الرئيسية / المكتبة الصحفية / سر شعور الفرنسيين بالحياة

سر شعور الفرنسيين بالحياة

أحمد زكي باشا يتحدث عن شعور الفرنسي بالعظمة

نتحدث الآن عما يقال عن شعور المواطن الفرنسي بالعظمة وهو قول حقيقي ، وعلى سبيل المثال تحدث أحمد زكي باشا عن هذا المعني في بداية القرن العشرين فقال:

«أليس أن كل واحد منهم يعتقد أن له حصة في ملك فرنسا أليس أنه فوق ذلك قد تصور الأماني والأوهام أنه ربما ساعده الزمان علي الارتقاء إلي هذا الملك فصار رئيس الجمهورية في يوم من الأيام؟ “

فلكس فور رئيس الجمهورية كان عاملا عند الدباغين

” كيف لا والشاهد أمام عينيه قريب؟ فها هو المرحوم فلكس فور رئيس الجمهورية السابق قد ارتقي هذه المنصة العالية في هذا الدست الفخيم مع أنه كان في أول أمره عاملاً عند الجلادين والدباغين».

أحمد فهمي العمروسي يُصوّر حب الفرنسيين للحرية

وها هو مثقف مصري من العصر السابق هو الأستاذ أحمد فهمي العمروسي يصور حب الفرنسيين للحرية والكرامة علي نحو جميل حيث يقول:

«يوم دخولي بمدرسة سان كلو احتفل طلبة السنة الأخيرة بالمستجدين وكان يقضي برنامج الحفلة أن يغني كل طالب من السنة الأولي أنشودة فلما جاء دوري اعتذرت بأني لا أعرف الغناء بالفرنسية فاقترحا علي أن أغني بالعربية علي أن أترجم لهم معني ما أقول. فارتقيت المنصة وقلت هذين البيتين لعنترة بن شداد:

 

حكم سيوفك في رقاب العزل            وإذا نــــزلت بـــدار ذل فـارحل

وإذا بليــــت بظـالم كن ظالما            وإذا لقيت ذوي الجهـــالة فاجهل

ثم ترجمتهما بالفرنسية، وإذا هم يقابلون المعاني بتصفيق حاد حتي نهض أحد الأساتذة وقال: «إن العرب كانوا يعشقون الحرية مثلنا وكانوا متشبعين بمبادئ القرآن الذي ينص علي وجوب مقابلة المثل بالمثل: فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم :  العين بالعين والسن بالسن».

وصف بيرم التونسي لاعتزاز الفرنسيين بعملهم وأنفسهم

وصف بيرم التونسي اعتزاز الفرنسيين والفرنسيات بأنفسهم وعملهم، وما بلغه هذا الاعتزاز فقال:

شفت العيون والشفايف في باريس بتقول:

إحنا ملوك البرايا حكمنا مقبول

البدع والفن كله عننا منقول

سادات بنا في السيادة تنضرب أمثال

أحرار محرم علينا السجن والأغلال

والفقر والذل ما لهم في بلادنا مجال

ويوم سباق «النجايب» كلنا سابقين

 رفاعة الطهطاوي يقول بأن الفرنسيين أقرب للعرب

وربما كان من حق القارئ الان أن نعود به إلي بواكير الكتابات الملخصة لرأي المصريين في طبيعة أخلاق الفرنسيين فقد كان رفاعة الطهطاوي يميل إلي القول بأن الفرنسيين أقرب إلي العرب من جنسيات أخري اشتهر قربها من العرب، ونحن نعرف بالطبع ما لا يذكره رفاعة من أن هذا القرب من تلك الشعوب جاء بسبب دخولها في الإسلام :

«ظهر لي بعد التأمل في آداب الفرنساوية وأحوالهم السياسية، أنهم أقرب شبها بالعرب منهم للترك ولغيرهم من الأجناس، وأقوي مظنة من العرب بأمور كالعرض، والحرية، والافتخار، ويسمون العرض شرفا، ويقسمون به عند المهمات، وإذا عاهدوا عاهدوا عليه، ووفوا بعهودهم، ولا شك أن العرض عند العرب العرباء أهم صفات الإنسان، كما تدل علي ذلك أشعارهم وتبرهن عليه آثارهم».

الطهطاوي يتحدث عن أخلاق البارسيين

وقد تحدث رفاعة الطهطاوي عن أخلاق الباريسيين علي وجه العموم فقال:

«أعلم أن الباريزيين (هكذا كان رفاعة لا يكتب الباريسيين إلا بالزاي علي نحو ما يفعل أيضاً في باريز) يختصون من بين كثير من النصاري بذكاء العقل، ودقة الفهم، وغوص ذهنهم في العويصات، وليسوا مثل النصاري القبطة في أنهم يميلون بالطبيعة إلي الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلا، بل يحبون دائما معرفة أصل الشيء، والاستدلال عليه، حتي إن عامتهم أيضا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة”

” كل إنسان علي قدر حاله، فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة، فيحتاج الصنائعي بالضرورة إلي معرفة القراءة والكتابة لإتقان صنعته، وكل صاحب فن من الفنون يجب أن يبتدع في فنه شيئا لم يسبق به أو يكمل ما ابتدعه غيره، ومما يعينهم علي ذلك، زيادة عن الكسب، حب الرياء والسمعة، ودوام الذكر، فهم يقتدون بقول الشاعر:

لعمري رأيت المرء بعد زواله /حديثا بما قد يأتي ويصنع

فحين الفتي لابد يذكر بعده / فذكراه بالحسني أجل وأرفع

              

 

 

 

 

 

 

 

 

وقول ابن دريد:

وإنما المرء حديث بعده /فكن حديثا حسنا لمن وعي 

          

 



ترحيب الفرنسيين بدفع الضرائب والرسوم الحكومية

وثمة خلق ثالث تحدث عنه رفاعة الطهطاوي بذكاء وإعجاب وهو ترحيب الفرنسيين بدفع الضرائب والرسوم الحكومية وما يدل عليه هذا الخلق من إيمانهم بوظيفتها الاجتماعية فيقول:

«… هذا لا يمنع من أنهم يدفعون الميري (أي الرسوم الأميرية المقررة من ضرائب ونحوه) عن طيب خاطر، لما أنهم يرون أن الخراج (هكذا يستخدم رفاعة اللفظ الإسلامي) عمود الملك إذا دفع كل إنسان منهم ما هو عليه قادر، فمال الميري هو قوام صورة الممالك، وإحسان مصرفه في استحقاقه خير مما هنالك، قال الشاعر:

والمال أس لقيام الصورة / وخير منه صالح المشورة
 
   

 

الجبرتي  و علاقة الفرنسيين بالمرأة


ونمضي خطوة اخرى في عمق الزمان مع ما هو متاح أمامنا من الروايات إلي بداية عصرنا الحديث فنجد أن الجبرتي كان (بالطبع) أول مَنْ تناول علاقة الفرنسيين بالمرأة واصفا هذه العلاقة علي نحو ما رآه من مظاهرها في زمن الحملة الفرنسية، وها هو يقول:

“فلما حضر الفرنسيس، ومع البعض منهم نساؤهم، كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه، لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة، ويركبن الخيول والحمير مع الضحك والقهقهة، ومداعبة المكارية معهم، فمالت إليهم (لاحظ أنه يستخدم ضمير المذكر إشارة إلي الفرنسيين لا الفرنسيات، وهو ما تؤكده الجملة التالية مباشرة) نفوس النساء (المصريات) فتداخلن مع الفرنسيس لخضوعهم للنساء (هكذا يعبر الجبرتي بفعل الخضوع عن أفعال أخري نستخدمها من قبيل الاحترام أو التقدير أو إعطاء المكانة)، وبذل الأموال لهن، وعدم مخالفة هواهن ولو شتمنهم أو ضربنهم، فطرحن (الضمير يعود علي النساء المصريات) الحشمة والوقار”

” وخطب الكثير من الفرنسيس بنات الأعيان وتزوجهن (مع أننا نعرف أن هذا حدث في حالات نادرة إلا أن الجبرتي يشير إلي الحادثة كما لو أنها كانت ظاهرة)، فصار معهم النساء المسلمات متزييات بزيهم، ومشين معهم في الطرقات للنظر في أمور الرعية، وأمامهن الخدم بأيديهم العصي مثلما يمر الحاكم، يأمرن وبنهين، كذلك صاحبن الرجال في المراكب والرقص والغناء، عليهن الملابس الفاخرة والحلي، وصحبتهن آلات الطرب».

رأي رفاعة الطهطاوي في المرأة الفرنسية

أما رفاعة الطهطاوي فقد أجمل رأيه فيما سماه نساء الفرنساوية فقال:

«ففي نساء الفرنساوية ذوات العرض، ومنهن من هي بضد ذلك، وهو الأغلب لاستيلاء فن العشق في فرنسا علي قلوب غالب الناس ذكورا وإناثا، وعشقهم مُعلل لأنهم لا يصدقون بأنه يكون لغير ذلك إلا أنه قد يقع بين الشاب والشابة فيعقبه الزواج»

حيرة يحيى حقي تجاه سلوك الشباب الفرنسي

ومن العجيب (وإن كان هذا متوقعا) أن يحيي حقي لم يتعاطف مع سلوك الشباب الفرنسي في ثورة 1968، بل ذهب إلي تبني الرؤية الناقدة لهم، والواصفة لسلوكهم بتهم الانحلال والضياع، لكنه في الوقت ذاته لم ينكر أنه رأي في جموع هؤلاء الشباب ذكاء لم يره من قبل، ووضاءة إلهية، وعيونا بريئة حتي إنه أصبح في حيرة من أمره تجاه هؤلاء:

” وقليلا قليلا.. تحس بشعور من القلق ينتابك، ثم يعلو شيئا فشيئا.. بالعدوي.. من الزكام إلي الحمي، هذه الحركة كلها رقص علي بركان، ومن أعجب العجب أنني رأيت وجوه هؤلاء الفتيان وقد لصقت بهم ـ عن جدارة ـ تهمة الانحلال والضيعان والاستهتار، تنطق لي بقمم من الذكاء لم أر مثلها، الجباه وضاءة بنور سماوي، والعيون تسيل منها الوداعة والبراءة، حتي أصبحت لا أدري.. هل يمر بي رهط من المنحرفين، أم ركب من القديسين؟!”.

يحيى حقي يقارن بين باريس و مونبلييه

ونأتي إلي السؤال المتوقع: هل باريس هي فرنسا وهل فرنسا هي باريس؟

يعقد يحيي حقي فصلاً خاصاً للمقارنة بين باريس ومونبلييه من خلال الحديث عن ابتعاث الزعيم الوطني مصطفي كامل إلي الثانية بدلاً من الأولي، ملخصاً فكرة المصريين في ذلك العصر عن هاتين المدينتين الفرنسيتين وحرصهم علي النجاة بأبنائهم من باريس إلي مونبلييه:

تجربة مصطفى كامل

«… نراه (الضمير يعود علي مصطفي كامل) حين أراد السفر قد عدل ـ أو عدل به أولياء أمره ـ قرابة أو مصلحة، مثل الخديو عباس الثاني، عن الاتجاه إلي باريس، مع أنها قلب فرنسا، والعاصمة التي تزهو بمناخها الثقافي والفني الفريد، وبمعاهدها العلمية، يتوجها السوربون، ذائع الصيت، رب الوقار، لهجتها هي الأرقي بين اللهجات العديدة التي تتوزع أقاليمها، هي المقصد الأول لطلبة العلم والفنون القادمين إلي فرنسا من الشرق والغرب، ورضي مصطفي كامل ـ جبرا أو اختيارا ـ أن يشذّ عنه ويقيد اسمه بجامعة مونبلييه، وهي مدينة صغيرة في جنوب فرنسا».

«أصبح لاسم هذه المدينة وجامعتها ـ بفضل مرور مصطفي كامل بها ـ أجمل وقع في آذاننا، نحن أبناء الجيل الطالع بعد جيله، كان تصورنا للذهاب إليها ـ لو سمحت به الأيام ـ أنه نوع فريد من الحج، أو المشي علي هدي خطي الحبيب الراحل».

المصريون  ابعدوا أبناءهم عن باريس

وينبهنا يحيي حقي إلي أن سلوك مصطفي كامل لم يكن نسيج وحده في ذلك العصر:

“… لم يكن هو وحده الذي فعل هذا، بل فعله كثير من الشبان المسافرين لطلب العلم في فرنسا، بإرادة من أهلهم، كان مآلهم إلي جامعة في الجنوب، بعيدة عن باريس، مثل جامعة مونبلييه أو إكس، لأن أهلهم يؤمنون بأن باريس ـ كما هي مدينة العلم والعرفان ـ هي أيضا ـ مع الأسف ـ مدينة اللهو والفجور والفساد، مدينة مخلوعة العذار، هي داء خطر ومباءة، لابد من تحاشيها، الهرب الهرب منها”.

د. محمود عزمي يصور اختلاف الجوهر عن المظهر في باريس

وأخيرا فان الجوهر قد لا يتفق مع المظهر في باريس. وربما امتازت باريس بأن المفارقة فيها أبلغ وأطرف.  وهذه قصة طريفة تحدث فيها الدكتور محمود عزمي فيها عن تجربة مثيرة في التعرف علي العلماء من سمتهم، فاذا هذا التعرف ينقلب علي أصحابه:

” وزرنا الرجل في منزله بالحي اللاتيني ثم تفضل فضرب لنا موعدا لمقابلته بدار المجمع العلمي الفرنسي – مجمع الأكاديميات كلها – ليقدمنا هناك إلي «أمراء العلم» وذهبنا ودخلنا لأول مرة في حياتنا ذلك الهيكل المقدس تقديسا عالميا ووقفنا في بهو طابقه الأول ننتظر وصول مسيو «ماسبرو» أو ظهوره داخلا أو خارجا خلال باب من الأبواب العديدة المطلة علي البهو.  وتمثلت نفسي، وتمثلت إخواني الثلاثة معي كأولئك القرويين الذين يحضرون إلي دواوين الحكومة في القاهرة وينظرون إلي مبانيها وتنسيقها فيجدون فيها كل شيء عجبا ويقفون مبهوتين. وهكذا كنا نحن الذين تبعثهم الجامعة المصرية للتخصص في بعض نواحي العلم العالي بباريس. وقفنا ننتظر علامّتنا فكانت الأبواب المطلة علي البهو تفتح فيدخل منها شيخ وقور نال منه الشيب فزاده وقارا في بذلة خضراء تتدلي علي صدره سلسلة من المعدن الأبيض فيقول قائلنا: «انظروا كيف يسير العلم في تؤدة. شاهدوا كيف يحني العلم الظهور. لاحظوا فعل كثرة الاطلاع في العيون»

كحة العلم و بلغم العلم

” ثم يدخل شيخ وقور آخر ويسعل سعلة فيها من (البلغم) فيقول قائلنا «إنها كحة العلم فانصتوا لها ، وأنه بلغم العلم فاحترموه  ، ثم يقف في البهو رجل في زي العاديين من الرجال يسير بعض الشيء يمنة ويسرة فلا تحسبه شيئا مذكورا ويتولاه أحدنا «بالتنكيت» فيلاحظ أن حذاءه هو من نوع الأحذية «العجيبة» التي يعلن عنها في أحد دكاكين الحي اللاتيني بأن ثمنها تسع فرنكات وخمسة وتسعون سنتيما».

تواضع الفرد كروازي عميد كلية الآداب و بساطته

«ثم إذا بباب كبير يفتح وإذا بشيوخ ينسابون إلي البهو وإذا بعلامتنا «ماسبرو» بينهم فنتقدم إليه وإذا بنا نري عجبا : نري ذينك الشيخين الوقورين اللذين كنا نتغزل فيما فعله العلم بهما قد أمسك كل منهما بقبضة باب يفتحه ويغلقه لتسهيل المرور منه علي أعضاء المجمع وزائريه، وإذا بذلك الرجل العادي ذي الحذاء «العجيب» الذي يقل ثمنه عن العشرة فرنكات إذا به مسيو «الفرد كروازي» لا أقل ولا أكثر. مسيو «الفرد كروازي» عميد كلية الآداب بجامعة باريس…

إنما العلم بالتواضع

فعلمنا إذا أن العلم عند أولئك القوم لا هو بالسعلة ولا هو بالتؤدة وإنما هو بالتواضع الصحيح».

 
النص الكامل : كتاب الدكتور محمد الجوادي ، باريس الرائعة ، مكتبة الشروق الدولية 2014
شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com