الرئيسية / المكتبة الصحفية / الشيخ عبد المتعال الصعيدي الذي كان مغرما بالتجديد في كل العلوم

الشيخ عبد المتعال الصعيدي الذي كان مغرما بالتجديد في كل العلوم

ــ 1 ــ

الأستاذ عبد المتعال الصعيدي ١٨٩٤-١٩٦٦ رائد من رواد الأزهريين إلى ارتياد آفاق المناقشة العصرية للوقائع و الأفكار ، كما أنه مجتهد من المجتهدين المقدورين و الغيورين ، وهو أستاذ تقلبدي متميز قادر على المحاضرة و السجال مجيد للتأليف و العرض والاستقصاء .

ولد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في كفر النجبا مركز أجا محافظة الدقهلية (1894م)، وبعد ولادته بشهر واحد مات والده فكفلته والدته، وقد حفظ القرآن الكريم في كتاب القرية، والتحق بالجامع الأحمدي بطنطا، وفيه ظهر تفوقه في التحصيل والفهم، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان منذ صباه قارئًا شغوفًا بمطالعة كل ما تظهره المطبعة من كتب الأدب والفلسفة وغيرها، كما كان حريصا على مطالعة الصحف والمجلات .

 وقد مكنه الاجتهاد في التحصيل من أن يختصر سنوات الدراسة الأزهرية، وساعده على ذلك أن قوانين الأزهر العبقرية في ذلك العهد كانت تسمح بالتقدم للشهادات النهائية دون التزام بالنظام الكلاسيكي الذي يتطلب قضاء عام دراسي في كل صف أكاديمي ، حتى إنه كان من حق طالب السنة الأولى في القسم الثانوي أن يتقدم لامتحان الشهادة الثانوية مباشرة إذا أحس بالقدرة على اجتيازها، ولهذا نال عبد المتعال الصعيدي الشهادة العالمية القديمة في سن صغيرة جدًا (1918)، وكان ترتيبه الأول على الطلاب.

ومن الطريف أنه في العام نفسه 1918 كان الشيخ شلتوت هو الآخر قد حقق المركز الأول في امتحان العالمية القديمة في الامتحان الذي عقدته ما أسميها الجامعة الأزهرية الإقليمية الأولى المتمثلة في معهد إسكندرية الديني ، وذلك طبقا لنظام متطور أخذ به في ذلك الوقت كان امتحان الشهادة العالمية القديمة ينعقد في القاهرة والأسكندرية وطنطا ، وهي تجربة جامعية وأكاديمية رائدة أدعو الله سبحانه وتعالى أن يمد في عمري حتى أكمل دراستي عنها و أنشرها إن شاء الله .

ــ 2 ــ

عين الأستاذ عبد المتعال الصعيدي عقب نيله العالمية مدرسًا بالمعهد الأحمدي في العام نفسه، وهو ما يدل على مدى التقدير والتشجيع الذي حظي بهما من أساتذته ومن المسؤولين عن الأزهر في ذلك الوقت، وقد أثبتت الأيام أن فراسة هؤلاء في التلميذ النابغ كانت في محلها.

ويروى أن عبد المتعال الصعيدي مارس التأليف في السنة الأولى لتعيينه بالتدريس فأصدر مؤلفا غير تقليدي في علم النحو، وقد كان كتابًا على الطريقة الاستنتاجية، وقد ذكر الصعيدي نفسه في ترجمته الشخصية أنه سبق بكتابه كتاب «النحو الواضح» للأستاذ الجارم، لكن المؤكد أنه لم يسبق حفني ناصف ومعاصريه، فعبد المتعال الصعيدي إذًا هو الرائد في التأليف النحوي على الأسلوب العصري في محيط الأزهر!

على أن علامة النبوغ التأليفي المبكر التي ظلت ماثلة في تاريخه من عصر شبابه الباكر كانت هي تأليفه الكتاب الثوري الذي كان بعنوان «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف»، ذلك أنه انتقد في كتابه هذا ما كان يراه قصورا وجمودا في هذا النظام .

ــ 3 ــ

 وقد روي (أو حتى زعم) الأستاذ عبد المتعال الصعيدي فيما بعد أنه لم يشأ أن ينشر الكتاب إلا بعد مضى خمس سنوات على تعيينه في التدريس، لعلمه بما سوف يثيره هذا الكتاب من سخط عليه، وبخاصة أن أسلافه من أصحاب الرأي بين خريجي الأزهر كانوا قد تعرضوا لتجارب مماثلة وكان منهم، على ما نعرف، الشيخان محمد عبده ومحمد الأحمدي الظواهري.

وقد أغضب هذا الكتاب بالفعل بعض الأساتذة بالمعهد الأحمدي، وطالبوا شيخ المعهد بعقاب المؤلف بالفصل من الوظيفة، ومع أن هذا لم يحدث فقد عاقبه مجلس إدارة المعهد بخصم خمسة عشر يوما من راتبه، لكن الكتاب رفع اسم صاحبه عاليا في محيط المصلحين، ولقي الصعيدي تأييدا من بعض أعلام الأزهر كالشيخ يوسف الدجوي، والشيخ على سرور الزنكلوني، والشيخ على محفوظ، والشيخ مصطفي القاياتي.

 وقد دعا هذا العقاب الأستاذ عبد المتعال الصعيدي إلى الاستمرار في الدعوة لإصلاح الأزهر، وقد ركز على هذا في عدد من المقالات التي نشرها في العديد من الصحف المصرية، ولم يقف اهتمامه عندما كان يدعو إليه، وإنما كان حفيًا أيضًا بجهود أسلافه من المنادين بالإصلاح التعليمي في الأزهر، وقد وصل به الحال إلى أنه كان يعد نفسه بمثابة مؤرخ الإصلاح في الأزهر.

ــ 4 ــ

وعندما أنشئت كليات الجامعة الأزهرية في أوائل الثلاثينيات اختير الشيخ عبد المتعال الصعيدي (وكان لا يزال في أواسط الثلاثينيات) مدرسا بكلية اللغة العربية، وظل الشيخ عبد المتعال الصعيدي يشغل وظيفة التدريس في الجامعة الأزهرية حتى أحيل إلى التقاعد باستثناء فترة عوقب فيها (على الإدلاء برأي فقهي تجاوز به حدود ما كان أساتذته يطيقونه) فأبعد عن التدريس في الجامعة إلى التدريس في القسم العام بطنطا !!

 ويذكر الدكتور محمد رجب البيومي أنه تتلمذ على عبد المتعال الصعيدي في كلية اللغة العربية بالأزهر، وعرف جهده العلمي بها، إذ كان أستاذًا مرموقًا للأدب العربي حين التحق بها ، ثم اختير لتدريس البلاغة، فالحديث، فالفلسفة، فالمنطق، وكان له في كل علم كتاب ذائع، وقد أتاح له التفرغ للعمل العلمي (والبعد عن المناصب الإدارية) أن يزيد في عدد مؤلفاته.

ونحن نعتقد أن العمل في القاهرة قد هيأ الفرصة الأرحب للأستاذ عبد المتعال الصعيدي للاتصال بالمجتمعات الثقافية وللاتصال بمنابع الثقافة والمكتبات والمراجع، ونحن نعرف أنه كان كثير الكتابة في الصحف، دائب الحضور في المناقشات والمجادلات الفكرية.

 ويذكر الدكتور محمد رجب البيومي أن عبد المتعال الصعيدي جادل كثيرًا من أعلام العصر على صفحات الرسالة، وكان منهم الأساتذة: عبد الحميد العبادي، وعباس محمود العقاد، وزكي مبارك، ومحمد أحمد الغمراوي، وعلى عبد الواحد وافي، وغيرهم.

وقد ظل الشيخ عبد المتعال الصعيدي طيلة حياته غزير الإنتاج، متعدد الاهتمامات، وكان له في المحيط الأدبي ذكر وصدى في مصر والعالم العربي.

ــ 5 ــ

والحقيقة أن تآليف الشيخ عبد المتعال الصعيدي وكتاباته المتعددة امتدت إلى معظم العلوم التي كانت تدرس في الأزهر الشريف، وقد كان بعض هذه التآليف مبتكراً، وكان بعضها الآخر تقليديًا لكنه بلغ درجات قصوى من الإجادة والتميز.

وفي رأيي المتواضع أن أفضل كتاباته هي تلك التي جمعت بين التأريخ والتحليل، وفي هذا المجال يأتي كتابه «القضايا الكبرى في الإسلام» في المقدمة، وقد كشف عن فهم جيد وتحليل عميق للمعضلات الفكري التي واجهت الأداء الإسلامي في الحكم والسياسة والفقه والفكر على حد سواء.

وإذا جاز لي أن أقص شيئا معبرا في هذا المقام فإن أذكر أنني حينما عثرت على نسخة من هذا الكتاب في بداية الثمانينيات وبدأت قراءتها أيقنت أني لن أتركها حتى انتهى منها، لكني أدركت أيضا أن الكتاب ستنفرط صفحاته تماما قبل أن أنتهي من مطالعته ، فذهبت من فوري إلى ورشة التجليد التي كنت أتعامل معها ، و سألت صاحبها أن كان ممكنا أن ينتهي لي من تجليد هذا الكتاب قبل أن ينتهي اليوم ؟ فاشترط على رسوم الكشف المستعجل ، وكانت أول مرة أدفع فيها مثل هذه الرسوم عن طيب خاطر!!

فلما انتهيت من قراءة الكتاب قدمته لوالدي عليه رحمة الله فلما انتهي من قراءته ظل يحتفظ به في مكتبته المقربة أي التي إلى اليمين من مكتبه ،وهي تلك التي تسمي عند الغربيين مكتبة المكتب ، والتي تقتصر على عدة مراجع ومعاجم وموسوعات صغيرة ، وقد رأى والدي عليه رحمة الله ورضوانه أن هذا هو الموضع الجدير بهذا الكتاب . وكان عليه رحمة الله ورضوانه محقا .

ومضى ربع قرن فإذا بالسياسة العالمية تبحث من خلال كبار الرسميين المصريين في محيط الإعلام والثقافة عن مؤلفات الصعيدي فأدركت للتو أنها تبحث عن بعض فقرات فيها في موضوعات محددة قد تفيد المماحكات السياسية المعروفة عند غير المسلمين والتي لا أحب أن أذكرها الآن ، لكنها على كل حال كانت فرصة لإعادة نشر تراث هذا الرجل العظيم .

ــ 6 ــ

من ناحية ثالثة فقد كان الشيخ عبد المتعال الصعيدي صاحب قدرة على الجدل وإظهار الخطأ في بعض دعاوى التجديد والتصدي للاتجاهات التي اعتبرت معادية للعلوم الإسلامية والفكر الإسلامي السليم، ولعل أبرز مؤلفاته في هذا المجال:

•    «نقد كتاب في الشعر الجاهلي» .

•    «لماذا أنا مسلم؟» .

•    «القرآن والحكم الاستعماري» .

كما كان للأستاذ عبد المتعال الصعيدي دور في تأليف الكتب المرجعية والجامعية في علوم الفلسفة وما يتصل بها:

•    «الوسيط في تاريخ الفلسفة الإسلامية»،

•    «تجديد علم المنطق في شرح الخبيصى على التهذيب».

كذلك كانت له إسهاماته في التأليف العصري للعلوم الفقهية:

•    «التوجيه الأدبي للعبادات في الإسلام» .

•    «الفقه المصور في العبارات».

وكانت له جهود بارزة في إعادة صياغة علوم البلاغة والنقد الأدبي انطلاقا من الفهم الحديث، وأبرز كتبه في هذا المجال:

•    «النظم الفني في القرآن».

ولم تخل كتابات الأستاذ عبد المتعال الصعيدي من كتابات مستنيرة في موضوعات تقليدية، ومن أبرز هذه الكتب:

•    «توجيهات نبوية» .

•    «شباب قريش في بدء الإسلام» .

•    «دراسات دينية وأدبية».

ــ 7 ــ

وعلى وجه العموم تعتبر كتابات الشيخ عبد المتعال الصعيدي «الراديكالية» إن جاز هذا التعبير من أهم مؤلفاته، مع مرور الزمن ، وأبرز هذه الكتب:

•    «الحرية الدينية في الإسلام» .

•    و«حرية الفكر في الإسلام» .

وربما تضم هذه المجموعة أيضًا كتابه الذي أرخ به للتجديد في الإسلام :

•    «المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر» وهو كتاب عميق يؤرخ لحركة التجديد في الإسلام.

وقد تحدث الشيخ عبد المتعال الصعيدي بالتفصيل عن جهوده هو نفسه في مجال الإصلاح في كتابيه:

•    «قضية مجاهد في الإصلاح» .

•    «تاريخ الإصلاح في الأزهر» .

وفي هذين الكتابين خلط الشيخ عبد المتعال الصعيدي الهم العام بالهم الخاص وكان يكرر الشكوى لما ناله من ظلم، إذا ما قورن بزملائه ممن تبوؤوا أعلى المناصب دون أن يقدموا في عالم التأليف بعض ما قدم، كما كان كثير التعبير عن ضيقه من تعرضه للمساءلة الرسمية وما أعقبها من حكم كان يراه مجحفا بحقه.

وعند قرب إحالته إلى التقاعد كتب في خاتمة الجزء الثاني من كتابه «تاريخ الإصلاح في الأزهر»، و«صفحات من الجهاد في الإصلاح» تلخيصا لجهاده على مدى أربعين عاما في سبيل إصلاح الأزهر، وما لاقاه في سبيل ذلك من عنت واضطهاد.

وكان الصعيدي قد أصدر (1924م) كتابا مستقلا تحت عنوان «نقد نظام التعليم الحديث بالأزهر» قدم له بدراسة عن قانون التخصص بالقسم العالي، ثم عن فائدة العلوم الحديثة بالنظر إلى الطالب الأزهري الذي يرى طلبة المدارس يعلمون ما لا يعلم من المواد الثقافية والحضارية.

ــ 8 ــ

وضمّن الشيخ الصعيدي كتبه هذه نقدًا عنيفًا لكتب المتأخرين ذات المتون والحواشي والشروح والتقارير، لأن دراستها تقوم على أساس من فهم عبارة المتن، ثم توجيه الاعتراضات إليها، ومحاولة تبرير القول المنقود، أما الوصول إلى لباب القاعدة العلمية فلا يصل إليه الطالب إلا بعد عناء طويل في فهم المماحكات، وقد لا يصل وهو لايزال طالبًا مبتدئاً، كما أن هذه الكتب تنهج نهجًا واحدًا في التأليف، بحيث يجد الطالب في السنوات الابتدائية ما يجده في السنوات التالية، «فهي لا تتدرج بالطالب من عهد إلى عهد، بل تأخذ المبتدئين بأساليب المنتهين» .

«وقد كان أسلوبها الجاف حائلا دون ثقافة الطالب بالتعبير الجيد، حيث لا يستطيع مَنْ اقتصر عليه من طلاب أن يجد مددًا قويًا لأسلوبه العلمي، وبذلك يعجز عن تحرير مسألة، فإذا صار عالمًا عجز عن كتابة مقالة يطالعها الجمهور في نصاعة وبيان».

«أما طريقة التدريس فلا تستند إلى أساليب التربية الحديثة، ولا تنتفع بثمار المتخصصين في شؤون التعليم ممن نهلوا من الثقافة المعاصرة، وأدركوا أثر علم النفس في تفهم عقلية الطالب، والاهتداء إلى ما يكفل تنمية المواهب، وتربية الملكات».

«كما أن التخصص مفقود بحيث يدرس الأستاذ الواحد مسائل الفقه والأصول والتوحيد والبلاغة والنحو والصرف معا، وتفرق جهوده في شتي العلوم يجعله سطحيا في جميعها، والأولى أن يجيد شعبة واحدة من شعب الدراسة، ليعكف على تعمقها، والإجادة في علومها، وقد يسعفه الذكاء بابتكار الجديد ».

كذلك أشار الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بضرورة تعليم اللغات الأجنبية لتمد الطالب بسلاح المعرفة في عصره المتطور، وتجعل من الأزهري داعية للدين في بلاد لا تعرف اللسان العربي!

ــ 9 ــ

وكما أشرنا من قبل فقد عقد مجلس إدارة المعهد الديني في طنطا جلسة خاصة لمحاكمة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي (وذلك بناء على طلب زملاء عالمنا الجليل)، وفي هذه الجلسة تقدم الصعيدي بدفع قانوني يشير إلى ما أباحته اللائحة الداخلية من حق المدرسين في نقد المناهج التعليمية، وهو حق مشتهر لا يجوز إنكاره، ولكن الضجيج الصاخب حول الكتاب دفع بالمسؤولين إلى عقاب المؤلف بخصم نصف مرتبه الشهري.

وقد لقي هذا الحكم كثيرا من المعارضة والانتقاد في الصحف وكتب في هذا المعني ، كما ذكرنا من قبل ، عدد من كبار العلماء بالأزهر، ومنهم الأساتذة: يوسف الدجوي، وعلى سرور الزنكلوني، وعلى محفوظ.

 وكتب الخطيب الأزهري الشهير الشيخ مصطفي القاياتي مقالا قويا في تأييد رأي الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وتحبيذه، مشيرا إلى اهتمامه بالأزهر، وحرصه على نفع الطلاب، وتفانيه في خدمة الإسلام.

ــ 10 ــ

و على مستوى الأداء المهني والوظيفي ظل الشيخ عبد المتعال الصعيدي يعد نفسه من المجاهدين في سبيل الإصلاح والتجديد، وكان يصف منهجه بأنه يترسم خطا جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وكان يجاهر بأن أقوم طريق لنهضة المسلمين هو الطريق الذي دعيا إليه، وكانت فكرة التجديد بالمعنى الشامل مسيطرة على تفكيره، فالإسلام نهضة دينية ومدنية معاً، ولا يقتصر الأمر على ما يصلح الآخرة وحدها، بل يدخل فيه ما يصلح الدنيا أيضا، بل إن «العبادات أيضا يقصد منها في الأكثر أمور تعود علينا بالمصلحة في دنيانا قبل أن تعود علينا في أخرانا».

وفي بحثه «تاريخ المجددين في الإسلام» يصور الأستاذ عبد المتعال الصعيدي التجديد على أنه تاريخ نهوض المسلمين في أمور دنياهم قبل أن يكون نهوضهم في أمور أخراهم، لهذا لا يهتم من المجددين إلا بمَنْ يعمل لهذه الغاية، وقد وصل في إيمانه بالتجديد إلى دعوة المسلمين إلى أن يزيلوا من نفوسهم فكرة المهدي المنتظر، وأن يضعوا بدلا منها فكرة المجدد المنتظر، لينهض بهم في هذا الزمان، ويصير بالناس إلى عهد السلام والوئام.

وأول شرائط المجدد في نظر الأستاذ عبد المتعال الصعيدي أن يكون بعيدًا عن التعصب الممقوت : «فلا محل للتعصب في مجال التجديد والمجددين، ولا يصح أن يكون لمذهب المجدد في الدين أثر في غايته في التجديد، بل يجب أن ينظر في دعوته إلى المسلمين جميعا، فلا يميز فريقا على فريق، ولا يقصد بالتجديد فرقة دون فرقة، بل يسعى في خير المسلمين جميعا».

ــ 11 ــ

ومن المهم أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي كان ينتقد مفهوم التجديد لدى الشيخ محمد رشيد رضا ويعيب عليه جنوحه كثيرًا إلى مدرسة ابن تيمية، وكراهيته التأويل، وطعنه في المشتغلين بالفلسفة من فلاسفة المسلمين.

 وكان يقول بأن جنوح محمد رشيد رضا إلى مدرسة ابن تيمية، وجعله إمام المجددين فيما بعده من القرون، يخالف مفهوم الإصلاح الذي كان يدعو إليه، ويقلد فيه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وهو المنهج الذي يقوم على أساس الجمع بين علوم الدين والدنيا على الطريقة الأوروبية، وهذه الطريقة تناصر الفلسفة وعلومها، لأن حضارة أوروبا لم تقم إلا على أساس هذه العلوم .

 وكان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يجاهر باستحالة الجمع بين السير في درب ابن تيمية والسير في درب الأفغاني ومحمد عبده، وهو المنهج الذي كان يؤثره بالاختيار ويسميه مذهب الإصلاح الحديث، وكان يقول:

«مَنْ يذهب في الإصلاح الحديث ذلك المذهب لا يصح أن يكون ابن تيمية إماما له فيه؛ لأنه كان رجعيًا في هذه الناحية، بل يكون الأجدر بالاقتداء في هذا الإصلاح الحديث من السابقين ابن رشد الحفيد، لأنه هو الفيلسوف الفقيه الذي جمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، وآخى بين الدين والفلسفة، ولو قامت مدرسة ابن رشد بعده واستمرت كما استمرت مدرسة ابن تيمية لكنا أسبق إلى النهضة الحديثة من أوروبا، ولم نقع في الجمود الذي وقعت فيه مدرسة ابن تيمية».

ــ 12 ــ

وقد تمكن الشيخ عبد المتعال الصعيدي بذكاء بالغ من أن يبلور أسباب الجمود الديني في الأزهر في أربعة أسباب هي:

–     التقيد في العقائد بمذهب الأشعرية.

–     التقيد في الفروع بالمذاهب الأربعة المشهورة.

–     أخذ العلماء بعقوبات على أمور غير محددة.

–     المبالغة في تقديس أسلافنا وعلومهم.

والواقع أننا نعجب لقدرة الصعيدي على بلورة رأيه على هذا النحو حتى لو اختلفنا (نحن أو غيرنا ) مع بعض جزئياته.

وفي مقابل هذا كان عبد المتعال الصعيدي يدعو إلى القضاء على هذه الأسباب الأربعة من أجل أن تتسع عقول أهل الأزهر للبحث والنقد، ولا نقابل كل رأي جديد بالإنكار والاعتراض.

ولهذا فقد كان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يبني جوهر دعوته على المناداة بإطلاق الحرية في اختلاف الفرق الإسلامية في العقائد، وفي اختلاف المذاهب الفقهية في الفروع، وبألا يكون على علماء الدين أية عقوبات تحد من حريتهم، وتجعل للرؤساء سلطة واسعة عليهم، كما كان يدعو إلى الاقتصاد في تقديس الأسلاف وعلومهم، وألا نهاب أخذهم بالنقد النزيه، ووضع علومهم موضع البحث والتمحيص.

ــ 13 ــ

ويرتبط بمنهج الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في نقد مناهج التعليم الأزهرية، وفي دعوته إلى التجديد، ما كان من سلوكه تجاه حركات الإصلاح الأزهرية في النصف الأول من القرن العشرين، وقد كانت دعوة الشيخ المراغي إلى إصلاح الأزهر أبرز هذه الدعوات، وكان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي من مؤيدي الإمام المراغي، لكنه لم يكن يؤيده في كل أفكاره، وإنما كان يعارضه في بعضها، وكان يجاهر بهذه المعارضة، كما كان يجاهر بالتأييد.

ويذكر التاريخ للأستاذ عبد المتعال الصعيدي أنه تولى الرد على معارضي المراغي في خطته الإصلاحية في مقالات متسلسلة .

 وقد فنّد الأستاذ عبد المتعال الصعيدي رأي الشيخ عبد الرحمن عليش الذي قال بأن الإسلام لا يطلب من أهله معرفة كل شيء في الحياة، منكرًا تدريس العلوم الحديثة، فأورد الصعيدي من آيات القرآن ما يوجب النظر في أمور الكون وما في السماوات والأرض من ظواهر طبيعية، وهي آيات مشتهرة لا ينكرها أحد.

كما رد ثانيا على هجوم الشيخ عليش الصارخ على تدريس الفلسفة .

و ثالث ما اهتم به الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في الرد على الشيخ عليش هو تصديه لإنكار الشيخ عليش للاجتهاد مخافة أن يدعيه الجهلاء، وكان جوهر رد الصعيدي: إن هذا الخوف كان موجودًا في عهد أبي حنيفة، والشافعي، ومالك، من كبار المجتهدين، ولم يوصد باب الاجتهاد بسببه.

ــ 14 ــ

قلنا إن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي لم يؤيد الشيخ المراغي على طول الخط، ومن المفيد إذن أن نناقش بعض ما اختلف فيه مع المراغي.

 الواقع أن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي لم يكن يرحب بتحبيذ الشيخ المراغي لدراسة بعض الكتب القديمة، وإنما كان الصعيدي يدعو إلى تأليف معاصر يضعه الأساتذة، كل عالم في مادته لتتجدد المحاضرات العلمية بتجدد التدريس، على أن تكون كتب التراث مرجعًا أساسياً، لا أن تكون وحدها مجال التدريس.

 وكان الإمام المراغي قد نوه في مذكرته الإصلاحية بما في الكتب القديمة من بعض المزايا، فهي تدرب الطلاب على البحث وتمنحهم طول الباع في الجدل، وتفرض عليهم التعمق في فهم الكلمة ومدلولها ومنطوقها ومفهومها، إذ ليست كلها مماحكات لفظية تدور حول المتن في الشرح والحاشية والتقرير، كما أنها تمثل حقبة طويلة من تاريخنا لا يجوز لنا أن ننساها أو نهملها.

ــ 15 ــ

وقد كان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يتمتع برؤية متوازنة تدرك جانبي الحقيقة، وهو على سبيل المثال يستطرد إلى ذكر عناصر رؤيته بعد ما لخص فكرة الشيخ المراغي فيقول:

«… ولكن تقديرنا لمثل هذه الكتب لا يمكن أن يغير رأينا فيها، إذ لا تصلح أساسًا للدراسة في الأزهر، لأن بها من العيوب أضعاف ما بها من المنافع، ولو لم يكن فيها إلا التربية على القديم دون التجديد لكفي، ومع هذا لا نمانع في أن يدرس الطالب المنتهي كتابًا منها على الطريقة الأزهرية القديمة، حتى يكون ذا استعداد لفهمها، وحتى يمكنه أن يستخلص منها ما بها من الفوائد، وبهذا لا تهمل كل الإهمال».

ــ 16 ــ

وعلى الرغم من مناداة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بالتجديد في طرق التعليم الأزهرية فإنه كان معجبًا ومقدرًا لطريقة الدراسة الأزهرية القديمة، وكان يثني على ما تنتجه من التعمق في الدرس، وطول الباع في الجدل.

و يشير الأستاذ عبد المتعال الصعيدي إلى أن هذه المزية كانت تتأتي من خلال مشاركة الطلاب للأستاذ في الاستعداد للدرس الجديد، إذ كان المدرس ينبه الطلاب حين ينتهي من درسه إلى درس الغد، ليستعدوا له أيضا، فكانوا يجلسون جماعات جماعات ويأخذون في مطالعة دروس الغد إلى أن يمضي زمن طويل من الليل، ومنهم مَنْ كان يتعمق في فهم الدرس مثل أستاذه أو أكثر، وهنا يكون الدرس درس أساتذة لا درس أستاذ وطلاب، وهنا يدور الجدل بين الأستاذ وطلبته، ويحتدم النقاش حتى يقتل الدرس بحثًا ونقاشًا».

……………………………………………………………………

و يشير الأستاذ عبد المتعال الصعيدي أيضا إلى فضل غير مشهور لهذه الطريقة، وهو دورها في تنمية الاستقامة الخلقية فيقول:

«وكان لهذه الطريقة أثرها الخلقي في استقامة الطلاب وانصرافهم عن كل شيء إلا العلم، ولهذا كان الناس ينظرون إليهم بعين التبجيل، ولا يبخلون عليهم بما يستحقونه من التعظيم، أما الآن فلا أثر لهذه الطريقة بالأزهر، إذ انصرف الطلاب إلى سواها».

ــ 17 ــ

كذلك عارض الأستاذ عبد المتعال الصعيدي الأستاذ المراغي حين ألف لجنة الفتوى بالأزهر وحدد لها محيط الإفتاء، بأن فرض أن تجيب اللجنة طالب الفتوى على المذهب الفقهي الذي يحدده المستفتي، فإذا لم يعين مذهبا خاصا أجابته بحكم الله المؤيد بالأدلة من غير تقييد بمذهب من المذاهب الشرعية.

وقد ظل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يكرر الدعوة إلى التفكير الحر بعيدًا عن نصوص الكتب والجدل مع هذه النصوص، وقد ضرب الصعيدي مثلًا بابن خلدون كسلف عظيم من علماء الإسلام، في دعوته إلى البحث الحر دون التقيد بألفاظ الكتب ومحاولة الاعتراض عليها ثم الجواب بما يدفع الاعتراض، وقد فصل اعتراضه على ما سماه «كتب الأعاجم»، داعيًا إلى طريقة القدماء من أمثال الغزالي في الاستفاضة، والإمتاع والاستقصاء، ومؤثرًا أن يكون الطالب فسيح الآمال، متشعب المعارف، حيث يكون الكون الشاسع ميدان بحثه، لا أن تضيق عليه الحلقة بين المتون والشروح.

ــ 18 ــ

ربما جاز لنا الآن أن ننتقل إلى بعض آراء الشيخ عبد المتعال الصعيدي في الفقه وأصوله بعدما تبينا ملامح فكره في التجديد التربوي في التعليم الأزهري، وما يرتبط به من حرية الفكر والتفكير.

تحدث الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في كتابه «في ميدان الاجتهاد» بعمق عن ضرورة الاجتهاد في مسائل التشريع، بعد أن أوصدت القرون المتأخرة بابه، وأفتى علماؤها بوجوب التقليد نظرًا لغياب المجتهد، فبين أن باب الاجتهاد كان مفتوحًا في عهد السلف، وفي ميدانه ظهرت آراء السابقين من أئمة المذاهب الدينية.

وكان الأستاذ الصعيدي يكرر القول بما كان يعتقده من أن إنشاء المدارس الفقهية الرسمية كان سببًا في إقفال باب الاجتهاد، بل في قبر المذاهب الفقهية عدا المذاهب الأربعة، وقد كانت هناك مذاهب كثيرة لأهل السنّة والجماعة، بقي بعضها إلى القرنين السابع والثامن، ومن هذه المذاهب :

–     مذهبا البصري والثوري ولم يعمل بهما أمدًا طويلًا لقلة أتباعهما.

–     مذهب الأوزاعي وقد بطل العمل به بعد القرن الثاني للهجرة.

–     مذهب أبي ثور وقد بطل العمل به بعد القرن الثالث.

–     مذهب ابن جرير الطبري وقد بطل العمل به بعد القرن الرابع.

–     مذهب الظاهري وقد طال أمد بقائه حتى القرن الثامن.

ــ 19 ــ

لعل أهم الآراء الفقهية التي انفرد بها الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وخالف بها علماء عصره هو رأيه في عقاب المرتد، وهو الرأي الذي طوره وبلوره في كتاب كامل يحمل عنوان «الحرية الدينية في الإسلام»، الذي يعترف فيه بأنه يذهب مذهبا انفرد به في حكم المرتد، ويتلخص مذهبه في القول بأن المرتد لا يكره على الإسلام بقتل ولا بسجن ولا بنحوهما من وسائل الإكراه، وإنما ىُدعى إلى العودة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، كما يدعي غيره ممن لم يسبق له إسلام، بهذه الوسيلة أيضا، فإن أجاب فبها وإلا لم يكن جزاؤه إلا العقاب على ردته في الآخرة، وقد نفي الإكراه على الدين نفيا عاما صريحا، في قوله تعالى لا اكراه في الدين  (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256] ، وهذا نفي للإكراه مطلقا فيجب أن يدخل في حكم هذه الآيات مَنْ أسلم ثم ارتد، كما يدخل فيه مَنْ لم يسلم أصلا.

 وقد رد عليه الشيخ عيسى منون في مقالات نشرها بمجلة «الأزهر» حينذاك .

ــ 20 ــ

أما ثاني أهم آرائه الفقهية المنفردة فهو رأيه القائل بأن الحدود التي أشار إليها القرآن الكريم هي أقصي عقوبة فيما فرضت فيه، ومن ثم يجوز العدول عن هذا الحد (الذي هو الطرف الأعلى للعقوبة) إلى ما هو أقل منه من عقوبات رادعة.

وقد صادف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي مشكلة وظيفية علمية كبري بسبب هذا الرأي الذي أبداه في مسألة الحدود، وتفاصيل القصة حسبما يرويها الدكتور محمد رجب البيومي أن جريدة «السياسة» الأسبوعية كانت قد فتحت (1937) صدرها لمناقشة مسألة الحدود في الإسلام، وغلا بعض الكتاب فردد ما يقوله المفتونون بالمستشرقين عن قسوة الحدود كقطع يد السارق، ورجم الزاني، بينما جوبه بردود حاسمة تنفي مظنة هذه القسوة، لأن الشرائع الوضعية جميعها توجب القصاص، وتحكم بالقتل على القاتل، كما تحكم به على مَنْ يتجسس لحساب دولة أخري، أو ينهض بثورة مسلحة ضد الحاكم، فإذا كان حكم الإعدام مشروعا في حالات كثيرة دون أن يزعم أحد أنه مثل للقسوة المفرطة، فإن الحكم بالرجم وقطع اليد مشروع إذا وجه لمن يستحقه!

ــ 21 ــ

وفي خضم هذه المحاورات والمجادلات بدا للصعيدي أن يشير إلى رأي في الحدود، و قد احتاط كل الاحتياط، وتحسب كل التحسب ، وأعلن أنه يعرضه للبحث فحسب، لأنه يحتمل الصواب والخطأ، وقد قال هو نفسه عن رأيه الجديد:

«وإني ألجأ إلى عرضه على الناس رأيًا لا يظهر فيه ترجيح لناحية إثباته أو نفيه، بل أتركه لمن يتناوله بالبحث من أهله على صفحات السياسة، وقد أخوض في ذلك مع مَنْ يخوضون فيه إذا رأيت ما يستدعي هذا مني، ولا أريد إلا أن أعرض فكرة سنحت في النفس لأعرف رأي الباحثين فيها وأعلم صوابها من خطئها».

«أما لباب الفكرة فهي أن قول الله ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة:38] ، وقوله تعالى﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:2] ، هذان الأمران الكريمان قد يكونان للإباحة لا للوجوب، بمعني أن يكون القطع في السرقة أقصي عقوبة فيها، فيكون الطرف الأعلى في حدها، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة، وإن كانت أخف منه، ثم استشهد بعدة وقائع عدل فيها عن تنفيذ حد السرقة لبعض الظروف».

كان هذا هو جوهر ما عرضه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي لتبين خطأه من صوابه، وواضح من كلامه أنه لم يكن يجزم بالصواب، بل يتقدم مستفهمًا مستوضحاً، وإذا كان الصواب قد جانبه فإن من الحكمة أن يبين له وجه الخطأ كما طلب، لكن الغيرة على الدين وعلى التراث الفقهي كانت لا تزال في ذروتها، وكان العلماء يؤمنون بما علموا، وبما تعلموا ، ويجاهدون في الدفاع عنه، وهكذا فإن لجنة علمية شكلت لدحض المقال، وهذا هو الواجب ! على حين شكلت لجنة أخرى من كبار أساتذة الأزهر والقائمين على أمره لمحاكمة عبد المتعال الصعيدي، وانتهت هذه اللجنة (العلمية الإدارية كما ينبغي أن توصف) إلى أن يحرم من الترقية خمس سنوات، وأن ينقل من التدريس بكلية اللغة العربية بالقاهرة إلى القسم العام بطنطا !

على أنه مما يخفف الألم في نظري أن الحكم كان بالأغلبية لا بالإجماع.

ــ 22 ــ

و قد علق الدكتور محمد رجب البيومي على هذا الحكم بما يعتقده من أن الرد الفقهي بإيضاح وجه الخطأ كان كافياً، لأن الباحث مستفهم يطلب وجه الصواب، ولم يكن مصرا على رأي ارتآه.

وقد نشط فريق من علماء الأزهر لنقض ما كان يراه الأستاذ الصعيدي، وكان من أقوى الردود ما نشره الأستاذ محمد الخضر حسين بمجلة الهداية الإسلامية، حيث جزم بأن الأمر للوجوب الدائم لا للندب، وأتى بأدلة قاطعة من منطوق كتاب الله، وأقوال الكبار من أهل التفسير!

وكان صدور الحكم بمنع الترقية، والنقل إلى القسم العام بطنطا مصدر ألم شديد للشيخ الصعيدي، ولكن هذا لم يحل دون مشاركته الرأي في المسائل الدينية على صفحات الجرائد والمجلات.

 وقد واصل إنتاجه العلمي بل ازداد هذا الانتشار وانتشر وكانت مجلتا «الرسالة» و«السياسة» الأسبوعية وجريدتا «البلاغ» و«كوكب الشرق» ترحب جميعًا بمقالاته.

 ثم أعيد الأستاذ الصعيدي ثانية إلى الأستاذية في كلية اللغة العربية بالقاهرة، فاستأنف نشاطه العلمي.

ــ 23 ــ

كتب الأستاذ عبد المتعال الصعيدي فصلًا عن الحجاب في الإسلام (كان هذا اللفظ وقتها يطلق على ما نسميه الآن : النقاب) ، وذلك في مناسبة اعتناق بعض زعماء المنبوذين في الهند دين الإسلام لمناداته بالمساواة، ووقوف أتباعهم مترددين أمام ما يدعونه من فرض الحجاب على المرأة المسلمة، واهتمت مشيخة الأزهر حينئذ بتصحيح الرأي فأصدرت فتوى قالت فيها بإجماع الأئمة على أن الوجه والكفين ليسا بعورة، وليس على المرأة من بأس أن تزاول أعمالها خارج بيتها، وأن تمارس مهنا لكسب قوتها على شريطة ألا تظهر ما يثير العاطفة من جسمها.

وقد انتهز الشيخ عبد المتعال الصعيدي هذه الفرصة ليشير إلى أن المرأة المسلمة في حل من هذا النقاب الذي فرض عليها في دينها، فإذا شاءت سترت وجهها، وإذا شاءت تركت وجهها بلا نقاب.

ــ 24 ــ

أما كتب الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وكتاباته في علم المواريث فكانت بمثابة رد فعل على ما دعا إليه بعض الكتاب من مساواة المرأة بالرجل في الميراث، وهنا وضع الصعيدي كتابًا مستقلًا عن الميراث في الإسلام وفي غيره من الشرائع المعاصرة، فقام بدراسة مقارنة تثبت عدالة هذا النظام وعبقريته.

ويروي الدكتور محمد رجب البيومي أن هذا الكتاب لقي رواجا، وتعددت طبعاته في زمن يسير، إذ صادف وعيا حيا من القراء، وقد بدأه المؤلف بتفصيل شاف لأحكام الميراث في الفقه الإسلامي، وانتقل إلى المواريث في الشرائع القديمة، فتحدث عن قوانين المصريين القدماء، والعرب في الجاهلية، واليونان في أثينا، والرومان في إيطاليا، واليهود في كتبهم المقدسة.

كما تناول المواريث في الشرائع الحديثة، ومن بينها القانون الفرنسي.

وقد امتد نطاق المقارنات التي أوردها الصعيدي فشمل:

–     حق الإرث .

–     التسوية بين الذكور والنساء .

–     التسوية بين الأخوة والأبوين .

–     التسوية بين الأخوة .

–     حلول أولاد الوارث محله .

–     توريث ولد الزنى .

–     توريث المختلفين في الدين .

–     حجب البنات بالأبناء .

–     حجب الأصول والحواشي بالبنات .

–     حجب الحدود بالأخوة .

–     حرمان الحمل من الإرث .

–     إباحة مال مَنْ لا وارث له .

–     تعليق الإرث على القضاء!

وقد نجح الشيخ الصعيدي في أن يقدم لكل مسألة من هذه المسائل تعليلها العقلي، ودليلها الشرعي من نصوص الكتاب والسنّة مقارنة بغيرها من المواريث الوضعية.

ــ 25 ــ

وبالإضافة إلى هذا كله يذكر للشيخ عبد المتعال الصعيدي أنه .

•    نشر بحثا شافيا عن سر تحريم لحم الخنزير في عددين من مجلة «الرسالة» صادف قبول المنصفين، وترجمه أحد الباحثين إلى اللغة الأوردية ليقرأه المسلمون في الهند.

•    نشر رسالة مهمة عن فدية الإفطار وجعل عنوانها: «اجتهاد جديد في آية الصيام ﴾ مطبعة الاعتماد بمصر (1955) .

•    نشر مقالًا شهيرًا بعنوان: «نعم.. نملك تحريم تعدد الزوجات» مجلة الرسالة 1948م.

ــ 26 ــ

وفي ميدان علوم النحو كان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بمثابة المعلم المفكر والمؤلف المبدع، وقد ذكرنا في بداية هذا الباب أنه ألف كتابا في النحو في بداية عمله بالتدريس، ولاشك أن النحو بقوانينه ومنطقه كان بمثابة التحدي المبكر أمام هذه العقلية المنهجية القادرة على إعادة التنظيم وإعادة الصياغة.

وقد ظل تعليم النحو يشغل بال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي منذ بدايات حياة العلمية، وقد كتب مقالًا متميزًا نشره في «المجلة الأزهرية» (1924) تحت عنوان «نظرات في متن الأجرومية» وقال فيه:

«إننا لا نزال ندّرس متن الأجرومية للمبتدئين في النحو، على حين أن غيرنا من رجال التعليم في مصر وغيرها قد هجروه من عشرات السنين، فقد جاء في كثير من أبوابه مجملًا إلى حد يضيع معه الغرض المقصود من تدريسه، هذا إلى ما في تعليم المبتدئين بطريقة شرح المتون من تصعيب، لأنه يصرف المعلم عن اختيار أسهل الطرق لفهم مسائل العلوم … ».

ثم أتاح الزمن للشيخ الصعيدي الفرصة في أن يبلور فكره النحوي في كتابه «النحو الجديد» وفيه كتب عدة فصول يرد بها على مشروع لجنة القواعد العربية في تيسير النحو، وامتد ببحثه إلى تقييم كل ما كتب عن النحو في مجال التيسير المعاصر، فناقش آراء الأساتذة: إبراهيم مصطفي، وأمين الخولي، وأعضاء لجنة التيسير، مضيفا آراءه الخاصة في تذليل النحو.

ــ 27 ــ

وفي مجال الدراسات الأدبية كان الأستاذ عبد المتعال الصعيدي من أصحاب الرؤى النقدية المتميزة التي تبلورت في دراسات قيمة، وقد اشتهر بثلاثة مؤلفات ممتازة عن ثلاثة من الشعراء العرب المتميزين وهم:

–     عدي بن زيد .

–     أبو العتاهية .

–     الكميت بن زيد الأسدي .

 وقد كانت كتاباته عن هؤلاء الشعراء مبلورة لرأيه الذي انفرد به في أمارتهم على عصورهم مخالفًا بذلك آراء النقاد ومؤرخي الأدب من تفضيل امرئ القيس، وأبي نواس، وشعراء النقائض على هؤلاء الثلاثة.

وقد صور الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بحوثه ودراساته الأدبية على أنها محاولة لإثبات التفوق في الاجتهاد يحاول أن يعوض بها بعض مأساته وإحباطه بعدما عوقب على اجتهاده الفقهي، وقد قال في مطلع إحدى دراساته الأدبية:

«إن في الأدب اجتهادا لم يغلق بابه كما أغلق في الفقه والعلوم الشرعية، ولهذا امتازت بحوثه وتدفقت في غزارة حتى صار شغل الأستاذ في معهده، والطالب في مدرسته، ولو أن غير الأدب من العلوم كان له حظ الاجتهاد لم يصر إلى هذا الجمود الذي صرف الناس عنه، وجعلهم يكرهون النظر فيه ويخشون ما يصيبهم من العنت إذا خرجوا عن مألوفه».

ــ 28 ــ

والواقع أن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي كان صاحب رؤية خلقية متميزة فيما يتعلق بنقد الشعر والشعراء، وقد كان يصرح بأن مقياسه في تفضيل كاتب على كاتب يتعلق بالحرص على شرف الغرض، وسمو المعني، إذ أنه كما ذكر لا يرى لقضية الفن للفن وجها للإصابة :

« فالشاعر إنسان ممتاز ذو رسالة خلقية ينهض بالقيام بها مبشرًا ذوي النفوس الفاضلة بما يهتف من معان إنسانية ترتفع بالقارئ إحساسًا وإدراكاً، أما الذين يرضون شهوات النفس بالحديث عن الخمر والهجاء والغزل الفحش، فهم ـ في  رأيه ـ لا يسمون إلى مرتبة ذوي القيم من الشعراء».

وقد كانت للأستاذ عبد المتعال الصعيدي معركة مبكرة مع مخالفيه كانت بمثابة إرهاص للمعارك التي دارت بعد هذا حول فكرة الفن للفن، (وإن لم يكن النقيض وقتها أن الفن للمجتمع) وإنما كان الصراع بين المقاييس الخلقية التي كان الصعيدي حريصًا على الإعلاء من شأنها، وبين ما نقله المعاصرون عن كتب السالفين من أن الشعر شعر في حد ذاته، وأن الشاعر ليس نبيا أو واعظا، وقد اضطر الأستاذ عبد المتعال الصعيدي أن يكتب مقالًا تحت عنوان «مقاييس الشعر» نقل فيه من أقوال بعض السالفين ما يؤيد رأيه، وكأنه يقول لمعارضيه إنه يمثل امتدادًا لمدرسة ذات جذور فيما مضي من النقد العربي.

ــ 29 ــ

وقد كتب عبد المتعال الصعيدي في مجلة الرسالة (1936) يؤكد على فكرة المضمون الخلقي للأدب ضاربًا المثل بما أجراه من موازنة على أساسها، وكانت نتيجة الموازنة الانتصار لعدي بن زيد على امرئ القيس، والانتصار لأبي العتاهية على أبي نواس، وفي هذا المجال قال الأستاذ عبد المتعال الصعيدي ما نصه:

«وقد وضعنا للشعر مقياسا عاما يتفاضل فيه القول باعتبار نبل أغراضه وشرف مقاصده، قبل أن يتفاضل بجمال ألفاظه ومعانيه، ووازنا بهذا المقياس بين امرئ القيس، وعدي بن زيد في كتابنا «زعامة الشعر الجاهلي» وبين أبي العتاهية، وبشار، وأبي نواس فيما كتبناه بمجلة «الرسالة» عن أبي العتاهية، فخرجنا من هذا المقياس بتفضيل عدي بن زيد على امرئ القيس، وتفضيل أبي العتاهية على أبى نواس، ولكن جمهرة أدبائنا لا يوافقوننا على هذا المقياس، وينكرونه علينا أشد الإنكار، وهم معذورون لأقوال يعرفونها، وقد حملني ذلك على تقييد كل ما أراه يؤيد وجهتي في مطالعاتي».

ــ 30 ــ

ويلخص الدكتور محمد رجب البيومي وجهة نظرالأستاذ عبد المتعال الصعيدي بطريقة أخرى فيقول:

«لقد درس الأستاذ (أي عبد المتعال الصعيدي) عدي بن زيد لطلابه في تخصص المادة بالأزهر، مقارنا بامرئ القيس، فأورد ما اتفق فيه الشاعران من النشأة، فامرؤ القيس أمير، وعدي أبوه ملك، وكلاهما ترفع عن المديح والاتجار بالشعر، وكانت له منزلة في عشيرته، ولكن عديا نشأ في فارس وشاهد من ألوان الحضارة ما لم يشهد امرؤ القيس، ودرس الأديان واعتنق النصرانية فأمدته بمعانٍ طيبة في الرحمة والعدالة وترقب المصير، واتساع الأفق، إذ كان ينظر إلى الكون نظرة شاملة يتحدث عن المبدأ والعاقبة، ويؤدي رسالة الحكيم الناصح للإنسانية كيلا تنزلق إلى مهاوي الرذيلة».

«واتساع النظرة الإنسانية في هذا الوجود امتياز يحسب لصاحبه، لاسيما إذا كان ناصح ملوك، وأستاذ فكر، ولعدي في التذكير بالنعيم الغابر، والتحذير من الهرج الزائف درر ينقح بها العقل المتأمل».

«وكانت الأغراض في رأي الصعيدي موضع تبريز أبي العتاهية، إذ ساعد على نشر الثقافة الإسلامية بما ضمّن شعره من روائع الحكم والدعوة إلى الارتفاع عن مهابط النفوس، والبعد عن العبث والمجون اللذين كانا أبرز سمات بشار وأبي نواس، هذا إلى سهولة ميسرة تجعل شعره مقتحمًا صوالا على النفوس، وهكذا انتصر الكاتب لمنحاه في إصرار وتأكيد».

«وإذا كان عدىّ يمثل الزعامة الشعرية في العصر الجاهلي عند الصعيدي، وكان أبو العتاهية يمثل الزعامة الشعرية في مطلع العصر العباسي، فقد اختار الناقد شاعرًا من طراز صاحبيه يمثل الزعامة الشعرية في العصر الأموي، هو الكميت بن زيد الأسدي، حيث كرس شعره لمحاربة الفجرة من الطغاة، والظلمة من الحاكمين، ونأي بالشعر على أن يكون موطنًا للاستجداء في مدائح تساق إلى غير مَنْ يستحق».

«وإذا كان الذائع أن جريرًا والأخطل والفرزدق قد تسنموا زعامة الشعر في عهد بني مروان، فإن الصعيدي ينكر هذه الزعامة على قوم أخذوا يهبطون في النقائص إلى دركة السفلة من الرعاع، حين تقاذفوا …. متحدثين عن معانٍ هابطة تشين صاحب البيان، فالغلو في الهجاء لدي هؤلاء جعلهم شتامين منحدرين، بحيث تصبح أشعارهم معرة للأدب العربي إذا ترجمت إلى لغة غير لغة العرب».

«أما الكميت فقد دافع عن فضائل الأمة الإسلامية، ودعا إلى إقامة العدل وإشاعة الحرية، وتوجه بمدائحه إلى قوم لا يملكون الجزاء المادي، كما يتوجه أرباب المآرب عن قصد مريب، لقد توجه بمدائحه إلى آل بيت رسول الله، يذكر فضائلهم ويرجوهم لساعة حاسمة تطوي دياجير الظلم، وتنشر أنوار الحق».

«وقد استوفي الصعيدي في حديثه عن الشعراء الثلاثة جانب الاستشهاد، لأن دواوين هؤلاء الشعراء تفيض بما ينشد من مُثل، ولعل مما يؤيد وجهة الناقد، أن هؤلاء الثلاثة ليسوا نظامين يسوقون العظة بألسنة الخطباء، لكنهم في صميم مواهبهم شعراء أصلاء، وما انحدر بالشعر المثالي عن أوجه غير نفر من النظامين نسجوه نسج المتون العلمية، فجاء جامد الروح، ميت النسيم، أما عدىّ، وأما الكميت، وأما أبو العتاهية فشعراء أصلاء».

ــ 31 ــ

ويروي الدكتور محمد رجب البيومي أن عددًا من كبار الأدباء والنقاد اختلفوا مع رأي الأستاذ الصعيدي في هذا الصدد، وقد كان من أبرزهم الدكتور زكي مبارك، والأستاذان محمود الخفيف، ومحمد على غريب، وأن النقاش امتد حول مجال الترجيح عند الصعيدي على صفحات المجلات دون أن يرجع الصعيدي عن وجهته، إذ عمد بهذا المقياس إلى دراسة أبي العتاهية، ليفضله على زميليه الكبيرين بشار وأبي نواس، فعرض إلى مظاهر التجديد الشعري في مطلع العصر العباسي من ناحية الأغراض والمعاني والتراكيب، ليثبت فضل أبي العتاهية.

وقد ظل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي معتزًا بمقياسه الخلقي للعمل الأدبي ، وفي رأيي المتواضع أن الصعيدي كان صاحب الفضل الأوفى على المعركة الأدبية التي دارت حول قيمة الأدب الجاهلي بين الأستاذ أحمد أمين و الدكتور زكي مبارك على صفحات مجلتي الرسالة والثقافة.

لكن أحدا لا يعترف بالفضل في مصر إذا كان صاحب الفضل أزهريا .

ــ 32 ــ

ويتصل بنشاط الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في دراسات الشعر ما كتبه من رد على الدكتور طه حسين في كتابه «الشعر الجاهلي» وقد صدر بعنوان «نقد كتاب في الشعر الجاهلي» عن مطبعة الكمال بطنطا (1925).

وقد أثبت الأستاذ عبد المتعال الصعيدي القصد الجنائي الذي حاولت النيابة العامة نفيه، كما رد على قول رئيس النيابة «أن الكتاب يصور رأي عالم باحث، ومن حقه أن ينشره بين الناس»

وجاء رد الصعيدي المفحم والمقنع :

«إن الكتاب لم ىُنشر بين المثقفين ليعرفوا حقه من باطله، لكنه قرر على طلاب لم يبلغوا مبلغ الحكم الأدبي بالصواب والخطأ، وهؤلاء يتطلبون كتبًا صحيحة الأفكار، بريئة من الإرجاف بالمقررات الدينية والتاريخية، فإذا ألقي أستاذ على طلبته قضايا لم تثبت صحتها فهو متهم!

ــ 33 ــ

كذلك تشمل دراسات الأستاذ عبد المتعال الصعيدي الأدبية كتابه «مدرسة أبي تمام بين قدامي المولدين والمتأخرين» .

وفي علوم البلاغة والنقد الأدبي قام الأستاذ عبد المتعال الصعيدي بجهد ملموس في إعادة تقديم علوم البلاغة العربية القديمة في لغة عصرية.

ويذكر له في هذا المجال أنه وضع كتابه «البلاغة العالية» وقد جمع فيه بين تاريخ البلاغة وأهم مسائلها، وتبدو فيه سمات الصعيدي التي تجمع بين الإحاطة بعلوم الأوائل والاجتهاد في عرضها.

وكذلك شرح الصعيدي كتاب «الإيضاح» للقزويني في أربعة أجزاء، كما حقق كتاب «سر الفصاحة» لابن سنان الخفاجي.

وعلى الرغم من أن الدكتور محمد رجب البيومي يبدي إعجابه بشرح الصعيدي لكتاب الإيضاح وقد سماه «بغية الإيضاح»، ويراه قد استوفي ما يتطلب من الشرح والنقد والتعليق والأسئلة الهادية إلى تطبيق المادة، فإنه يأخذ على الأستاذ عبد المتعال الصعيدي ما ذكره في مقدمة الكتاب من أن كتاب الإيضاح ينتمي في البلاغة إلى مدرسة عبد القاهر، وهو يخالفه في هذا الرأي كل المخالفة، لأن الكتاب يسير في ضوء المفتاح للسكاكي، وإن اعترف القزويني بأنه رجع إلى عبد القاهر وأفاد منه.

كذلك يخالف الدكتور محمد رجب البيومي الشيخ الصعيدي فيما أورده في مقدمة كتابه من أن السكاكي يعد إلى حد ما من تلاميذ مدرسة عبد القاهر، لكنه كان ناقدًا ولم يكن أديباً، إذ لو كان السكاكي من مدرسة عبد القاهر ما تحجرت البلاغة هذا التحجر الذي وضح في كتب المتأخرين ممن داروا في فلك السكاكي.

ــ 34 ــ

ويتعجب الدكتور البيومي من أن يخلع الصعيدي على السكاكي صفة الناقد بمعناه الأدبي المعروف لدي الجرجاني والآمدي وابن الأثير وعبد القاهر وابن رشيق وأضرابهم من مشاهير النقاد! والفارق بين هؤلاء والسكاكي بعيد بعيد، لاسيما وقد اعترف الصعيدي في المقدمة نفسها «بأن العجمة غالبة على أسلوب السكاكي، وهو ذو غموض وتعقيد وضعف في التأليف، ومفسد لملكة البلاغة، وضرره أكبر من نفعه».

ويستطرد الدكتور رجب البيومي فيقول: «أجل سجل الصعيدي هذه المآخذ كلها على كتاب «المفتاح» للسكاكي، واعترف بها في وضوح، فكيف يعد السكاكي مع ذلك كله إلى حد ما من مدرسة عبد القاهر؟».

ويرى الدكتور البيومي أن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي أنصف كتاب «سر الفصاحة» لابن سنان الخفاجي الذي هو أقرب إلى البلاغة الناصعة من كتابي المفتاح والإيضاح، وقد قدم الصعيدي كتابه في تحقيق كتاب الخفاجي بمقدمة حافلة، لكنه قال في خاتمتها إن أسلوبه العلمي أقرب إلى أسلوب المتأخرين من أسلوب عبد القاهر، فإذا كان الصعيدي يقصد بالمتأخرين تلاميذ السكاكي ومَنْ ترسموا خطواته ففي كلامه نظر يحتمل النقاش، لأن ابن سنان إذا لم يرزق ديباجة عبد القاهر فقد رزق ذوقه، وحسن اختياره، وبعده عن التعقيد والغموض، فهو ينادي الجرجاني من مكان قريب.

وللأستاذ الصعيدي مؤلفات أخرى مهمة في علوم البيان القرآني والبلاغة والنقد نذكر منها:

–     «النظم الفني في القرآن» وقد طبع في مكتبة الآداب بمصر.

–     «الأقوال الحسان في حسن نظم القرآن» وقد طبع مرتين في عامين متقاربين حيث طبع في مطبعة المعارف بطنطا (1924) وفي المطبعة العمومية بطنطا (1926).

ــ 35 ــ

امتدت جهود هذا العالم الفذ الأستاذ الصعيدي إلى ميدان التاريخ الإسلامي حيث كتب :

–     مؤلفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم   .

–     مؤلفًا عن الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة .

–     «تاريخ الجماعة الأولي للشبان المسلمين برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم   (وهو مجموعة دروس ألقاها) المطبعة السلفية بمصر .

–     «تاريخ العرب في الجاهلية وصدر الإسلام» المطبعة المحمودية بمصر (1934) .

–     «السياسة الإسلامية في عهد النبوة» دار الفكر العربي بمصر (1964) .

–     «السياسة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين» دار الفكر العربي بمصر (1961) .

–     «شباب قريش في بدء الإسلام» دار الفكر العربي بمصر (1960).

ــ 36 ــ

أما أبرز جهد للصعيدي في كتابة التاريخ الإسلامي فهو كتابه الرائع «القضايا الكبرى في الإسلام» الذي أشرت إليه وإلى انحيازي إليه في مطلع هذا الباب ، وفي رأيي أنه بهذا الكتاب قدم للحضارة الإنسانية ، لا للإسلام فحسب ، عملا علميا متفردا ناقش فيه أعظم القضايا في التاريخ الإسلامي الممتد ، مبتدئًا بعهد الرسالة النبوية، ومنتهيًا بقضية الشعر الجاهلي في العصر الحديث.

وفي كثير من فصول هذا الكتاب ظهرت ملكاته النقدية و الناقدة التي وصلت إلى ما لم يصل اليه أحد من معاصريه .

ففي قضية بني قريظة ناقش مَنْ عارضوا الحكم من المستشرقين حين رأي سعد ابن معاذ أن يقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء، إذ ذهبوا إلى أن الحكم يتسم بالقسوة، وقد قال المؤرخون: إن سعدًا نزل على حكم التوراة التي يدينون بها، وهي تقضي بذلك، فليس لهم أن يخرجوا عن قانون يؤمنون به، وهو قول له وجهة نظره، لكن الصعيدي ذكر تعليلًا قويًا حين نص على أن بني قريظة ليسوا أسري حرب، حتى نرمي الحكم بالقسوة، ونميل إلى جانب العفو، لأن الرسول عفا عن بني النضير وبني قينقاع، وهم زملاؤهم دون أن يتعرضوا للقتل، ولم ينفذ فيهم حكم التوراة.

أما بنو قريظة فقد قارفوا الخيانة العظمي حين تحللوا من عهودهم السياسية وانضموا إلى الأعداء، فلم يكونوا في المبدأ أعداء يعاملون معاملة الأسرى، لكنهم خونة أمّنهم المسلمون لما بينهم من العهود فانتهزوا محنتهم الخطيرة وغدروا بما اتفقوا عليه، وكل الشرائع الوضعية تنفذ حكم الإعدام في الخائنين.

وفي حادث الإفك ذهب الأستاذ عبد المتعال الصعيدي إلى أن رسول الله لم ينفذ حد القذف على أحد، لأن التشريع لا يعمل به في الأحداث الماضية، بل يعمل به فيما يستجد، ونقل نصوصًا عن الماوردي وابن حجر تدل على أن الحد لم يقم، لأن الحد لا يجب إلا ببينة أو إقرار، ولم يثبت أحد هذين! فالأراجيف قد انتشرت، وعزيت إلى أناس فأنكروا وحامت الشبه عليهم فتنصلوا ولم يقروا، فإذا أضيف إلى ذلك أن حكم القذف لم يكن مقررًا من قبل، فوقف العقوبة متوقع! وقد نص عليه جماعة من الأئمة.

ــ 37 ــ

من حسن الحظّ أن المكتبة الأزهرية تحتفظ بنسخ كثيرة من مؤلفات الأستاذ عبد المتعال الصعيدي ، وهكذا أمكن الإشارة إلى بعض تواريخ صدورها وطبعاتها في هذه الببليوجرافيا التي ننقلها بتصرف عن جهد مشكور قام به أبو الفداء سامي التوني لمشروع لم يتمه معهد الفكر الإسلامي:

•    «الآجرومية العصرية لطلاب السنة الأولى بالمعاهد الدينية الإسلامية» المطبعة الرحمانية بالقاهرة (1920م) .

•    «الأزهر وكتاب دراسات قرآنية» الفكر العربي بمصر .

•    «تجديد علم المنطق شرح الخبيصي على متن التهذيب» مكتبة الآداب بمصر.

•    «توجيهات نبوية» مكتبة الآداب بمصر.

•    «الحرية الدينية في الإسلام» دار الفكر العربي بمصر وطبعت منه دار المعارف طبعة حديثة .

•    «حرية الفكر في الإسلام» دار الفكر العربي بمصر .

•    «القضايا الكبرى في الإسلام» مكتبة الآداب بمصر .

•    «الكميت بن زيد شاعر العصر المرواني وقصائده الهاشميات» مطبعة الرسالة بمصر.

•    «لماذا أنا مسلم؟» مكتبة الآداب بمصر .

•    «المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر» مكتبة الآداب بمصر (1962) .

•    «الميراث في الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية والوضعية» مكتبة الآداب بمصر .

•    «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف، وكلمة في التعديل الجديد الصادر في سنة 1342» المطبعة العمومية بطنطا .

•    «تاريخ الإصلاح في الأزهر وصفحات من الجهاد في الإصلاح» مطبعة الاعتماد بمصر .

•    «أسرار التمثيل بين الطريقة الأدبية والتقريرية» المطبعة المنيرية بمصر (1955) .

•    «روائع النظم والنثر لأشهر رجال الأدب في العصر القديم والحديث» المطبعة العمومية بطنطا.

ــ 38 ــ

قام الصعيدي أيضا بشرح وتحقيق مجموعة كتب مهمة في الحديث النبوي:

«توجيهات وتحقيقات في عشرين حديثا نبويا» مطبعة صبيح بمصر.

و«ثلاثون حديثا نبويا» مطبعة صبيح بمصر .

كما قام بتحقيق كتب في النحو والمنطق:

•    «بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح» مطبعة محمد على صبيح ومكتبة الآداب بالقاهرة (4 أجزاء) .

•    «بغية السالك لشرح أوضح المسالك» لابن هشام مطوع على هامش كتاب «أوضح المسالك» مطبعة الآداب بمصر ومطبعة على صبيح بمصر .

•    «سر الفصاحة» لابن سنان الخفاجي مطبعة محمد على صبحي بمصر .

•    «شرح شذور الذهب» مطبعة صبيح بمصر .

•    «المنطق المنظم شرح المولوي على السلم» مطبعة صبيح بمصر .

•    و«بسط سامع المسار في أخبار مجنون بني عامر» محمد بن أحمد بن طولون الصالحي، مكتبة القاهرة بمصر .

•    و«العقائد النسفية مع شرحها وحواشيها» المطبعة الرحمانية بمصر.

ــ 39 ــ

ومن آثاره في الدوريات الشهيرة المفهرسة التي يسهل الرجوع إليها في كثير من المكتبات :

•    «مساجلته مع عبد الحسين الموسوي حول تكذيبه لأبي هريرة رضي الله عنه  » .

مجلة الرسالة 17 من مارس 1947م.

•    «نقد الصعيدي لكتاب أبي هريرة للموسوي» .

مجلة الرسالة 7 من أبريل 1947م.

•    «رد الموسوي على الصعيدي» .

مجلة الرسالة 28 من أبريل 1947م.

•    «رد الصعيدي على الموسوي» .

مجلة الرسالة 19 من مايو 1947م.

•    «رد الموسوي على رد الصعدي المتقدم» .

مجلة الرسالة 26 من مايو 1947م.

•    نقده لكتاب «الفن القصصي على القرآن» لمحمد أحمد خلف الله .

 مجلة الرسالة 24 من نوفمبر 1947م.

•    مقال «لمحات قضائية في مقتل عثمان» .

مجلة الرسالة 9 من ديسمبر 1946م.

•    مقال «الملجأ الإسلامي الأول في عهد النبوة» .

مجلة الرسالة 14من يناير 1846م.

[ موضوع المدونة بالتفصيل في كتاب الدكتور محمد الجوادي : الأزهر الشريف و الإصلاح الاجتماعي و المجتمعي ، دار الكلمة ، القاهرة ، ٢٠١٤]

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com