الرئيسية / المكتبة الصحفية / تجديد ذكري إحسان عبد القدوس

تجديد ذكري إحسان عبد القدوس

أشهر روائي عربي في ضمير الجماهير

مع أن احسان عبد القدوس 1919- 1990 ولد في يناير ، وتوفي في يناير فاني لا أعتقد أن ذكراه يمكن أن تحل في يناير، وإنما موعدها الطبيعي هو عيد الربيع وموسم الربيع.  وإذا كانت الرومانسية في الآداب الأجنبية قد استمدت اسمها من اسم الرواية فإن إحسان في ضمير الجماهير العربية هو أشهر روائي عربي (كما أنه أشهر رومانسي) علي الإطلاق، مع اعتراف هذه الجماهير بأستاذية نجيب محفوظ وغيره من الروائيين المعاصرين له، أو اللاحقين به، و لم ينل إنتاج أديب عربي ما ناله إنتاج إحسان عبد القدوس من إقبال وذيوع وانتشار، ولربما كان الأهم من هذا والأكثر وقعاً هو ما نالته شخصياته الروائية والقصصية من استحضار في مواقف الحياة المختلفة، ذلك أنه رزق التمكن التام في أقوي وسيلتين للذيوع في مصر وهما الصحافة والسينما، فكانت الجماهير الغفيرة تطالع أعماله التي تنشر مسلسلة في شوق بالغ، وكانت جماهير السينما الغفيرة أيضاً تتابع الأعمال المأخوذة عن فنه أيضا بشغف لا نهاية له.

الصحفي الألمع في شبابه

كان إحسان عبد القدوس بالإضافة إلي هذا الصحفي الألمع في شبابه، وهو الصحفي الذي مكنه الذكاء والحظ من أن يحظى في الوجدان بأعلى قيمة يصل إليها صحفي من دون أن يلتهمه رذاذ السياسة المشوه، أو القاتل في بعض الأحيان، حتي مع كل الإيذاء والتعذيب والتهميش الذي لحق به بسبب السياسة،  ومع أنه في مكانته السياسية في عهد ٢٣ يوليو كان بعيدا بإرادته بخطوة أو خطوتين عن الرياسة والسلطة، فإن مكانته البروتوكولية ظلت محفوظة ومتقدمة، ولم ينس الضمير الوطني له أنه كان عاملا من عوامل قيام الثورة ونجاحها، علي الرغم مما لقيه علي يديها من جحود مبكر، وعلي الرغم من انحيازها شبه الفوري إلي طرز بارزة من المنافقين والأفاقين  الذين أرضوا نزعتها، وعملوا لها بما يضرها، وبما ضرها بالفعل.

كاتب سياسي من طراز موهوب

عاش  إحسان عبد القدوس كاتبا سياسيا من طراز موهوب، وكان له أسلوبه الفذ في التحليل السياسي والاجتماعي. كان قادراً علي الفهم، وعلي تكوين الرأي. كان أذكي ما يكون في وصفه الدقيق، وكانت الأنسجة التي رسم منها شخصياته وأحداثه وصوره وآرائه عريضة ومتنوعة، حتي إن بدا أن موضوعاته قريبة من بعضها لكنه كان الفنان الذي عُرف وكأنه تخصص في الزهور وحدها، لكنه رسم الزهور في كل أحوالها، كما رسم كل شيء علي هيئة زهرة، كما أنه رسم كل ما يحيط بالزهور رسما لا يقل جودة عن رسمه للزهور.

نشأته وأسرته 

ولد إحسان عبد القدوس في كفر المأمونة قرب زفتي في اليوم الأول من الشهر الأول من أيام سنة  الثورة المصرية (1919).  ووالدته، كما هو معروف للكافة، هي الفنانة الممثلة والصحفية الرائدة فاطمة »روز« اليوسف،

 أما والده فهو المهندس محمد عبد القدوس الذي تخرج في مدرسة الفنون والصنائع (1911)،  وبدأ العمل موظفا في الحكومة، وعمل مهندسا في الأقصر، ثم عمل ناظرا لمدرسة نجع حمادي الصناعية، ثم ترك الحكومة وتفرغ كلية للفن، وعمل في مجال التمثيل والتأليف المسرحي والسينمائي، وقد أدي عددا من الأدوار التمثيلية علي المسرح وفي السينما، كما كان كاتبا يكتب المسرحيات والشعر والزجل، كما كان يلقي مونولوجات يضع كلماتها وألحانها، وقد تقابل والده مع والدته في عام  1916، وسرعان ما تزوجا وأنجبا إحسان في أول يناير عام  1919،  لكنهما كانا قد انفصلا لاختلاف نزعاتهما الفنية.

وعلي عكس ما هو شائع من أن تكون الحضانة في البداية للأم ثم تنتقل للأب فقد تربي إحسان عبد القدوس وهو طفل في بيت جده لوالده الشيخ أحمد رضوان ، ودخل الكتاب بالعباسية، وارتبط بعمته، ثم عاش مراحل شبابه مع والدته.

جده أزهري من رجال القضاء الشرعي

كان جده لأبيه الشيخ أحمد رضوان من خريجي الأزهر، ومن رجال القضاء الشرعي، وكان مشتبكا بقدر كبير مع القضايا السياسية، وكان كثير من قادة الثورة من أيام مصطفي كامل إلي أيام سعد زغلول يعهدون إليه بالإشراف علي شئونهم إذا اضطروا إلي الهجرة خارج مصر، وفي بيت جده كانت السيدة التي ترعاه كأمه هي عمته السيدة نعمات رضوان، وإن لم يحرموا والدته “روز اليوسف” منه رغم تحفظهم عليها لأنها امرأة متحررة تعمل بالتمثيل علي المسرح.

تعليمه القاهري

تلقي إحسان عبد القدوس تعليمه الأولي في مدارس مدنية متنوعة، فدرس في مدرسة السلحدار الابتدائية (1925 ـ 1927) ، ثم مدرسة خليل أغا الابتدائية (1927 ـ 1931)، فمدرسة فؤاد الأول الثانوية حيث حصل علي التوجيهية (1938)،  ومن الواضح أن المرحلة الثانوية قد استغرقت من عمره أكثر مما ينبغي، وهو ما يتوافق مع ما كان في مرحلة المراهقة من ميل طبيعي إلي كل ما هو لا دراسي، وغير مقرر، والتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة وحصل منها علي درجة الليسانس (1942)، وعمل لمدة عام في مكتب محاماة قبل أن يتفرغ تماما للعمل الصحفي، وأخذ يكتب آراءه السياسية وأعماله القصصية في آن واحد في مجلة روز اليوسف.

زواجه المبكر

وقد تزوج إحسان عبد القدوس في العام التالي لتخرجه (٥ نوفمبر 1943)  من زوجته السيدة لواحظ المهيلمي، ويعترف إحسان بأن الفضل في زواجه المبكر يعود للتابعي الذي كان في هذه الفترة بمثابة مثله الأعلى وهو يقول:

“…  تأثرت في فترة من فترات حياتي بكل حياة محمد التابعي، كنت أتصور أن النجاح هو أن أعيش كما يعيش التابعي، لكن التابعي نفسه هو الذي أنقذني من ضعفه، أسهم في حمايتي من إغراءات النجاح، ففي سنة تخرجي في الجامعة ترددت في أن أتزوج الفتاة التي أحببتها، كيف أتزوج والتابعي ليس متزوجا؟!

” ليس هناك أحد من الناجحين في الصحافة ولا في الأدب متزوج:  لا التابعي، ولا توفيق الحكيم،  ولا العقاد، ولا مصطفي أمين، ولا فكري أباظة، ولا.. ولا.. ولا أحد متزوج من الأساتذة الكبار الذين أريد أن أصل إلي مستوي نجاحهم، فقط طه حسين، لكن لا أريد أن أكون طه حسين”

 “وتصادم التردد مع الحب يكاد يقتلني، إلي أن ذهبت إلي التابعي وشكوت له ترددي، وكنت أعتقد أنه سينصحني بالعدول عن الزواج أو علي الأقل تأجيله إلي أن أتأكد من مستقبلي، لكن بالعكس نصحني التابعي بالزواج، بل ألح ثم دعاني وحبيبتي إلي بيته ودعا معنا المأذون وزوجنا، وضعني في إطار يحميني  من إغراءات ومتاعب النجاح لو قدر لي أن أنجح، بل إنه وضعني في الوضع الذي لا يمكن أن أنسي فيه المستقبل. فالزواج يضطرك أن تحسب حساب المستقبل وأنت تحسب حساب الحاضر، والتابعي كان يعيش كل نجاحه وكل عبقريته وكل فنه لحظة بلحظة دون أن يحسب حساب المستقبل، وربما لم يبدأ في حساب المستقبل إلا بعد أن تزوج مؤخرا، وبعد أن كان قد تعود أن يعيش الحياة لحظة بلحظة”.

نشأته العائلية وجهته إلي الصحافة تدريجيا

لاشك في أن نشأته قد وجهته إلي الصحافة توجيها تدريجيا وطبيعيا نحو الإعلام والأعلام في وقت واحد ، إذ جمع بين ما أتيح له من معرفة الأعلام عن قرب، وممارسة الإعلام بمعناه الواسع، فقد كان وهو صبي يلتقي في مكتب والدته بأمير  الشعراء أحمد شوقي، وكان مالكا لأحد العقارات التي اتخذت روز اليوسف من أحد مكاتبها (أو بدرومها) مقرا لصحفيتها، والأستاذ عباس محمود العقاد، الذي كان المحرر الأول في المجلة التي تحمل اسم والدته، والأستاذين محمد توفيق دياب، ومحمد التابعي.

تأثره بوالديه

من المفهوم أن السيدة روز اليوسف هي أكثر من أثر في حياة إحسان فهي التي وفرت له الجو والبيئة، وسلمته المسئولية وهو في صدر الشباب ، كذلك فقد تأثر إحسان بوالده الفنان محمد عبد القدوس، وهو التأثير الذي تحدث عنه إحسان نفسه باعتزاز وتقدير، وإذا كان هناك مَنْ تعلم إحسان الكتابة منه قبل غيره فهو هذا الوالد.

ونحن نعتقد أن إحساس عبد القدوس تأثر بالأخوين مصطفي أمين وعلي أمين تأثراً لا مثيل له من بين كل التأثيرات التي مرت به في أثناء تكوينه، ، وهو تأثير بالتمايز والاختلاف في معظمه، وإن لم يخل من قليل من التشابه والتشبع بالصنوين القريبين في السن والطبقة  (ولدا 1914،  وولد هو 1919).

تحديد رجاء النقاش لأساتذته : التابعي والعقاد و عزمي

نجح الأستاذ رجاء النقاش في أن يلخص التكوين الفكري لإحسان عبد القدوس من وجهة نظره، الجديرة بالاحترام، وإن كان قد تجاهل تماماً التأثيرات الثلاثة التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، وركز علي تأثيرات أربع أخري عدها هي الأساس، وذلك حيث قال:

 “في ظني أن أساتذة إحسان الكبار بعد والدته هم محررو روز اليوسف  الأوائل: التابعي، ومحمود عزمي، والعقاد . من التابعي تعلم إحسان أسلوب الكتابة، والتابعي هو عميد الأسلوب الصحفي المعاصر بلا منافس له في هذا المجال، إنه أستاذ الأساتذة، وساحر الكلمة الصحفية، ومعلم الأجيال. وإحسان عبد القدوس خرج في أسلوبه من معطف  التابعي، ثم ارتقي بنفسه وموهبته حتي أصبح واحدا من أكبر أصحاب الأساليب في الصحافة العربية، فعبارته سهلة موسيقية، مليئة بالعذوبة، والجاذبية، والجمال”.

“وتعلم إحسان من محمود عزمي نظرته التقدمية  إلي مشاكل الحياة والمجتمع والإنسان، فقد كان محمود عزمي كاتبا ومفكرا كبيرا، وكان من أعظم دعاة التجديد والتقدم، وقد ذهب به التطرف في هذا المجال إلي حد الدعوة إلي لبس «القبعة« بدلا من الطربوش، والعمامة، فقد كانت القبعة عنده رمزا للحضارة الحديثة، والانتماء إليها ، وقد ظل إحسان عبد القدوس طيلة حياته يكتب بهذه الروح التقدمية التي تدعو إلي التجديد، وكسر القيود، وخاصة في مجال العواطف الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، وهو صاحب أكبر دعوة في العصر الحديث لتحرير المرأة عاطفيا وعقليا بعد الرائد الأول قاسم أمين.

“أما العقاد فقد تعلم منه إحسان عبد القدوس جرأة الكاتب، وفروسية صاحب القلم، والاشتباك العنيف مع الأفكار الخاطئة، والمواقف التي ينبغي هدمها لإفساح الطريق أمام عالم جديد، متقدم ومستنير “.

فضل والدته في نبوغه الصحفي

بدأ إحسان عبد القدوس الكتابة المنظمة في المجلة الأسبوعية التي تحمل اسم والدته روز اليوسف ، ثم تولي رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف (1945)،  وكان قد كتب في ذلك العام مقالا شهيرا بعنوان “هذا الرجل يجب أن يذهب”، وكان يقصد لورد كليرن بطل أحداث ٤ فبراير، وسرعان ما جعل منه هذا المقال نجما لامعا في عالم الصحافة، واقتيد بسببه إلي سجن الأجانب الذي كان يقع عند تقاطع شارع رمسيس مع عماد الدين .

وقد ظل إحسان عبد القدوس محتفظا برياسة تحرير مجلة روز اليوسف منذ 1945 وحتي تم تأميم الصحف، لكنه  تولي رئاسة مجلس إدارة مؤسسة روز اليوسف عام 1960 بعد تأميم الصحافة، وكان هو رئيس مجلس الإدارة الوحيد الذي بقي في منصبه من بين أصحاب الصحف، وذلك بسبب صغر حجم مؤسسته من ناحية، وبسبب أنه كان مع ورثة والدته الملاك الوحيدين للمؤسسة، وما لبثت أجهزة الدولة (1962)  أن استغنت عن وجوده رئيسا لمجلس الإدارة، وعينت غيره في هذا الموقع بينما عين هو عضوا منتدبا لمؤسسة روز اليوسف ، وفي 1964 أقيل أيضاً من هذا الموقع على أن يشترك في تحرير روز اليوسف، وظل كذلك حتي 1966، وكان هذا بالطبع كرماً من أجهزة الثورة التي تركت له شيئا يفعله بعد ثلاث سنوات من التأميم.

الاستعانة به رئيسا لتحرير أخبار اليوم

مع فشل الثورة في فرض رؤساء تحرير للأخبار من أتباعها (!!) اضطرت إلي الاستعانة بإحسان رئيسا لتحرير أخبار اليوم (1966)، وسرعان ما ارتفع توزيع أخبار اليوم بعد أن كاد يتلاشى، وقد بقي إحسان في المنصب حتي عام 1974، وعين بالإضافة إلي رياسته لتحرير أخبار اليوم الأسبوعية رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة  أخبار اليوم  في عهد السادات (1971 ـ 1974)، وهكذا عاد إليه بعض حقه، وكأنما كان إحسان بحكم القدر هو ذلك الرجل الأمين الذي تولي حراسة تراث الأخوين المنافسين له طيلة فترة بقائهما في المنفي والسجن، وكأنما كان هذا تعويضا إلهيا عن ممارسات الأخوين المتصلة في خطف مواهب تبناها إحسان في روز اليوسف، والإفادة منها في مؤسسة أخبار اليوم، وقد واصل إحسان عبد القدوس نجاحه في أخبار اليوم معتمداً علي التقدير لشخصه وسلوكه ، لكنه آثر ترك المؤسسة كلها عند عودة علي أمين من المنفي وخروج مصطفي أمين من السجن ذلك أنه وبعد أن عين علي أمين رئيسا لتحرير الأهرام خلفا لمحمد حسنين هيكل، أدرك إحسان بذكائه أن مكانهما الطبيعي في أخبار اليوم لا في غيرها.  وهكذا فإنه عين كاتبا متفرغا بصحيفة الأهرام 1974 ـ 1975  استجابة لطلبه، ثم عين رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام  ورئيسا لتحرير الأهرام 1975، وترك منصبه بالأهرام (مارس 1976)  وعين كاتبا متفرغا ومستشارا لها  (1976)  وبقي حتي وفاته. وبهذا فانه كان بمثابة الصحفي  الوحيد الذي ترأس مجالس إدارات هذه المؤسسات الثلاث، كما ترأس التحرير فيها. وكان حتي مع غياب البروتوكول في مناصب الصحافة كان صاحب المكانة المتقدمة بروتوكوليا  بين كبار الصحفيين ولم يكن يسبقه إلا فكري أباظة وقد كان إحسان عبد القدوس علي سبيل المثال عضوا في المجلس الأعلى للصحافة منذ تشكيله.

زيارته لفلسطين ١٩٤٦ وتوقعه للهزيمة

ومنذ السنوات الأولي لممارسة الصحافة بدأت اهتمامات إحسان عبد القدوس السياسية تتسع، وقد اهتم ببوادر حرب فلسطين، وتنبأ بهزيمة العرب في فلسطين بعد زيارة له إلي هناك (1946).

سجنه و محاولات اغتياله

وأدت به آراؤه الجريئة وغيرته الوطنية إلي أن أدخل السجن ثلاث مرات بتهم مختلفة، كما تعرض للاغتيال أربع مرات علي الأقل، وتعرض لكثير من الاعتداءات العارضة، و التحرشات القاسية علي نحو متكرر. وقد سجن عام  1945 بعد مقاله الذي  نشر في روز اليوسف وهاجم فيه لورد كيلرن .

كما سجن عام 1954 بعد مقالاته التي نشرت بمجلة روز اليوسف والتي هاجم فيها مجلس قيادة الثورة “الجمعية السرية التي تحكم مصر” وأودع بالسجن الحربي في زنزانة انفرادية (رقم ٩١)  ظل فيها طيلة الفترة ما بين  29 أبريل 1954 حتي ١٣ يوليو 1954.

وقد تعرض للاغتيال في يوم ٣١ نوفمبر 1951 بالطعن بآلة حادة في رأسه. كما تعرض للاعتداء في عام  1975، ونسب الاعتداء إلي معمر القذافي رئيس ليبيا.

رفض الأمريكان إعطاءه التأشيرة لأنه زعيم شيوعي

وفضلا عن هذا، ولعله لا يقل عنه أهمية، فقد كان إحسان عبد القدوس علي الدوام من البعيدين عن دوائر السياسة والدبلوماسية الأجنبية على الرغم مما تحفل  الوثائق الغربية عن لقاء ممثليها به ، ولم يعرف عنه فخر ولا زهو بمعرفته بممثلي الغرب في مصر، ولا بممثلي الشرق، ويذكر له في هذا المجال أنه عندما تقدم إلي السفارة الأمريكية عام 1960 يطلب تأشيرة دخول الولايات المتحدة رفض المسئولون في السفارة إعطاءه التأشيرة بحجة أنه زعيم شيوعي.

الدور السياسي الحقيقي للصحفي الناجح

وقد ظل إحسان عبد القدوس على الرغم من لمعانه المجتمعي ، واعيا لحقيقة الدور السياسي الحقيقي للصحفي الناجح، ولم يورط نفسه في علاقات سياسية محسوبة ولا غير محسوبة، والواقع أن هناك أسباب كثيرة ساعدت إحسان علي هذا التوجه الصائب، وقد كانت ثقته في نفسه في مقدمتها، كما كان إيمانه بالفن وبالمهنة من هذه الأسباب، كما كانت تربيته الجادة التي جمعت بين تقديس القيم وبين حب العمل واحترام الذات سببا ثالثا.

وقد كان وعيه بدور الصحافة تعبيراً عن إيمان حقيقي، وهو ما يظهر في قوله: “مهمة الصحفي تتيح له دائما أن يعاشر الوزراء وأصحاب النفوذ، وتتيح له أحيانا أن يرفع الكلفة بينه وبينهم، ولكن الصحفي الذي يحترم نفسه يجب ألا يكون سمسارا، ويجب أن يقصر اتصالاته علي واجبات مهنته، ويجب أن يكون ناقدا لا متملقا”. ولهذا فقد كانت عقول القراء العرب، تدرك قيمة إحسان عبد القدوس من حيث ارتباطه بالحرية، والنهضة، والتقدم، وكان قلم إحسان منحازاً إلي هذه القيم في الوقت الذي كان معظم الآخرين منحازين إلي قيم أخرى فقد تبدو براقة ومثالية وذكية لكنها في النهاية قيم قصيرة النظر.

تصوير صلاح جاهين لشخصيته

رسم صلاح جاهين لإحسان صورة جميلة علي هيئة الكاتب المصري في أغسطس 1955، وكتب تحتها: “الكاتب المصري صحي شعبنا النعسان ،وعلمه كلمة “الحرية” و”الإنسان” ، وكلمة “الثورة”  أهداها لكل لسان ، عاشت بلادنا وعاش الكاتب المصري وعشت للشعب كاتب مصري يا إحسان”.

أقل زملائه نقدا  للنماذج الطفيلية

علي الرغم من أن إحسان عاني ممن وصفهم هو نفسه بالنفاق والتملق والسمسرة، إلا أنه كان أقل زملائه تعرضا بالانتقاد للنماذج الطفيلية والفيروسية التي تصدرت المشهد الصحفي ثم بدأت في ممارسة الادعاء من خلال جوقة من المخدوعين أو المأجورين، وقد كان، علي حسب ما رواه موسي صبري، يري هذا السلوك نوعا من التفاهة.

بيد أنه لا يجوز لنا أن نغفل الإشارة إلي عمل فني عظيم قدمه إحسان علي هيئة قصة طويلة بعنوان “غابت الشمس ولم يظهر القمر”،  محللا علي طريقته سيرة حياة صحفي مصري بارز كان قد نشر لتوه كتاباً في الهجوم علي الرئيس السادات وعهده، معرضا بسيرة حياته، وقد جاء كتاب إحسان عبد القدوس الذي لاتزال جميع نسخه تنفد بمجرد طبعها، بمثابة أكبر ثأر للوجدان الشعبي من السلوك المقزز لهذا الصحفي الذي أصاب الكثيرين بالغثيان.

بعض نصوصه التي جلبت له المتاعب

وربما كان من المهم هنا أن نقدم الإشارة إلي بعض نصوص إحسان عبد القدوس التي جلبت له المتاعب. كتب إحسان عبد القدوس في الهجوم علي لورد كيلرن  ٩ أغسطس 1945:

“… كان جنابه قبل المعاهدة مندوبا ساميا، وأصبح بعد المعاهدة سفيرا ليس إلا، أي لا تتعدي حقوقه وسلطاته حقوق وسلطات فخامة محمود جم سفير إيران في مصر، إلا فيما نص عليه البروتوكول ، فهل مركز لورد كيلرن بيننا هو مركز السفير؟. أبدا.. بل إنه أعطي لنفسه حقوقا فاقت حقوق المندوب السامي في بلد مستعمر، والرجل الذي يقتحم قصر عابدين علي رأس فرقة من الدبابات ليس سفيرا ولا مندوبا ساميا، إنما هو قائد لجيش معتد!!«.

” قد لا يكون من اللياقة الدبلوماسية أن نعدد مدي أخطاء السفير البريطاني في حق استقلالنا، أو نعدد الإنذارات الشديدة اللهجة التي أرسلها إلي حكوماتنا المختلفة، أو نبين خطورة الصداقات التي تربطه ببعض رجالنا، وإنما نحن علي استعداد لأن ننسي كل ذلك، وأن نبدأ صفحة جديدة في تاريخ العلاقة المصرية ـ الإنجليزية، ولكننا لا نستطيع أن ننسي طالما أن وجه فخامته يطل علينا، ولا نستطيع أن نكتب صفحة جديدة مادامت اليد التي ستشترك معنا في كتابتها هي اليد التي كتبت الصفحات القديمة!! وسواء كانت السياسة التي اتبعت والتي ستتبع هي سياسة الحكومات الإنجليزية نفسها، أو كانت سياسة السفير نفسه، فإن المسألة “سمباثي” ومسألة ثقة الشعب في الرجل الذي يتعامل معه ، واسألوا الشعب هل بينه وبين لورد كليرن سمباثي ؟ أو هل له فيه ثقة؟!”.

إشادة محسن محمد بالشجاعة التي وصل لها  

لفت الأستاذ محسن محمد النظر إلي مدي الشجاعة التي تحلي بها إحسان عبد القدوس في هذا المقال فقال:

“حكم لورد كليرن  مصر ٢١ سنة دون أن يجرأ مصري واحد علي أن يهاجمه علنا أو بالاسم، لكن إحسان عبد القدوس كان الصحفي والسياسي المصري الوحيد الذي هاجمه في مقال شهير في روز اليوسف، والحرب العالمية الثانية مشتعلة وونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يؤيد سفيره في مصر في كل شيء حتي في عزل فاروق ملك مصر، ومن هنا كان هجوم إحسان عبد القدوس وهو بعد شاب صغير يعتبر انتحارا صحفيا وسياسيا”.

بدأ توهجه حين كتب عن الأسلحة الفاسدة

بدأ إحسان عبد القدوس توهجه الساحق حين كتب عن قضية الأسلحة الفاسدة سلسلة من المقالات تحت عنوان :”محاكمة مجرمي حرب فلسطين “، ولا شك في الحقيقة القائلة بأن إحسان عبد القدوس هو صاحب الفضل الأول في حملة الأسلحة الفاسدة التي انتقدت دور بعض أجهزة الحكومة المصرية والحاشية الملكية (والملك فاروق بالتالي) في تزويد القوات المصرية في فلسطين بأسلحة فاسدة خلال الحرب الفلسطينية (1948)، وتعرض إحسان عبد القدوس بعد إثارته هذه القضية إلي أولي محاولات اغتياله بالطعن بالسكين من الخلف. وقد تصاعدت حدة العداء بين إحسان ومجتمع روز اليوسف من ناحية، وبين عدد من الرسميين، لكنه كان يخرج في أغلب معاركه، بل في كلها تقريبا منتصرا، وعلي سبيل المثال فإنه نشر أربع مقالات (1950)، أجبر بعدها الفريق حيدر علي الاستقالة من منصبه.

سعة صدر النحاس باشا

كان السياسيون الليبراليون  وفي مقدمتهم النحاس باشا يقدرون لإحسان عبد القدوس شجاعته، وكانوا بطبعهم يتعففون عن حربه في رزقه أو في مجده، وليس أدل علي هذا من أنه هاجم النحاس والوفد هجوما عنيفا (1951)  في مقاله الشهير “دولة الفشل” بينما الوفد في السلطة، ومع هذا فإنه لم يصبه أي أذي على الإطلاق من الوفد أو النحاس باشا ، مع أنه وصف النحاس بأنه فاشل، ووصف وزرائه واحدا واحدا بالفشل مقدما أسباب هذا الحكم القاسي عليهم علي نحو ما نقرأ في مقاله.

رغم مواقفه  لم يكن وفديا

ومن الطريف أن إحسان عبد القدوس الذي كان يهاجم الملك ويهاجم دار المندوب السامي البريطاني، لم يكن وفديا، وهذا أمر مفهوم بالطبع في ظل العداوة القديمة التي استحكمت بين والدته روز اليوسف  ومجلتها من ناحية، وبين النحاس باشا والوفد من ناحية أخري، وذلك بعد الخلاف الحاد الذي وقع بين الطرفين وحول روز اليوسف من مجلة الوفد الأثيرة إلي مجلة معادية للوفد، وقد هاجم إحسان عبد القدوس الوفد باعتدال لكن بعض مقالاته  لم يخل من قسوة، ومنها الشهير (1951)  في أثناء وزارة النحاس باشا الأخيرة، وفيه تعريض بكل الوفديين الكبار:

“إننا في مصر نؤمن بالفشل ونعبد الفاشلين… الفشل في كل مكان، وأمام كل خطوة، ووراء كل زعيم، وفي حنايا كل ملف، وفي ظلام كل درج، وفي طيات كل صوت، والفاشلون هم الذين يحكمون مصر، وهم الذين يتولون مقاديرها، وهم الذين يسوقونها من فشل إلي فشل، ثم إلي فشل. رئيس الوزراء فاشل كبير، فشل في أن يحقق أهداف مصر القومية، وفشل في أن يصون نزاهة الحكم، وفشل في أن يحتفظ بقوة الشعب، وفشل في أن ينتصر للدستور، وفشل في أن يوفر قوت الشعب، وفشل في أن يجمع من حوله وزراء ناجحين، وفشل في أن يصلب عوده أمام الأزمات، بل انحني لها حتي أصبح يتقدم إلي الوراء زاحفا علي بطنه”.

“والوزير الذي يتولى القضية الوطنية، وزير فشل، فشل في أن يحقق أهداف مصر، وفشل في أن يصون كرامة وطنه، وفشل في أن يغطي فشله، وترك وجه مصر تكويه صفعات الإنجليز، وسمع بأذنه أن لا أمل في الجلاء، وأن لا أمل في الوحدة، فلم يقاوم ولم تهده عبقريته، أو وطنيته، إلي طريق جديد يسير فيه، إنما استمر في طريق الفشل لا يحيد عنه، ولا يخجل منه، ولا يداريه، ورغم ذلك فلايزال وزيرا مهما من وزراء مصر”.

“والوزير الذي يتولى شئوننا المالية وزير فاشل، فشل في أن يجعل من ميزانية مصر ميزانية محترمة، وفشل في أن يوقف التضخم المالي، وفشل في أن يرضي الطوائف، وفشل في أن يمول المشروعات الكبرى، وفشل في أن يفرض إرادته علي الأغنياء، وفشل في أن يوقف شهوات أصحاب النفوذ، وفشل في أن يصون مال الدولة من أيدي المختلسين والمصطافين و”المراقيع” الطامعين”.

“وهو نفسه وزير الداخلية، وقد فشل في أن ينأى بالإدارة الحكومية عن الحزبية، وفشل في أن ينشر الاطمئنان والاستقرار في كل قرية، وفي كل مديرية، وفي صدر كل عمدة، وكل مأمور، وكل كونستابل، وشيخ خفر، وفشل في أن يضع للجريمة حدا، وللوساطات حدا، وللخلاعة حدا”.

“ووزير الحربية فاشل، فشل حتي في الاحتفاظ باختصاصه، وترك الجيش يخرج من بين يدي الحكومة والشعب، يكون هيئة كهنوتية لها أسرارها، ولها سلطاتها، ولها استقلالها، ولها قائد فاشل”.

“ووزراء التموين والأشغال والتجارة… إلخ، كلهم فاشلون، وكلهم لا يدارون فشلهم، بل يفخرون به”.

“والرجل الذي يتولى شئوننا العربية فاشل بطبيعته، فاشل من يوم ولد، ولا يكاد يري إلا والفشل من ورائه، اشترك في حرب طرابلس ففشلت الحرب، واشترك في وزارة علي ماهر ففشلت الوزارة، وفشل علي ماهر، وساهم في أنشاء الجامعة العربية ففشلت، ونظم حرب فلسطين ففشلت، وساهم في حركة تحرير ليبيا ومراكش.. إلخ ففشلت كل حركات التحرير التي اشترك فيها، ورغم ذلك فهو يعتمد علي هذا الفشل في الاحتفاظ بمنصبه، وفي تجديد مدة خدمته كلما ارتفع صوت بإبعاده”.

“والمعارضة يتولاها زعماء فاشلون، فشلوا في اكتساب ثقة الشعب، وفشلوا في مواجهة الحقائق السافرة، وفشلوا في وقف طغيان الحكومة وأخطائها”.

“كلهم فاشلون.. و رغم ذلك فليس بينهم واحد يخاف من فشله أو يندم عليه، بل إن هذا الفشل هو الذي يؤهله لحكم مصر، وهو الذي يحتفظ له بسطوته ونفوذه، وهو الذي يؤهله للمنصب وللجاه، وهو الذي يقدمه علي خلق الله ويضعه فوق رءوس الناس. إن قائمة الفشل في يد أي رجل من رجالات مصر هي التي تفتح له الأبواب، وهي التي تمهد أمامه الطريق، وهي التي تقربه وتحقق أحلامه، وكم من زعيم أو رجل فشل، وقلنا: لن يعود، فإذا به يعود موفور السلطان والجاه، ليفشل مرة ثانية، ثم ليعود مرة ثالثة”.

“وويل للناجحين : ويل للحر الأبي الذي يخشي ضميره، ويخشي الله في وطنه«. و ويل للكفء الذي ينظر إلي الأمور نظرة جدية، ويعمل متعمدا النجاح لا متعمدا الفشل ، ويل لمن يحاول أن يجعل من مصر دولة منتصرة ناجحة”.

“ويل للكفء ، فالأبواب تغلق من ورائه ومن أمامه، والجبروت الظالم يطارده أينما حل، والتهم المفتراة تلاحقه في كل يوم، فإن كل عاقل وطني ناجح معناه في مصر أنه شيوعي، أو أنه متطرف يسعي لقلب نظام الحكم”.

“اطردوا الفاشلين.. ودعوا الناجحين يأخذون مكانهم من قيادة مصر، و جربوا صنفا آخر من الرجال غير هذا الصنف الذي أثبت فشله..”

” وارحموا مصر”

هذا الفصل

نشر هذا الفصل  من كتاب ” سلطة النبوغ الخصيب ” : دار الروضة ، 2019 و نشر قبل هذا كمقال   جريدة التحرير بعد ثورة يناير ٢٠١١ .

 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com