الرئيسية / المكتبة الصحفية / مقالات الجزيرة / الجزيرة مباشر / محمد محمود باشا زعيم الصعيد بالوجاهة والوراثة، والسياسة والدراسة

محمد محمود باشا زعيم الصعيد بالوجاهة والوراثة، والسياسة والدراسة

كان محمد محمود باشا (1877 ـ 1941) في جيله اللامع بمثابة أبرز نموذج للأرستقراطية الوطنية المحلية، فقد كان الوحيد بين معاصريه الذي وصل إلى رئاسة الوزارة بينما وصل والده إلى منصب وكيل المجلس النيابي ورئاسة حزب كبير مؤثر، ووصل كل من شقيقه وابنه من بعده إلى منصب الوزارة أيضا.
أبدأ فأقول إن من حق القارئ في بداية هذا المقال أن نستدعي البوصلة ليسير في طريق معروف الاتجاهات، فمنذ خمس سنوات صدر كتابي عن محمد محمود باشا بعد أن صدرت كتبي عن مصطفى النحاس باشا وإسماعيل صدقي باشا وعلى ماهر باشا وعثمان محرم باشا على مدى أكثر من ثلاثين عاما، وخلاصة رأيي في محمد محمود باشا أني أحب ما يحبه عقله، وما تمثله تجربته ولكني أتحفظ على بعض ما كانت تحبه نفسه، وبعض ما كان يحبه قلبه، وعلى كل الأحوال فهو في رأيي رجل عظيم وسياسي متميز ما في ذلك شك. كما أني أستطيع أن ألخص موقف محمد محمود من قضية الديموقراطية في أنه كان يحترمها لكنه لم يكن يحبها ، وقد تحولت الكراهية الي تصرفات تدل في جوهرها علي ازدراء للديمقراطية ونتائجها وثمارها ، كذلك فإني أذهب الي القول بأن حبه للحياة الحزبية بتجلياتها المتناقضة كان يفوق حب كل معاصريه لهذه الحياة ، فقد كان رجلا حزبيا ومتحزبا من الطراز الاول ، بل انه النموذج الابرز للزعيم الحزبي في نطاق الاقلية علي نحو ما يشير العنوان الذي آثرته حين سميت كتابي عنه : “محمد محمود باشا وزعامة الأقلية ” ، وقد كان هو صاحب السابقة الأولي في تزوير الانتخابات البرلمانية في مصر‏ ، وهو ما اتبعته أنظمة و حكومات عديدة بعدئذ‏!‏ كذلك فقد كان هو صاحب فكرة تجزئة الانتخابات من أجل تمكين حكومة الاقلية من فرض إرادتها على معركتها ، وهي الفكرة التي لاتزال بمثابة صمام شر (يطلق عليه صمام أمان ) يساعد الديكتاتورية علي التحكم في مسار الانتخابات.
ومع هذا فقد كان محمد محمود باشا من أوائل الذين نفذوا برامج الإصلاح الزراعي، وهو ما قد نستغرب لمعرفته الآن، وبدأ محمد محمود بتوزيع خمسة آلاف فدان في الوجهين البحري والقبلي. وكان أبرز مَنْ انتبهوا إلى أهمية العناية بالبيئة الأساسية، وكان بحكم دراسته ومعيشته السابقة في بريطانيا واعيا لأهمية إصلاح الريف والرقي به، وقد كان مدركا لحقيقة أن النهوض بالصحة العامة يمثل أحد اسباب الرقي والتقدم. ومما يذكره التاريخ العلمي المشرف لمصر في عهده فإنه وهو رئيس للوزراء منح الصين ألف زجاجة من اللقاح المضاد للكوليرا (!!)
وقد عرف عني تكرار الفكرة القائلة بأن ثقافة محمد محمود الإنجليزية كانت بمثابة أبرز الأسباب التي جعلته يعاني كثيراً في تسيير أمور الدولة، فقد كان هذا التسيير يجهده إلى حد كبير، ويجعله يحس بضيق النفس بأسرع من النحاس باشا ومن صدقي باشا، والسبب في هذا بسيط وهو أنه كان يريد أن يقود نظاما فرنسيا في بنائه البيروقراطي بعقلية سكسونية، وربما شعر محمد محمود في كثير من الأوقات أن التفاهم مع السلطات الإنجليزية أسهل عليه من التفاهم مع وزرائه ومديريه. وعلى سبيل المثال فإنه بحكم تأثره بالتعريف الانجليزي للثقافة والفنون، كان صاحب القرار الذي نقل به تبعية كل من مصلحة الآثار ودار الأوبرا من وزارة الأشغال إلى وزارة المعارف، وهو ما التزمنا به منذ عهده.
كانت ابرز انجازاته المالية كما سنرى في مجال الضرائب، فقد قدمت وزارته الي البرلمان مشروعات قوانين الضرائب التي اصبحت بعد اقرارها بمثابة المكون الجوهري في النظام الضرائبي الحديث ، وكانت الضرائب قبلها مقصورة علي العقارات دون المنقولات والايرادات ، بما لا يحقق العدالة الاجتماعية ولا الاسهام المتوازن في الاعباء العامة وبمضي الوقت أصبح بإمكانه أن يدخل كثيرا من الإصلاحات المالية والنقدية ، وهكذا فإنه عدل القانون الخاص بنظام النقود، كما استصدرت حكومته مرسوما بتخفيض فوائد الديون الي 5% في المعاملات المدنية ، و 6 % في المعاملات التجارية مع تحريم الاتفاق علي فائدة تزيد علي 8 % . كما أنه كان صاحب الفضل في استصدار القانونين المنظمين للموازين والمقاييس والمكاييل، والعلامات والبيانات التجارية. وهو الذي نقل مصلحة خفر السواحل من المالية إلى وزارة الدفاع الوطني حيث لا تزال منذ ذلك الحين بهذه التبعية، كما نقل مصلحة مصايد الأسماك من وزارة المالية الي وزارة التجارة والصناعة.
اقرب اثنين من اصدقائه إليه كانا : استاذ الجيل احمد لطفي السيد باشا وشيخ القضاة عبد العزيز فهمي باشا ، وقد سبقني الخديو عباس حلمي الي تصوير الفارق بينه وبين أحمد لطفي السيد في اللغة التي أجادها كل منهما ، وقد نقلت في كتابي “في رحاب العدالة ” كثيرا مما صور علاقته هو وأحمد لطفي السيد بعبد العزيز فهمي سلف محمد محمود وخلفه في رياسة حزب الاحرار الدستوريين ، و علاقة ثلاثتهم بسعد باشا وعدلي باشا .
تميز شخصيته في جيله

لو أن محمد محمود باشا تأخر عن زمنه عشر سنوات، أو لو أنه سبق زمنه بعشر سنوات، لكان له شأن أكبر بكثير جدا من شأنه في زمانه، فقد وجد في زمن أتيح فيه للجماهير أن يروا نقاء النحاس [الذي يصغره بعامين] الذي يفوق نقاءه وإخلاصه، وأن يدركوا دهاء إسماعيل صدقي [الذي يكبره بعامين] الذي يفوق ذكاءه ودهاءه، وهكذا فإن محمد محمود الطامح إلى زعامة الوفد وبالتالي زعامة مصر كلها، كان فيما بينه وبين نفسه ينعى ظلم القدر له ولمكانته في ذلك الزمان الذي وجد فيه.
وظني أن محمد محمود كان مخطئا في تصوره لأنه أسهم بنفسه في تراجع مكانته إلى محل أقل من طموحه غير المحدود (وأنا أقول طموحه ولا أقول قدراته)، ولم يكن هذا الخطأ في التصور خطأ وجدانيا، لكنه كان خطأ عقليا بحتا في حسابات القوة والضعف، فيما يتعلق بمستقبل العمل السياسي بعد ثورة 1919،
لم تكن أفكار محمد محمود فيما يتعلق بزعامة الأمة إلا صورة عاقلة من صور الأوهام، فهي في البداية والنهاية وهم في وهم، وإن لم يكن هناك ما يمنع من أن توصف بأنها وهم عاقل، وذلك في مقابل الأوهام الخيالية التي لا تستند إلا إلي أحلام اليقظة أو أضغاث الأحلام.
والمتأمل في تاريخ محمد محمود باشا يستطيع أن يدرك أنه رجل قوي ومتزن وعاقل وطموح، وسياسي بارز، وإداري متميز، واقتصادي دارس، ويستطيع أن يدرك أيضاً أنه رجل معني بالإصلاح الاجتماعي من جذوره، وليس فيه من حيث هو بشر ما يتأخر به عن المكانة الأولي بين رجال الدولة المتميزين، لكن ديناميات العمل السياسي لا تقوم علي تقدير الكفاءة في إجابة ورقة أسئلة الامتحان، وإنما ترتبط في ذات الوقت بمواقف الشخص وتوجهاته من الحركة الوطنية ومن طموحات الشعب، وترتبط أيضا بأدائه في حركة التاريخ الدائبة نحو التقدم واستقلال الإدارة وتحقيق آمال الشعب في الإصلاح السياسي والاجتماعي.
وقد كان محمد محمود باشا شأنه في ذلك شأن مصطفي النحاس باشا وإسماعيل صدقي باشا من الذين جاهدوا في شبابهم ونفوا مع سعد زغلول باشا ووصلوا إلى رئاسة الوزارة بعد ثورة 1919. وياللأقدار حين تنبئ عن المستقبل على هذا النحو، فإن أبرز الزعماء المتاحين أمام الملك وأمام الشعب فيما بعد وفاة سعد وطبقة السياسيين الأولي التي تضم ثلاثي ثروت وعدلي ورشدي كانوا هم هؤلاء الثلاثة.
وقد كان لسعد زغلول وللحركة الوطنية فضل كبير ـ بلا أدني شك ـ علي دفع هؤلاء الثلاثة (النحاس ـ محمد محمود ـ صدقي) إلي هذه المكانة المتقدمة، ونحن نلاحظ أن ثلاثتهم ظلوا لفترة طويلة بمثابة الشخصيات السياسية الأولي البارزة علي الساحة لا بالمنصب وحده ولكن أيضا بالمكانة التي أحرزوها، وقد كان النحاس في بداياته منتميا للحزب الوطني، وقد اختاره الوفد ليمثل شباب الحزب الوطني في الوفد، وهكذا كانت خطوات الزعامة تسعي إليه لأنه يستحقها عن جدارة، وقد بقي النحاس مع سعد مؤمنا بالشعب ، وبسعد في الوقت الذي انصرف فيه إسماعيل صدقي ومحمد محمود عن سعد ، وعن أماني الشعب إلي ما ظنوه ـ بناء علي تفكير عقلي خالص ـ هو الصواب، أو ما ظنوه هو المستقبل.
حياته فيما قبل ثورة 1919

ولد محمد محمود باشا في ساحل سليم التابعة لمركز أبو تيج في مديرية (محافظة الآن) أسيوط في ٤ إبريل ١٨٧٨.
كان أبوه محمود باشا سليمان وكيلا لمجلس شورى القوانين‏،‏ وقد أصبح رئيسا لحزب الأمة‏‏ عند تأسيسه عام ‏1907. ‏ وكان أيضا من كبار ملاك الأراضي الزراعية في الصعيد‏، وعلى سبيل التقريب فيروي أنه أورث ابنه ‏1600‏ فدان‏. تلقي محمد محمود باشا تعليمه بمدرسة أسيوط ونال الشهادة الابتدائية عام ١٨٩٢، ثم التحق بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة، حيث أتم دراسته فيها عام ١٨٩٧.
درس محمد محمود بعد ذلك في كلية باليول جامعة أكسفورد بإنجلترا، وحصل على دبلوم في علم التاريخ، وكان أول مصري تخرج من جامعة أكسفورد.
عقب عودته من إنجلترا عين وكيل مفتش بوزارة المالية (١٩٠١- ١٩٠٢)، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية، وعين مساعد مفتش عام ١٩٠٤، ثم سكرتيراً خصوصياً لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي عام ١٩٠٥..
كان محمد محمود باشا من اوائل الذين اختيروا لتولي مناصب المديرين في سن مبكرة، وهي من الوظائف الحكومية العالية، وقد تميز اداؤه باستقلال الشخصية والحرص على الكرامة، وهي جزئية جديرة بالنظر في تأمل تاريخ محمد محمود قبل انضمامه إلي سعد باشا زغلول في تكوين الوفد المصري.
عين محمد محمود مديراً للفيوم قبل الحرب العالمية الأولي، وزارها الخديو عباس حلمي ولكنه قطع الزيارة لما رأي هجوم محمد محمود باشا علي مأمور زراعة الخاصة الخديوية. وهكذا نشأت أزمته مع الخديوي عباس حلمي، في أثناء عمله مديراً للفيوم، وعن مواضع متفرقة من مذكرات سعد زغلول ننقل انطباعاته التي سجلها يوما بيوم (في يومياته) عن تطورات هذه القصة:
يقول سعد زغلول:
«اجتمعنا بين يدي الحضرة الخديوية، وكانت (أي الحضرة الخديوية) علي أشد حالات الانفعال، وجري الكلام في موضوع المديرين، فتكلم فيه بكلام شديد ….و قال: إن مدير الفيوم (يقصد محمد محمود بك.. باشا فيما بعد) قدم استعفاءه، وبلغني أنه رُفض قبوله، هل هذا صحيح؟
ويحلل سعد زغلول الاحداث موقف صديقه على طريقته المتأثرة بنظراته السيكولوجية والفلسفية الذكية:
«يظهر لي من تصرفاته (الحديث عن محمد محمود) في حادثته، أنه يريد الجمع بين الوظيفة والإباء: يود البقاء في الوظيفة، ويريد أن يكون بقاؤه فيها مقرونا بالعزة والشمم، لذلك لم يقدم الاستعفاء مباشرة، بل أرسله ابتداء إلى عبد الخالق ثروت، صديقه وصديق ناظر الداخلية، ثم قدمه هو بنفسه!
” على أنه إن كان اعتبر تقديم غيره عليه جارحاً له جرحاً لا يلتئم مع بقائه في الوظيفة، لما تشبث بهذه الوسائل التي لا تعتبر إلا من قبيل التمحك والاستعطاف، كما أشرت إليه بذلك “
………………………………………………………
هكذا حكم سعد باشا مبكرا ، ومن الأكثر طرافة ان الخديو عباس نفسه عاش حتي رأي محمد محمود رئيسا للوزراء :
ثم أصبح محمد محمود مديرا للبحيرة، وكانت له في أثناء عمله كمدير للبحيرة في عهد السلطان حسين كامل مشكلة كبري.
ومن المفيد أن نقرأ بعض الروايات عن أزمته في البحيرة من خلال مذكرات سعد زغلول، ومن خلال ونص بديع لتوفيق الحكيم في كتابه ” عصفور من الشرق ” . ونبدأ بتلخيص نص الحكيم لان والده كان هو المستشار الذي أنقذ محمد محمود باشا (رئيس الوزراء فيما بعد) من مؤامرات الإنجليز ضده وقد قص توفيق الحكيم القصة في كتابه “عصفور من الشرق” بطريقة فنية شائقة دون أن يذكر الأسماء الحقيقية، مشيرا بوضوح إلى نزاهة والده (المستشار إسماعيل الحكيم) الذي لم يقبل التخلي عن ضمير القاضي إرضاء للإنجليز، وقد كان الحكيم حريصا على ان يفخر كل الفخر بموقف والدته المؤيد لأبيه في هذا السلوك الذي انتبه لقيمة ضمير القاضي.
وننتقل الي نص واحد من النصوص الموجزة التي تحدثت بها مذكرات سعد زغلول عن هذا الواقعة حيث يصارحنا سعد زغلول عن انطباعاته وشكوكه تجاه هذه القضية:
«ويلوح لي من المناقشة التي تتداول بين المحكمة والدفاع في قضية تعذيب البحيرة، أن المحكمة ستحكم على المتهمين فيها، ومن الغريب أني قرأت ما يدل على اندهاشها من حصول المتهمين على أوراق ثبتت على الإدارة الإنجليزية، ولم تندهش من حصول هذه الأوامر وصدورها من مصدر إنجليزي عال!».
«ولقد سبق إلى وهم المحكمة أن الذي سلم بعض الأوراق هو مدير البحيرة، لكونها صادرة إليه من المستشار بصفة سرية، وعندي أن الدفاع، إذا كان صديقاً لهذا المدير، فلم يكن له أن يبرز هذه الأوراق، لأن ذلك يعطي شبه حق للوزارة في أن تشتد عليه في المعاملة، بعد أن لم يكن لها وجه في معاملته بالطريقة التي يعلم أغلب الناس شأنها».
نشأة الأرستقراطية الوطنية المحلية

قلنا على سبيل الإجمال إن محمد محمود باشا في جيله كان بمثابة أبرز نموذج للأرستقراطية الوطنية المحلية، ويمكن لنا أن نلخص تمثيله للعائلة الأرستقراطية فنقول إنه كان الوحيد بين معاصريه الذي وصل إلى رئاسة الوزارة بينما وصل والده إلى منصب وكيل المجلس النيابي، ووصل كل من شقيقه وابنه من بعده إلى منصب الوزارة أيضا. فقد كان أبوه محمود سليمان باشا زعيم الصعيد ورئيس حزب الأمة (1907) ورئيس مجلس إدارة الجريدة، وكان محمد محمود يلجأ كثيرا إلى التذكير بهذه الحقيقة ويقول: «أنا ابن من عُرض عليه ملك مصر فأبي». ومن الطريف أن نذكر هنا أن كثيرين يرون أن قصة عرض الملك هذه قصة خيالية لم تحدث، وليس لها ما يؤيدها، لكنها مع ذلك ظلت بمثابة «التميمة» التي يلجأ إليها محمد محمود وأنصاره حين يريدون درجة عالية من الفخر.
وكان أخوه حفني باشا محمود وفديا ثم دستوريا وقد تولي بعد وفاة أخيه منصب الوزير في أحد الائتلافات التي ضمت الأحرار الدستوريين.
وبالإضافة إلى هذا فإن ابنه محمود محمد محمود كان في السنوات الأخيرة من عهد الملكية من المرشحين الدائمين لتولي الوزارة حتى أصبح بالفعل وزيرا ليوم واحد في آخر أيام وزارة علي ماهر باشا الرابعة التي هي أولي وزارات عهد الثورة، والأهم من هذا أنه كان هو رئيس ديوان المحاسبة الذي فجرت استقالته الأوضاع الداخلية في نهاية عهد الملك فاروق حين تقدم مصطفي مرعي باستجواب يسأل عن سرها (أي سر الاستقالة).
ومن المهم مع ذلك ألا نغفل الإشارة إلى أن عائلة محمد محمود هذه قد قدمت للفن العربي المعاصر أحد أبنائها وهو الفنان مختار عثمان ابن عم محمد محمود باشا.
المقارنة التفصيلية بينه وبين إسماعيل صدقي

كثيرا ما أركز في رسم صورة محمد محمود باشا علي مقارنته بصدقي باشا، وهي مقارنة مشرفة للرجلين كليهما، وليس سرا انني في اختزالاتي المشهورة التي جعلت فيها لكل من زعمائنا صفة واحدة طاغية علي الصفات المتعددة في كل زعيم اخترت لمحمد محمود باشا صفة المتكبر في مقابل صفة المتجبر لإسماعيل صدقي باشا، ومبلغ علمي وعقيدتي في تصوير كفاية محمد محمود أنه ربما يصل إلي كفاية إسماعيل صدقي، لكنه يصل إلي هذا الموقع بجهد جهيد. والفارق شديد بين الرجلين في هذه الكفاية، سواء في الشر والخير. ولعل أبلغ تصوير لهذا الفارق هو تصوير الفارق بين السيدة أم كلثوم والسيدة شهرزاد، فقد كان في وسع السيدة شهرزاد أن تحقق لنا في أحد الكوبليهات النشوة التي تتحقق لنا مع أم كلثوم، لكن شهرزاد تفعل هذا بجهد جهيد حتى تحس أن روحها تكاد تصعد إلى بارئها مع نهاية الكوبليه، أما أم كلثوم فالناس جميعا أدري بكفاءتها وقوة غنائها وأدائها وقدرتها على التعبير، وقد سبقني إلى هذا التصوير بعبارات أدق وأكثر فنية الأستاذ كمال النجمي في كتابه عن الغناء العربي.
كما سبقني إلى هذا المعني الدكتور محمد كامل حسين في وصفه لمزايا شعر النابغة الذبياني، وقد بلور نظريته في قوله: إنك تحس أن النابغة ينتهي من نظم شعره دون أن يجهد نفسه على نحو ما يفعل غيره من الشعراء وهم ينتهون من نظم الشعر وقد أخذ منهم الجهد كل مأخذ.
وعندي صورة رابعة ترسم هذه الفكرة فقد روي في هذا المعني أيضاً عن أحد النقاد أنه قال إنه ليس من العيب أن تعرق في شعرك، ولكن العيب أن يشم الناس في شعرك رائحة العرق.
ويمكن لنا أن نصور الفارق بين أداء محمد محمود وإسماعيل صدقي علي هذا النحو، فقد كان إسماعيل صدقي يسوس الأمور ويديرها في الاتجاه الذي يريده بكفاءة وسلاسة، وكانت عنده توجهات حاكمة لكل السياسات التي ينبغي له أن ينفذها، وكانت خبراته وقدراته تهيئ له الإنجاز السريع على نحو ما يريد.
أما محمد محمود باشا فإنه مع كل الجهد ومع كل نواياه الحسنة والظروف المواتية لم يكن قادرا على الإنجاز الحاسم على نحو ما كان صدقي باشا يستطيع الإنجاز.
وتقديري ـ وقد أكون مخطئا ـ أن محمد محمود كان يؤدي مهامه السياسية والتنفيذية بكل كيانه وأعصابه علي حين أن صدقي باشا كان يؤدي كثيراً من هذه المهام بأصبع واحد أو إشارة من يده أو لسانه، فقد كان صدقي رجل حسابات دقيقة كفيلة بأن تمكن في النهاية من تحقيق توازنات وموازنات فاعلة وجيدة، أما محمد محمود فكان في المقام الأول حريصا علي تحقيق أكبر قدر من الأهداف النبيلة والدقيقة، وكانت وسائله أقل طواعية لشخصه من وسائل صدقي، فإذا ما قارنا هذين الزعيمين بالزعيم الذي عاصرهما وعاصراه وهو النحاس (حتي تستقيم المقارنة) فإننا نجد النحاس يتميز عنهما بما هو أهم، وهو تفوق نصيبه من أربع خصال حميدة وساحرة و سحرية في الوقت ذاته وهي: الاستيعاب الجيد، والإيمان، والثقة، والحب، وهي عوامل كفيلة بتحقيق نجاحات أكثر، وأبلغ وأوقع أثرا من نجاحات الرجلين.
ومن المهم أيضا لكي نفهم معاناة محمد محمود أن نتأمل أن وزارته في العشرينيات والثلاثينيات وصلت في بعض الأحيان إلي أكبر عدد من الوزراء حتى ذلك التاريخ، ووزارته الثانية التي تشكلت في آخر 1937، كانت بمثابة وزارة كبري ضمت بلا استثناء كل الشخصيات الكبيرة ـ غير الوفدية ـ في الوطن.
ونحن ندرك الآن أن مثل هذا التوسع لم يكن في حقيقة الأمر بالشيء المفيد، وإنما هو في ظل ما نعرف عن أخلاق المصريين وممارسات كبارهم لا يخرج عن أن يكون بمثابة عبء كبير، وهم مقيم، ووهم عظيم
ولكي نستكمل ما بدأناه من المقارنة في الفقرة السابقة، فإن إسماعيل صدقي كان ينجح بسبب لجوئه إلى السياسة المناقضة تماما لهذه السياسة، فقد بلغ من جبروته أنه اختصر عدد الوزراء إلى ثمانية فقط، ولولا الملامة لتولي بنفسه كل الوزارات على نحو ما فعل في الجمع كثيرا المالية والداخلية ورئاسة الوزارة.
ويبدو ـ لنا الآن بعد مرور السنوات ـ أن حدس صدقي كان صادقا، فإن متاعبه لم تأت إلا من الوزراء ذوي الطموح الشديد كعلي ماهر وحافظ عفيفي، أو ذوي الطموح فوق المتوسط كعبد الفتاح يحيي.
وربما كان من الأوفق هنا أن ننقل عن مذكرات سعد زغلول ما كتبه هذا الرجل نافذ البصيرة عن الفروق بين شخصيتي محمد محمود وإسماعيل صدقي في أثناء وجودهما معه ومع حمد الباسل في أثناء النفي الاول لسعد باشا:
«يؤسفني جدا ما يقع ـ من وقت لآخر ـ بين محمد محمود وإسماعيل صدقي من سوء تفاهم! ولقد حاولت كثيراً منعه، فلم تساعدني حالة محمد محمود باشا علي الوصول إلى غاية مرضية، لأنه كثير الانفعال، ويتأثر لأقل شيء! ويكفي أن يخالف فكره في أمر من الأمور، حتى يغضب، ويرمي الغضب من لسانه بعض العبارات الجارحة.
” وهو سيء الظن بي كلما رأي، أو لاحظ، أو توهم أني أميل إلي إسماعيل صدقي».
«وهذا أظهر (الضمير يعود علي إسماعيل صدقي) سعة صدر، وسعة حلم، في كثير من الظروف، فلم يكن يمكن لي أن أغض من كرامته، ولا أن أتخلي عن نصرة حقه، رغم كون الصحبة بيننا لم تكن كبيرة، ورغم كوني [صديقا] لمحمد صداقة قديمة. ولكن وساوس هذا جعلته يشك في صداقتي، ويحمل عملي وقولي ـ في أكثر الأوقات ـ على غير محمله الحقيقي».
علاقته بسعد زغلول باشا والنحاس باشا

كان محمد محمود فيما قبل ثورة 1919 كما ذكرنا لتونا من أقرب الناس إلي الزعيم سعد زغلول، وقد توطدت علاقتهما إلي الحد الذي كان لا يمر فيه يوم دون أن يلتقيا، وحين كان أهل محمد محمود يفتقدونه كانوا يجدونه في بيت سعد باشا ، وكان محمد محمود واحداً من الستة الذين شكلوا الوفد (وإذا أخذنا بالقول القائل بأنهم سبعة فقد كان محمد محمود من الستة الأوائل، ولم يكن السابع المختلف عليه)، لكنه لظروف نعرفها وسوف نتعرض لها بالتفصيل ابتعد عن تيار الوفد، بل وأصبح شخصية بارزة جداً في الجبهة المناوئة للوفد التي تزعمها حزب الأحرار الدستوريين.
وهكذا فإنه لم يكن من حق محمد محمود في 1926(أي عند انعقاد الائتلاف بين الوفد والأحرار الدستوريين) ولا بعدها ولا قبلها أن يظن نفسه بمثابة الرجل الأولي بزعامة الوفد بعد سعد، فإنه كان قد ترك الصف الوفدي قبل هذا برضاه الكامل.
ومع هذا فإني أري إيجابية مهمة في حنين محمد محمود إلي أخذ مكانته في الوفد وفي زعامة الأمة بالتالي، فإن هذا الحنين يدل دلالة واضحة علي مدي وطنية الرجل وإيمانه (الدفين) بالوطن وبالشعب، وآماله في خدمته من خلال القناة الشرعية، لكن يبدو أن بعض ما في النفس البشرية من كبر أو تكبر حال بينه وبين أن ينضوي تحت زعامة النحاس للوفد، بل إنه ـ وهذا هو الأسوأ وهذا هو ما يلام عليه ، وهذا هو ما ينتقص أيضا من قدره العظيم عندي ـ لم يمانع في أن يتزعم مؤامرة (أو علي أخف وألطف وصف: مناورة) لإحراج النحاس ، حين كان النحاس يرأس وزارة الائتلاف الثالثة التي أصبحت بسبب (ولا نقول بفضل) مناورة محمد محمود بمثابة وزارة الائتلاف الأخيرة، وقد كان جوهر هذه المؤامرة أن استقال هو وثلاثة آخرون من الوزارة ، بحيث أقال الملك النحاس تحت دعوي أن الائتلاف الوزاري قد تصدع، وكلف الملك فؤاد محمد محمود نفسه بتشكيل الوزارة التالية في نفس اليوم، وشكلها محمد محمود ضامة الوزراء الثلاثة الذين استقالوا معه من أجل إحراج النحاس وبالتالي إخراجه من الحكم.
كان يرى نفسه أحق من النحاس باشا بزعامة الأمة
وإن المرء ليسأل نفسه وهو يطالع هذا التاريخ: أفبهذا التدبير كان محمد محمود يظن نفسه يخلف النحاس في زعامة الحركة الوطنية أو يزيحه عنها وعن مكانته؟
أتأتي الزعامة بقرار من الملك أو حاشيته؟
هذا هو السؤال الذي لم يلتفت محمد محمود للأسف الشديد إلى إجابته، وقد ظن أن حب الملك له بأكثر من حبه للنحاس يكفل له مكانة أرفع. ربما أكون ظالماً في حكمي علي محمد محمود لكن هذا هو ما حدث!!
وربما سولت نفس محمد محمود له أن قوته في الوزارة وقوة شخصيته كوزير تفوق قدرة النحاس باشا الذي كان فيما يبدو رقيق الحاشية لين الجانب في رئاسته، وحريصا على إرضاء الآخرين، وحريصا على الديمقراطية التي تبدو في بعض الأحيان وهي لا تثمر إلا تضييع الوقت، على حين يعتقد من لا يؤمنون بقيمة الرأي الآخر أن حزم الرئيس وسطوته يوفران الوقت.
ربما كان هذا هو ظن محمد محمود الذي دخل أولي وزارات الائتلاف وهي وزارة عدلي يكن باشا (يونيو 1926) كوزير للمواصلات وسرعان ما أصبح لحسن حظه وزيرا للمالية عندما رأس عبد الخالق ثروت الوزارة (أبريل 1927)، واحتفظ بمنصبه هذا عندما رأس النحاس الوزارة (مارس 1928) خلفا لثروت، ولم يكن النحاس نفسه عضوا في وزارة عدلي ولا ثروت، لأنه كان وكيل مجلس النواب.
وهكذا ظن محمد محمود نفسه أقدم في الوزارة بصورتها الراهنة من النحاس الذي كان وزيرا في وزارة سعد زغلول (1924)، ومن باب المصادفة الطريفة فقد كان النحاس وزيراً في الوزارة نفسها التي بدأ بها محمد محمود (وهي وزارة المواصلات) وربما وجد محمد محمود باشا من مطالعته ملفات الشئون والقضايا والمشكلات التي تعالجها وزارة المواصلات أنه يمكن أن يكون بقدر من الحزم أو البطش أقدر من النحاس على الوصول إلى الصواب أو النفوذ أو القوة.
هكذا قادت هذه الأوهام ومثيلاتها محمد محمود إلي أن يتعجل رئاسة الوزارة على حساب النحاس، وقد أوهم في هذا الوقت واشتد إيهامه وعُمق بأنه الحصان الأسود في وزارة النحاس، ولم لا؟ ولم لا يكون كذلك وهو قد دخل الوزارة في 1926 فلم يتركها حتى تولي رئاستها في 1928.
ولو أن محمد محمود استوعب حركة التاريخ لوجد أن وصوله السريع إلى رئاسة الوزارة لم يكن في حد ذاته بالميزة الفريدة، كما أن بقاءه في الوزارة حتى تولي رئاستها لم يكن هو الآخر شأنا ذا بال.
وعلى سبيل المثال فقد كان محمد توفيق نسيم قد حقق هذا الوصول السريع إلى الرئاسة بعد عام واحد، إذ دخل وزارة محمد سعيد الثانية وزيرا للأوقاف، ثم أصبح وزيرا للداخلية في الوزارة التالية وهي وزارة يوسف وهبة، ورأس الوزارة التالية مباشرة.
ومن قبل محمد توفيق نسيم كان يوسف وهبة قد عمل وزيرا للمالية باستمرار حتى رأس الوزارة.
ولو أن محمد محمود ظل مع النحاس وساند النحاس ضد مؤامرات القصر والانجليز وعمل علي استخدام نفوذه وعلاقاته في دعم الوزارة ومضاعفة إنجازاتها، وحمل عن كاهل النحاس بعض مشكلات التنظيم والتمويل والرقابة والمتابعة، وهي مهمات كانت حتي ذلك الوقت تلقي تماما علي عاتق وزارة المالية، أو علي مَنْ يقوم بشأنها من رجال الدولة، لو فعل محمد محمود هذا لتفرغ النحاس لنجاح أبرز في المفاوضات وفي دعم الاستقلال وفي النجاح في تحقيق أماني الوطن، ولنسب نجاح الرجلين في النهاية إلي كليهما لا إلي أحدهما فحسب، ولم يكن النحاس باشا أصغر في السن من محمد محمود باشا إلا بما لا يزيد عن عامين.
لكن محمد محمود للأسف الشديد انتصر للجزء الأناني من ذاته، وظن نفسه يستحق مكانة أرفع وأعلي من النحاس: ولم لا؟ وهو ابن محمود سليمان باشا، وهو المدير السابق، وهو الباشا القديم.. إلخ هذه السلسلة، ونسي محمد محمود للأسف أو أنسي (وهذا هو الاحتمال الأكثر صوابا) أن النحاس هو زعيم الشعب، ولم يكن محمد محمود ينسي هذه الحقيقة إلا لأنه يتصور نفسه صاحبها، ومن ثم فهو لا يطيق أن يري الآخرين وقد نالوا ما يتمني هو نواله، أو ما يظن نفسه أحق به، وهي طبيعة متأصلة في نفوسنا البشرية جميعا.
ومع ان محمد محمود حقق كثيرا من الإنجازات الإدارية والفنية في وزاراته الأربع فإن مكانته في ثورة 1919 تظل أرفع قيمة من انجازاته التنفيذية، لأنه ببساطة شديدة لم يستطع أن يترجم بصورة بارزة الإيجابيات السياسية والفكرية التي حققها قبل توليه الوزارة من خلال دوره في الحركة الوطنية أو في ثورة 1919 أو في الائتلاف (1926)، والمؤسف بحق أنه حتى لم يستطع حتى علي المستوي الشخصي أن يترجم هذه الإيجابيات بصورة تحفظ له مكانته في الحركة الوطنية.
فهو على سبيل المثال كان قد أصبح وزيرا قبل مكرم عبيد الذي كان بمثابة الرجل الثاني في الوفد. ولو أنه بقي مع النحاس في الائتلاف القائم الذي لم يصدعه أحد سواه لحجب مكرم عبيد عن نوال منصب وزير المالية، ولأصبح مكانه بلا جدال الرجل الثاني في الوزارة النحاسية سواء استمرت أو تجددت. ولو أنه بقي مع النحاس في هذا الائتلاف لضعفت إلى حد كبير عصبية الأحرار الدستوريين في الاستقلال عن الوفد والتميز عنه، وقد كان هو نفسه مؤمنا بمثل هذا الانضواء (أو الاندماج أو الاستحواذ على حد تعبيرات الاقتصاديات المعاصرة)، لكنه للأسف الشديد وقع في خطأ رهيب لا أدري كيف فات ذكاءه، فقد كان ـ فيما بدا من تصرفاته ـ يظن أن الانضواء يتحقق على مستوي الحزب ولا يتحقق على مستوي شخصه هو.. وهكذا ضاع على الحركة الوطنية وعلى مصر جهد كبير، وأمل أكبر.
تورطه في صور من معاداة النحاس بالباطل

ومع كل تقديري لأخلاق محمد محمود وأدائه ووطينته فإني لا أستطيع أن أغفر له سماحه بهذه الحملة المسمومة (ولا أقول تبنيه) على مصطفي النحاس باشا فيما يتعلق بقضية سيف الدين.
ولست أعرف علي وجه اليقين هل كان محمد محمود علي علم بحقيقة المؤامرة على النحاس أم لا، ولكني أعتقد أن محمد محمود بذكائه وقدرته كان قادراً على أن يدرك مدي نزاهة النحاس وتجرده وبعده عن مواطن الشبهات، وأن يدرك ما هو أهم من ذلك وهو أنه لا يليق برئيس الوزراء أن يسمح بمثل هذه الحملة علي زعيم للأمة.
وربما يري البعض أنه قد يسمح للخصوم السياسيين أن ينهجوا مثل هذا النهج في تحطيم خصومهم وتلويثهم، لكني وقد بلغت من العمر ما بلغت لا أظن أن هذا مما يليق أو مما يغتفر، نسأل الله لنا ولقرائنا العافية.
وفي هذا الصدد فإني أستطيع أن أعترف لمحمد محمود بأنه كان قادراً على أساليب أخري أرفع مستوي من مثل هذه الحملات، ذلك أنه كان هو الوحيد الذي نجح في استقطاب أحد أقطاب الوفد ليخرج عن الوفد لينضم إليه دون أن يكون هذا الخروج مرتبطا بانشقاق أو اختلاف أو أزمة.
وأنا أقصد بهذا خروج أحمد خشبة وكيل مجلس النواب الوفدي ثم الوزير الوفدي عن الوفد وانضمامه إليه في تصديع الائتلاف الوزاري عام 1928، وربما أرجع البعض السبب في ذلك إلى ما كان يربط الرجلين من علاقة قرابة، ومسقط رأس.
صداقته للمثقفين وحظه السيء مع أمير الشعراء أحمد شوقي
أطرف ما في علاقة محمد محمود بالشعراء وبالأدباء فهو حظه السيء مع أمير الشعراء أحمد شوقي، وهي قصة رواها ثروت أباظة في مذكراته حين أشار إلي نقاش بينه وبين الدكتور هيكل حول شوقي (وكان الدكتور هيكل قد كتب مقدمة ديوان شوقي)، وهو يروي لثروت أباظة أن شوقي شرع في قصيدة مديح لمحمد محمود باشا لكنه لم يتمها، وهذا النص الذي يرويه ثروت أباظة والعهدة على الراوي.
أما ألاهم والأقرب إلى وجداني في تاريخ محمد محمود كله فهو علاقته بالفكر والمفكرين. وأبدأ بأن أشيد بتبني هذا الرجل العظيم لموهبة الشاعر العظيم محمود حسن اسماعيل.
ومن العجيب أن فضله في هذه الناحية من تقدير الموهبة الفكرية لا يدانيه فضل:
فهو الذي استوزر أحمد لطفي السيد، بل وضغظ عليه حتى قبل الوزارة.
وهو الذي استوزر الدكتور هيكل والشيخ مصطفي عبد الرازق وجاء بهما إلى الوزارة مبكرا.
وربما صدق القول إنه لولا إلحاح محمد محمود فلربما ما كان أحمد لطفي السيد ولا هيكل ولا مصطفي عبد الرازق ـ قد عمل وزيرا.
وليس سراً أن محمد محمود ألح علي الاستاذ العقاد في قبول منصب الوزارة دون جدوى، كذلك فانه ألح علي فكري أباظة باشا دون جدوى، فقد حصن هذان الرجلان نفسيهما ضد هذا البريق الذي كان كفيلاً بأن يأخذ من بريقهما المعنوي الأسمى.
ازدهار مجلة روز اليوسف كمجلة سياسية بسبب معارضته
لعل أبرز ما تبقي من محمد محمود في أدبيات التاريخ الحديث هو نصوص ذلك الصراع الصحفي ضده، فلم يحدث منذ عهد ثورة 1919 أن تجهمت الصحافة لرئيس وزراء جديد وصعدت حملتها ضده كما حدث لمحمد محمود في 1928. ومن الطريف أن نذكر أن عهد وزارة محمد محمود الأولي قد شهد ازدهار مجلة روز اليوسف كمجلة سياسية وقد عطل محمد محمود هذه المجلة أكثر من مرة، وصدرت المجلة بأسماء أخري أكثر من مرة، وقد صور الأستاذ محسن محمد قصة صراع مجلة روز اليوسف مع محمد محمود باشا وحكومته في المقال الممتع الذي شارك به في العيد التذكاري الذي أصدرته «روز اليوسف» عام 2000،
ومن أطرف صور الانتقام التي مارستها صحيفة روز اليوسف ضد رئيس الوزراء السابق، ما صورته المجلة من أن وفد الضفادع زار محمد محمود وقال له:
شعب الضفادع لازم له دكتاتور زيك
طولك وعرضك وفي ضعفك وفي عيك
فتش في كل الطغاة ما لقيش فيهم زيك
ضعيف وعامل قوي.. أبكم ويترافع
ما تحرموش دولتك نورك ولا ضيك
يرد الباشا:
أنا أسير فضلكم ياضفدع الوادي
أنتم عشيرتي وأنصاري وأولادي
لو حد غيركم طلب مني الحكايا دي
أرفض بشدة ولكن لجل خاطركم
فداكم الروح وفيكم أشتهي زادي
«هتاف: ليحيي دكتاتور الضفادع»
اهتمامه التاريخي بالبيئة

وربما أبدا الآن في الحديث عن الجانب الذي اتخذه أعداؤه مدخلا للهجوم عليه، فقد كان محمد محمود باشا واعيا لأهمية الاهتمام بالبنية الأساسية وبالريف وبالإصلاح الصحي على مستوي واسع، وكان هذا الاهتمام بمثابة أبرز الأفكار السياسية التي كونها الرجل بحكم معايشته للريف الإنجليزي على نطاق واسع وعميق. وليس من قبيل الاكتشاف الجديد أن محمد محمود كان أول رئيس وزراء مصري ذا ثقافة إنجليزية حقيقية، أما السابقون عليه فتتراوح ثقافتهم بين الثقافة الوطنية الموشاة بالثقافة الفرنسية، أو الثقافة الفرنسية المطعمة بالثقافة الوطنية.
وبسبب ثقافته الإنجليزية فإنه كان أقرب إلى تفهم البريطانيين له عن زميليه الآخرين (النحاس باشا، وصدقي باشا) وذلك بحكم ما جبل عليه البريطانيون (والفرنسيون) يومها من الميل العنصري الواضح إلى ثقافتهم والتشيع لها دون أن يعني هذا أن البريطانيين ـ أو أنه هو شخصياً ـ كان يعول على مثل هذا الميل.. ودون أن يعني هذا أيضا تزايد الفرصة لحدوث أي رد فعل عكسي كان ينتابه أو ينتابهم من أجل نفي أو إنكار هذا «التفهم» ولا نقول «التقارب».
و لا أزال أكرر رأيي ، وربما لم يسبقني أحد إلي هذا الرأي ، القائل أن ثقافة محمد محمود الإنجليزية كانت بمثابة أبرز الأسباب التي جعلته يعاني كثيراً في تسيير أمور الدولة ، فقد كان هذا التسيير يجهده إلي حد كبير، والسبب في هذا بسيط وهو أنه كان يريد أن يقود نظاما فرنسيا بعقلية سكسونية، وقد ظل محمد محمود يعاني الجهد من أداء وظيفة الرئاسة حتي بعد أن نضج بما فيه الكفاية وتولي الوزارة للمرة الثانية في آخر يومين من 1937 وشكل ثلاث وزارات متعاقبة استمرت حتي خريف 1939، ومع أنه ترك المالية لوزير مستقل وترك الداخلية لوزير مستقل وترك الخارجية لوزير مستقل، مع هذا كله فإنه كان يعاني، وقد كانت معاناته الصحية بالفعل أحد أسباب استقالته ، بل يمكن القول بأن هذه المعاناة قد أفضت به إلي الإرهاق الشديد والمميت قبل أن ينتقل بالفعل إلي رحمة الله.
ويعرض الدكتور هيكل تقييمه السياسي والشخصي لمواقف محمد محمود فيقول:
«وكان في المواقف كلها رجل كفاح وصراحة ونزاهة لا ترقي إليها ريبة ولا تعلق بها شائبة،
” مَنْ لمصر بمثل هذه المواهب والسجايا يهبها صاحبها هبة سماح لخدم وطنه وأمته ما وهبها محمد محمود خلال هذه السنوات الثلاث والعشرين في إقدام وجرأة ليس كمثلهما إقدام ولا جرأة».
«ارتسمت أمام ذهني صورة من هذا التاريخ الحافل لهذا الرجل الذي اختاره الله إلى جواره قبل أن يتم الرابعة والستين من سنة فحزنت إشفاقا على مصر».
رحابة صدره مع زعامات مستقلة من طبقىة حسن صبري باشا

ويبدو أن الزمن (والزمن وحده) كان يدفع محمد محمود أن يتنازل عن كثير من سلطويته، ومن دون الدخول في تفصيلات كثيرة فإنه يمكن القول بأن عددا من التفصيلات التي حفلت بها خلافات وزارته الرابعة والاخيرة كانت تمس هيبته كزعيم كبير، فإذا بوزراء مخضرمين من طراز حسن صبري باشا يتحكمون بتعسف شديد في صميم اختصاصاته كرئيس للوزراء، ويتحمل محمد محمود هذا التعسف برحابة صدر لم يكن معروفا بها . وليس أدل على هذا من هذه القصة التي رواها الدكتور هيكل في مذكراته عن وقوف حسن صبري باشا ضد تعيين ابراهيم دسوقي اباظة باشا وزيرا في المحل الذي خلا باستقالة الوزير الدستوري رشوان محفوظ.
هل كان من الممكن لمحمد محمود ان يتزعم حزبا يكون مساويا او قريبا من مستوي الوفد؟
من الحق ان نقول ان جهودا خارقة للعادة بذلت في هذا السبيل دون جدوي، فأصبحت هذه الجهود “الخارقة” اقرب الي “الوهمية” .
ومن سوء حظ محمد محمود أن الخلاف الشهير حول “مزاد مزرعة فواكه الجبل الاصفر، ودور السعديين في اثارته في البرلمان قد حدث في الوقت الذي شهد رغبة متصاعدة أو ملحة في تتويج محمد محمود زعيما لحزب كبير يتألف من الدستوريين والسعديين، لكن الخلاف أجهض التقارب.
مناصبه الوزارية

اشترك محمد محمود في 3 وزارات وشكل 4 وزارات، أي أنه رأس من الوزارات أكثر مما كان عضوا فيها. ولم يتول من الوزارات إلا ثلاثاً: المواصلات، والمالية، والداخلية. ومن بين رؤساء الوزارات (حتى عام 2000) يأتي في ترتيب متأخر من حيث عدد الوزراء الجدد الذين استوزرهم وأتاح لهم لقب الوزير. إذ يأتي في الترتيب الخامس عشر (مكرر) بين رؤساء الوزراء من حيث عدد المستوزرين الجدد.
ويأتي في ترتيب أكثر تأخرا عن هذا من حيث متوسط الوزراء الذين استوزرهم. فعلي مدي 4 وزارات لم يستوزر إلا 14 وزيراً بمتوسط يقل عن الأربعة وزراء في الوزارة الواحدة.
كان أول عهد محمد محمود بالمناصب الوزارية هو توليه وزارة المواصلات في وزارة عدلي يكن الثانية، وكانت وزارة ائتلافية استمرت عشرة شهور (يونيو 1926 ـ أبريل 1927) اشترك فيها الوفد والدستوريون، ومن الطريف أن النحاس باشا كان ـ كما ذكرنا من قبل ـ قد بدأ مناصبه الوزارية أيضاً بتولي وزارة المواصلات في وزارة سعد زغلول باشا (١٩٢٤) ومن الطريف أكثر أن النقراشي باشا قد بدأ هو أيضا بهذه الوزارة في وزارة النحاس الثانية (1930).
وفي الوزارة التالية وهي وزارة ثروت التي استمرت أحد عشر شهراً (أبريل 1927 ـ مارس 1928) وكانت امتدادا للوزارة الأولي صعد نجم محمد محمود ليتولى وزارة المالية، ومن الطريف أنه في تشكيل هاتين الوزارتين كان أحدث الوزراء جميعاً.
والأكثر طرافة أن وزارة عدلي باشا الثانية لم تضم وزيراً جديداً غيره، على حين لم تضم وزارة ثروت الثانية أي وزير جديد، وهكذا ظل هو بمثابة الوزير الأحدث، بل إنه طوال الفترة التي شملت النصف الثاني من عام 1925 وعامي 1926 و1927 لم يدخل الوزارة وزير جديد غيره.
ولما شكل النحاس وزارته الأولي في مارس 1928 كامتداد لوزارتي عدلي وثروت، احتفظ محمد محمود بوزارة المالية في وزارة النحاس باشا التي استمرت ثلاثة شهور (مارس 1928 ـ يونيو 1928).
وقد صعد محمد محمود من هذا المنصب إلي رئاسة الوزارة ليخلف النحاس باشا، وكان صعوده ، علي نحو ما نعرف ، بأن استقال هو وثلاثة من الوزراء ذوي الميل إليه أو الميل إلي الأحرار الدستوريين (هم أحمد خشبة باشا وإبراهيم فهمي كريم باشا وجعفر ولي باشا) من الائتلاف الحكومي الحاكم فتصدع الائتلاف وعهد إليه هو نفسه بتشكيل وزارته الأولي (يونيو 1928 ـ 2 أكتوبر 1929) التي كانت أطول عمراً من كل الوزارات السابقة عليها في عهد الملك فؤاد ، وهي الثانية علي مدي عهد الملك فؤاد من حيث طول البقاء (15 شهراً) (بعد وزارة صدقي الأولي التي لم يكن عهدها قد جاء بعد) وفي وزارته هذه احتفظ محمد محمود باشا لنفسه بوزارة الداخلية بعد يومين من تشكيل الوزارة.
وقد اشتهر محمد محمود في أثناء هذه الفترة بأنه صاحب اليد الحديدية، ومن المعروف أن الأستاذ عباس العقاد قد سخر من هذه التسمية بقوله المأثور: «يد من حديد في ذراع من جريد». وقد سارت الصحافة وراء الاستاذ العقاد فسامت محمد محمود كل انواع النقد المقبول وغير المقبول ,
وفي المقابل فقد جمعت كلمات محمد محمود إبان وزارته الأولي في مجلد فخم باسم «اليد الحديدية».
وزاراته الثانية والثالثة و الرابعة

في 30 ديسمبر 1937 بدأت فترة محمد محمود الثانية في رئاسة الوزارة وقد استمرت حتي 18 أغسطس 1939، وقد شكل خلالها 3 وزارات متعاقبة ومتصلة مثلت وزاراته الثانية والثالثة والرابعة (التي هي الأخيرة)، ومن المهم أن نفرق بين هذه الوزارات الثلاث المتتالية التي يختلط الحديث عنها في كثير من أدبيات السياسة، والتي يتناولها البعض بصفة إجمالية علي أنها وزارة واحدة هي وزارة محمد محمود الثانية، ومن التبسيط أن نقول إن السبب في تشكيل كل من الوزارتين الثالثة والرابعة اللتين كانتا امتدادا للثانية، كان شكليا لكنه مهم في التقاليد الدستورية و تشكيلات الوزارة:
فقد أجريت انتخابات وكان لابد من تشكيل وزارة (هي الثالثة بين وزاراته) بناء على نتائجها.
أما ثالثة هذه الوزارات (وهي الوزارة الرابعة بين وزاراته) فقد تشكلت كي تضم ممثلي السعديين إلى الوزارة.
وهكذا يمكن سرد هذه الوزارات وعمرها ومكوناتها الحزبية على النحو التالي:
وزارته الثانية في 30 ديسمبر 1937، والتي عاشت أربعة شهور وأجرت الانتخابات، وقد شكلها من الأحرار الدستوريين وبقايا حزب الاتحاد، والحزب الوطني، ولم يشترك السعديون في هذه الوزارة على الرغم (أو بسبب) من أن أحمد ماهر نفسه كان مرشحاً لتولي هذه الوزارة.
والثانية هي وزارته الثالثة التي تشكلت في 27 أبريل 1938 بعد ظهور نتيجة الانتخابات التي أجرتها وزارته، وعاشت قرابة شهرين، ومع أن الانتخابات أسفرت عن فوز الحزبين السعدي والدستوري بمقاعد متقاربة، فإن السعديين آثروا ألا ينضموا لهذه الوزارة.
والثالثة مع وزارته الرابعة في 24 يونيو 1938، وقد تشكلت هذه الوزارة كي تضم السعديين وتعيد الأمور إلي نصابها الطبيعي، وقد عاشت هذه الوزارة أكثر من عام.
وعند تشكيل محمد محمود لوزارته الثالثة (إبريل 1938) احتفظ بالداخلية أيضاً مع الرئاسة لمدة ثلاثة أسابيع فقط حيث أسندها إلي أحمد لطفي السيد علي حين تولي هو المالية في الفترة الباقية من حكم الوزارة (18 مايو 1938 ـ 24 يونيو 1938).
أما في وزارته الرابعة فقد اكتفي بالرئاسة دون أن يتولى المالية أو الداخلية معها، وقد ترك هاتين الوزارتين لأكبر قطبين سعديين، وكان نجمهما في ذلك الوقت في أقوي مراحله بعد خروجهما على الوفد وفوزهما هما وحزبهما بأغلبية كبيرة (وإن كانت مصطنعة) في انتخابات 1938، وقد تولي الدكتور أحمد ماهر باشا المالية في وزارته الرابعة على حين تولي النقراشي باشا وزارة الداخلية.
ومن الطريف أن نذكر القارئ بأن محمد محمود باشا نفسه كان قد عمل وزيراً للمالية تحت رياسة رئيسين للوزراء هما: ثروت باشا والنحاس باشا، على حين عمل معه في وزاراته الأربع أربعة وزراء للمالية هم: علي ماهر باشا (في الوزارة الأولي)، وإسماعيل صدقي باشا (في وزارته الثانية وبداية وزارته الثالثة)، وهو نفسه (في بقية وزارته الثالثة)، وأحمد ماهر باشا (في وزارته الرابعة)، أي أنه لم يعمل معه في وزاراته كوزير للمالية إلا رؤساء وزراء لاحقون، أو سابقون، أو حاليون (هو نفسه).
لكن الجدير بالذكر أنه لم يكن ـ فضلاً عن هذا ـ صاحب الاختيار في كل هؤلاء، فقد كان هناك ائتلاف وزاري يسمح للسعديين على سبيل المثال أن يختاروا مَنْ يمثلهم ضمن الحصة المخصصة لهم في الوزارة الائتلافية.
ومن الطريف أن رئيس الوزراء الوحيد الذي استوزره محمد محمود باشا كان هو حسين سري باشا، ومن المصادفات أن حسين سري كان رئيس الوزراء الذي توفي محمد محمود في عهده، وتقدم المشيعين لجنازته.
محمد محمود و قضية الاستقلال الوطني

تجمع المصادر التاريخية على أن محمد محمود انضم لسعد زغلول منذ بداية الحركة الوطنية (1919)، ونفي مع سعد باشا إلي مالطة وكان ضمن وفد المفاوضات الذي رافق سعد باشا.
ويري انصار محمد محمود ومحبوه انه (هو وليس غيره ) كان أول من نادي بتأليف وفد للمطالبة بحق مصر في تقرير مصيرها وفقاً للمبادئ التي أعلنها الرئيس الأمريكي “ولسن” عقب انتهاء الحرب العالمية الأولي،، وان هذا حدث منذ سبتمبر ١٩١٨.
مفاوضاته مع الانجليز

نقفز الي 1928 اي الي عهد وزارته الاولي حيث دارت الجولة الرابعة من جولات المفاوضات المصرية البريطانية في عهد وزارته الاولي (وبالتحديد في يوم 26 يونيو) وقد بدأت هذه المفاوضات في لندن، و تتولاها من الجانب المصري رئيس الوزراء وحده مع وزير الخارجية البريطانية هندرسون و كان من الواضح ان البريطانيين حريصين علي تلميعه فلم تستمر المفاوضات سوي أسبوعين بينما كانت مفاوضات ثروت قد استمرت عشرة شهور!
في 3 يوليو أعد الإنجليز أول مشروع للمعاهدة و طلب رئيس الوزراء من رئيس قضايا الحكومة الدكتور عبد الحميد بدوي باشا الحضور إلي لندن لصياغة المشروع بصفة نهائية.
و كان مشروع المعاهدة الذي نجح محمد محمود في التوصل اليه يتفوق علي مشروع تشمبرلين – ثروت في بعض تنازلات إضافية من جانب الإنجليز .
لكن النحاس باشا صمم على ما كان ينادي به من أن تكون مناقشة المعاهدة في برلمان منتخب ، وهكذا فشلت تماما محاولة فرض المعاهدة بالثناء على ما تضمنته ، ازداد موقف الوزارة حرجا مع الأيام فكانت صحافة الوفد تهاجمها في كل صباح ولا تستطيع الوزارة أن ترد حتي أن الدكتور محمد حسين هيكل كتب مقالاً عنوانه : ” أما لهذا الليل من آخر”. و اصبح رئيس الوزراء أي محمد محمود باشا نفسه متلهفاً لإنهاء الموقف المهين تماماً. و وصلت الحكومة عملياً إلي حالة شلل تام . وقدم محمد محمود استقالته إلي الملك في اليوم التالي يوم 2 أكتوبر ١٩٢٩ .
و فيما بعد ذلك بسنوات ، يذكر لمحمد محمود باشا انه كان واحدا من أبرز اعضاء “الجبهة الوطنية ” التي تألفت في سنة 1936 برياسة النحاس باشا ، وفاوضت إنجلترا وعقدت معها ما عرف باسم معاهدة 1936 قي 26 أغسطس 1936.
العلاقات الاسلامية و قضية فلسطين

من الإنصاف أن نذكر أن محمد محمود في وزاراته الثانية والثالثة والرابعة لم يدخر وسعا في تأكيد وجود مصر في المجتمع الدولي بعد أن حصلت علي مزايا عديدة بفضل معاهدة 1936.
وفي عهد محمد محمود وقعت الاتفاقية المبرمة بين مصر والمملكة العربية السعودية بشأن قيام مصر بإصلاحات الحرمين الشريفين بمكة والمدينة والمرافق المتصلة بهما
وفيما يتعلق بقضية فلسطين فقد تكفلت وزارته باستضافة وفود الدول العربية لمؤتمر فلسطين الذي عقد بلندن في 14 فبراير 1939، وهو أول مؤتمر مهم في تاريخ القضية الفلسطينية وان لم ينته الي اي اتفاق. ومن الطريف ان الوزارة اعتمدت الفي جنية غطت بها تكاليف ضيافة وفود الاقطار العربية لحضور المؤتمر. كذلك فقد قررت وزارة محمد محمود باشا ايفاد لجنة وزارية مصرية لحضور هذا المؤتمر في لندن.
العلاقات الصاعدة مع ايران

في عهد محمد محمود حدثت المصاهرة بين شاه إيران ومصر، وازدهرت العلاقات بين البلدين على أكثر من صعيد، وتقرر رفع درجة التمثيل الدبلوماسي بين مصر وإيران الي درجة سفارة في 22 يناير 1939. و اختير يوسف ذو الفقار باشا [والد الملكة فريدة] سفيراً لمصر في إيران.
مشاركة مصر في الحرب العالمية الثانية
لم يكن موقف محمد محمود من مشاركة مصر في الحرب العالمية الثانية متناسبا مع شخصيته الحاسمة أو وزنه السياسي ولا مع علاقاته البريطانية ، والسبب في هذا بسيط جدا لا يحتاج الي اجتهاد ولا تأويل وهو انه كان مريضا مرض الموت .
موقفه من الدستور و الديمقراطية

قلنا ف مطلع حديثنا إن موقف محمد محمود من الديموقراطية يتلخص في أنه كان يحترمها لكنه لم يكن يحبها ، وقد تحولت كراهيته للديموقراطية الي تصرفات تدل في جوهرها علي ازدراء للديمقراطية ونتائجها وثمارها . وهكذا ظل اسمه على الدوام بارزا ومتقدما بين الساسة الذين اعتدوا على الدستور. ومن الثابت الذي لا جدال فيه انه هو وليس غيره كان بوزارته الأولى صاحب الانقلاب الاكبر في 1928 كما ان من الثابت الذي لا جدال فيه ان وزارته الثانية في 1938 كانت هي اول وزارة زورت الانتخابات، وفي مقابل هذا يذكر له بكل تقدير انه وقف مع الشعب والنحاس باشا والوفد ضد دكتاتورية صدقي في 1930!!
بعض ملامح ممارساته المعادية للديموقراطية في وزارته الاولي :
منذ أيامه الاولي في الحكم، أجل انعقاد البرلمان، وحل المجلسين (مجلس النواب، ومجلس الشيوخ) .
وجد هذا الرجل في نفسه الجرأة فأعلن تعطيل الدستور بالكامل وأعلن إهمال الحكم الدستوري ‏,‏ وهو ما استمر خلال عامي‏1928 ـ ‏1929.‏
منذ الأيام الأولي لحكمه اضطر الي ان يلجأ إلى إجراءات استثنائية لحماية النظام.
ومارس أعوان الحكومة في القاهرة والأقاليم مهمة اضطهاد الوفديين وأصبح العمد والمشايخ يعزلون ويعينون لأسباب سياسية وشخصية.
أعاد محمد محمود باشا العمل بقانون المطبوعات القديم (1881) الذي كان يجيز تعطيل الصحف وإلغائها إداريا. والشاهد انه في تلك الفترة عطل أغلب الصحف المصرية وصادرها.
ثم ان محمد محمود سرعان ما نضج و حاول التكفير عن ذنوبه في حق الشعب والديموقراطية فقاوم دستور صدقي الذي صدر في سنة 1930 و اعلن انه ينتقص من حقوق الأمة واشترك في معارضة صدقي باشا وحكمه الاستبدادي بمقاومة عنيفة انتهت بتقديمه هو نفسه إلي محكمة الجنايات في سنة 1932.
ثم انه اشترك في سنة 1934فيما سمي بالحرب الشعبية على ما سمي فساد الحكم مطالبا بنزاهته بعدما اثير من اتهامات قوية ضد بعض وزراء صدقي باشا.
و يذكر له انه أسهم بجهده (المخلص والمتفاني كعادته) من اجل توحيد كلمة الأمة في سنة 1935 مما ادي الي عودة دستور سنة 1923
عنايته بالجانب الخلقي على المستوى الفردي !

في مقابل هذا الانكار لحقوق الشعب و الديمقراطية فقد كان محمد محمود باشا معنيا وحفيا بالأخلاق الفردية (!!) ومن ثم فإنه شدد العقوبة علي الرشوة وأدخل في العقاب علي الرشوة كل ما هو قريب منها، وعدل من أجل هذا قانون العقوبات.
كذلك فقد كان أول من استحدث النصوص القانونية التي تعاقب على الجرائم التي ترتكب ضد السلم العام. وعلي الرغم من هذا فقد أصدر محمد محمود في عهد وزارته قانونا بالعفو الشامل عن بعض الجرائم ذات الصبغة السياسية ، والتي وقعت في عهد وزارة النحاس باشا .
صاحب السابقة الأولي في تزوير الانتخابات
نكرر هنا ما نحن مؤمنون به من ان محمد محمود كان هو صاحب السابقة الأولي في تزوير الانتخابات البرلمانية في مصر‏ ,‏ والتي اتبعتها أنظمة وحكومات عديدة بعدئذ‏!‏
كذلك فقد كان محمد محمود هو صاحب فكرة تجزئة الانتخابات من أجل تمكين الحكومة من فرض إرادتها بقوة ودأب، وهي الفكرة التي لاتزال بمثابة صمام شر (ولا نقول صمام أمان) يساعد الحكومات على التحكم في مسار الانتخابات.
وقد بدأت هذه الفكرة علي يديه حين قرر إجراء الانتخابات علي يومين (1938) وأن يبدأ بمحل عصبيته في الصعيد حتي إذا ما فازت حكومته بالأغلبية في الصعيد، كان لهذا أثره في الصورة التي تشيرالي ما هو مطلوب من نتائج انتخابات الوجه البحري.. وقد كان.
ثم استخدمت وزارة محمد محمود باشا الثانية كل الوسائل لتشكيل برلمان لا يضم الاغلبية الوفدية، وكانت الوزارة تطق علي مرشحيها (القوميين ) علي اساس انها في تشكيلها تمثل ائتلافا قوميا بدون الوفد ،
وقد نال هؤلاء المرشحون كل انحياز سافر من رجال الادارة في فترة الانتخابات،
وفي ابريل 1938 اجريت الانتخابات البرلمانية وحصل مرشحو الحكومة علي 193 مقعدا ، والوفد 12 مقعدا وباقي مقاعد المجلس البالغة 264 مقعدا من الاحزاب الموالية للحكومة
ومما يذكر ان زعيم الوفد الكبير النحاس وسكرتير الوفد مكرم عبيد قد أسقطا في دائرتيهما
أما فيما بعد استقالة وزارته الاخيرة فقد ترأس المعارضة في مجلس النواب حتى توفي في فبراير سنة 1941.
تبنيه سياسة تخليد ذكري الرموز

في عهد محمد محمود قرر مجلس الوزراء تعديل ايام الاحتفال بالأعياد الوطنية فجعل يوم 13 نوفمبر من كل عام عيدا للجهاد الوطني، ويوم 15 مارس عيدا للاستقلال .
وفي 27 اغسطس سنة 1938 ازيح الستار عن تمثالي سعد زغلول باشا بكل من القاهرة والاسكندرية. ورأس الملك فاروق احتفال ازاحة الستار عن تمثال الاسكندرية.
وفي اول سبتمبر 1938 قرر مجلس الوزراء اقامة تمثال مصطفي كامل باشا في ميدان العتبة الخضراء ( كان اسمه محمد علي الكبير ) بعد ان ظل سجينا في مدرسة مصطفي كامل منذ ان تم صبه في فرنسا ، وبعد ذلك عدلت الوزارة عن قرارها، واختارت ميدان (سوارس) الذي سمي بعد اقامة التمثال فيه (ميدان مصطفي كامل) وقد شهد علي ماهر باشا رئيس الوزراء التالي مباشرة لمحمد محمود احتفال ازاحة الستار عن التمثال والقي كلمة تناولناها في بعض كتبنا .
وقد نال اسم محمد محمود نفسه كثيرا من التكريم فقد سمي باسمه شارعه الشهير الذي يمتد من ميدان التحرير حتي قصر عابدين ، وكان بيته يقع في هذا الشارع ، و سميت باسمه مدرسة المحمدية للبنات بالفيوم وكذلك أكبر شارع بمدينة ساحل سليم ومدرسة محمد محمود باشا النسيجية بمدينة أبوتيج .
موقفه من الحياة الحزبية وتداول السلطة

على الرغم من كراهيته للديموقراطية فقد كان محمد محمود حزبيا من الطراز الاول بل انه في عهد الليبرالية كان يعد بمثابة النموذج الابرز للزعيم الحزبي في نطاق الاقلية ، ذلك أنه كان من ابرز مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين ومن ابرز قادته وشغل منصب وكيل الحزب ، وكان بالفعل رجل الحزب القوي والفاعل.
و بعد خلاف الاحرار الدستوريين مع زيور باشا وخروجهم من وزارته قام محمد محمود باشا بدور مؤثر في إقناع الأحرار الدستوريين بالانضمام إلي الائتلاف مع الوفد تحت قيادة سعد زغلول .
ولما تم الاتفاق على توزيع المقاعد بين الاحزاب المؤتلفة اختير نائباً لدائرة الغنايم في أسيوط عام 1926
و بحكم طموحه الي زعامة الشعب كان يقال عنه إنه وفدي أكثر مما هو دستوري!
وبعد وفاة سعد زغلول‏ 1927 كان هو الوحيد من بين مؤسسي الوفد الذي سعي بكل جهد في “الاستيلاء” علي الوفد من الداخل، ‏ ومع انه كان بحكم انتمائه الحزبي معارضا للوفد فقد كان يري أنه هو الأولي برئاسة الوفد! .
و بعد اختيار محمد محمود رئيساً للوزراء اختيرا رئيسا لحزبه ، وبهذا أصبح بمثابة الزعيم الثالث لحزب الأحرار الدستوريين بعد عدلي يكن باشا وعبد العزيز فهمي، وربما يمكن النظر إليه (دون غيره من الرؤساء الأربعة الذين قادوا هذا الحزب) ، علي أنه الوحيد من بينهم الذي كان متطلعاً بشدة لهذه الرياسة ومؤديا لها حقها الحزبي.
علاقته المميزة بالإخوان المسلمين

أشار الاستاذ اسحاق موسي الحسيني في كتابه الشهير الي أن محمد محمود باشا اقترح علي الامام الشهيد حسن البنا أن ينشئ شعبا للإخوان في الصعيد في الأماكن التي تخلو من هذه الشعب ، و كانت حفلات الإخوان تقام في مضيفة أسرة محمد محمود باشا بأبي تيج.
ومن المهم هنا أن نشير الي علاقات الود التي عاشتها وزارات محمد محمود الثانية والثالثة والرابعة مع الاخوان المسلمين، وصل الامر الي قول بعض الكتاب بوجود تحالف ( او علي الاقل علاقة ود وتفاهم متبادلة) بين محمد محمود والإخوان مستدلين علي ذلك بأن حكومة محمد محمود لم تحل كشافة الإخوان المسلمين بينما حلّت القمصان الزرقاء للوفد والقمصان الخضراء لمصر الفتاة في 8 مارس 1938م وقد قالت الحكومة إن جوالة الإخوان مسجلة في جمعية الكشافة الأهلية.
ومع ان الاخوان المسلمين بحكم شبابهم وشبابية دعوتهم قد وجهوا انتقادات عدية لوزارة محمد محمود فقد تعددت مظاهر الود بين الاخوان ووزراء محمد محمود الي حد ان جريدة الاخوان وصفت اعضاء وزارته عند استقالتها بأنهم ” على الأقل كانوا يستحون من الحق”:
قدم الاخوان الشكر لوزير الداخلية أحمد لطفي السيد باشا لمطالبته حكام الأقاليم بحضور الصلوات الجامعة حتى يصبحوا قدوة للجماهير.
وشكرالاخوان وزارة العدل علي تشكيلها لجنة لبحث مشروع قانون خاص بإلغاء البغاء الرسمي، وتحريم الميسر، وتقييد شرب المسكرات،
وشكرالاخوان وزارة الداخلية على توجيهها لأصحاب المسارح بالبعد عن الروايات المبتذلة. وإشارتها بأنها سترفض الترخيص للأغاني والتمثيليات التي لا تراعي الأخلاق.
وشكرالاخوان وزارة الدفاع على إصدار الأمر بمنع شرب الخمر داخل ثكنات الجيش.
وشكرالاخوان وزارة المعارف على مشروعها لانتشال بنات السبيل مما يتردين فيه.

خلافة على ماهر له في رئاسة الوزارة

ظل علي ماهر يتنمر بمحمد محمود باشا حتي خلفه في 1939 علي نحو قريب من النحو الذي خلف به النحاس من قبل في 1936، لكنه أي على ماهر في هذه المرة بعد ان خرج من الحكم (في 1940 ) لم يعد إلي الديوان ولا إلي غيره، وظل بعيدا عن مقاعد الحكم كلها حتي بداية 1952. هل كان في وسع محمد محمود أن يبصر علي ماهر بما كان متوقعاً لمستقبله بحكم طبائع الأشياء، بل وهو ما حدث بالفعل؟ أم أنه كان هو الآخر عاجزا عن أن يستشرف المستقبل علي نحو ما حدث، علي كل حال فإننا ندرك بوضوح أن علي ماهر ظل يخلق لمحمد محمود المشكلة تلو الأخرى حتي أخرجه من الحكم وخلفه ثم خرج من بعده !!
ومن أطرف الفقرات التي تصور معاناة محمد محمود من علي ماهر حين كان الأول رئيسا للوزراء وكان الثاني رئيسا للديوان، الفقرة الشهيرة التي يصور بها الدكتور عبد العظيم رمضان العلاقات بين هذين القطبين في نهاية عهد محمد محمود باشا بالحكم، بعد أن أجري الانتخابات وحصل على عدد كبير من المقاعد للأحرار الدستوريين وظن أن هذا مما يؤهله لأن يفرض إرادته ورأيه. فنحن نري الدكتور عبد العظيم رمضان وهو يتحامل علي محمد محمود، ومن الطريف أن ظاهر نصوص الدكتور عبد العظيم رمضان يوحي بأن محمد محمود لم يستمر في الحكم بعد الانتخابات التي أجراها إلا لفترة أقل من التي قضاها قبل إجراء هذه الانتخابات (!!)، مع أن الحقيقة (التي لم يلتفت اليها استاذنا الدكتور عبد العظيم رمضان ولا أظنه التفت وتعمد الاقصاء) أن محمد محمود (فيما بعد الانتخابات) قضي في الحكم أكثر من عام مستندا إلى هذه الأغلبية التي حققها لحزبه ولحلفائه من السعديين.
وعلي كل الأحوال فإن نص الدكتور عبد العظيم رمضان جدير بالاقتباس والقراءة المتأنية، حيث يصور الدكتور عبد العظيم رمضان الصراع بين الرجلين (محمد محمود وعلي ماهر) في نهاية عهد محمد محمود في الحكم علي نحو بديع، وتنبع مهارة عبد العظيم رمضان في أن التصوير يسيء إلي صورة الرجلين معا ولا يجعل أحدهما ضحية ولا ينسب إلي أيهما مكرمة، وهو أمر متوقع ، فهو يصور صراع الحركة الوطنية مع أعدائها، وديناميات صراع هؤلاء الأعداء مع بعضهم ودور بعض زعماء الجماعات الصغيرة (أحمد حسين) في مثل هذه اللعبة السياسية.
لم يستطع الغاء الاستثناءات

كانت وزارة محمد محمود باشا قد انتوت التشهير بعهود الوزارات السابقة فشكل لجنة برئاسة وزير الدولة لحصر الاستثناءات التي تمت في ترقيات وعلاوات الموظفين والتعيينات التي تمت مخالفة للقوانين ، وانتهت اللجنة الي نتيجة لا توافق الهوي اذ وجدت ان الاستثناءات لجأت اليها كل الوزارات السابقة بما في ذلك وزارات محمد محمود ذاتها ، و من ثم فقد رأت اللجنة انه ليس من العدل قصر الغاء الاستثناءات علي عهد دون اخر ، وانه اذا الغيت الاستثناءات التي تمت في كل العهود لتم تسريح اكبر عدد من الموظفين ، فبقيت الاستثناءات السابقة واللاحقة ولم ينشر تقرير هذه اللجنة .
نماذج لإنجازاته التنفيذية

من حق محمد محمود أن نكرر هنا ما ذكرناه من انه كان أبرز مَنْ انتبهوا إلى أهمية العناية بالبيئة الأساسية، وكان بحكم دراسته ومعيشته السابقة في بريطانيا واعيا لأهمية إصلاح الريف والرقي به، كما كان مدركا، عن وعي، لحقيقة أن النهوض بالصحة العامة يمثل عنصرا أساسياً في الرقي والتقدم.
ربما كنا بحاجة إلى أن نعيد تذكير القارئ بحقيقة أن مصر كانت تعاني من الاحتلال الإنجليزي لكن ثقافة زعمائها جميعا كانت فرنسية أو قل إنها كانت باريسية بالتحديد، وهكذا لم يتعمق هؤلاء الزعماء جميعا مدي ما يمكن بل وما يجب تحقيقه من إصلاح البيئة في الريف والأحياء الفقيرة.
ولا جدال في أن محمد محمود هو أكثر زعماء الحقبة الليبرالية اهتماماً بالبيئة والصحة والإصحاح، وقد بذل جهداً ضخماً وحثيثاً في مكافحة البرك والمستنقعات والحشرات، وخصص لهذا الغرض كثيراً من الاعتمادات، وشن الحملات الدورية والمكثفة من أجل تحقيق هدفه السامي حتي سماه معارضوه من باب السخرية وتقليل قيمة الجهد “وزير البرك والمستنقعات” .
وكان اهتمام محمد محمود بهذا القطاع يرقي إلى المستوي المؤسسي بحق، ففي عهد وزارته الأولي (1928 ـ 1929) صدر قانون مزاولة مهنة الطب، وقانون مزاولة الصيدلة والاتجار في الجواهر السامة.
وقد واصل في وزاراته الثانية والثالثة والرابعة سياسة إمداد القري بالمياه الصالحة للشرب، كما تبني مشروع الوحدات المتنقلة للعلاج، ونشطت وزارته من أجل نشر التعاليم الصحية، وإنشاء مكاتب الصحة.
وقد أوردنا في افتتاحية هذا المقال ما يذكره التاريخ العلمي المشرف لمصر في عهده فإنه وهو رئيس للوزراء منح الصين ألف زجاجة من اللقاح المضاد للكوليرا (!!) وسبحان الذي يغير ولا يتغير.
وقد وصلت الميزانيات التي خصصها لمكافحة الملاريا إلى خمسين ألف جنيه، فضلا عن عشرة آلاف جنيه أخري لمكافحة البعوض والحمى الصفراء
وفي عهده خصص مبلغ مائتي ألف جنيه لردم ما يزيد علي خمسمائة بركة في أنحاء مصر، وخصص اعتماد اضافي 200 ألف جنيه أخري لإنشاء 150 مستشفى جديد في المدن والقري.
وفي عهده و بفضل جديته انتبه كثيرون من رعاة المجتمع المدني للإسهام في الانفاق علي الخدمات الصحية. ومن هؤلاء الدمرداش باشا الذي تبرع بإنشاء مستشفى خيري، ومنح الحكومة قطعة أرض تبلغ اربعة أفدنة. ومن هؤلاء ايضا البدراوي باشا عاشور الذي تبنت الحكومة مشروعه بعد ما اتم به انشاء مستشفى البدراوي عاشور في مزارعه بالقرب طلخا.
وعلي نحو ما اهتم محمد محمود بالصحة والبيئة، فقد اهتم بتنظيم التعليم، وقد نال التعليم العام في عهده دفعة قوية و كان حريصا علي توسيع قاعدة التعليم في مراحله الأولي وعلي إنشاء مكاتب جديدة للتعليم الإلزامي.
ولان هذا الرجل كان يتمتع بحس فني وثقافي راق ، متأثر بالتعريف الانجليزي للثقافة والفنون ، كما ذكرنا / فقد كان هو صاحب القرار الذي نقل به تبعية كل من مصلحة الآثار ودار الأوبرا من وزارة الأشغال إلي وزارة المعارف.
وإذا كان النحاس باشا هو الذي انشأ جامعة الاسكندرية، فان محمد محمود كان هو صاحب القرار الخاص بإنشاء نواة جامعة ثانية بمدينة الإسكندرية. وكانت هذه النواة هي فرع تابع لكلية الطب جامعة فؤاد الاول وفرع للحقوق و فرع الآداب، وانشاء مدرستين للزراعة والتجارة. وفي 26 اغسطس 1938 وافق مجلس الوزراء علي الاعتمادات التي طلبتها وزارة المعارف لهذا الغرض . وهو الذي صرح في وزارته الأولي بإنشاء معهد التربية العالي بعد إلغاء مدرسة المعلمين العليا،، كما صدرت لوائح عدد من الكليات .
إنجازاته في مجالات الاقتصاد

كان محمد محمود باشا ، كما أشرنا ، من أوائل الذين نفذوا برامج الإصلاح الزراعي، وبدأ محمد محمود بتوزيع خمسة آلاف فدان في الوجهين البحري والقبلي. وعلي الرغم من أننا نضعه في مرتبة تالية للنحاس ولصدقي باشا فيما يتعلق بإنجازاته المالية والإدارية، فإنه يتفوق علي بقية رؤساء الوزراء في إجراءات الإصلاح المالي والإداري التي شرع فيها، ومن الإنصاف أن نذكر أنه كانت لديه فكرة إنشاء جهاز للمحاسبات، ووضع فكرة إدارة ( ديوان ) لمراقبة الحسابات لكن الملك فؤاد فيما يروي لم يقتنع وقتها بالفكرة، ومن الجدير بالذكر ان محمد محمود باشا كان صاحب الفكرة التي لا تزال آثارها باقية إلي اليوم من تبعية رؤساء أو مديري أقسام الحسابات (أو وكلائهم) في جميع الوزارات بصورة ما لوزارة المالية .اما ابرز انجازاته المالية فكانت كما ذكرنا في مجال الضرائب .فقد قدمت وزارته الي البرلمان مشروعات قوانين الضرائب التي أصبحت بعد اقرارها بمثابة المكون الجوهري في النظام الضرائبي الحديث ، وكانت الضرائب قبل ذلك مقصورة علي العقارات دون المنقولات والايرادات ، وقد وفرت هذه الضرائب الجديدة لميزانية الدولة موارد مالية زادت من قدرتها علي مواجهة مشروعات الانشاء والاصلاح ، كما قررت حكومته تخفيض مرتبات الوزراء من 3000 جنية سنويا الي 2500 جنية اعتبارا من اول مايو 1939
القرارات ” الشكلية”

ونأتي إلي القرارات ” الشكلية” و«المظهرية»، ولسنا ضد المظهر فإن الاهتمام به أمر ضروري، لكن طبيعة الاهتمام به تعكس في الوقت ذاته بعضا من خصال صاحبها،
وعلي سبيل المثال فإن محمد محمود كان هو صاحب القرار الخاص بتغيير اسمي وزارتين من وزاراتنا القديمة، ولم يكن مثل هذا القرار شيئا مألوفا فيما قبل هذا، فقد ظلت الوزارات علي أسمائها منذ نشأتها مع استثناءات نادرة جدا بحكم الظروف، ولكن محمد محمود بدأ سنة تغيير الأسماء إلي ما يظنه أكثر جمالا أو أحسن وقعا، وهكذا فإنه في 1938 قرر إطلاق اسم وزارة العدل علي وزارة الحقانية، واسم وزارة الدفاع الوطني علي وزارة الحربية والبحرية. ولم يقف الأمر في التسميات عند هذا الحد، وإنما تعداه إلي العزف المحبب علي بنوة الملك فاروق لوالده الملك فؤاد حيث اقترحت وزارته تخليد ذكري الملك فؤاد بإطلاق اسمه علي بعض المؤسسات، وهو التقليد الذي قلدته فيه الثورة فيما بعد ذلك لنفسها .
محمد محمود والقوات المسلحة

كانت لمحمد محمود يد بارزة في تطوير مؤسسات القوات المسلحة المصرية، وقد تولي هذا الرجل في العهد الثاني من وزارته إنشاء وتطوير عدد من المؤسسات العسكرية كما بدأ النهوض بسلاح الطيران المصري، وتوالت الإنجازات اللوجستية لوزاراته تحسبا لمواجهة الحرب المحتملة (التي نشبت بالفعل وعرفت باسم : الحرب العالمية الثانية) .
كان اهم قرارات محمد محمود باشا في وزارته الثانية هو قراره بإنشاء درجة مالية لوظيفة مفتش عام الجيش المصري في ميزانية وزارة الحربية ، وصدور مرسوم بتعيين الفريق عزيز المصري مفتشا عاما للجيش ، ووافق مجلس الوزراء في عهده علي زيادة عدد طلبة الكلية الحربية الملكية الي 600 طالب في السنة لتلبية احتياجات الوحدات الجديدة في الجيش ، وقد كان هذا نتيجة لتوقيع معاهدة 1936 التي وقعها النحاس باشا، وكان محمد محمود عضوا في هيئة المفاوضة من أجل هذه المعاهدة، وها هو يبني عليها وعلي نصوصها إنجازات للقوات المسلحة المصرية دون أي إحساس بالحرج أو الحقد، مع أن المعاهدة منسوبة للنحاس باشا.
وهو الذي انشأ مدرسة الإشارة . وهو الذي أنشأ أيضا سواري للجيش وبناء علي رغبة الملك تم اعتماد مبلغ 6910 جنيها لإنشاء موسيقي سواري الجيش التي ظلت تحوز مراكز متقدمة في المهرجانات العالمية التي تقام لموسيقات الجيوش في العالم.
وقد نشأ عن هذا الاهتمام المتزايد بالقوات المسلحة أنه عند تشكيل وزارة محمد محمود الثالثة اصبحت وزارة الحربية من الوزارات التي برز صراع حزبي حول من يشغلها، وذلك بعد ما اكتسبته من اهمية وبعد ان كانت من اقل الوزارات شأنا في ظل الاحتلال الذي كان يشرف على جميع شئون الجيش.
وفي وزارته الرابعة (24 يونيو 1938- 18 أغسطس 1939) تواصلت سياسة زيادة تدعيم الجيش والاعتمادات المدرجة للقوات المسلحة ومشروعات الدفاع الوطني، والوقاية المدنية كما بدئ في عهده في إنشاء مصانع مصرية للأسلحة الصغيرة والذخيرة والمفرقعات. بتكاليف مليون جنيه تصرف على 3 سنوات وقررت وزارته تعميم التعليم العسكري بمعاهد التعليم الثانوي والجامعة وجعله اجباريا.
ومن الجدير بالذكر ان محمد محمود كان صاحب القرار الخاص باعتماد مبلغ 160 ألف جنيه لإنشاء طريق من الإسماعيلية غرباً إلى حدود فلسطين شرقاً. أي ما يعرف الآن طريق سيناء الأوسط.
ازدهار الاهتمام بالطيران الحربي

قام محمد محمود باشا بضم قسم الطيران المدني إلي سلاح الطيران الملكي، وهكذا وسع من سلطات وزارة الدفاع الوطني علي الجو والبحر كما كان وسعها بإشرافها على الحدود ، وقد استصدر محمد محمود هيكلا تنظيميا لضباط سلاح الطيران. و بدأ التوسع في افتتاح مدارس تعليم الطيران و تم شراء 23 طائرة متوسطة لتعليم طلاب كلية الطيران الملكية ، و في اول عهده رخص محمد محمود لوزارة الحربية بشراء 6 طائرات جديدة لأنشاء سرب جوي بتكاليف 7700 جنية ، وانتهي الامر بإنشاء سربين جديدين في سلاح الطيران الحربي ، وتولي تدبير ميزانيات المدافع والمهمات والأجهزة الفنية اللازمة لتجهيز 18 طائرة، ولما كان قد تم تخصيص مطار الدخيلة للطيران الحربي ، وافق مجلس الوزراء في عهد محمد محمود علي تجفيف جزء من بحيرة مريوط بالإسكندرية لإقامة ما يعرف الان بمطار النزهة
ومع كل هذا الإنجاز الذي حققته وزارات محمد محمود في المجال العسكري، فإن الدكتور عبد العظيم رمضان ينبهنا إلى سلبية مهمة جدا في أداء محمد محمود ووزارته، تمثلت في التقصير في بناء الثكنات العسكرية التي كان بناؤها كفيلا بانتقال القوات البريطانية إليها، ومن ثم تجنيب البلاد ويلات الإغارات الجوية غير المميزة.
بداية الدفاع المدني أو الوقاية المدنية على يديه

وفي عهد محمد محمود باشا تم إنشاء مصلحة وقاية المدنيين من الغارات الجوية، وقد تحولت هذه المصلحة فيما بعد قليل إلى وزارة للوقاية المدنية. وأولي محمد محمود اهتماما خاصا بشراء الأدوات والمهمات اللازمة للوقاية ضد الغارات الجوية، ولا ننسي أن هذه الغارات كانت شيئا جديدا على البشرية كلها.

 

 

 

 

 

 

 

 

تم النشر نقلا عن موقع الجزيرة مباشر

لقراءة المقال من موقع الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com