الرئيسية / المكتبة الصحفية / باريس التي تجعلك فنانا رغم أنفك

باريس التي تجعلك فنانا رغم أنفك

وصف توفيق الحكيم لحفلة الشاتلييه

رأينا  طه حسين وقد اعترف بأنه لم يتح له أن يتعلم فنون باريس وإن كان قد شغل عنها بالعلم، لكن توفيق الحكيم (في المقابل) تعلم كل هذه الفنون، وروي لنا انطباعاته وهو يتعلمها بجدية وحب وتجرد، وعلي سبيل المثال فقد قدم لنا في الفصل السادس من كتابه “عصفور من الشرق” وصفا بديعا لمسرح الشاتلييه وما نال فيه من حظ الاستماع إلي عزف موسيقي الفنان العظيم بيتهوفن:

«… وجاء الظهر فتغدي في مطعم صغير، ثم أسرع إلي مسرح الشاتلييه ليصغي إلي ذلك الرجل الذي أصغت إليه أجيال من البشر! هنالك وجد الفتي المسرح يعج بالناس، فاتخذ له مجلسا متواضعا في أعلي المكان، وجعل يشاهد، من عل، ذلك البحر العجاج من نساء ورجال في القاعة والشرفات!

ذكرياته عن الموسيقي جابرييل بيرنيه

“ولم يمض قليل حتي ظهر الموسيقي جابرييل بيرنيه رئيس الفرقة، بعصاه الصغيرة، ولحيته البيضاء القصيرة! فسكن الضجيج فجأة، وارتفعت الأيدي بالتصفيق، ثم خيم علي المكان سكون قدسي كسكون المعابد، وشعر محسن بالخشوع … “

” وتحركت يد الأستاذ بالعصا، فإذا بيتهوفن يتكلم بلغته السماوية، قوية أول الأمر في ذلك الـ “أليجرو” الجليل، حلوة بعد ذلك كأنها أصوات الملائكة الصافية في ذلك الـ “أندانت” الهادئ، ثم فياضة بالسرور الداخلي، من ذلك الـ “سكرتزو” المشرق، إلي أن تنتهي منه إلي ذلك الفرح المتفجر: من أضواء النغم الـ “برستو” الأخير!

“نعم، إن هو إلا وحي السماء يتكلم، بمختلف المشاعر العظيمة التي رفعت الإنسانية إلي هذه المرتبة!…

” لقد بدأ محسن [ يكاد الناس جميعا يعرفون أن محسن  هو توفيق الحكيم نفسه] يدرك ويحس حقيقة تلك الكلمة التي قرأها في نيتشه: “كل عواطف البشرية السامية في السيمفونية الخامسة!”».

«وترك محسن المسرح وهو شارد القلب شأنه شأن بقية الناس! مازالت نفسه هائمة في ذلك الجو العلوي! وخرج إلي الطريق فاستقبله الهواء البارد ضاربا وجهه، فعادت في الحال إليه نفسه».

استمتاع الحكيم بالموسيقى في الشاتليه

وفي الفصل الثامن عشر من “عصفور من الشرق” يعاود الحكيم الحديث عما استمع إليه ذات مرة من الموسيقي العالية في مسرح الشاتليه:

«وانقطع محسن فجأة عن القراءة، فقد أطفئت الأنوار، ووقف المايسترو ينقر بعصاه نقرا خفيفا علي قمة مصباحه الأخضر، تنبيها للعازفين.

 بدأت الأوركسترا تعزف مقدمة “بارسيفال”: نغمة ترتفع منفردة أول الأمر، لا يصحبها شيء، كأنما هو صوت واحد يتكلم، وسط سكون السكون! صوت، في عين الوقت، إلهي وبشري! وتمضي تلك النغمة حاملة في أعماقها بذور الألحان الدينية، التي تتركب منها القطعة، إلي أن تقابلها تلك الأقوال المقدسة: خذوا، وكلوا، هذا هو جسدي!… خذوا، واشربوا، هذا هو دمي!… ثم يسمع من “الكواتيور” شبه رعدة مبهمة، بين عديد من الأنغام السريعة المتعاقبة، ورنين الصناجات المكبوت، كأنما هو صوت طليق ممتد، يخفت شيئا فشيئا تحت قباب كاتدرائية عظيمة!».

«واستمر الأداء، ومحسن ليس علي هذه الأرض إلي أن أشار الأستاذ بعصاه إشارة الانتهاء، وانطلقت الأيدي بتصفيق كأنه الرعد، فتنبه الفتي، وقام الناس يدخنون في فترة الاستراحة ويتحادثون.. وبقي محسن واجما في مكانه، ولمح علي المسرح حركة دخول أفراد مجموعة المنشدين “الكورس” من سيدات ورجال.. ينتظمون في أماكنهم، فرفع الكتيب إلي عينيه ليقرأ ما قيل عن قطعة بيتهوفن ويهيئ نفسه للمثول بين يدي هذا القلب العظيم، كي يسمع منه، ويفهم عنه! وقرأ الفتي هذه الصفحة: “وبلغ فن بيتهوفن في السيمفونية التاسعة غاية ما يستطيعه بشر في عالم البناء الصوتي، ولقد أخرج هذا العمل في تلك المرحلة من حياته ـ التي ابتلي فيها بالصمم ـ كارثة جاء ذكرها في وصيته التي كتبها في أكتوبر سنة 1882، علي إثر أزمة قوية من أزمات اليأس».

حديث يحيى حقي عن عناية البارسيين بالحيوان والنبات

من زاوية تربوية وفنية أخري يحدثنا يحيي حقي في كتابه «حقيبة في يد مسافر» عن عناية الباريسيين بالنبات والحيوان من خلال سوق خاصة وجدها مقامة علي نهر السين في مقابل سور الكتب القديمة، وهو يصف هذه السوق فيقول:

«صف من الدكاكين أمام الكوبري الجديد في باريس تبيع صنفين وليس غير، الأول: بذور نباتات الحدائق المنزلية أو الأصص، وأزهارها، وأعشابها: أي بذور تطلب تجد، الزبائن أغلبهم كبار السن.. والثاني: مجموعة من الحيوان الذي يربي في رفقة الإنسان، إما طليقا وإما حبيسا، من أول الكلب، والهر، والنسناس، وأنواع لا عدد لها من الطيور: مزقزقة، أو ناطقة، أو شادية، أو كأنها من بهرجتها ذاهبة إلي حفل عرس، إلي الفأر الأبيض، والسحلية، والبومة، بل رأيت وطواطا معروضا للبيع في عز النهار، وآخر المتمة أشكالا وأجناسا من سمك الزينة، فيه البليد المطمئن يمشي الهويني خلي البال، وفيه من يجري كالمسروع الخائف، فجأة إقباله وإدباره، ترتفع هنا نسبة الصبيان بين الزبائن.. إما وحدهم وإما مع آبائهم)».

«الزحام في هذه الدكاكين علي أشده، الدرز علي الدرز».

تفسير يحيى حقي لعلاقة العلم بالتجربة

ويعزو يحيي حقي تعطش الباريسيين إلي هذه الطبيعة المتمثلة في الحيوان والنبات، إلي ما فرضته الحضارة الحديثة من قسوة المعيشة في البيوت ذات الجدران، وهو يمضي في هذا التفسير إلي أن يتحدث عن علاقة العلم بالتجربة فيقول:

«ومن العجيب أن إحساسي بهذا الجوع في هذه الدكاكين زاد لأنها قبالة الأكشاك المصفوفة علي ضفة السين لبيع الكتب القديمة (سور الأزبكية نسخة منها) : مؤلفات كثيرة مصورة تدرس الحيوان والنبات، فكأنما العلم عن يمينك، والتجربة عن يسارك، والعلم المنصوص جفاف وتلقين بالوساطة، واتصال ذهني في فراغ، والتجربة حياة نابضة، وعناق، وحب تلقائي يشارك فيه القلب، فالعلم لا يغني عن التجربة ولا يبطلها، بل يزيد الشوق إليها تأججا وبصيرة».

أنور عبد الملك و صحبة أراجون

 في باريس لا تجد معاهد العلم وأجواءه فقط لكنك تجد أيضًا العلماء والفلاسفة والرواد فتصحبهم وتتلقي العلم عنهم بطريقة مباشرة.

 تحدث الدكتور أنور عبد الملك عن حياته هو نفسه في باريس وما حفلت به من انجازات ومعاشرة عن قرب للمفكرين العالميين:

«أذكر بعميق التأثر الشاعر الروائي فيلسوف علم الجمال الفرنسي العظيم «لويس أراجون Aragon» سعدت بمواكبته بين 1961 – 1973، كان حقيقة أميرا لشعراء هذا القرن، أميرا في مقامه وقامته، شديد التعلق بالحضارة العربية الأندلسية وكذا بمكانة الحزب الشيوعي الفرنسي في المقاومة وتحرير بلاده، علمنا أنه «لا يوجد شيء مؤكد للإنسان، لا قوته، ولا ضعفه، ولا قلبه، ليس ثمة حب سعيد»، وكذا أنه علي الإنسان «أن يظل ملكا لآلامه» – الإيجابية المأساوية علي حد تعبير الكاتب المسرحي السوفييتي المعاصر «فيشنيفسكي».

الفنان والكاتب التركي عابدين دينو

«كنا معا في باريس دوما حول صديقي الأعز أثناء سنوات المنفي «1959 – 1973»، الفنان والكاتب التركي العظيم «عابدين دينو Abidine» آخر سلالة أسرة «عابدين» الذي جاء ضابطا شابا برتبة اليوزباشي مع قائده الشاب «محمد علي» لحماية مصر من الفرنجة عام 1801، ومن ثم أطلق اسم عابدين علي ما أصبح فيما بعد قصر الوالي ثم الملك في القاهرة.

«كان مرسم عابدين في باريس، حتي رحيله منذ أشهر، يدا في يد (مع دارنا في الحي الثالث عشر) بيت المصريين ملتقي رجال الفكر والقلم، والشخصيات السياسية العالمية، وبفضله وإلي جواره تفتحت أمامي أبواب عالم الفن وخاصة التصوير العالمي من أوسع الأبواب، منذ تعرفت إليه بواسطة صديقتنا المشتركة «انجي افلاطون» في 1961.

 عابدين دينو و ناظم حكمت

ثم كان بعد ذلك خروج «ناظم حكمت» من سجون تركيا، ثم المنفي في الاتحاد السوفييتي وكان هو وعابدين في باريس يدا واحدة.

” أنشد ذات أمسية قصيدة «بورسعيد» فعبرت عن صدي عمله العظيم في الوجدان المصري، طالبني أن أقدم بعض الأمثلة فأنشدت قصيدة زميل النضال الشاعر الثوري الكبير «كمال عبد الحليم».

«هذه أرضي أنا وأبي مات هنا وأبي قال لنا: مزقوا أعداءنا».

«أيام حارة، صاغت تواكب الرومانسية والثورية في قطاع واسع من الفكر الفلسفي والسياسي في الشرق المعاصر».

علي فهمي خشيم يتحدث عن اليونسكو في باريس

أنتقل إلي حديث جميل في وصف اليونسكو ومكانتها في باريس، وهو حديث لم يكتبه واحد من الذين تلقوا تعليمهم في باريس ولا بالفرنسية ولكنه واحد من الذين قدر لهم أن يختاروا في أعلي مناصب اليونسكو عضوا في المجلس التنفيذي لها. وهو الصديق الدكتور علي فهمي خشيم الوزير الاتحادي الليبي الذي اختير لهذا المنصب في نهاية السبعينيات وهو يلخص تجربته في هذا المنصب وفي ذلك المبني علي نحو جميل حيث يقول:

“هذا هو اليونسكو إذاً : بناء مهول يرتفع جملة طبقات ويحتل مساحة شاسعة في قلب العاصمة الفرنسية، تحيط به الحدائق الغنَّاء والشوارع النظيفة المشجرة ويعج بمئات الموظفين والعاملين ومكاتب مندوبي الدول وسفرائها ومئات من أمينات السر الحسناوات (هكذا يتحدث خشيم عن السكرتيرات بهذا اللفظ العربي) من كل لون وجنس. ممرات تفضي إلي مكاتب، ومكاتب تؤدي إلي دهاليز، ومسارب إلي ردهات وصالات وقاعات يفقد المرء فيها سبيله إن لم يصحبه دليل.. أو دليلة!»

اتخذت مكاني في قاعة «المجلس التنفيذي» للمنظمة التي تشبه حدوة الحصان تصطف حولها المقاعد علي اليمين وعلي الشمال ويتصدرها رئيس المجلس وإلي جانبيه مساعدوه ومعاونوه من الموظفين المكلفين بنظام العمل ومتابعة المناقشات وعرض الموضوعات وفي الدور العلوي غرف صغيرة للمترجمين الفوريين إلي لغات العمل المعتمدة : الإنكليزية والفرنسية والروسية والصينية (ودولها أعضاء دائمون في المجلس المن وممثلوها أعضاء دائمون في مجلس اليونسكو التنفيذي أيضا) ثم الإسبانية والعربية.

خشيم يقدم اليونسكو من خلال المندوبين الذين عاصرهم

يقدم الدكتور علي فهمي خشيم اليونسكو تقديما مختلفا وذكيا من خلال ممثلي الدول المختلفة الذين تعاقبوا علي تمثيل هذه الدول في عضوية المجلس التنفيذي لليونسكو:

الفيلسوف البريطاني برتراند رسل

«أرجعت البصر كرتين. هنا كان يجلس الفيلسوف البريطاني برتراند رسل صاحب المؤلفات المثيرة في الفلسفة الحديثة وفي الرياضيات بمشاركة زميله وايتهيد. كنت معجبا برسل، وقد قرأت له بعض كتبه منها: «لماذا لست مسيحياً» و «في مديح الكسل» و «المنطق والتصوف» وسمعنا كثيرا عن المحكمة التي أنشأها في السويد واضعا الإدارة الأمريكية في قفص الاتهام بسبب جرائمها في فيتنام.

” ولعل آخر عمل للفيلسوف العجوز ذلك البيان الذي أصدره عن فلسطين ونشر علي سعة صفحة كاملة في صحيفة (الجارديان) يؤيد فيه حق الفلسطينيين في أرضهم وحريتهم».

الشاعر اللاتيني بابلو نيرودا

«هنا كان مقعد الشاعر اللاتيني بابلو نيرودا الذي غني للفلاحين البائسين والعمال المساكين وبقية «الغلابة» مقهورين في الأرض، ومع هذا يكتب مذكراته فيقول: «أشهد أني عشت».

الكاتب البريطاني ألدوس هكسلي

«وهناك الكاتب الحالم بعالم أفضل في كتابه «الجزيرة» والداعي إلي مستقبل للبشر في «عالم شجاع جديد» والبريطاني «ألدوس هكسلي». “

الشاعر الفرنسي بول فاليري

“ثمة كرسي آخر احتله الشاعر الفرنسي بول فاليري ويحتله الآن ابنه الذي نسيت اسمه، وقد اختير الابن لا لميزه فيه ولكن لسمعة والده المدوية، ونحن نقول في أمثالنا: «يقوم الجمل ويخلف البعر».

«في هذا الكرسي إذن كان الفلاسفة والأدباء والعلماء والمفكرون أعضاء المجلس التنفيذي ممن ذكرت ولم أذكر، يخططون لثقافة جديدة وتفاهم وتعاون بين الشعوب ولفهم أعمق لمشكلاتها. كانوا يحلمون.. وليس بالضرورة أن تتحقق الأحلام».

المندوبون العرب في اليونسكو

ومن حسن حظنا أن علي فهمي خشيم حرص علي ذكر أسماء الزملاء العرب الذين تزامل معهم في فترة عمله في اليونسكو:

“من العرب كان في المجلس في السنتين الأوليين (مدة العضوية أربع سنوات وفي مؤتمر اليونسكو العام كل سنتين تنتهي عضوية نصف الأعضاء ويُنتخب غيرهم ليقضوا المدة المقررة):

السيد سالم (الأردن) ومحمد محمود محمودو (موريتانيا) وقد استبدلا بمحمود المسعودي (تونس) ومحمد الفاسي (المغرب).

 وانتخب في سنة 1976 إلي جانب كاتب هذه السطور: شمس الدين الوكيل (مصر) وحسان مريود (سوريا) فكان خمسة من الخمسة والأربعين عضوا من العرب.

علاقة أجهزتنا المصرية بمبعوثينا

ونأتي إلي موضوع لا يمكن لنا ان نتجاوزه وهو علاقة أجهزتنا الرسمية بمبعوثينا وشبابنا في باريس، فقد كانت صدي لحالة الحرية واحترام الانسان في مصر، فنحن نقرأ في مذكرات الدكتور حسين فوزي ما يدلنا علي عناية فائقة بذلها مدير البعثة التعليمية الدكتور الديواني من أجل تيسير تكوينه العلمي علي نحو فريد ومتميز ظهر بوضوح في شخصية ذلك العالم الجليل.

والحق أن هذا الاهتمام كان امتدادا لما سار عليه حكام أسرة محمد علي من اهتمامهم المباشر بطلبة البعثات.

لقاء طه حسين بالخديو عباس قبل السفر الي باريس

وعلي سبيل المثال فهذا هو طه حسين يتحدث عن لقائه بالخديو عباس حلمي عقب حصوله علي «دكتوراه» الجامعة المصرية وقبل بعثته، وما تطرقت اليه المقابلة من نصيحته له ألا يدرس الفلسفة إذا ذهب باريس:

«وقد أدخل (يتحدث عن نفسه بضمير الغائب) علي الأمير، فإذا هو يلقي رجلا كغيره من الرجال الممتازين الذين كان يلقاهم في الجامعة من أعضاء مجلسها، وإذا هذا الرجل يلقاه في سماحة سمحة بريئة من التكلف، وإذا هو يأخذ بيده فيجلسه علي أريكة ويجلس عليها إلي جانبه، مهنئا له بفوزه، متمنيا له الخير والنجاح فيما يستقبل من الأيام، سائلا إياه بعد ذلك عما يريد أن يصنع بعد أن ظفر بدرجته تلك».

«قال الفتي: سأحاول السفر إلي فرنسا لأدرس الفلسفة أو التاريخ»

«قال الأمير: إياك والفلسفة.. فإنها تفسد العقول!».

«وكأن الإنكار قد ظهر علي وجه الفتي، فمضي الأمير قائلا: بل هي لا تفسد العقول وحدها، ولكنها تفسد الذوق أيضا، لقد ذهبت إلي باريس منذ سنتين، واستقبلني الطلاب المصريون هناك، وكانوا جميعا حاسري الرءوس في أيديهم قلانسهم إلا واحدا منهم كان حاسر الرأس كزملائه ولكنه لم يكن يمسك قلنسوة، وإنما كان يمسك طربوشا في يده، فلما سألت عن هذا الفتي أنبئت بأنه منصور فهمي، وبأنه يدرس الفلسفة، فعلمت أن الفلسفة قد أفسدت عليه عقله وذوقه جميعا، فصاحب الطربوش لا يرفعه عن رأسه ولا يأخذه بيده حين يلقي الخديو، وصاحب القلنسوة لا يتركها علي رأسه وإنما يأخذها بيده في مثل هذا المقام، ولكن صاحبنا كان يدرس الفلسفة!».

«ثم أغرق في ضحك متصل، والفتي (أي طه حسين نفسه) مُغرق في الوجوم».

«فلما سكت عنه الضحك، قال وهو يضع يده علي ركبة الفتي: ستسافر إلي فرنسا، ولكن لا تدرس الفلسفة وعليك بالتاريخ فإنه علم عظيم».

تجاهل أصحاب التجارب للمكتب الثقافي

انتقاد يحيي الجمل للملحق الثقافي

وتأتي بعد هذا فترات من تاريخنا نعرفها ونعرف ما كانت تتميز به، حتي إننا نجد مكتبنا الثقافي) في الغالب (محل تجاهل كل مَنْ كتبوا عن الفترات التي قضوها من حياتهم في فرنسا، لكن الدكتور يحيي الجمل عندما كتب الجزء الثاني من كتابه «قصة حياة عادية» كان حريصا علي أن يشير إلي أن الوزير فاروق حسني وزير الثقافة عمل تحت قيادته في المكتب الثقافي المصري في فرنسا، وأنه عرف منه (لا من غيره) أنه علي علاقة بالأجهزة الأمنية في مصر، وأن مهمته تتخطي حدود وظيفته في المكتب الثقافي.

وقد أثارت عبارات يحيي الجمل حين كتبها موجة استثمرها اثنان من المصريين بذكاء فوري، أما الأول فهو فاروق حسني نفسه الذي سرعان ما استثمرها في تدعيم موقفه وعلاقته بالأجهزة الأمنية، مبينا أنه يتعرض للهجوم بسبب هذه العلاقة، وأنه يحتاج دعم هذه الأجهزة، ولم تبخل عليه الدولة بالدعم فجعلت «دار الهلال» تقيم ندوة وتكرم فيها فاروق حسني تكفيرا عن الخطأ غير المقصود، ومن عجائب الأقدار أن حديث فاروق حسني في هذه الندوة سُجل، وتناقلت التسجيل أجهزة عالمية، وكانت عبارات التسجيل بمثابة الدليل الدامغ الذي أضاع علي فاروق حسني نفسه فرصة الوصول إلي منصب عالمي دفعت مصر من أجل وصوله (الخيالي) إليه كثيرا من أموال شعبها المقهور.

     أما الشخص الثاني الذي استفاد من عبارات الدكتور يحيي الجمل فقد كان هو الصحفي الذي سارع بإبلاغ فاروق حسني بالعبارات التي كتبت عنه وهي لاتزال في دور التجارب المطبعية، وقد نال هذا الصحفي من حظوة فاروق حسني ما دفعت الموازنة العامة للدولة ثمنه راتبا ومكافآت فوق المجزية، ومناصب ومواقع لم يكن يحلم بها أبدا، فإذا الوشاية تحقق له كل هذا.

وعلي كل حال فمن المفيد أن نقرأ عبارات يحيي الجمل، وهي عبارات هينة لينة كان من الممكن أن تمر مرور الكرام:

«وفي يوم من الأيام طلب ” ف. ح”، الذي كان ملحقا بالمكتب معارا من وزارة الثقافة، مقابلته علي انفراد لحديث مهم، فرحب به علي الفور، فقد كان “ف ” شابا لطيفا خدوما إلي جوار أنه كان فنانا فيه رقة الفنان، ولم يكن صاحبنا يعتبر نفسه بعيدا عن الفن».

«وكان يعرف أن “ف. ح” علي صلة وثيقة بالمرحوم سعد وهبة، وكان هو يعرف سعد وهبة ويقرأ له ويقدره، وكان يعرف أيضا أنه وثيق العلاقة بالمرحوم أحمد كامل الذي كان محافظا للإسكندرية، وكان هذا الشاب الفنان يعمل في أحد قصور الثقافة بها، وقد أصبح أحمد كامل بعد ذلك مديرا للمخابرات العامة، ثم أطيح به بعد فيمن أطيح بهم في انقلاب 15 مايو 1971».

«وبدأ “ف. ح” الحديث بطريقته الخاصة، وصاحبنا ينصت إليه كل الإنصات بغير مقاطعة، خاصة بعد أن تبين من بداية الحديث مدي أهميته».

«قال إنه يود أن يصارحني بأن له مهمة خاصة أكثر من كونه ملحقا معارا من وزارة الثقافة، وإنه حضر دورة في المخابرات العامة قبل مجيئه إلي باريس، وإن أحد مهامه أن يرصد تحركات الطلبة، وأن يكتب تقارير لمصر».

«أنصت صاحبنا لهذه المفاجأة بقدر غير قليل من الاهتمام ولم يشأ أن يرد مباشرة، لكنه بعد أن فرغ “ف.” من حديثه الخطير قال له صاحبنا: لعلك تدرك دقة الأوضاع بين الطلبة في باريس، والأمور هنا ليست هي الأمور في القاهرة، والطلبة هنا يعيشون جوا من الحرية بغير حدود، كذلك فإنهم يعيشون في قلق شديد، كل يوم يسمعون تصريحات عن عام الحسم، ثم عن عام الضباب، ثم عن امتلاك أمريكا 99% من حلول مشكلة الشرق الأوسط، ثم يسمعون عن طرد الخبراء السوفييت، ويسمعون عن الصلف والغرور الإسرائيلي ويدركون أن أرض سيناء لاتزال تحت الاحتلال، قلت له أنت تعرف أن الطلبة يعيشون ذلك كله ويشعرون به ويتنفسونه كل صباح ومساء، وأن طلابا هذا حالهم لابد وأن يكون التعامل معهم بتفهم شديد، وبصدر واسع، وأعصاب هادئة».

«وأبدي “ف.” موافقته علي هذا التشخيص لأحوال الطلاب في باريس».

«ثم قلت له برقة وحسم: أرجو أن تعرف أنني عندما اخترت لأكون مستشارا ثقافيا في باريس فإن هذا يعني بالنسبة لمهمتي في مواجهة الطلبة هنا أنني وزير التعليم العالي ، ووزير الداخلية ، ومدير المخابرات، وأنني المسئول الوحيد عنهم هنا في فرنسا».

«وساد صمت ثقيل».

الجمل يعتقد في نجاح أسلوبه

ويعقب يحيي الجمل فيقول:

«وأدرك “ف.” أنه لم يحقق بغيته التي كان هدفها إشعاري بأهميته، بل وجعلني أخاف منه، أو أحسب له حسابا أكثر من حسابه».

«ومَنْ يدري لعلني أكون قد أخطأت في فهم مقصده، وأنه لم يكن يقصد من وراء حديثه إلا الخير كل الخير، مَنْ يدري؟».

«وأنهيت الحديث ببعض العبارات التي خففت من ثقل المفاجأة، وأنهيت إليه بعض التكليفات الثقافية، وتمنيت له التوفيق في إنجاز ما عهدت به إليه من مهام».

«ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أنني في الحقيقة لم تكن عندي الوسيلة لأعرف هل استمر أم لم يستمر، وهل أخذ تحذيري له مأخذ الجد، أم لم يأخذه استنادا إلي الأجهزة التي كان يتعامل معها».

«وحرصت بعد ذلك علي أن تكون العلاقة عادية، بل وطبيعية، وكان حريصا بدوره علي إظهار المودة، وكان لديه من الرقة والنعومة ما يمكنه من ذلك، وما أظن أني كنت أقل منه رقة ومقدرة علي التعامل مع مثل هذه الأوضاع».

نبل الدكتور السربوني في إبلاغ طه حسين بنجاحه

ولا بد بعد هذه القصة وما فيها من ان نختم هذا الباب بآية جميلة من آيات النبل الانساني تتمثل في سلوك الدكتور محمد صبري السربوني الذي أجهد نفسه في الحرص علي تهنئة طه حسين بنجاحه والقيام بهذا الواجب بنفسه علي الرغم من أن هو نفسه لم يكن قد اجتاز الامتحان بنجاح، وهذا هو نص طه حسين:

 «… وقد أتيح له النجاح..

” وكان الأستاذ الدكتور صبري السربوني هو الذي أقبل ذات مساء فرحا يكاد يخرجه الفرح عن طوره، مكدودا يكاد يقطع الإعياء تنفسه لشدة ما جري بين السوربون وبين بيت الفتي، ولشدة ما أسرع في صعود السلم إلي بيت الفتي في الطبقة السادسة، فلم يكد يفتح له الباب حتي أعلن لمن فتح له أن زميله قد ظفر بدرجة الليسانس، ولم يدخل وإنما رجع أدراجه ولم يرد أن يستريح».

«وكان الزميل الكريم قد تقدم للامتحان، ولم يكد ينظر في النص اللاتيني حتي طواه وقدم صحفه البيضاء وانصرف ضاحكا متمثلا بيته اللاتيني ذاك الذي يصور اليأس والقنوط، فكان رائعا حقا أن يكون ابتهاجه بفوز زميله بهذه الدرجة العسيرة أملك وأشد استئثارا به من إخفاقه هو في الامتحان!».

النص الكامل : كتاب الدكتور محمد الجوادي ، باريس الرائعة ، مكتبة الشروق الدولية 2014



شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com