الرئيسية / المكتبة الصحفية / أحمد مستجير الذي فتح أعيننا على شفرة اللغة والوراثة

أحمد مستجير الذي فتح أعيننا على شفرة اللغة والوراثة

غاب معه الود والإيمان العميق

قبـل وفاة الدكتور أحمد مستجير بيومين كان على أن أحضر اجتماعا دوريا لم يقدر لي أن أحضره أبدًا إلا في صحبته، فإذا بي في صباح ذلك اليوم أسيرا لسحابة غاشية تصور لي كآبة أن أحضر في غيابه، وإذا بي أوثر أن أصحبه في خيالي على أن أرى مقعده خاليا منه، ولست أدري ماذا يفعل كل الذين تعودوا على حضوره حين يعانون غياب رجل كان لقاؤه ودًا خالصًا، وكان أداؤه حضورًا متصلاً، وكان حديثه إيمانًا عميقا، وكان لفظه مبعث سعادة بريئة، وكان نقده مبعث رضا حقيقـي، وكان فهمـه مبعث إعجـاب لا نهاية له، وكان حكمه مبعث قبول لا حدود له.

حياة سوية مثمرة

عاش الدكتور أحمد مستجير حياة عريضة سوية مثمرة، لم يتخل فيها عن خلق من أجل خلق آخر، ولم يفرط في صفة نبيلة من أجل ما حقق من سمو صفة نبيلة أخري، وقد وصل إلى القمة بعظمته وبإنجازه، واحتفظ في الوقت ذاته بإنسانيته المهذبة الراقية دون تفريط في النبل أو الوفاء أو التواضع أو الاهتمام بالآخرين ومجاملتهم والحدب عليهم.

كان الدكتور أحمد مستجير بلا جدال أعلي النجوم قدرا في العقد الذي ولد فيه.. عقد الثلاثينيات، ومع أن هذا العقد حفل بنجوم عديدة في كل مجال من المجالات التي لمع فيها أحمد مستجير، إلا أن أحدا من مجايليه جميعا لم يبلغ مبلغه في هذا التضافر بين وجوه العبقرية، ولا في هذا التكامل بين ضروب الاجتهاد، ولا في هذا التناغم بين مسارات المشاركة في الحياة العقلية في عصره، وقد سبق كل معاصريه إلى ما انفرد به من تفوق وتألق.

رأيه هو الرأي الفصل

كان وجود أحمد مستجير في الحياة الفكرية يمثل واحة يفيء إليها مَنْ يعرفونه من هجير الأوساط المتصارعة، وكان رأيه هو الرأي الفصل إذا احتدم الخلاف يجمع بين بهاء العقل وزهو الوطنية، وكان اعتراضه الواثق منارة فهم وتوجيه، وكان صوته الدافئ مبعث أمان واطمئنان.

مرجع علمي

ليس المقام مقام حديث عن إسهامات الدكتور أحمد مستجير العلمية، لكني لا أستطيع أن أتغاضي عن الإشارة إلى أن هذه الإسهامات التي قادها مع ثلة من زملائه قد حفظت على هذا الوطن قدرته على تلبية حاجات أبنائه، كما أسهمت بعمق في حماية استقلاله الوطني.

وقد كان الدكتور أحمد مستجير في حد ذاته مرجعا علميا جمع بين دقة الإنجليز، ودأب الألمان، وأصالة الشرقيين. وقد عاش حياته لعلمه، كما عاشها لفكره، وكما عاشها لإبداعه.

نشأته

ولد الدكتور أحمد مستجير مصطفي في أول ديسمبر عام أربعة وثلاثين في قرية الصلاحات مركز دكرنس محافظة الدقهلية، وتلقي تعليما مدنيا طعمه بحب اللغة العربية وآدابها بحكم كون والده من رجالها، وتخرج في كلية الزراعة جامعة القاهرة  1954  ، وعين باحثا بالمركز القومي للبحوث وسرعان ما نال بعثة إلي بريطانيا حيث درس العلوم الزراعية، وعلوم الإنتاج الزراعي، ونال درجة الماجستير في علم تربية الدواجن 1958، ثم غير تخصص دراسته العليا ونال درجة الدبلوم في علوم وراثة الحيوان من أدنبرة 1961، ثم درجة الدكتوراه في علم وراثة العشائر 1963.

إنجازاته في البحث العلمي

عاد الدكـتور أحمد مستجير إلى وطنه لكنه ظل على صلـة وثيـقة بالمجتمـع العلمي في تخصصه، كما أظهـر تفوقـا ملحوظًا في مواكبة التقـدم العلمي المذهـل في علوم التكنـولوجيا الحيوية والهندسـة الوراثيـة، وقد مـارس بحـوثه العلمـية في كلية الزراعة جامعة القاهرة حيث عمل بهيئة التدريس وتدرج في وظائفها حتى نال درجة الأسـتاذية 1974 ، وانتخب عميدا للكلية ثلاث مرات متتالية، وظل عمـيدا للكلية تسـع سـنوات متصلة 1986 ـ 1995 انتهت بوصوله سن التقاعد.

وطيلة حيـاته الوظيفـية وبعد بلوغه سـن السـتين ظل الدكتور أحمد مستجير يمارس بحوثاً علمية تطبيقية رفيعة المستوي، وقد اعترفت الـدولة متمثلة في وزارة الزراعة طيلة عهد وزيرها يوسف والي وخلفائه بقدراته العلمية فاستعانت بأفكاره ورحبت بها، وهو صاحب فكرة المـشروع القومي لاسـتنباط أصنـاف جديدة من محاصيل القمح والأرز والذرة التي تصـلح للزراعة في أرض مالحـة وتروي بمياه مالحة، وذلك عن طريـق التهجـين الخضري مع الغـاب، وقد نفَّـذ التجـارب الأولي في هذا المشروع في جامعة القاهرة بتمويل من وزارة الزراعة.

وكان قبل وفاته قد بدأ التفكير في استنباط التقاوي الاصطناعية للذرة، وزيادة نسبة الزيت في بذور القطن، وفي إثراء الفول البلدي بحامض الميثونين الأميني لترتفع قيمته الغذائية وتقترب من اللحم، كما كان قد شرع في دراسة فكرة إدخال الجين المقاوم لفيروس الالتهاب الكبدي إلى ثمار الموز.

تبشيره القوي بالهندسة الوراثية

وقد ظل الدكتور أحمد مستجير بمثابة المبشر الأول بالهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية ودورهما وتقدماتهما، وعندما انتشرت نتائج الاستنساخ كان الدكتور مستجير واضحا في رفضه الإنساني والأخلاقي لفكرة الاستنساخ البشري، وربما كان هذا هو السبب في تباطئه في العمل على إنشاء مركز للاستنساخ الحيواني في كلية الزراعة حيث كان يعمل.

انحيازه للجماهير

وواقع الأمر أن الدكتور أحمد مستجير نجح في توظيف أفكار التكنولوجيا الحيوية في مجال الزراعة، وقد واكب هذا إيمانه الشخصي بحق الجماهير في الغذاء والتنمية، وقد حكمت الفلسفة الأخلاقية كثيرا من رؤاه فيما يتعلق بالتطبيقات العلمية لسياسات الاستنساخ والتكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية على حد سواء، وعلى سبيل المثال فقد كان يحذر بصوت عال من خطورة الفكرة التي نادت بها بعض الشركات العملاقة بإنتاج تقاوي محاصيل لا تصلح للزراعة إلا لمرة واحدة، وكان يقدر مدى قسوة مثل هذه الفكرة على اقتصاديات الدول النامية.

ويمكن تلخيص المشروع العلمي لمستجير في مصطلح واحد هو زراعة الفقراء ومحاولة الإفادة من المياه المالحة في الري، ومقاومة الملوحة والجفاف.

وقد كان – وهو الأستاذ العميد – ينحاز إلى الجماهير، وكان الصوت الوحيد الذي رد على الذين عاشوا في زمن الأصولية والزمن الجميل مطالبين بعودة طعم الفاكهة على نحو ما كان في الزمن الماضي، وكان مستجير يجاهر في رده بأننا مطالبون بأن نطعم الملايين، وأن أوان مثل هذه الدعوات قد فات.

دواوينه الشعرية

بدأ الدكتور أحمد مستجير نشاطه الأدبي والفكري متأخرا على استحياء، لكنه قدم أعمالا ذات قيمة عالية، وقد نشر ديوانين من الشعر: عزف ناي قديم وهل ترجع أسراب البط ؟، وقد تجلت في شعره أفكاره المثالية التي تتجاوز الواقع دون أن تكفر به، وتستنهض الهمة بخطاب العقل دون استنفاد لأغراض الحماسة الخطابية وأسلوبها.

دراسته المنهجية للعروض

وقد دفعته جسارته العلمية وثقته بقدراته المنهجية إلى التفكير في أسلوب جديد لدراسة عروض الشعر العربي، وقدم دراسته هذه تحت عنوان مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي، وأبان عن قدرة عقلية فذة في مشروع دراسة رقمية digital   مبكرة لبحور الشعر العربي، وقد طبع كتابه مرة ثانية قبيل وفاته.

وفي المجتمع الأدبي تجاوز الدكتور أحمد مستجير الصراعات والمنافسات الأدبية التي حفلت بها الساحة الأدبية والفكرية في العصر الذي عاشه، وكان ذكيا في تجاوزه لهذه الميادين عن طريق محبب إلي نفسه سار فيه عن حب وعن سليقة، وهو طريق ريادته لأبناء لغته وقومه إلي الآفاق الجديدة في العلوم والتكنولوجيا من خلال تقديم هذه الأفكار في أسلوب ذكي، وقوالب شيقة، وفي هذا المجال تفوق مستجير علي جميع معاصريه، بل علي بعض أسلافه، وقد جمع بين ما قدمه في مجال الثقافة العلمية بين التأليف في المستويات الثلاثة: للمتخصصين، وللمثقفين، وللعامة، وبين الترجمة الذكية المقترنة بمقدمات شارحة وحافلة بالتعليق ومعبرة عن رؤاه تجاه ما نقله إلي لغته من آثار فكرية متميزة.

مؤلفاته

ترك الدكتور أحمد مستجير مجموعة ضخمة من المؤلفات القيمة، في مجالي التأليف والترجمة. ففي مجال التأليف: قدم الدكتور مستجير عددًا من الكتب المرجعية في التحسين الوراثي للحيوان: مقدمة في علم تربية الحيوان، ودراسة في الانتخاب الوراثي لماشية اللبن، كما قدم كتبه الشهيرة: قراءة في كتابنا الوراثي والقرصنة الوراثية والثورة البيولوجية، والبيو تكنولوجي في الطب والزراعة.

وفي مجال الثقافة العلمية العامة نشر الدكتور أحمد مستجير: أحاديث الاثنين، وعلم اسمه السعادة، وعلم اسمه الضحك.

وفي مجال الترجمة

ترجم الدكتور أحمد مستجير مجموعة كبيرة من كتب الثقافة العلمية والفكر البيولوجي علي حد سواء كما ترجم كتبًا رائدة في التعريف بعدد من العلوم والتقنيات الجديدة أيضًا، ومن هذه الكتب: هندسة الحياة، والهندسة الوراثية، وأمراض الإنسان، والشفرة الوراثية للإنسان، وعصر الجينات والإلكترونات، وثورة في الطب والوراثة، والطريق إلي دوللي، وطعامنا المهندس وراثيا، والجينات والشعوب والصفات، وهمس من الماضي: تاريخ طبيعي لعلم الوراثة، ونهاية الإنسان: عواقب الثورة التكنولوجية، وحلم الجينوم، وسجن العقل، والطريق إلي السوبرمان.

ظل في خدمة الوطن

ظل الدكتور أحمد مستجير منتميا إلي وطنه، مشاركا في كل ما كان يحتاج إلي جهوده من مجالس ولجان، مترفعا عن حق وعن ثقة عن المناصب الإدارية والسياسية، وقد عمل مقررا للجنة قطاع الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في المجلس الأعلى للجامعات،  كما كان علي الدوام عضوا في اللجان العلمية  الدائمة لترقية أساتذة الإنتاج الحيواني بالجامعات وبمراكز البحوث التابعة لوزارة الزراعة، كما عمل عضوا في المجالس القومية المتخصصة، وفي أكاديمية  البحث العلمي والتكنولوجيا، وفي كثير من لجان وزارات الزراعة، والصحة، والأوقاف، والتربية والتعليم، والتعليم العالي.

تكريمه

وقد نال الدكتور أحمد مستجير أقصى ما كان وطنه يمنحه من تقدير في عصره فحصل على جائزتي الدولة التشجيعية 1974 والتقديرية 1995 في العلوم، وقبل التقديرية حصل على جائزة الإبداع العلمي، وبعدها حصل على جائزة مبارك في العلوم التكنولوجية، كما حصل علي وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي عند حصوله على جائزة الدولة التشجيعية.

اختياره عضوا في المجمع العلمي ومجمع اللغة العربية

وعلى الصعيد الأكاديمي اختير الدكتور أحمد مستجير عضوا في المجمع العلمي المصري، وتوج حياته الأكاديمية بانتخابه 1994 عضوا في مجمع اللغة العربية، وكان ثاني زراعي يصل إلى عضوية هذا المجمع، وقبيل وفاته بشهور اختير عضوا في المجلس الأعلى للثقافة.

كان وراء إنشاء المكتبة العلمية لكليته

وقد نجح الدكتور أحمد مستجير في أن ينشئ لكليته عددا من المعامل والمنشآت المهمة، وكانت أعلاها قيمة هي المكتبة العلمية العظيمة التي تبرع بتكاليف بنائها صديقه الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة.

شخصية مرموقة في تراثنا العربي الحديث

وقد عبر إنتاج أحمد مستجير الإبداعي والعلمي والفكري عن شخصية مرموقة لم يظهر لها نظير في تراثنا العربي الحديث، فهو العالم التطبيقي الذي عاش في معمله، وارتبط به وبقي فيه رغم مناصبه ومسئولياته الإدارية والوطنية. ولم يكف عن الإضافة إلي علمه وتخصصه، ومع هذا فهو المترجم العبقري الأمين القادر علي نقل أفكار الآخرين بكل دقة، وصياغتها في لغة رفيعة، وهو الشاعر الحساس المعبر، لكنه مع هذا الرياضي الذي يري في المنوال الذي ينسج عليه الشعر كيانا رياضيا يخضع لقواعد العقل قبل أن يخضع لموسيقي النفس، ودفقات الإحساس، وهو القيادي الذي خاض انتخابات العمادة بنجاح ساحق ثلاث مرات لكنه لم يكلف نفسه عبء البحث عن منصب آخر، أو القبول بمنصب آخر من مناصب كثيرة كانت قريبة منه ومن قدميه، وهو المجمعي المنجز الذي كان يؤثر غيره بالحديث، وبنسبة الإنجاز إليه، لكنه في الوقت ذاته منتبه إلي كل صيغة، وإلي كل صياغة.

اجتماع الصفات المميزة في شخصيته

والحق أن الدكتور أحمد مستجير عاش حياته نموذجا لرجل فذ اجتمعت فيه خصال رفيعة قلما تجتمع لعبقري.. اجتمعت فيه صفات العطاء المتدفق الذي لا يعرف حدودا ولا قيودا، والذكاء الوهاج الذي لا يعرف مشكلة ولا معضلة، وصفاء النفس الذي لا يعرف عقدا ولا حقدا، والعمل الجاد الذي لا يركن إلى الراحة إلا ليجدد النشاط.

كان محبا للناس محبوبا لديهم

كان الدكتور أحمد مستجير من النوادر الذين أحبوا الحقيقة، وأحبوا البشر أيضًا، ومن العجيب أن الحقيقة أحبته ومنحته نفسها، كما أن البشر أحبوه وأعطوه ثقتهم، وما من شخص عرف أحمد مستجير على أي مستوي إلا وقد أحبه.

هيأت لأحمد مستجير عبقريته النفاذ بيسر إلي جوهر النفس البشرية، كما هيأت له قدرة متمكنة على الوصول إلي جوهر الحقيقة، ومع أنه لم يكن يعبأ بالشكليات، فقد كان من أقدر الناس على استيفائها، ومع أنه لم يكن ينخدع بالمظهريات، فقد كان يقدر ضرورتها.

كان الدكتور أحمد مستجير يدرك وظيفة العلم وقدرته أيضا، وكان يري أن كل المشكلات قابلة للحل الذكي إذا ما اصطنعنا لها علما يخضع لما يخضع العلم له من قواعد وأصول، وليس أدل على ذلك من دفاعه الدائب عن نظريته المنحازة إلى القول بأن هناك علما اسمه الضحك، وعلما آخر اسمه السعادة.

كان فلتة في ذكائه

وخلاصة ما أقوله في الدكتور أحمد مستجير والألم يعتصرني لفقده أنه كان فلتة في ذكائه، وفي أدائه، وأنه كان طلعة في فهمه، وفي استكشافه، وأنه كان حجة في رأيه، وفي قراره، وأنه كان أمة في عمله، وعلمه، وإنجازه.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : تسعة عشر أستاذا وصديقا ، مكتبة الشروق الدولية ، القاهرة ، ٢٠١٤]

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com