الرئيسية / المكتبة الصحفية / قصة مصر في مجلس الأمن ١٩٤٧

قصة مصر في مجلس الأمن ١٩٤٧

في هذه المدونة نبدأ ببلورة مجموعة من الحقائق الممنوعة من التداول (عن قصد) التي لا بدّ منها لفهم مسار قضية الاستقلال الوطني في مسيرة التاريخ المصري المعاصر، وفهم طبيعة الدور الذي كان متاحا للنقراشي أن يُؤديه، كما نُلخّصُ للقارئ التفصيلات المهمة من واقع ما ترجم من الوثائق البريطانية حول تلك الفترة .

الاهتداء المُباشر بالتجربة السورية واللبنانية

الحقيقة الأولى تتعلق بالفكر السياسي المصري وفكرة المحاكاة: ذلك أن ذهاب الحكومة المصرية أو رئيسها محمود فهمي النقراشي باشا إلى مجلس الأمن كان في حقيقة الأمر اهتداء مُباشراً بالتجربة السورية واللبنانية التي أثمرت إعلان استقلال سوريا ولبنان في 1946 وإلزام فرنسا بالجلاء النهائي بقرار من مجلس الأمن، كان الفضل في استصداره لمجموعة المفاوضين السوريين المُتميزين ومنهم الزعماء هاشم الأتاسي وسعد الله الجابري ومن بينهم رئيس الوزراء السوري اللاحق فارس الخوري الذي تولى بنفسه في ذلك الوقت منصب مندوب سوريا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وصحيح أن الشوفونية المصرية لم تُعلن هذه الحقيقة للجماهير بأيّة صورة لكن القارئ الجيد للتاريخ العربي يستطيع أن يصل إلى هذه الحقيقة بكل بساطة . ومن الجدير بالذكر أن أشقاءنا السوريين النبلاء كالعهد بهم وبحبهم لمصر والمصريين ساعدوا محمود فهمي النقراشي باشا مساعدات قيّمة في عرض القضية المصرية وتجهيز ملفها، كما ساعدوه في معرفة كثير من الحقائق عن المجتمع الدولي ورجاله.

ومن الحق أن نقول إن محمود فهمي النقراشي باشا (حتى وإن كان مُخطئاً) دفعه الطموح الوطني إلى أن يتصوّر أن مصر قادرة على أن تحصل من مجلس الأمن على إنصاف يتناسب مع ما حصلت عليه سوريا ولبنان، مع الاختلاف المبدئي بين وضع مصر ووضع سوريا ولبنان ومع الاختلاف المفهوم في المطالب، كذلك فإن محمود فهمي النقراشي باشا رأى أن من واجبه الوطني (لا السياسي) أن يذهب إلى هذا الطريق مهما كان الوضع مختلفا، وفي الحقيقة، فقد كانت مصر قد حصّلت منذ 1922و1936 من حقوقها على ما هو أفضل مما حصلت عليه سوريا في ذلك الوقت، لكن محمود فهمي النقراشي باشا بدا لنا وكأنه أُعجب بفكرة هذا التحكيم الأممي العلني .

حقيقة الموقف الأمريكي

الحقيقة الثانية تتعلق ببداية تجربة مصر العملية في منظمات المجتمع الدولي: وذلك أن هذه التجربة على الرغم من ورودها العارض في سياق الآليات التفاوضية الوطنية المتصلة، وعلى الرغم من فشلها فإنها سرعان ما أثمرت معرفة بآليات جديدة في المناقشات لم يكن للمصريين الرسميين عهد بها في تعاملهم مع البريطانيين من قبل، وعلى سبيل المثال، فقد عرف المصريون درساً ثميناً حين اكتشفوا عن قُرب بعض العوامل الحاكمة لما يُمكنُ أن نُسميه مسار الأمريكيين المُتماوج في التعبير عن رغبتهم في عرض القضية في الجمعية العامة، بدلاً من مجلس الأمن حتى لا يُحرجوا أنفسهم مع العرب بإظهار عدم تأييدهم لمصر في مطلبها، ومن المثير أن هذه السياسة الأمريكية ظلّت سائدة حتى انكشفت بالانقلاب العسكري المصري في 2013 ثم تأكد الانكشاف وتعمق بمجيء الرئيس ترمب بأطروحاته غير المبالية بالحفاظ على الرصيد الأمريكي في الخداع الاستراتيجي المعتمد على إظهار وجه ناعم وغير حقيقي، ولا بالتراث الأمريكي في الالتفاف التعبيري المراوغ.

كذلك فقد بدأ المصريين يعرفون لأول مرة طبيعة بعض الخلافات بين بريطانيا وأمريكا، كما بدأوا يعرفون لأول مرة أيضاً أن الأمريكيين يتمتعون بأطماع كبيرة في مصر وفي ليبيا ويتحدثون عن قاعدة في برقة ويتحدثون بصراحة عمّا يُمكن لمصر أن تُقدمه لهم بالإجبار قبل التراضي في نطاق ما يروجون له من قيامهم بما صوروه على أنه مهمتهم التاريخية والكونية (بل المقدسة حسب تصويرهم !) في محاربة انتشار الشيوعية. كما صارحوهم في لحظة عابرة بأنهم لن يُقدّموا لمصر عوناً مالياً، لأن القانون الأمريكي لا يتضمّنُ ما يُمكّنُهم من تقديم هذا الدعم بل إنهم رفضوا أن يكفوا عن محاربتهم الخفية، وربما الحاقدة للقطن المصري طويل التيلة .

الالتقاء بالرئيس الأمريكي

الحقيقة الثالثة تتعلق بالعلاقات المصرية الأمريكية المباشرة التي خاضتها بحسن نية غير مبرر: وذلك أن نشاط محمود فهمي النقراشي باشا الدائب والواسع وحرص مرافقيه على ترتيب المقابلات رفيعة المستوى له، فضلا عن مكانة مصر يومها، كل أولئك قد مكّنه من أن يلتقي بالرئيس الأمريكي نفسه، ومن أن يتباحث مع وزير الخارجية الأمريكي الأشهر مارشال، وأن يلتقي بزعماء ووزراء من هذا المستوى، ومع أن هذه المقابلات لم تُسفر عن انحياز فوري أو إنجاز حقيقي ، لكنها رمت بذورا جيدة، وأستطيع أن أقول إن محمود فهمي النقراشي باشا الذي عاد بقدر كبير من خيبة الأمل اكتسب أيضا بفضل هذه الجُرعة المعتبرة من خيبة الأمل مناعة جزئية ضد توقّعاته للموقف الدولي في الحرب التي كان العرب مُقدمين عليها من أجل الحفاظ على أراضي فلسطين وشعبها، ولولا أن العرب الرسميين وعلى رأسهم محمود فهمي النقراشي باشا وأنداده الذين حضروا اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وما بعدها قد أدركوا مُبكّراً هذه الحقائق عن التواطؤ الدولي، لكانت الخسارة العربية في فلسطين أكثر تبكيراً وأضخمُ حجماً ممّا حدث بالفعل، بسبب ما كان من هذا التغييب المُتعمّد لوجهات نظر العرب عن المُجتمع الدولي، وهو ما تواطأت عليه فرنسا وبريطانيا وأمريكا والاتحاد السوفييتي.

الضغط على أعصاب البريطانيين الباردة

الحقيقة الرابعة تتعلق بالبريطانيين في عصر أفولهم غير المدرك: وذلك أن ما كان معهودا من أسلوب التصلّب الظاهري التقليدي الذي تمسّك به الجانب المصري برئاسة النقراشي في عدم التفاوض مع البريطانيين إلا بشروط قد نجح في أن يضغط على أعصاب البريطانيين (الباردة) من حيث لم يتصور المصريون، ذلك أنه حتى من قبل ذهاب محمود فهمي النقراشي باشا للأمم المتحدة، فإن جولة مُفاوضات محمود فهمي النقراشي باشا مع البريطانيين كانت هي الأقصرُ زمناً على الإطلاق في جولات المفاوضات البريطانية المصرية، ولم يكن هذا شأن البريطانيين، ومع هذا فإن البريطانيين حاولوا بكلّ وسيلة أن يبدأوا مفاوضات جديدة مع محمود فهمي النقراشي باشا في الأمم المتحدة وطلبوا من الأمريكيين الضغط على مصر في هذا الاتجاه، بيد أن محمود فهمي النقراشي باشا كان طموحاُ بالطبع إلى أن يحصُل على ما لم يحصُل عليه من سبقوه، ولهذا فإنه كان يُريد أن يبني على ما حقّقته مفاوضات سلفه المباشر إسماعيل صدقي باشا مع بيفن (مفاوضات صدقي بيفن 1946 المشهورة) .

وكما هو معروف ومتوقع من محمود فهمي النقراشي باشا، فإن تصلّبه الصريح دفع البريطانيين في رسمهم لخُططهم القادمة إلى أن يكونوا أميل إلى فهم الموقف المصري الشعبي والحزبي الذي لم يعُد يُلقي بالاً للمعاهدة التي لم تكن بريطانيا نفسها [من وجهة نظرهم] حريصة على أن تلتزم بروحها. وهكذا يُمكن لنا القول بأن فشل مفاوضات محمود فهمي النقراشي باشا ثم فشل مهمته في الأمم المتحدة كان ذا نتيجة مباشرة في إذكاء توجه الوفد والنحاس باشا الحاسم بعد سنتين، حيث انتقل هذا الموقف بتدرج متوقع من إعادة التفاوض إلى إلغاء المعاهدة إلى الكفاح المُسلّح من دون أن تكون بريطانيا سباقة (كعهدها) في تحديد البدائل أو المسارات، وهو ما جعل البريطانيين جاهزين للجلاء على يد الأمريكيين الذين استطاعوا الدخول كطرف ثالث للقضية المصرية منذ ذهب محمود فهمي النقراشي باشا إلى الأمم المتحدة.

وهنا نحبّ أن نكرر وجهة نظرنا حين نصف الأمم المتحدة نفسها بأنها تقع في نطاق الولايات المتحدة الأمريكية من باب النفوذ بأكثر مما تقع في هذا النطاق من باب الجغرافيا. على أن هذا الموقف المصري الواضح والصريح جعل الأمريكيين في الكواليس يسارعون خطاهم في المسار البديل الذي فضلوه في النهاية وهو صناعة انقلابات عسكرية عربية تمكنهم من السيطرة على ضباط ينحصر همهم في الحفاظ على كرسي الحكم، وهو ما نجح الأمريكان فيه .  وإذا قيل إن الدور الأمريكي في المفاوضات البريطانية المصرية في ١٩٥٤ كان هو الدور الفاعل الحقيقي الذي أوصل هذه المفاوضات إلى ما عُرف باتفاقية الجلاء التي جرت مع ضباط يؤمنون بالولايات المتحدة الأمريكية ويثقون بها كما تثق بهم، فإننا نستطيع أن نقول بأن هذا الدور لم ينتعش الا بفضل الأثر الذي احدثته الممارسات الذكية لوزارة الوفد الاخيرة .

وفيما يبدو للمتابعين للوثائق فإن الدور الأمريكي لم يبدأ في الظهور الصريح إلا موازياً لزيارة محمود فهمي النقراشي باشا للولايات المتحدة الأمريكية ليعرض القضية في الأمم المتحدة، بينما أثبتت مُجريات الأحداث اللاحقة أنه عرضها في الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر مما عرضها في مجلس الأمن، وأن الولايات المتحدة أجرت له ولمرافقيه عدداً من التقييمات الموضوعية والشخصية لقياس تجاوب كل منهم مع مصالحها، وربما أدّت هذه التقييمات فيما بعد إلى دفعه هو نفسه (بتكثيف متوالٍ من دهاء الأمريكيين المؤسسي في إدارة وتحوير الصراعات الوطنية والضغط على أعصاب صناع القرار) إلى اتخاذ القرار الذي أدى إلى مصرعه هو نفس، بيد أن التاريخ يحدثنا بوضوح عن أن هذه التقييمات الميدانية قد انتهت بالولايات المتحدة إلى قرارها النهائي الذي كشفه مسار التاريخ فيما بعد، وهو أن من الأيسر عليها أن تأتي ببعض الضباط المصريين إلى الحكم من خلال انقلاب يقدم على أنه ثورة تبدو إسلامية أو يسارية، وتستريح من أمثال محمود فهمي النقراشي باشا (من زعماء الأقلية المتجاوبين والمتعطشين للدور السياسي) وممن هم أقوى منه موقفاً وشعبية وحزبية كالنحاس باشا والزعماء الوفديين الواعدين كسراج الدين، أو الامام حسن البنا وقوة الإخوان الصاعدة .

لماذا فشل النقراشي في مجلس الأمن؟

لا يمكن لأي دارس جاد لحركة التاريخ وحركية المبادرات أن يقول بأنه كان من الممكن للنقراشي باشا أن يحقق أية نتيجة إيجابية مباشرة أو ذات بال من ذهابه بوفد مصر وقضية مصر إلى مجلس الأمن، غير ما أشرنا إليه من الفائدة المبكرة التي تحققت لمصر حين أدركت الدبلوماسية المصرية بكل وضوح حقيقة المواقف الدولية والأمريكية من قضايا المنطقة وطبيعتها . و بالرغم من دفاعنا المتكرر عن جدوى التجربة والاستكشاف فإننا نرى خطورة عدد من السلبيات الكثيرة التي ترتبت على هذا الأداء غير المتحسب للنتائج ، حيث بدأت على يد الصحافة الوطنية سلسلة سلبيات أخرى موازية لم يقصد إليها النقراشي باشا نفسه ، وذلك من قبيل تضخيم قيمة أية خطوة يمكن أن تقوم بوظيفة دعائية بصرف النظر عن جديتها .

خطأ المبالغة في الحديث عن الإنجازات المسرحية

منذ ذلك الحين بدأت سياسات المبالغة السياسة المصرية في الحديث عن الإنجازات المسرحية على أنها نجاحات سياسية، وهي السياسة التي انتعشت بعد هذا في الميادين العربية إلى حد مذهل وبخاصة مع ممارسات الناصرية ومن قلدوها من العسكريين العرب على وجه العموم. ومع تسليمنا العميق الذي كررنا القول به بأن النتيجة السلبية هي في العلم بمثابة نتيجة ايجايبة فإننا مع هذا التسليم الذي نقدر به جهود النقراشي باشا لا نستطيع أن كف عن أن نتعجب بشدة حين نتأمل طريقة عرض النقراشي باشا للقضية، وعلى سبيل المثال فاننا نتعجب من ان يظن النقراشي نفسه أستاذاً في التاريخ يعطي محاضرة في التاريخ من وجهة نظر وطنية بينما مجلس الأمن مختص بالنزاعات المندلعة وليس بالتاريخ، ونظرة الوطنيين اليه .

ولهذا فليس من الغريب ان نكتشف ان النقراشي فقد كل الأوراق من قبل أن يبدأ اللعب، ولم ينقذه إلا عدة عوامل [مسبقة أو وراثية ] معروفة دفعت كثيرا من الدول الى الوقوف معه وجدانيا بسبب عوامل كلاسيكية من قبيل تعاطف المسلمين أو العرب، ومن قبيل كراهية البريطانيين ومن قبيل تآمر الأمريكيين على بريطانيا مع عدم إخلاصهم لمصر، ومن قبيل معارضة فرنسا الدائبة لأية سياسة بريطانية حتى تحصل على مقابل مباشر على نحو ما حدث في الاتفاق الودي بينهما على حساب مصر والمغرب ١٩٠٤، صمم النقراشي خطبته الأولى في مجلس الأمن في 5 أغسطس سنة 1947 أو هندسها هندسة كلاسيكية لم تكن في رأينا تتناسب مع الإيقاع الجديد لعصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد ركز الحديث عن مبدأ المساواة التي يقررها ميثاق الأمم المتحدة بين الدول الأعضاء في عصبة الأمم، وانتقل إلى فكرة لا تعني أحدا وهي أن النزاع بين مصر وبريطانيا يتناول مصالح غير متكافئة، فالمسألة بالنسبة لبريطانيا، لا تعدو أن تكون مصالح متعلقة بصيانة الإمبراطورية المترامية الأطراف، بينما هي بالنسبة لمصر مسألة كيان، وأن هذا النزاع من شأنه أن يزعزع السلم والأمن الدوليين !!.

 استند الخطاب الأول في مجمله إلى :

–         أن التحرك المصري ينبني على أحكام ميثاق الأمم المتحدة .

–         استنفاد كل وسائل التفاوض مع البريطانيين الذين لم يلتزموا بالوعد الذي قطعوه على أنفسهم في 7 مايو 1946 بجلاء قواتهم عن مصر، وفشل مفاوضات صدقي – بيفن، بسبب إصرار بريطانيا على ضمان استمرار النظام الإداري للسودان الذي أقيم في سنة 1899 .

–         محاولة الاعتماد الجاد على وعود الأمم المتحدة في تأكيد انتهاء عصر الاستعمار، وبداية عهد جديد .

سرد النقراشي باشا تاريخ الاحتلال البريطاني في مصر ابتداء بالاحتلال السافر عام 1882، وانتهاء بمعاهدة 1936، مع التأكيد على أن هذه المعاهدة لم تبرم إلا في ظروف معينة، وعلى أنها بالتالي قد استنفدت أغراضها مع زوال هذه الظروف .

كان هذا الاحتلال (وفقا لما ورد في خطاب النقراشي )، نتيجة طبيعية لحملة بونابرت التي نبهت بريطانيا إلى أهمية موقع مصر الجغرافي، ثم لحفر قناة السويس، وهو ما حفز بريطانيا لفرض سيطرتها على هذا الطريق الملاحي الذي يمكنها من إحكام قبضتها على مستعمراتها . وقد استغلت بريطانيا تدهور حالة الخديو إسماعيل المالية التي أتاحت لها فرصة التذرع بحماية مصالح حاملي السندات من الأجانب . كما أتاحت حادثة فاشودة للإنجليز في عام 1898، فرصة التدخل في شئون السودان، للدفاع عن حقوق مصر في وادي النيل في مواجهة حملة فرنسية احتلت مدينة فاشودة ورفع قائدها الكولونيل مارشان علم فرنسا عليها، ولم يقبل بإنزاله إلا عندما أعلن كتشنر القائد البريطاني (الذي قاد جيشا مصريا أو قوات مصرية إلى السودان على الرغم مما كان قد تقرر وحدث من تفكيك هذا الجيش المصري) أنه تلقى أوامر من الحكومة البريطانية بإعادة السيادة المصرية على فاشودة .

وقد علق النقراشي على هذه الواقعة قائلا: ” والواقع أن بريطانيا كانت تتذرع بحقوق مصر في وأدى النيل كلما اصطدمت في أفريقيا بغيرها من الدول الأوربية ” ومنذ ذلك التاريخ أصبحت القضية المصرية أكثر تعقيدا، لارتباطها بالمسألة السودانية، حيث تم توقيع بروتوكول بين الحكومة المصرية برئاسة مصطفى فهمي باشا وبين قنصل بريطانيا العام في سنة 1899 وقد حرص الجانب البريطاني على استخدام تعبير ” الحكم الثنائي ” الذي يتضمن الإيحاء بأنهم يشاركون مصر في السيادة على السودان.

مقارنات النقراشي في خطبته

من الانصاف أن نذكر أن النقراشي باشا حرص على ذكر سوابق مجلس الأمن ذاته، الذي تدخل لإيجاد حل لقضية إيران، وقضية اليونان، وقضية سوريا ولبنان، وقد استند على توصية الجمعية العامة الصادرة في هذا الشأن في 14 ديسمبر 1946، والتي تنص على أن ” تسحب بغير إبطاء القوات المرابطة في أراضي الدول الأعضاء بغير رضائها الصادر عن حرية وفى صورة علنية تشمله معاهدات أو اتفاقات متلائمة مع أحكام الميثاق وغير مناقضة لاتفاقات دولية ” ومن هنا فقد سار النقراشي في طرحه في الطريق القائل بأن  معاهدة 1936 لم تصدر عن إرادة الأمة الحرة، كما بين أن المعاهدة تتعارض مع اتفاقية قناة السويس المعقودة في الآستانة ومع أحكام ميثاق الأمم المتحدة .

تنكره غير المبرر لمعاهدة ١٩٣٦ في حديثه

في رأينا الصريح وبلا مواربة فقد كان من أعجب العجب في الأداء السياسي أن نجد النقراشي باشا الذي كان وفديا قياديا بل ورمزا وفديا ضخما وشارك في وزارات الوفد حتى 1937 يتطرق في بيانه في مجلس الأمن إلى انتقاد معاهدة 1936 بل يصل الشطط به إلى أن يصفها بأنها لم تحظ بقبول الشعب، وبأنها أقرب ما تكون إلى أن تكون مفروضة على مصر، بينما كانت هذه المعاهدة في وقتها فتحاً لم يتحقق إلا بالمفاوضات، وإلا بإجماع القوى الوطنية على رأي واحد في مفاوضات شاقة لم تنته مع توقيعها في 1936 وإنما تم استئنافها بنجاح في 1937 لإلغاء الامتيازات الأجنبية المذلة، وهو ما تحقق بالفعل وبالتدريج عبر سنوات كانت تنتهي في عام تالٍ لحديث النقراشي في مجلس الأمن.

لسنا نعرف الفريق الذي أعدّ كلمة النقراشي ولكننا نعلم كما يعلم كل مصري أن الفقيه القانوني الكبير عبد الحميد بدوي والفقيه القانوني الكبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري كانا قريبين جدا من النقراشي ومن إعداد مثل هذا النص، لكن الأمر في رأينا لم يكن في حاجة إلى هذا الفقه القانوني وإنما كان في حاجة إلى صياغة فنية ذكية تجيد لغة الخطاب السياسي وتستشرف الحديث عن عوامل الأزمة المهددة للسلم الدولي، او المشجعة لانتشار الشيوعية، أو المهددة بالايحاء للخطط الامريكية المراوغة في دعم مشروع الوجود الصهيوني وذلك بالطبع من دون أن يتورط النص المصري في الاعتراف بمشروعيته على أية صورة، وعندئذ فقط كان من الممكن استخدام أدوات الضغط والمفاوضة والمقايضة وصولا إلى قرار تكسب به مصر فيضيف إلى أمجاد النقراشي أو يصنع للنقراشي مجداً.

لم يكن من الوارد أن يتغاضى النحاس

شغل النقراشي نفسه (من قبل ذهابه لمجلس الامن هو والقوى الوطنية التي أيّدته) بالهجوم على معاهدة 1936 تقليلا لقدر النحاس باشا، والوفد المبعد عن الحكم في ذلك الوقت بتوافق الملك والانجليز، ولهذا فلم يكن من الوارد أن يتغاضى النحاس باشا عن هذا الموقف الأرعن والوصف من عندياتنا لا من نصوص النحاس باشا، وإنما كان بصراحته وصرامته قادراً على أن يلقي بالتعبير الحاد الذي لا يزال حتى يومنا هذا يدوخ النقراشي باشا، ويدوخ من حاولوا تثمين قيمة موقف النقراشي، ذلك أن النحاس باشا على طريقة ثقب البالون بدبوس صرّح بأن النقراشي لا يمثل مصر، وكان هذا التعبير قاسيا بقدر ما كان حقيقيا، ومن العجيب ان الوزير البريطاني بيفن بنى عليه تعبيرا تمنى فيه لو كان المفاوضون متمتعين بتمثيل اغلبية الشعب .

نقد السادات المسرحي لموقف النحاس من النقراشي

من الجدير بالذكر في هذا المقام أيضا أن الرئيس السادات نفسه في مواجهته لحركة ما سمي بالوفد الجديد في الشارع السياسي في نهاية عهده رفع ما يسمى في الادبيات السياسية بقميص عثمان مستعطفاً الجماهير أو محاولا استعطافهم ضد النحاس باشا، بلوم النحاس باشا على موقفه هذا من النقراشي، وهو الموقف نفسه الذي كان شباب الإخوان المسلمين أنفسهم في وقت من الأوقات يذكرونه لنفس الغرض الذي ذكره الرئيس أنور السادات وهو التدليل على ما قد يوحي بأنانية النحاس باشا بينما الحقيقة تكمن بكل وضوح في افتقاد مقاربة النقراشي باشا للقضية (ومن يؤيدونه) إلى الذكاء والدهاء، ففي تلك المقاربة التي انتهجها النقراشي ومحاولة التنصل من معاهدة 1936 والتقليل من ارتباط مصر بها خطأ سياسي وتفاوضي كبير بينما كانت هذه المعاهدة لا تزال هي النص الحاكم للعلاقات المصرية البريطانية في تلك اللحظة، وكانت على الرغم من طرح النقراشي هي نقطة القوة البارزة التي تمتلكها مصر فإذا أردت أن تتخلص منها فالحل هو ما فعله النحاس باشا بإلغائها بعزة وكرامة وليس بانتقادها وتصويرها على أنها ظلم قبلت به .

لكننا نرى بوضوح أن المقاربات الشعبوية كانت قد بدأت تطل برأسها من خلال شخصيات وطنية من طليعة الوطنيين المخلصين من طبقة النقراشي باشا، ومن دون أن يتدخل الفقهاء القانونيون من طبقة عبد الحميد بدوي باشا وعبد الرزاق السنهوري باشا بالتوجيه الصائب والمطلوب، الذي كان ينبغي عليهما ان ينتبها له وينبها إليه، بدلا من أن يشارك هذان الفقيهان  (ولو بالصمت) في مدح زميلهما وصديقهما النقراشي باشا وتشجيعه، وذلك على نحو ما شارك الإخوان المسلمون بحسن نية في التعبير عن الاعجاب بخطواته.

أنصار النقراشي يضخمون أثر برقية النحاس باشا

وفي مقابل موقف النحاس باشا الحاسم فقد آثر أنصار النقراشي أن ينسبوا إلى النحاس باشا السبب في التقليل من فرص نجاح النقراشي بسبب تصريحه بأن النقراشي باشا لا يمثل لا يمثل على أي وجه شعب وادي النيل الذي يؤيد أغلبيته الساحقة الوفد المصري، ولا يزال النقراشيون يبالغون في تضخيم أثر البرقية، بأكثر مما يتحدث الوفديون عن قيمتها وهم يرونها أضعفت من موقف النقراشي، وشجعت الانجليز على استثمار فكرة أن النقراشي لا يمثل حزب الأغلبية متغاضين عن أنه بصفته رئيسا للوزراء لا يمثل حزبا بعينه . كان النحاس باشا قد أرسل برقيته إلى رئيس مجلس الأمن، وإلى سكرتير هيئة الأمم المتحدة في ليك سكسس في 17 يوليو 1947 .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com