الرئيسية / المكتبة الصحفية / محمد التابعي.. العبقري الذي صاغ الكتابة كالهندسة المعمارية

محمد التابعي.. العبقري الذي صاغ الكتابة كالهندسة المعمارية

أتناول في هذه المدونة وغيرها أستاذنا الكبير محمد التابعي من زاويا ضيقة. أول هذه الزوايا هو الحديث عن أستاذيته، فلا شك في أنه أستاذ وأستاذ كبير، لكنه أستاذ من طراز خاص لأنه أستاذ الأستاذ الحقيقي التي غطت أستاذيته الجميع، وهو مصطفى أمين، ومن هنا فإن أستاذية التابعي ناشئة عن أستاذيته لمصطفى أمين وليس عن أستاذية مباشرة للصحفيين الذين تخرجوا في مدرسته على يد الأستاذ الأبرز في هذه المدرسة وهو مصطفى أمين.

يكمن الفرق بين المعنيين في مجموعة عوامل منها أن الأستاذ التابعي لم يكن طويل النفس في الأستاذية مثل تلميذه الأستاذ الأكبر كما أنه لم يكن معنيا بأن يكون أستاذا بينما توفرت هاتان الصفتان بغزارة في مصطفى أمين. من عوامل التفوق في أستاذية التابعي أسلوبه السلس، ولا شك في أن ذروة السلاسة في الأدب العربي تحققت على يد الأستاذين محمد التابعي ومصطفى أمين ثم إن هذه السلاسة اعتراها المرض النفسي ففقدت كثيرا من ذاتها على يد تلاميذهم جميعا وإن احتفظ الأستاذ أنيس منصور بالحظ الأكبرمن استبقاء السلاسة.

من عوامل التفوق في أستاذية التابعي خفة دمه، وذكاء بصيرته، وحبه للتفوق، وتقديره للمتفوقين، وكراهيته للزيف إذا لم يغط نفسه بما يستر عورته وذلك يعني أنه لم يكن يكره الزيف إذا تفنن وإذا استتر. أما أبرز عوامل التفوق في أستاذية التابعي على الآطلاق فهو هندسته المعمارية، وهذا موضوع طويل لكني سأتناوله في لمحة خاطفة لأنه هو ما يجمعني بكل الشرف والاعتزاز بالأستاذ التابعي، ولأنه هو ما يجمع كلينا بأستاذنا جميعا وهو الأستاذ عباس محمود العقاد.


أضرب مثلا واضحا مبينا وكاشفا: من المذهل أن كلّ ما كُتب عن حياة أحمد حسنين باشا والملكة نازلي لم يخرج عن الإطار الذي صوّره (ولا نقول رسمه) الأستاذ محمد التابعي. ومن المُذهل أن تمضي السنوات فيعجزُ كلّ من أمسك القلم وتناول هذه الحياة أو تلك الحياة أن يصوغ رؤية مُخالفة لتلك التي صوّرها (ولا نقول رسمها) الأستاذ محمد التابعي.

أتوقف هنا لأقص شيئا بالغ الدلالة في فهم قيمة ما فعله الأستاذ محمد التابعي، فقد كُنت عبر سنوات طويلة مضت، ولا أزال، أنظر إلى تراجم بعض الشعراء الذين ترجم لهم الأستاذ العقاد فأجدُ كلّ من ترجموا لهؤلاء الشعراء بعد العقاد متأثرين تماماً بما فعله في ترجمته لهم لا يخرجون عن الإطار الذي حدده ورسمه وتحدث من خلاله عن مكانة هؤلاء الشعراء وإبداعهم، ولم أكن أعرف أنني أنا نفسي سألقي هذا الحظ وهذا القدر ذاته من التكريم، حين أقرأ لأساتذة أفاضل وباحثين متميزين عن بعض من ترجمت لهم فلا أجد شيئاً يخرُجُ عمّا كتبته وترجمتُ به ما اكتشفته في حيواتهم، وكنت أجد هذا واضحا وضوح الشمس سواء ذكر الناقلون اسمي أو لم يذكروه، بل إنّني لحُسْن حظي الذي لا أكاد أتصوره حتى الآن وجدتُ بعض الاشتقاقات من الأفعال تُستخدمُ على نحو ما استخدمتُها حين كُنت أظنّ أنّني باشتقاقها القياسي أتمتع بحقوق الملكية الفكرية، فإذا بهذا الحق في اللفظ محفوظ باسمي على الرغم من أن اللفظ منقول!

لكنّني مع كلّ تقديري للسبب الذي يجعلُ من ينقلون عن الأستاذ العقاد يلتزمون بما قدّمه بل برؤيته، وكذلك في الحالة المشابهة معي، لا أستطيع إلّا أن أقف في غاية الاندهاش من قُدرة الأستاذ محمد التابعي الساحقة علي السيطرة على الخط الدرامي الذي يُصور قصة حياة كان يُمكنُ النظر إليها من وُجهات مُتعدّدة فإذا بها بفضل براعة الأستاذ محمد التابعي تظل أسيرة لتصويره هو وحده، وتظل في هذا الأسر رغم مُضي ما يزيد على سبعين عاماً، ورغم اختلاف المذاهب والمشارب في الذين يتناولون هذه القصة. وهنا لا يستطيع الأستاذ المُنصف إلا أن يشهد للأستاذ محمد التابعي بما هو أهل له في الكتابة وفي النص الروائي والقصصي.

روي الدكتور سمير سرحان أنه ذهب مع زميله الدكتور محمد عناني إلى الأستاذ محمد التابعي بناء على توجيه من أستاذهما الدكتور رشاد رشدي ليُسجّلا عنه انطباعاته [الاحترافية] عن أسلوبه في الفن القصصي، ولشد ما كانت دهشتهما أن وجدا هذا الأديب العظيم يُصارحهما في بساطة شديدة بما معناه أنه ينظر إلى أيّة قصة قصيرة من التي ألّفها علة أنها سيجارة دخّنها وانتهي من تدخينها، وكأنه يقول لهما ما لم يدركا أبعاده، وإن فهماه حق الفهم: هل في وُسعكما أن تُؤصّلا مذهباً في تدخين كلّ سيجارة، إن استطعتما فبوُسعكما أن تتوقّعا أن يكون لي مذهب في القص.

على هذا النحو كان الأستاذ محمد التابعي ينظر بتجرُّد ذكي إلى القص والسّرْد وكأنّه يقول إنه لا يفعلُ شيئاً أكثر من أن يتناول شيئاً حيّاً من الحياة فيُحيله (بتدخينه) له إلى شيء لم يعُد قابلاً لحياة أخري لأنه استهلكه حتى النهاية.. وهكذا فعل الأستاذ محمد التابعي في حياة صديقه أحمد حسنين باشا حيث صوّرها في صورة بديلة لكنّهُ لم يترك فيها لغيره من الأدباء والمؤرّخين شيئاً يُمكنُ لهم أن “يُدَخّنوه” أو “يكتُبوه”. وأصبحت هذه القصة ببساطة شديدة هي قصة أحمد حسنين باشا وإن كانت من تأليف أو توصيف الأستاذ محمد التابعي. بقيت جملة واحدة في هذا المقام وهي أن هذا هو جوهر فن العمارة وجوهر الهندسة المعمارية على حد سواء.

 

 

 

 


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com