الرئيسية / المكتبة الصحفية / الإمام محمد عبده أستاذا مربياً

الإمام محمد عبده أستاذا مربياً

فضيلة الاستاذ الدكتور وزير الأوقاف

فضيلة الاستاذ الدكتور مفتي الجمهورية

السيد الأستاذ الدكتور رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية

الأساتذة الأفاضل

الزملاء الأعزاء

أيها الجمع الكريم

أبدأ بنبذة بسيطة عن حياة الاستاذ الامام أرجو من خلالها أن أضبط بعض تواريخ الأحداث التي نعرض لها في حديثنا اليوم.

ولد الأستاذ الإمام محمد عبده حسن خير الله، بقرية «محلة نصر» مركز شبراخيت محافظة البحيرة قبل أن ينتصف القرن التاسع عشر بعام واحد، وهذا هو الأرجح، وإن كانت هناك روايات تقول بأنه ولد قبل ذلك أو قبيل ذلك.

وبعد أن تعلم في «كُتّاب» القرية أخذ طريقه إلي التعليم الديني بالمعهد الأحمدي بطنطا (1862)، لكنه سرعان ما أحس بعقم أساليب التدريس فعاد إلي القرية وتزوج، ورغب في الاشتغال كإخوته في فلاحة الأرض، لكن والده أصر علي عودته إلي طلب العلم، فهرب إلي أخوال أبيه في قرية «كنيسة أورين»، وهناك تعلق بأحدهم وهو الشيخ درويش خضر، وكان صوفيا من الطريقة السنوسية، وعلي يديه فتح الله صدره لطلب العلم، فعاد إلي طنطا، ثم التحق بالأزهر وفيه تحول مجري حياته الفكري عندما تعرف (1871) علي جمال الدين الأفغاني، وتتلمذ علي يديه، ولازم حلقات درسه. وتخرج (1877)، وعُين مدرسا للتاريخ بمدرسة دار العلوم العليا، كما درّس بمدرسة الألسن، واختار أن يشرح لطلابه مقدمة ابن خلدون كمقرر في التاريخ(!!) وكان في الوقت نفسه يكتب في الصحافة، ويعمل بالسياسة مع أستاذه الأفغاني من خلال الحزب الوطني الحر.

**

وعندما نفي الأفغاني من مصر عُزل محمد عبده من التدريس، وحددت إقامته بقريته، إلى أن استصدر له رئيس الوزراء رياض باشا عفوا خديويا وقربه إليه، وكان بمثابة مستشاره،وقد عينه رياض باشا محررا أولا لصحيفة «الوقائع المصرية»، فطورها وأنشأ بها قسما غير رسمي نشر فيه بقلمه ما نفهم الآن أنه كان مدارسة فقهية لأحكام القضاء وذلك من خلال ما سماه «التعليق علي أحكام المحاكم».

وعندما بدأت نذر الثورة العربية في الإعلان عن نفسها لم يكن الشيخ محمد عبده من أنصار الثورة، وإنما كان (علي نحو ما عرف في ذلك الوقت وعلي نحو ما نعرف الآن) من أنصار الإصلاح التدريجي عن طريق التربية والتهذيب والتعليم، وجعله هذا يختلف مع الحزب الجهادي العسكري الذي كان يقوده أحمـد عـرابي باشـا، لكنـه فيما بعـد مظاهـرة عابدين (9 سبتمبر 1881) انخرط تماماً في الثورة العرابية ومثل جناح الاعتدال في قيادتها، فلما احتل الإنجليز مصر (سبتمبر سنة 1882) سجن وحوكم مع زعماء الثورة، ونفي إلي خارج البلاد ثلاث سنوات لكنها امتدت إلي ست سنوات، وقد بدأ منفاه ببيروت، ومنها لحق بالأفغاني في باريس، حيث عمل رئيسا لتحرير مجلة «العروة الوثقي» ونائبا للأفغاني في رئاسة تنظيم جمعية العروة الوثقي السرية.

وبعد توقف المجلة وانقضاء السنوات المحكوم عليه بالنفي فيها، عاودته الرغبة في العمل في مجال الإصلاح الاجتماعي من خلال تعديل وتطوير مناهج التعليم، واتخاذ هذا السبيل مدخلاً إلي التجديد الفكري ، فعاد إلي بيروت وعمل معلما بالمدرسة السلطانية، ومفسرا للقرآن بالمسجد العمري، ومؤلفا، ومحققا لكتب التراث الإسلامي، وتفرغ للاجتهاد والتجديد.

**

وفي 1889 نجحت مساعي أصدقائه فعاد إلي مصر، لكن نظام الخديو توفيق أصر علي أن يبعده عن مهنته المحببة وهي التدريس،  فاشتغل بالقضاء وترقي حتي أصبح مستشارا بمحكمة الاستئناف سنة 1891، وقد شهد العقد الأخير من القرن التاسع عشر نجاحه الساحق في فرض رؤاه وشخصيته في الحياة العامة، فقد شارك في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية (1892) ورأسها في (1900)، ووجه نشاطها نحو التعليم والتنوير، وعُين عضواً في مجلس شوري القوانين (1899)، وتولي منصب مفتي الديار المصرية (1899)، وأسس جمعية لإحياء التراث وهي جمعية إحياء الكتب العربية (1900).

وحين لمع نجمة وأصبح ملاذاً للإصلاح والتجديد والرأي ركز في نشاطه علي إصلاح المؤسسات الأربع التي تقوم علي صياغة العقل والوجدان الإسلامي: الأزهر، والمساجد، والمدارس، والمحاكم الشرعية، وحقق في هذا الميدان نجاحات لا تنكر، كانت الأساس لما أنجز بعد هذا.

وفي أثناء ذلك كله اتصل الإمام محمد عبده بالإدارة الإنجليزية التي كانت تتولي إدارة شئون مصر بعد وقوع الاحتلال الانجليزي، وربطته علاقات حسنة باللورد كرومر الذي كان يراه، حسب رواية الأستاذ محمد كرد علي، صالحاً لرئاسة الوزارة في مصر لو أنه خلع زيه الأزهري.

**

كان محمد عبده واعياً لقيمته الفكرية في عصره، ولأهمية الحوار الحضاري والفكري وقد  خاض المعارك الفكرية الكبري مع جابرييل هانوتو (1853 ـ 1944)، وفرح أنطون (1861 ـ 1922) دفاعا عن الإسلام وحضارته.

ومن خلال مجلة «المنار» التي أصدرها تلميذه محمد رشيد رضا بلغت دعوته في التجديد والإصلاح كل أرجاء العالم الإسلامي، ونشر تفسيره لما فسر من أجزاء القرآن الكريم، وله رسالة مشهورة يكاد العلماء يجمعون علي أنه جدد بها علم الكلام الإسلامي وهي «رسالة التوحيد».

**

وقد ظل تلاميذه المباشرون يتولون قيادة المؤسسات الدينية في مصر حتي ما بعد نهاية النصف الأول من القرن العشرين، ومن هؤلاء الظواهري، والمراغي، وعبد المجيد سليم، ومصطفي عبد الرازق، والشناوي، وحمروش.

بقي أن أصحح ما قيل الآن في هذه القاعة وكرر من أنه توفي وهو يتولي منصب الإفتاء والواقع أنه كان قد ترك هذه المنصب نهائيًا قبل أن يتوفي، لكن الأمر يختلط علي الناقلين لتاريخه لأن الحدثين وقعا في العام نفسه.

**

أساتذتي الأجلاء

لست أدري هل أنا محظوظ بأن أتحدث عن الجانب التربوي في حياة الأستاذ الإمام محمد عبده، أم أني قد وُضعت أمام أصعب المواقف، ذلك أن محمد عبده نفسه كان لا يجد نفسه إلا في وظيفة الأستاذ المعلم إلي حد أنه كان يفضل هذه الوظيفة علي ما وصل إليه من منصب قضائي عال وهو منصب المستشار في محكمة الاستئناف، ولم يكن هناك في ذلك الوقت أعلي من هذا المنصب إلا رئاسة محكمة الاستئناف، وكما ذكرنا فقد روي الأستاذ محمد كرد علي في كتابه «المعاصرون» أن اللورد كرومر كان يري أن الأستاذ الإمام محمد عبده أولي الناس برياسة الوزارة في مصر لو أنه خلع زيه الأزهري، لكن محمد عبده كان يؤثر علي هذا كله وظيفة الأستاذية حتي بدون أن يكون لها راتب أو أجر ثابت.

**

وليس هناك جدال في أن تضحية محمد عبده بمنصب الإفتاء وزهده في مشيخة الأزهر لم يكن عن كراهية لمثل هذه المناصب المؤثرة بقدر ما كان حباً في الأستاذية وممارستها، وربما أن التاريخ نفسه حفظ لهذا الرجل مكانته التي تطلع إليها فلقبه في حياته وبعد مماته باللقبين المحببين إليه وجمعهما معاً في لقب واحد: وهو الأستاذ الإمام، وقدموا الأستاذية علي الإمامة، إيحاء بأنه لم يكن أستاذا إلا بعد أن أصبح إماما، وشتان بين أستاذية بحتة، وأستاذية تتحقق بعد الإمامة، ذلك أن الأستاذية التي تتحقق بعد الإمامة تجعل صاحبها بمثابة الإمام بين الأساتذة، كما يصبح بمثابة الأستاذ الذي لا يعلوه آخر، لأنه يتفوق علي الآخرين.

**

ومن عجائب القدر وللقدر حكمة.. بل حكم لا نعرفها، أن بعض تلاميذ محمد عبده وتابعيهم حين أرادوا للمنصب الكبير الذي شغلوه وهو منصب مشيخة الأزهر لقبا خاصا يدل عليه، آثروا أن يكون هذا اللقب هو الأستاذ الأكبر، وكأنهم كانوا بعقولهم الواعية وغير الواعية يحتفظون للشيخ محمد عبده بلقب الأستاذ الإمام الذي هو أكبر من كل أستاذ أكبر.

لكل هذه المعاني وغيرها فإني أحس نفسي عاجزاً عن أن أكون علي قدر الندية للمهمة التي اختيرت لي بالحديث عن الأستاذ الإمام تربويًا، فالعادة في مثل حالتنا هذه أن يتحدث كل منا عن الجزئية التي يتناولها، فما بالنا والجزئية التي اختيرت لي هي الكلية الكبري في حياة رجلنا العظيم، وقد مارسها في القاهرة وفي بيروت.. في باريس وفي الجزائر.. في دار العلوم، وفي الألسن.. في الأزهر وفي خارج الأزهر.. في الإفتاء، وفي مجلس شوري القوانين.. في الجريدة الرسمية وفي الصحافة.. في مجلس الأوقاف، ومجلس الأزهر.. في جمعية العروة الوثقي، وفي الجمعية الخيرية الإسلامية.

**

في كل هذه المحافل مارس محمد عبده أستاذية نادرة ذات ملامح مكتملة، وسجايا مؤتلفة، وآثار متسقة. وقد كان صاحب مذهب تربوي متكامل، ويكفي للتدليل علي هذا أن نشير علي سبيل المثال إلي أنه كان  أول من انتبه إلي ضررورة إنشاء مؤسسة للتعليم تخلو من شبهة ازدواجية التعليم الديني والمدني وترنو إلي الإفادة من مزايا التعليمين معاً، ومن حسن الحظ أنه أنشأ نموذجًا لهذه المؤسسة من خلال جمعيتنا هذه التي رأس مجلس إدارتها ووجه جهودها في اتجاه الإصلاح الاجتماعي المدني الصادر عن روح إيمانية لا حدود لإخلاصها الحقيقي، ولا لفهمها العميق.

**

أساتذتي الأجلاء

لم يكن الأستاذ الإمام محمد عبده  تربويا تقليديا، وإنما كان رائدا تربويا بكل ما تعنيه الكلمة من مدلولات ودلالات.

وقد تمكن من وضع أكثر من خطة من خطط تطوير التعليم والتربية، سواء علي مستوي الإمبراطورية العثمانية كلها، أو علي مستوي أقطارها في مصر وفي سوريا الكبري.

كما أنه تمكن من النهوض بمؤسسات تربوية إلي مستويات لم تكن معطياتها وحدها، من دون عونه وتوجيهه، تؤهلها للوصول إليها.

وعلي صعيد ثالث فإن محمد عبده كان من أصحاب الطرق الخاصة في التربية والتعليم.

وعلي صعيد رابع فإن محمد عبده كان أفضل مصمم للمناهج عرفته مصر في عصره والعصور التالية.

وعلي صعيد خامس فقد نجح هذا الرجل العظيم في تطوير البيئة التربوية في أعرق مؤسسة تعليمية في العالم الإسلامي تطويرا لم يكن من الممكن أن يتم علي يد غيره، بل إن كل التطويرات التي شهدتها هذه البيئة فيما بعد عهده كانت نتاجاً مباشراً لأفكاره وخططه وتوجهاته.

وليس من شك في أن هذه الجوانب الخمسة بل بعضها كان كفيلا بأن يجعل صاحبها نموذجاً لعبقرية تربوية لاشك فيها.

وبالإضافة إلي هذه الأصعدة الخمسة التي نجح محمد عبده من خلالها في أن يقدم شخصية التربوي الفذ، كان الرجل في مجموع نشاطه ومجمل أفكاره نموذجا لرائد التربية الذي يتخطي الوظيفة إلي السياسة، ويتخطي السياسة إلي الاستراتيچية .. فقد كان  عالما مجددا، ومصلحا اجتماعيا، ومفكرا سياسيا، ورجل دولة من طراز رفيع.

**

أساتذتي الأجلاء

لا يمكن لنا الوقوف أمام محمد عبده التربوي دون أن نمر بمحمد عبده المربي الذي أحبه تلاميذه، وتعلقوا به، وتعشقوه، وساروا علي دربه، وتمثلوا شخصيته، وجعلوه مثلا أعلي، بل إنهم تصوروه علي الدوام نموذجاً للاستدعاء والاستحضار عند كل معضلة فكرية.

لا يمكن أيضا أن نتجاهل محمد عبده المربي الذي كان قادرا علي اكتشاف العبقرية وتوجيهها وتبنيها، ويكفي أن نذكر أنه هو الذي اختار سعد زغلول في شبابه مساعدا له، وأنه مرّ بمديرية أسوان مروراً عابراً فرأي نباهة عباس العقاد فتنبأ له بما أصبح عليه بالفعل، ويكفي أن نعرف أنه هو الذي أجاز كلا من الظواهري، والمراغي، وعبد المجيد سليم بشهادة العالمية من الدرجة الأولي، وأنه هو الذي عضّد حسونة النواوي. ويكفي أيضا أن نذكر أنه المربي الذي كان يجيد الامتحان والتقييم علي نحو ما كان يجيد التدريس والتدريب والتأهيل.

ولا يمكن أيضا أن نتجاهل دور المربي في شخصيته متمثلا فيما بقي بعد رحيله من مؤلفات معلمة، بل من مؤلفات مربية، بل إن أسلافنا المتنورين في مديرية البحيرة حين أرادوا تخليده خصصوا الأموال التي جمعوها لهدف تربوي وهو تمويل بعثة علمية إلي أوروبا يبتعث فيها خريجو الأزهر، فكان من هؤلاء الدكتور محمد البهي عليه رحمة الله.

**

أساتذتي الأجلاء

ربما كان من حقكم عليّ بعد هذه المقدمة الطويلة أن أطلعكم علي بعض ملامح الفكر التربوي لمحمد عبده، وعلي بعض ملامح الإنجاز التربوي لمحمد عبده، ولعلي أبدأ بأن ألفت نظركم إلي قدرته علي اكتشاف الحقيقة في أزمة التعليم الأزهري في عصره، وهو الذي عاني منها في صباه حتي كاد يترك العلم والتعلم والتعليم، ثم نذر نفسه من أجل إصلاح نظام التعليم الأزهري واكتشاف موطن التعقيد فيه وبلور هذا في قوله:

«إن أهل الأزهر يتعلمون كتبا لا علما، وغرامهم في حل عبارات المؤلفين والمهمشين والمحشين».

**

ولهذا السبب أعاد محمد عبده تنظيم التعليم الأزهري بما يحقق تعلم العلوم لا تعلم الكتب، وربما أننا بحاجة اليوم إلي أن نستهدي بمثل هذه الفكرة في تعليمنا العام والجامعي علي حد سواء.

وكانت لمحمد عبده نظرات صائبة في أصول التربية وطرق التدريس، وكان أبلغ مَنْ نبه إلي ضرورة المدرسة والتلقي علي الأساتذة تنبيهاً نحن أحوج ما نكون إليه في عصر أصبح بعض ناسه يظن أن بالإمكان التقليل من دورها، وكان يقول:

«إن الكلام المسموع يؤثر في النفس أكثر مما يؤثر الكلام المقروء، لأن نظر المتكلم وحركاته وإشاراته ولهجته في الكلام، كل ذلك يساعد علي فهم مراده من كلامه، ويمكن السامع من أن يسأل المتكلم عما يخفي عليه من كلامه، فإذا كان مكتوبا فمَنْ يسأل؟ إن السامع يفهم ثمانين في المائة من مراد المتكلم، والقارئ لكلامه يفهم منه عشرين في المائة».

هكذا كان هذا الرجل العبقري يبلور خبرات تربوية عالية في عبارات لا تستعصي علي إدراك أولياء الأمور الأميين الذين هم في البداية والنهاية أصحاب القرار في التوجيه التربوي لأبنائهم، وهكذا نجح في خطاب المجموع والمجتمع في وطن محتل يعاني من الأمية، ولهذا نجح في أن يؤتي خطابه الحضاري والتربوي ثماره.

**

كان محمد عبده مختلفا في طريقة تدريسه وشرحه عن أستاذه جمال الدين الأفغاني، وللأستاذ أحمد أمين ملاحظة صائبة في ذلك إذ يقول:

«كان الشيخ محمد عبده يقرأ النص أولا ويتفهمه ويفهمه، ثم يفيض في التعليق عليه، وفي بسط الموضوع من عنده، أما أستاذه جمال الدين فكان يشرح الموضوع بإفاضة ثم يقرأ النص».

ولست بمستطيع أن أستغرق وقتكم في الحديث عن مقومات منهجه ومكونات طريقته، لكني أريد أن أصل بكم إلي القول بأن هذا الرجل كان حريصا الحرص كله علي التعليم بمعناه الحقيقي، وربما أقفز بحضراتكم إلي الغاية القصوي من هذا المعني بأن أشير إلي أن اختلاف محمد عبده مع زعماء الثورة العرابية كان ينحصر في اهتمامه بتعليم الأمة أولا حتي توكل إليها حقوقها لتكون أمينة عليها.

**

أساتذتي الأجلاء

أيها الجمع الكريم

كان محمد عبده يري أن التربية هي التربية الدينية التي هي أساس كل إصلاح، وهو يقرر هذا المعني في كثير من المواضع، ويعبر عنه بعبارات حاسمة حيث يقول:

«الإنسان لا يكون إنسانا إلا بالتربية، وهي عبارة عن اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحكم والتعليم».

وكان يري أن التربية هي أساس كل التقدم، وأن التقدم نتيجة تلقائية وحتمية للتربية الجيدة:

«مَنْ يرد خير البلاد والعباد فلا يسع إلا في اتقان التربية، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه بدون إتعاب فكر، ولا إجهاد نفس».

وكان يؤثر التربية علي كل القوانين الوضعية مهما كانت قوتها وإنفاذها…. وهو القائل:

«ليست القوانين التي تفرض العقوبات علي الجرائم وتقدر المغارم علي المخالفات هي التي تربي الأمم وتصلح شأنها، فالقوانين لم توضع في جميع العالم إلا للشواذ والهفوات والسقطات، وأما القوانين المصلحة فهي نواميس التربية الملية لكل أمة».

وكان يفهم التربية الحقيقية من منظور اجتماعي فيقول:

«إذا تربي الإنسان أحب نفسه لأجل أن يحب غيره، وأحب غيره لأجل أن يحب نفسه».

وكان يري التربية بمثابة الوسيلة الحاكمة للعلاقات الاجتماعية، ولتوجيه هذه العلاقات من أجل سلامة نسيج المجتمع وتقوية صلاته وهو يقول:

«إن التربية الحقيقية هي التي تعلم الإنسان العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من الأفراد في جماعته، فهي تعلمه مَنْ هو؟ ومَنْ معه؟ فيتكون بذلك شعور واحد وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد».

**

كان الأستاذ الإمام يعتقد أن تربية العقول من أهم أهداف التربية:

«… لإخراجها من حيز البساطة الصرف والخلو من المعلومات وإبعادها عن التصورات والاعتقادات الرديئة إلي أن تتحلي بتصورات ومعلومات صحيحة تحدث لها ملكة التمييز بين الخير والشر، والضار والنافع، ويكون النظر بذلك سجية لها».

وكان الشيخ محمد عبده يصل في إيمانه بالتربية الرياضية إلي أن يصنفها علي أنها من سمات النبوة.

وكان الأستاذ الإمام من أوائل من فرقوا بين مدلول التربية ومدلول التعليم:

«إن من المعلوم البين أن الغرض الحقيقي من تأسيس المدارس والمكاتب، والعناية بشأن التعليم فيها إنما هو تربية العقول والنفوس وإيصالها إلي حد يمكن المتربي من نيل كمال السعادة أو معظمها مادام حيا وبعد موته».

وكان كما رأينا في الجملة السابقة يري أن التربية عملية إنسانية لا يتوقف أثرها علي النجاح في الدنيا، وإنما تتعدي ذلك إلي ما تمهد له من خلود صاحبها ومن سعادته فيما بعد هذه الحياة.

ولهذا كله كان محمد عبده يري أن تربية العقيدة تأتي أولا ويليها العلم وهو يقول:

«العقائد الدينية السليمة هي الأساس لكل ذلك، فمن تتبع قوانين التعليم في الممالك الأوروبية رآها بأسرها موجبة للابتداء بالتعاليم الدينية والاستمرار عليها إلي ما يزيد علي ست سنوات تقريبا».

**

أساتذتي الأجلاء

كان الأستاذ الإمام حفيا بدور الموارد البشرية في العملية التربوية، وكان يجهر بآرائه في هذا الصدد في عصر كان يعلي من قيمة «النظام التربوي» والضبط والربط، ولا يعول علي الموارد البشرية كثيرا، لكن الأستاذ الإمام كان متنبها إلي أهمية دور المعلم في تربية العقل والروح قبل المعرفة:

«فمتي وجد الولد صغيرا في حجر مهذبين ومعلمين يربون عقله ويغذون روحه بغذاء علومهم ومعارفهم، فلاريب توثر فيه أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم، وتنطبع في نفسه صور ما هم عليه».

ومن هذا المنطلق كان محمد عبده ينصح كل أب:

«ألا يبعث أولاده وهم صغار لا يعقلون ولا يفهمون إلا ما يلقي إليهم من المعلم أو المؤدب إلي مدارس يتولي التعليم فيها والإدارة مَنْ ليس علي مذهبه أو دينه».

كذلك كان محمد عبده واعيا للرقابة المجتمعية والحكومية علي المؤسسات التربوية، وكان يطالب المسئولين عن التعليم «بمعرفة أخلاق النظار والأساتذة الذين وضع الأطفال في كفالتهم، والذين يديرون أمورهم ويرشدونهم إلي كمالهم، إذ يجب أن يكونوا من أصحاب العقيدة الراسخة، والأخلاق الفاضلة، والأفكار المستقيمة، والعفة، والنزاهة، والغيرة علي مَنْ وكّل أمرهم إليهم، وأداء ما أوجب في ذمتهم».

وقد كان محمد عبده يدعو إلي أن يكون المعلم بمثابة القدوة الصالحة لتلاميذه حتي يكون حاله وكماله درسا آخر يُعطي للتلاميذ كل يوم فينطبع هذا الكمال في نفوسهم بأشد من انطباع صور المعلومات في عقولهم.

**

أساتذتي الأجلاء

كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده منتبها منذ مرحلة مبكرة إلي أهمية تعليم البنات وكان يقول:

«إن من الجرم الصارخ أن تترك النساء المسلمات حبيسات ذلك السجن الضيق، سجن الجهل والجور والجمود، وهن اللاتي يأخذن علي عواتقهن أشق تبعات الحياة اليومية، أعني تربية الأبناء وإعدادهم ليكونوا رجالا صالحين».

«إن ما يجب أن تعلمه الفتاة من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود، ولكن ما يطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات ـ في بيت فيه غني ونعمة ـ يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، كما يختلف بحسب ذلك الواجب علي الرجال».

ومن أجل إقناع المجتمع بجدية دعوته هذه كان يتساءل:

«أي الأمرين أفضل في نظر الإسلام: تمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض، أم اتخاذ ممرضة أجنبية تطلع علي عورته وتكشف مخبآت بيته؟».

وكان يردف هذا بسؤال آخر:

«وهل يتيسر للمرأة أن تمرض زوجها أو ولدها إذا كانت جاهلة بقانون الصحة وبأسماء الأدوية؟ نعم قد يتيسر للكثيرات من الجاهلات قتل مرضاهن بزيادة مقادير الأدوية السامة، أو بجعل دواء مكان آخر».

**

أساتذتي الأجلاء

كان الشيخ محمد عبده يدرك وينبه إلي ما للأدب من تأثير عظيم في ترقية الذوق وبناء الشخصية، والدلالة علي عبقرية الأمة العربية الإسلامية، ولهذا كان اهتمامه العظيم به، وبعلوم البلاغة العربية التي أقبل علي شرح أمهات الكتب فيها، وبخاصة وقد شرح عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز.

كان الأستاذ الإمام أكثر أهل عصره والعصور التالية حفاوة بتعليم اللغة العربية، وكان يراها أساس الدين لأنها حياة المسلمين، وحياة المسلمين بدون حياة لغتهم من المحال، فإصلاح اللغة إذاً لابد منه لأنها وسيلة لإصلاح الدين، وقد قال في خطبة ألقاها في تونس:

«إن إصلاح لساننا هو الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا، وجهل المسلمين بلسانهم  كن الوصول إليه إلا بتحصيل ملكة اللسان».

أساتذتي الأجلاء

كان الأستاذ الإمام صاحب دعوة رائدة إلي العناية بتعليم الفنون وإلي تدريس الرسم والنحت والتصوير والفنون الجميلة الأخري، وكان يري أنه يجب تحبيب تعليم الفنون وتعلمها إلي الناشئين، وكان يفسر معني الإقبال عليها من الغربيين ـ لمن يجهله ـ بأنها عندهم كالشعر عندنا، وأنها لغة نفسية تفرق في تعبيراتها بين أدق المعاني الشعرية التي لا تظهر التفرقة بينها وبين أسمائها وأوصافها.

وليس من شك في أن آراء محمد عبده كانت بمثابة أكثر العوامل التي ساعدت علي نشأة مدرسة الفنون الجميلة في مصر التي نشأت عقب وفاته مباشرة.

وقد تصدي لما لا يزال يشاع من شبهة في تعلم الفنون وتعليمها، وفي هذا المعني قال الأستاذ الإمام في فصل كتبه عام 1903:

**

«يغلب علي ذهني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها علي الدين، لا من وجهة العقيدة، ولا من وجهة العقل».

ووصل به الغضب والاستنكار من محاجَّةَ بعض الناس في هذه الفكرة إلي أن قال:

«علي أن المسلمين (يقصد معارضيه من معاصريه) لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منها، وإلا فما بالهم لا يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء أو ما سماهم بعضهم من الأولياء وهم ممن لا تعرف لهم سيرة، ولم يطلع لهم أحد علي سريرة».

كان الأستاذ الإمام محمد عبده يدعو مبكراً إلي جعل العملية التعليمية غير قاصرة علي حجرات الدراسة، وأن يكون من أهدافها تزويد الناشئين بالخبرات المتنوعة عن طريق الرحلات والزيارات ومشاهدة العالم والآثار، وكان هو نفسه ينهج هذا المنهج، وعندما زار صقلية أبدي إعجابه بأهلها لمحافظتهم علي آثارها القديمة، وكان في فهمه الحضاري متقدما حتي علي خلفائه، وهو القائل:

«ليس في ديننا شيء ينافي المدنية الحاضرة المتفق علي نفعها عند الأمم المرتقية إلا بعض مسائل الربا».

وإليه يرجع الفضل في هدم نظرية تعليمية قديمة شجعها الأزهر لبعض الوقت كانت تقول إن هناك علوما تعلم، وعلوما لا تعلم، فقد قرر أن كل العلوم يجب أن تعلم، إلا ما يتخذ شكل العلم وليس بعلم كالسحر والشعوذة.

وإلي الأستاذ الإمام يعود الفضل في تنظيم العام الدراسي في الأزهر، فقد حدد بداية العام الدراسي ونهايته، ومواعيد العطلات، وأصبحت مدة الدراسة ثمانية شهر بدلا من أربعة حرصا علي وقت الطلاب من الضياع. ولم يترك محمد عبده سنوات الدراسة بالأزهر مفتوحة بغير حد، بل جعل أقصاها خمس عشرة سنة وقسمها إلي فترتين، الأولي يعطي الخريج بعدها شهادة الأهلية،وفي نهاية الثانية يمنح  الشهادة العالمية.

وأدرك محمد عبده ما للمكتبات من أهمية خاصة في التعليم، فحرص علي تزويد الأزهر بمكتبة تليق بمكانته العلمية، وإليه يرجع الفضل في تأسيس دار الكتب الأزهرية لتقف علي قدم وساق مع دار الكتب الخديوية، وقد بذل الاستاذ الإمام جهوداً حميدة من أجل تنسيق العمل الذي أدي إلي نشأة هذه المكتبة علي نحو يليق بالأزهر وتاريخه .

أساتذتي الأجلاء

لابد لنا من أن نلقي نظرة علي النشاط التربوي للاستاذ الأمام خارج حدود وطنه مصر، وإن كان هو نفسه في ممارسته لهذا النشاط لم يكن يأخذ الأمر علي هذا المحمل.

دعي الإمام محمد عبده للتدريس في المدرسة السلطانية في بيروت، فأصلح مناهجها، وارتقي بها من مدرسة أولية إلي مدرسة عالية، وقد درسّ فيها التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ الإسلامي والفقه الحنفي، ولم يقتصر علي التدريس في داخل جدران المدرسة السلطانية، بل كان يفسر القرآن في مسجدين من مساجد بيروت، وكان يقيم في بيته ندوة كانت تعمر بالسامعين للحديث في العلم والأدب.

وقد شرح في تلك المرحلة نهج البلاغة ومقامات بديع الزمان الهمذاني، بل كان من آثار دروسه في بيروت كتاباه الشهيران: «رسالة التوحيد» و«شرح البصائر النصيرية في المنطق».

كذلك كان يحرر المقالات الداعية إلي إصلاح العالم الإسلامي في شتي نواحي حياته في صحيفة «ثمرات الفنون».

وفي هذه الفترة الخصبة التي قضاها في بيروت تبلورت نظرياته الإصلاحية للتعليم في البلدان الإسلامية فوضع لائحتين في إصلاح التعليم الديني في مدارس السلطنة العثمانية عند ما أشار السلطان عبد الحميد بتشكيل لجنة برئاسة شيخ الإسلام لإصلاح المناهج في المدارس الإسلامية، وقد رفع محمد عبده إحدي اللائحتين اللتين وضعهما إلي شيخ الإسلام في الآستانة، وقد قرر فيها بوضوح أن ضعف المسلمين سببه سوء العقيدة والجهل بأصول الدين، وأن ذلك قد أخر أخلاقهم، ورأي أن العلاج الوحيد هو إصلاح التعليم الديني الذي رسم له الخطط الجديدة.

أما اللائحة الثانية فقد تقدم بها الأستاذ الإمام إلي والي بيروت، وقد وصف فيها سوء حال التعليم في سوريا الكبري من حيث توزعها بين الأهواء السياسية نتيجة انتشار المدارس الأجنبية فيها، واقترح نشر المدارس الوطنية وإصلاح مناهج التعليم الديني.

**

أساتذتي الأجلاء

من الواجب أن نشير إلي دروس محمد عبده في تفسير القرآن التي كان يلقيها في بيروت في مسجدين، وفي الأزهر، وفي أحد مساجد القاهرة، وفي أثناء زيارته للجزائر، وفي مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان راعيا لنهضتها، ومن الواجب أن نشير إلي أن هذه الدروس كانت مثالا لما كان يريده في التعليم الديني، فقد كان يعني في تفسيره بأمور العقيدة وما دخل عليها من فساد في عصور التخلف والجهل، كما يعني بأثر الأخلاق والواقع الاجتماعي، كذلك كان يحاول دائما أن يوفق بين الإسلام ونظريات المعرفة الحديثة، ليؤكد عدم وجود فجوة بين العقيدة الصحيحة والعلم الحديث.

**

وحين كان في وسع الأستاذ في الأزهر أن يختار ما يدرسه، اختار محمد عبده أن يدرس المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يقرأ مع بعض طلبته «تهذيب الأخلاق» لمسكويه، و«تاريخ المدنية في أوروبا وفرنسا» للكاتب الفرنسي فرانسوا جيزو، وكان  حنين نعمة الله خوري قد عرَّبه وسماه «التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوروبية».

وحين تصدي محمد عبده لتدريس التاريخ في مدرسة دار العلوم فإنه درّس مقدمة ابن خلدون التي يراها الناس جميعا اليوم بمثابة أساس علم الاجتماع.

أساتذتي الأجلاء

كان محمد عبده عند عودته إلي وطنه بعد الفترة التي قضاها في المنفي، طموحا إلي أن يتولي وظيفة المعلم علي أي مستوي، وظل يكرر التعبير عن هذا الطموح حتي بعد أن وصل إلي أعلي المناصب القضائية، لكن الخديو عباس حلمي لم يسمح له بالعودة إلي التدريس الذي كان يعشقه و يري فيه أساس إصلاح الأمة الإسلامية، وكانت للخديو مبرراته من الخوف من تأثير أفكار الأستاذ الإمام الإصلاحية وآرائه علي شباب الأمة وهي آراء كفيلة بتجديد روح الحرية والتحرر أو التمرد، ولهذا فقد عينه قاضيا أهليا، وقد عمل الأستاذ الامام في محكمة بنها، ثم الزقازيق، ثم عابدين، ثم ترقي مستشارا في محكمة الاستئناف، لكنه ظل طوال تلك الفترة ضيق الصدر بإبعاده عن التعليم، وكان يقول: «ما خُلقت لأكون قاضيا، بل لأكون معلما، وقد جربت نفسي في التعليم ونجحت».

**

والواقع أن محمد عبده لم يبتعد عن التفكير في الإصلاح التربوي حتي في خضم عمله بالوظيفة القضائية بعد عودته من منفاه، ويذكر لنا التاريخ أنه عكف علي كتابة تقرير بعد عودته من المنفي ضمنه وجوه إصلاح التعليم.

أساتذتي الأجلاء

بقي أن أحدثكم في إيجاز شديد عن بعض جهود محمد عبده في تعليم نفسه، ولن أحدثكم عن أنه علم نفسه في بداية حياته بعدما يئس من الأسلوب الأزهري في التعليم، ولا عن أنه علم نفسه القوانين المدنية حتي نبغ فيها نبوغا عظيما، لكنني أكتفي بأن أضرب مثلا سريعا وهو أنه أتقن الفرنسية بعدما تعلمها تعلماً ذاتياً وترجم عنها كتاب التربية للفيلسوف الإنجليزي هوبرت سبنسر الذي التقي به من قبل في أثناء زيارته لانجلترا وأعجب كل منهما بالآخر.

 

من كتاب “كيف أصبحوا عظماء”، مؤلفات الدكتور محمد الجوادي، الطبعة ٢ الهئة المصرية العامة للكتاب 2008  

 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com