فإن الأولي بنا هو زهير نفسه.

 

سأبدأ التعريف القصير بزهير بقصة طريفة نتناقلها في القسم الذي أعمل به، ذلك أن ثلاثة من زملائي رزق كل منهم أول ما رزق بابنة، اسمها سلمى، وكنت أداعبهم حين يكونون في انتظار حادث سعيد بأن أقترح عليهم أن يسمي المولود زهيراً إن كان ذكراً، وذلك حتي يصبح الاسم الكامل للوليد الجديد: زهير بن أبي سلمى، ولا نزال في قسمنا نتناقل هذه الطرفة في انتظار زهير!

ومن الطريف أننا في مصر ننطق سلمي في اسم زهير  بفتح السين علي الدوام، وقد استقر في عقائدنا أن هذا هو الصواب بعينه، ويتأكد هذا حين نكتب سلمي بالحروف اللاتينية فنلجأ إلي الحرف (a) في الإنجليزية علي سبيل المثال، ولكن لن تجد أحداً يزعم لك أنه يعرف أن أسم سلمي أخت زهير  بضم السين، وما بالنا بما يرويه الأستاذ كمال النجمي في كتابه «القلم والأسلاك الشائكة» من أن الشاعر العبقري العظيم صالح جودت لم يكن يعرف بهذا الخطأ والصواب حتي عرفه منه في سن متقدمة.

وقد علمني أستاذي الأستاذ عصام الهنامي أن سلمي بفتح السين هو الاسم العربي الشائع، وأن أهل اللغة يقولون إنه لم يرد بضم السين إلا في حالة أخت زهير وبالتالي في حالة من يكنون بها أو ينسبون إليها كما هو الحال في  أبيها وأخيها زهير  .

ومع احترامنا للصواب فإن السين المفتوحة أخف علينا جميعاً من السين المضمومة، أظنني أطلت الاستطراد في الحديث عن سلمى، لكني لم أفعل هذا إلا لغرض مهم في التعريف بزهير، فقد كانت سُلمي هذه التي سمي بها أبوها أو كني بها أبوها شاعرة، بل كانت شاعرة مجيدة، ولا يفوتني هنا أن أنوه بعظمة العرب حين احتفظوا للأب بهذه الكنية علي الرغم من وجود ابن عظيم له كزهير  بل علي الرغم من وجود هذا الابن علي قيد الحياة قرابة قرن كامل من الزمان كما سنرى.

ولا يزال الأمر فيما يتعلق بسُلمي مرتبطاً بالطرائف!

فقد كانت سُلمي في زمانها وبعد زمانها معروفة ومتفردة، لكن ما العمل إذا وضعنا أو (ألفنا) معجماً للشعراء العرب علي مدي العصور وجاء اسم سلمي بالطبع مجاوراً لشاعرات أخريات سُمين علي اسمها  (كسلمي الخضراء الجيوشي علي سبيل المثال)من البدهي أن سلمي أخت زهير ستتصدر القائمة والترتيب الأبجدي باعتبارها صاحبة الاسم المطلق (علي نحو ما يقال إذا أطلق جابر فإن المقصود هو الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الذي يستجاب الدعاء عند ذكر اسمه رضي الله عنه وأرضاه).. لكن ماذا نفعل إذا اضطرنا الحاسب الآلي أو القانون المدني مثلاً إلي ضرورة ذكر اسم الأب، ساعتها سيكون اسم هذه الشاعرة طريفاً جداً (سلمي بنت أبي سلمى).

لعل هذا يقودنا إلي الطرفة الجديدة، وهي أن أبا سلمي نفسه كان شاعراً كبيراً فعلاً.

ولا يقف الأمر بزهير بن أبي سلمي عند هذا الحد، من أنه ابن شاعر وشقيق شاعرة، لكن خاله كذلك شاعر مجيد، وابناه شاعران عظيمان، وحفيده شاعر عظيم، وهو ما لم يجتمع لأحد من قبله ولا من بعده فيما نعلم من آداب الدنيا كلها علي مدي التاريخ،(ولا يحسبن أحد أن وجود مثل هذه الظاهرة  بين أبناء أساتذة الطب المصريين مما يعد في التاريخ) فأما خال زهير فهو بشامة بن الغدير، وهو القائل:

ماذا تَرين وقد قطَّعتني قطعاً   ماذا عن الفَوتِ بين البُخل والجُودِ

إلا يــكُن وَرَقٌ يـوماً أراح به  للخــابِطــــــــــــين فإنِّي ليِّنُ العُـــــود

ويذكر مؤرخو الأدب أن خاله هذا  لم ينجب، وأنه نظم توزيع ثروته قبل أن يموت، وكاد أن يحرم زهيرا من هذه الثروة فهرع إليه زهير يسأله السبب فأجابه أنه أورثه ما هو خير من الثروة وهو الشعر، فتحفظ زهير علي هذا المعني وأشاد بجهد شخصه، وقال لخاله: أنا قلته فكيف تعتد به علىّ، فما كان من خاله إلا أن خصه بنصيب كشأن بقية الأقربين.

أما ابناه فلا أظن مقالنا ينصفهما، وهما مَنْ هما، فأما بجير فهو السابق إلي الإسلام، وهو الذي هيأ لأخيه كعباً فرصة عمره حين ألقي قصيدته المشهورة، أعني بردته الخالدة أمام النبي (صلي الله عليه وسلم) ولم تكن حتي ألقاها إلا قصيدة، فلما ألقاها ألقي النبي (عليه السلام) علي صاحبها البردة فصارت القصيدة من يومها تعرف علي أنها البردة الخالدة التي حاكاها عشرات من الشعراء، ونهج البوصيري نهجها في البردة، ونهج شوقي نهج البوصيري فيما نسميه الآن نهج البردة، بينما هو في الحقيقة نهج نهج البردة.. ولكن مكانة ومنزلة البردة الأولي تجعل النسبة إليها أوقع وأكثر إيقاعاً.

 

بقي أن نتحدث عن حفيد زهير، وهو  المضرب بن كعب بن زهير، وهو القائل في مصعب بن الزبير:

إني لأحبسُ نَفسي وهي صاديةٌ         عن مُصعبٍ ولقد بانت لي الطُّرُقُ

رُعوَي عليه كما أَرعَي علي هَرِم      جَــدِّي زُهير وفينـــــــا ذلك الخُــلق

مَدحُ المُلوك وسَعي في مَسرتهم         ثم الغِني ويدُ المَمـــــــــدوح تنطلق

 

وبقيت في مقالي طرفة مهمة وذات مغزى، فإننا نعرف علي مدي التاريخ الممدوح، ويكاد الحديث عنه يلازم الحديث عن المادح (وكذلك الأمر في الهجو والهاجى)، وليس لكافور ـ علي سبيل المثال ـ ذكر في التاريخ أقوي مما جاد عليه به المتنبي من مدح أو هجاء.. أما زهير فإن شأنه في هذا شأنه في كل سماته، فقد تفرد بأننا نذكره هو ولا نكاد نذكر أسماء ممدوحيه: الحارث بن عوف، وهَرِم بن سنان علي عظم ما قاله فيهما من مديح، وليس لهذا تفسير إلا أن زهيراً استهدف ـ كما ذكرنا في أول هذا المقال ـ قيماً إنسانية مطلقة أكثر مما تصنع مدح صفات معينة في أناس معينين، أو التعبير عن نرجسيته هو وهو يمدح الآخرين.

ومع هذا فإنه في البيئات اللاحقة لبيئة زهير وممدوحيه كان النبهاء من أهل الفكر وأهل السلطة والنفوذ واعين تمام الوعي لقيمة ما كسب هؤلاء الممدوحون من مدح زهير، وفي مقدمة هؤلاء النبهاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ الذي تواترت الروايات عن حوارات بينه وبين أبناء زهير وأبناء الممدوحين عن أن قيمة مدح زهير لهم كانت أكثر بكثير من كل ما جادوا به علي زهير، وليس بعد رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رأى.

وفي كتاب ” الأغانى” في حديث طويل لعبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب سأله :

هل تَروي لشاعرٍ الشُّعراء قلت: ومن هو؟ قال الذي يقول:

ولو أن حَمداً يُخلدِ الناسَ أُخلدوا         ولكن حَمد الناسِ ليس بمُخلدِ

قلت : ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشُّعراء. قلت: وبم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يُعاظل في الكلام، وكان يتجنب وَحشي الكلام، ولا يمدح أحداً إلا بما فيه.

كذلك فإن معاوية بن أبي سفيان سأل الأحنف بن قيس عن أشعر الناس، فقال: زهير. فقال: وكيف ذلك؟ قال: ألقي عن المادحين فضول الكلام. قال: مثل ماذا؟ قال: بقوله:

فما يكُ من خيرٍ أتَوْه فإنما      توارثـه آبـــاء آبــــائهم قَبْـــلُ

هل يستنتج القارئ أني أريدأن أعتمد علي رأي أمير المؤمنين الفاروق أو أميرهم الآخر معاوية  في تأييد رأيي في منزلة زهير من الشعر العربى.. فليكن، ومع هذا فإني أتحفظ علي نفسي بأن أذكر أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ وكذلك معاوية قد انتقلا  إلي رحمة الله قبل أن يستمعا  إلي ما جادت به قرائح شعراء آخرين ممَنْ ينافسون زهيراً علي هذه المكانة وأولهم المتنبى.

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com