الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (20)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (20)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل العشرون

الفصل العشرون

العلاقات الدولية وفكرة حياد مصر

(1)

قد يكون غريبًا أن نبدأ هذا الفصل بالإشارة إلي حقيقة أن النحاس باشا كان أسبق من غيره في تشجيع فكرة الانضمام الشكلي إلي الحلفاء وذلك دون أن يصل، مثل أحمد ماهر باشا، إلي نهاية المدي في تصوير الأهمية القصوي والضرورة التامة لهذا الانضمام، ومن الثابت تاريخيا أن مجلس الوزراء وافق في عهد النحاس (بجلسته المنعقدة في سبتمبر ١٩٤٣) علي انضمام مصر إلي اتفاق إنشاء إدارة من الدول المتحالفة والبلاد المنضمة إليها في حربها ضد دول المحور بغرض التحرر من احتلال دول المحور، وهكذا يمكن لنا فهم وطنية الرجلين النحاس وأحمد ماهر بعيدا عن الفهم الديماجوجي الذي بثته جماعات سياسية لم تكن تتمتع بالنضج السياسي المطلوب.

وليس من شك في أن وزارات النحاس المتتالية قد عملت علي إقامة علاقات دولية طيبة ومتميزة مع الكثير من الدول، سواء في ذلك الغربية مثل إيطاليا وألمانيا، والعربية مثل ليبيا والسعودية، وذلك بإبرام اتفاقيات ومعاهدات صداقة مع كل هذه الدول. كما حرصت هذه الحكومات علي إلغاء بعض المراسيم السابقة بحظر التعامل مع بعض المنتجات الصادرة والواردة من تلك الدول، وكان هذا كله يتم بناء علي دراسات اقتصادية حقيقية تستشعر موطن المصلحة وتعمل من أجله.

وبالأسلوب الذي كان النحاس يدير به الأمور بطريقة مؤسسية فقد تم في عهده إنشاء إدارة تابعة لرئيس مجلس الوزراء تدعي الإدارة السياسية الأوروبية، وكانت هذه الإدارة مسئولة عما نسميه الآن «الملف الأوروبي» مسئولية سياسية تضيف إلي المسئولية الدبلوماسية التي تتولاها وزارة الخارجية ولا تنقص منها، وتستعين بها وتعينها دون تعارض.

(2)

وقد لفت الدكتور عبد العظيم رمضان النظر إلي أن النحاس والوفد هما أول من رفض الأحلاف:

«لم تكن سياسة رفض الأحلاف سياسة جديدة استنها عبد الناصر، كما أخذت تروج وسائل الإعلام الناصرية طوال عهد ثورة يوليو، إنما استنتها حكومة الوفد الأخيرة تعبيرا عن إرادة الشعب المصري، وقد أخذت في تطبيقها تطبيقا عمليا بالفعل، بأن رفضت الدخول في معاهدة الدفاع المشترك واتخذت خطوة جريئة لم تجرؤ علي اتخاذها دولة من دول العالم الثالث في ذلك الحين، وهي الوقوف موقف الحياد في الحرب الكورية، فأسست بذلك سياسة الحياد!».

(3)

كان الوفد بقيادة النحاس باشا حريصا علي التواجد الدولي بصورة مشرفة، وليس أدل علي هذا من مشاركة نواب الوفد في المؤتمر البرلماني الدولي في أغسطس 1928، وكي ندرك أهمية هذا المؤتمر فيكفي أن نذكر أنه اشتركت فيه 28 دولة، ووصل عدد أعضائه إلي أكثر من خمسمائة، وهو الاشتراك الذي نجح الوفد من خلاله في الحصول علي قرار من المؤتمر باستنكار تعطيل الدستور في مصر علي يد وزارة محمد محمود:

«… وكان قرار الاشتراك فيه قبل وقوع الانقلاب الثاني، وافتتح المؤتمر والدستور المصري معطل، وحضره عن مصر ممثلو مجلس النواب المنحل، ومجلس الشيوخ المعطل، وهم: الأستاذ ويصا واصف رئيس مجلس النواب، ومن النواب: الأستاذ مكرم عبيد، والأستاذ محمد صبري أبو علم، وأحمد حافظ عوض، ومن الشيوخ: مراد الشريعي بك، وكامل صدقي بك، وعلوي الجزار بك، والدكتور عبد الحميد فهمي، قد دافعوا عن حق الأمة في الدستور، ووفقوا إلي استصدار قرار من المؤتمر باستنكار تعطيل الدستور وهذا نصه:

«من حيث أن مبدأ تمثيل الشعب بنواب ينتخبون انتخابا حرا هو الأساس الذي يقوم عليه عمل مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي».

«ومع احترام التقليد الذي سارت عليه المؤتمرات السباقة، وهو اجتناب إبداء الرأي في مسائل السياسة الحالية، وخاصة في مسائل السياسة الداخلية للدول».

«يقرر المؤتمر استنكاره لكل عمل غير شرعي يرمي إلي إلغاء أو إيقاف النظام البرلماني، ويصرح بأن كل تعديل للنظام البرلماني لا يمكن قبوله إلا إذا كان جاريا طبقا للقواعد التي يقررها نفس دستور البلاد».

(4)

ويتصل بهذا ما يروي في مذكرات النحاس التي سجلها الأستاذ محمد البنا أنه واجه الإنجليز والأمريكيين برفض مصر إعلان الحرب قرب نهايتها:

«بعد أن أعلنت الولايات المتحدة دخولها الحرب في جانب الحلفاء حضر إلي القاهرة رئيس الوزارة الإنجليزية ونائب الرئيس الأمريكي والملك عبد العزيز آل سعود وانضممت إليهم ممثلًا عن مصر واجتمعنا في فندق «مينا هاوس» بالجيزة، وتحدثوا طويلًا في التنسيق بين الجيوش وطلب إليّ رئيس الوزارة الإنجليزية أن تعلن مصر رسميًا دخولها الحرب إلي جانب الحلفاء فاعتذرت وقلت له: إن الذي يملك الإعلان هو البرلمان وقد سبق أن قرر مجلس النواب في عهد سابق عدم دخول مصر الحرب ووقوفها علي الحياد ولا أريد أن أرجع إلي هذه المسألة ثانية، قال: قد يكون هذا في مصلحتكم، فأجبت لست أملك أن أقرره».

(5)

وفي عهد وزارة النحاس السادسة وفي أثناء الحرب العالمية الثانية حقق النحاس سبقا سياسيا مهما لم يحققه غيره من زعماء الدول في ذلك العام الذي سبق قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ قام النحاس بقرار (مكنه منه ذكاؤه وإخلاصه) بالاعتراف بدولة اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، كما اتخذ كافة الإجراءات الكفيلة بتنمية علاقات سياسية واقتصادية ذات قيمة بين البلدين (مايو ١٩٤٣)، ولكي نفهم قيمة هذه الخطوة فلا بد أن نشير إلي أن هذا قد حدث علي يد هذا الزعيم الوطني النبيه واسع الأفق وعميق الخبرة بينما كانت السياسة العالمية تصور الشيوعية و«السوفيتات» (جمع سوفيت) علي أنها رجس من عمل الشيطان، بل إن تشرشل حين تحالف مع الروس في الحرب العالمية الثانية واجه انتقادا مريرا بسبب إتمامه لهذا التحالف، حتي إنه في الدفاع عن موقفه صرح بأنه «مستعد للتحالف مع الشيطان نفسه»، بما يعني أن الأمور كانت قد وصلت في الوجدان السياسي لتلك الفترة إلي أن ستالين (ونظامه) كان أقرب إلي الشيطان.

(6)

هكذا نري النحاس الوطني واسع الأفق نقيّ الضمير يعترف بالسوفيت وينشئ معهم علاقات في جميع الميادين، ويفعل هذا مبكرا جدا في ١٩٤٣، وهو يفعل هذا دون أن يكون هدفه علي سبيل المثال مغازلة الحركة الشيوعية المصرية أو العربية!! أو ردًّا لفعل الخوف منها، أو في محاولة لابتزاز المعسكر الغربي في أوروبا وأمريكا.

(7)

وكان النحاس واعيًا كل الوعي لدوره في حماية ودعم الأقليات المسلمة في أوربا، وقد قام بكل ما كان ممكنًا في هذا السبيل في إطار من احترام القانون الدولي وسيادة الدول. وعلي سبيل المثال في يونيو ١٩٤٤ قرر مجلس الوزراء برئاسة النحاس تخصيص مبلغ عشرين ألف جنيه لمد مسلمي البوسنة والهرسك بالأغذية والمساعدات والأدوية تخفيفا لما يقاسونه من ويلات.

(8)

ومن الإنصاف أن نشير إلي أن حسن معاملة النحاس باشا للأفغان ودولتهم الناشئة كان هو العامل الحاسم في وقوف أفغانستان الدائم إلي جوار الحقوق العربية، ولهذه الدولة في سالف عهدها مواقف غير مسبوقة مناصرة للحقوق العربية.

وقد أشار الرافعي في مذكراته إلي نجاح النحاس في وزارته الأولي في عقد معاهدة الصداقة والمودة في أفغانستان فقال:

«في 30 مايو سنة 1928 تم التوقيع في القاهرة علي معاهدة الصداقة والمودة بين مصر وأفغانستان، وتنص هذه المعاهدة علي أن يكون بين المملكتين المصرية والأفغانية، وبين رعاياهما، سلام لا ينقضي، وصداقة خالصة دائمة، واتفاق للدولتين علي تأسيس العلاقات السياسية بينهما وفقا لأحكام القانون الدولي، وأن يلقي ممثلو وموظفو كل منهما السياسيون في بلد الآخر المعاملة المقررة بمقتضي المبادئ العامة للقانون الدولي العام، وأن تعقد معاهدات اقتصادية وتجارية بينهما في الوقت المناسب».

(9)

وقد كان للنحاس باشا موقف متميز في الدعم المعنوي والمادي لبلاد الحبشة والإمبراطور هيلاسلاسي، وهو دور مشرف لم يُدرس بعد بما فيه الكفاية، وهذه فقرة من مذكرات النحاس باشا:

«زارني جرجس أنطون بك وأخبرني أنه كان بالأمس مع البطريرك وأنهما تحادثا في الحالة الحاضرة، فأخبره البطريرك أن الإمبراطور هيلاسلاسي قد شكا إلي عصبة الأمم المتحدة من تصرفات إيطاليا وتحرشها بالحبشة أكثر من مرة وبعث بمندوبه إلي جنيف، وقدم شكوي رسمية بهذا الخصوص، ولكن اعتداءات إيطاليا المتكررة وتحرشات جنودها تزداد يومًا بعد يوم، وأنه يخشي أن يهجم الإيطاليون علي الحبشة ويحاولون احتلالها، ولذلك فهو يسأل بماذا يشير علي إمبراطور الحبشة فأجبته بأن تقول له أن يعد جيشه ويكون علي أهبة الاستعداد لأي تحرش وأن يحاول أن يرد علي الهجوم أو علي الأقل يصمد له، فإن الإيطاليين الغاشمين قوم استعماريون جشعون ولا يعرفون للحرب أدابًا، ولا للقانون الدولي حرمة، وأن زعيمهم موسوليني يطمع في أن يتغلغل في أنحاء البلاد المجاورة له ويستولي عليها حتي يستطيع أن يخرج من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي تتردي فيها إيطاليا الآن.

(10)

وهذه قصة لقاء النحاس باشا بكل من الكونت شيانو وزير الخارجية الإيطالية في سنة 1938، علي نحو ما أوردته مذكراته، التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا. ونحن نري النحاس باشا فيما تورده هذه الرواية يشير بكل وضوح إلي محاولات الإيطاليين ضم مصر إلي محورها، وإغراء النحاس علي هذا الضم، كما نري رد النحاس الصريح والذكي والفوري.

«… اتصلت بي وزارة الخارجية الإيطالية وقال المتحدث: إن الكونت شيانو وزير الخارجية يريد التحدث إليك، وحدثته فطلب أن يزورني، واتفقنا علي أن تكون الزيارة بعد أن ينتهي (كورس) الحمامات الذي قرره الأطباء».

«حضر الكونت شيانو فاستقبلته مرحبًا وشدّ علي يدي، وبالغ في الترحاب بي، وقال لي: إن السنيور موسوليني حمّله تحية طيبة وتمنيات صادقة بإقامة سعيدة واستشفاء ناجح، وإنه سعيد جدًا أن الزعماء المعروفين في الشرق والغرب يقصدون إلي هذا المصح للاستشفاء، ومن أجل هذا وجهت الحكومة إليه عناية خاصة، فشكرت للسنيور موسوليني تحيته، وحملت الكونت إليه مثلها».

«ثم تطرق الحديث إلي الحالة الدولية، وكان مما قاله: إنه لا مناص من حرب عالمية تحل المشاكل المتشابكة في مختلف دول العالم، وإن الحرب العالمية الأولي مهدت لحرب ثانية منذ وزع المنتصرون الأسلاب بينهم، وتركوا الشعوب المغلوبة والصغيرة هملًا، وكان لا بد لدولة كألمانيا الهتلرية التي هزموها ومزقوا أوصالها أن تنهض لتسترجع حقوقها ومنزلتها بين العالم باعتبارها من أقوي الدول الصناعية، وأخذ يصف لي استعداد بلاده للحرب وإعداد الفاشست (القمصان السواداء) وتدريبهم تدريبًا قويًا، ثم خفض (صوته) وقال: لا أخفي عليك أننا سندخل الحرب مع هتلر، وإننا لا بد سنكسبها لأن قواتنا هائلة وإنجلترا إلي الآن ليس لديها أي استعداد لصد هجماتنا وكذلك الدول التي تصادقها أو تحالفها، وإن الدوتشي أوفدني إليك لأتحدث معك بصفتك زعيم الأغلبية في مصر ومسموع الكلمة عند الشعب، فهل لديك مانع من أننا إذا دخلنا مصر فاتحين منتصرين أن تتحالف معنا وتأمر الشعب أن ينصرنا ضد الإنجليز مقابل أن تكون رئيس جمهورية».

«وابتسمت، وحاولت قدر المستطاع أن اضبط أعصابي وقلت له: إنك تتحدث عن أشياء في عالم الغيب، فالحرب لم تعلن، ولا يعرف أحد ما الدول التي ستحالف بعضها بعضًا، وعلي فرض وقوعها فلا يدري أحد لمن تكون الغلبة ولمن تكون الهزيمة، وعلي فرض إن ما قلته سيقع فعلًا: تريديني أن استبدل احتلالًا باحتلال، وأزيل استعمارًا لأؤيد بدله استعمارًا».

«خرج الكونت شيانو وهو غاضب وقال حين ودعته: راجع نفسك فيما عرضت عليك حتي لا تندم وتضيع علي بلادك فرصة ذهبية».

(11)

وهذا هو حديث النحاس عن لقاء بابا الڤاتيكان، وقد تمت هذه الزيارة بعد زيارته للكونت شيانو وزير الخارجية الإيطالي، كما هو واضح من النص:

«… قابلتُ قداسة البابا، وقد استقبلني واقفًا في وسط الحجرة، ورحب بي ودعاني إلي الجلوس، وبعد تناول المرطبات والقهوة سألني عن إقامتي، وهل استفدت منها صحيًا، فأجبت نعم، ثم انتقل الحديث إلي زيارة الكونت شيانو، وقال إنه علم من مصادر الڤاتيكان وسمع أنه تحدث معك في الحرب القادمة، وعرج بك علي مستقبل بلادك، فعجبت من أين له هذا؟ ثم عقبّ علي هذا فقال: لقد سرني إنك لم تتماش معه ولم تقبل ما عرضه عليك، فتأكدت أنه يعرف ما دار بيننا فقلت له (أي للبابا): إني أخبرت الكونت أننا شعب محتل ونعمل لنرفع الاحتلال عنا، أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله، وقال (أي البابا): راقني أنك كنت صريحًا معه إلي حد أنه خرج من المقابلة غير مسرور، وأحب أن أقول لك: إنه هو وصهره السنيور موسوليني سيجران البلاد إلي كارثة، لو أن الدوتشي ساير هتلر في أفكاره ومطامعه».

«ثم سكت وقال: إن موسوليني رجل ذكي ومفكر وقارئ ومطلع ومطامعه لا حد لها، وهو يتصور أن محالفته لهتلر سترد إلي إيطاليا تاريخها القديم ومستعمراتها التي فقدتها في الحرب العالمية الأولي، وهو بهذا واهم».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(12)

ثم روي النحاس علي لسان بابا الڤاتيكان رأيه الذي أبداه لملك إيطاليا، ومقارنته (أي مقارنة البابا) بين الملك الإيطالي فيكتور عمانويل والزعيم الإيطالي موسوليني:

«… قابلتُ الملك ڤيكتور عمانوئيل، وسألني عن رأيي في الحرب فقلت له: إن الحرب دائمًا مدمرة ونتائجها خطيرة، وأنا لا أقول لك من واقع تعاليم الكنيسة التي تدعو للسلام والمحبة وحسب، لكني أقول لك من الواقع وتجارب الماضي، وضربت له مثلًا بالسويد وسويسرا اللتين لم تدخلا الحرب أبدًا وكيف حالهما الآن وحال باقي بلاد أوربا التي تورطت في الحرب ورغبت في الاستعمار».

«وكان الملك عاقلًا متفهمًا لما قلته، أما موسوليني فهو رجل فيه غرور كبير وله مطامع لا حدود لها، وهذا هو ما أخشاه لا علي مستقبل إيطاليا وحدها بل مستقبل العالم كله لو أن حربًا عالمية ثانية قد وقعت، وهي لا بد واقعة، ولكن لا أظنها تقع هذا العام لأن الطرفين لم يتما استعدادهما».

(13)

ثم يبدي النحاس رأيه في شخصية بابا الڤاتيكان وهو رأي يميل إلي الإعجاب والتقدير:

«استمعتُ إلي هذا الرجل المثقف الذي كان يخاطبني بلغة عربية فصحي وكلما أثرنا موضوعًا وضع النقط علي الحروف واشتد إعجابي به».

«وعندما استأذنت في الخروج صحبني إلي باب حجرته وقال لي: اثبت علي رأيك والمستقبل لله.. لا لهتلر ولا لموسوليني».

(14)

أما حديث النحاس باشا في مذكراته التي سجلها محمد كامل البنا عن لقائه بهتلر فحديث حافل بالحكمة والفهم:

«وصلتُ إلي برلين ورأيت عددًا كبيرًا من أبناء المصريين، والجاليات العربية في استقبالي علي المحطة، وعلي رأسهم سفير مصر في ألمانيا وموظفو السفارة، وعلي الرغم من أن الزيارة لم تكن رسمية إلا أنني فوجئت بمندوب من الحكومة الألمانية يرحب بي باسم حكومته وباسم الفوهرر، فحملته تحيتي وشكري إلي الحكومة وإلي الزعيم هتلر علي هذه العناية».

«وفي الطريق حدثني السفير المصري أن هتلر لما علم أني سأقيم في برلين بعضًا من الوقت رغب في أن يلتقي بي، وقال السفير: إذا لم يكن لديك مانع رتبت لك اللقاء وحددتُ الموعد المناسب، فأجبته بأن يوجل الحديث في هذا الموضوع إلي الغد حتي نستريح من عناء السفر ونري كيف تكون الظروف».

«عاود السفير المصري عند زيارته (لي) الحديث عن مقابلة هتلر فوجدت بعد تفكير أن لا مانع من مقابلته خصوصًا وأن الصحافة العالمية مجمعة علي أنه يستعد للحرب، ويعد شعبه إعدادًا عسكريًا هائلًا، وكلفت السفير أن يحدد الموعد ويخطرني به علي ألا يتعارض مع حفل التكريم الذي قررته الجالية المصرية».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«كان اليوم الموعد المحدد للالتقاء بهتلر وقد استقبلني مرحبًا واقفًا وقفة عسكرية وشدّ علي يدي بقوة، بعد أن جلسنا بدأ الحديث بأن سألني عن مؤتمر الامتيازات وأنه اطلع علي مناقشاته فأعجب بصراحتي وشجاعتي (الإشارة إلي مؤتمر مونترو 1937)، فشكرته علي ذلك، ثم عرّج علي الحالة الدولية وأخذ يشرح لي ما لاقته ألمانيا من الحلفاء والظلم الذي حاق بها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي، وأفاض في ذلك، وكانت كلماته حماسية كأنه يخطب في حفل، ورأيت عينيه تبرقان بريق الغضب كلما جاء ذكر إنجلترا وفرنسا، وكلما هممتُ بالانصراف استبقاني حتي طال الحديث أكثر من نصف ساعة، وخرج فودعني حتي الباب الخارجي».

«ولقد خرجتُ من هذا اللقاء بانطباع أن هذا الشاب الغاضب الثائر لا بد أن يجر العالم كله إلي حرب عالمية، ولن تهدأ له ثائرة ـ حسب ما استنتجت من حديثه ـ إلا بأن يخوض حربًا طاحنة فإما انتصر وبلغ القمة وأعاد إلي ألمانيا مجدها وعزها الذي طالما تغنت به وافتخرت، وإما أن يسوقها إلي هاوية لن تخرج منها إلا مهيضة الجناح مفككة الأوصال».

(15)

وعلي صعيد آخر نري النحاس في مذكراته المروية (سنة 1940) يعبر عن إعجابه الشديد بموقف ديجول في أثناء الحرب العالمية الثانية فيقول:

«نقلت إلينا الصحف أن الچنرال ديجول، وهو أحد القادة الفرنسيين المجاهدين أعلن أنه سيظل يجاهد الاحتلال ويقض مضاجعه حتي يجلو عن فرنسا ويتركها حرة مستقلة كما كانت منذ قيام الثورة الفرنسية».

«وقد اشتد إعجابي بهذا القائد الشجاع الذي لم يرهب قوة هتلر ولم تخفه جحافل الألمان».

«كذلك قرأت في الصحف الأجنبية أن جيش الاحتلال الألماني أراد أن يستجلب رضا المواطنين فنقل جثمان النسر الصغير ابن القائد نابليون بونابرت إلي باريس، ووضع تابوته في قبر أبيه، وسمح للناس أن يشاهدوه، ولكنهم لم يتأثروا بهذا الحادث ولم يعلقوا عليه أي أهمية، فما قيمة نقل جثمان إلي جانب احتلال دولة بأسرها؟!».

(16)

ويشير صلاح الشاهد في مذكراته إلي أنه هو نفسه كان يحمل المال الذي يبعث به الزعيم مصطفي النحاس إلي الزعيم الفرنسي ديجول، بل إنه ذكر اسم المقهي الذي كان يلتقي فيه بالزعيم الفرنسي:

«وأذكر أن النحاس باشا كان صديقا حميما للمسيو شارل روا رئيس هيئة قناة السويس، وقد سمعت من النحاس باشا أن الجنرال ديجول صديق لشارل روا، وأن النحاس باشا كان يرسل نقودا إلي ديجول في أثناء وجوده في المنفي، وإقامته بمصر وتشكيله لحكومة فرنسا الحرة، إيمانا من النحاس بالديمقراطية…».

«ولقد كنتُ الشخص الذي يحمل النقود إلي الزعيم الفرنسي الراحل، وكانت مقابلتي معه تتم بمقهي «اربيان» بمصر الجديدة».

«وكان لموقف النحاس باشا من فرنسا في محنتها ومع زعيمها العظيم في منفاه أثر كبير في العلاقات الفرنسية ـ المصرية، التي أيدت مصر في قضاياها الوطنية حتي تأميم القناة سنة 1956، ثم تأييد مصر بعد حرب سنة 1967».

(17)

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإننا نذكر القراء بما هو مشهور عن التقدير المتبادل بين تشرشل والنحاس، وهو التقدير الذي بلورته نصيحة تشرشل للملك فاروق بأن يلتقي بالنحاس في اجتماعات أسبوعية.

أما النحاس باشا فقد تضمنت مذكراته ثناء علي أسلوب تشرشل وبلاغته، وتلمسه لهذه البلاغة والروح، وكأنما كان النحاس يستشرف (مبكرًا) منح جائزة نوبل في الأدب لتشرشل:

«كانت الخطب التي يخطبها تشرشل رئيس الوزارة الإنجليزية يقوي بها عزيمة شعبه ويحثهم علي الصبر والاحتمال والمقاومة، كانت تلك الخطب تعتبر قطعًا رائعة من البلاغة، ولقد كنتُ شديد الإعجاب بأسلوبها ومعانيها، ولقد زارني بعض الصحفيين اليوم فسألتهم مَنْ الذي يترجم خطب تشرشل في (صحيفة) المصري ـ ذلك لأن ترجمة الأهرام تكاد تكون ترجمة حرفية لا روح فيها ولا أساليب أدبية ـ فقالوا إن عباس حافظ المحرر بجريدة المصري هو الذي يتولي ترجمتها وأنها حازت إعجاب القراء علي اختلافهم وهي موضع حديث المجالس فحملتهم تحية إعجاب إلي عباس حافظ، ولما اتصل بي رئيس تحرير المصري في المساء كررت تحيتي وإعجابي للترجمة التي تنشر في المصري».

«ووددتُ لو أن في مصر رؤساء وزارات يصارحون الشعب بالحق والواقع كما يفعل رئيس الوزارة الإنجليزية، ولكن أين نحن منهم؟ هم في بلد حر يحكم حكمًا ديمقراطيا بكل معاني الديمقراطية، ونحن في بلد يُحكم حكمًا ديكاتوريًا بكل ما تحمله الكلمة من بغض إلي النفوس».

(18)

وهذه نماذج عابرة لعلاقات سريعة عقدها النحاس باشا مع زعماء عالميين آخرين، وقد تحدثت مذكراته عن هذه اللقاءات حديثًا عابرًا أو سريعًا:

وهذا هو حديثه عن لقاء رئيس وزراء اليونان:

«علمتُ أن رئيس وزراء اليونان موجود بإنجلترا فاتصلت به واجتمعنا وتحدثنا في شأن مؤتمر الامتيازات، وقد قال إن في مصر أكبر جالية أجنبية من اليونان، وأنه برغم هذا لا يخشي علي مواطنيه من إلغاء المحاكم القنصلية والمحاكم المختلطة لأنه مطمئن إلي أن الروابط التي تربط اليونان بمصر هي وثيقة وعلاقات قديمة وبينهما مصالح مشتركة وأن كثيرًا من أبناء اليونان يعملون في مصر ويستثمرون أموالهم وهي أقل الجاليات لجوءًا إلي القضاء المختلط، لما بينهم وبين إخوانهم المصريين من ثقة وحسن تفاهم».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وهذا حديث له عن لقاء وزير خارجية فرنسا:

«التقيت بوزير خارجية فرنسا وكبار موظفي الوزارة وجري بيننا بحث طويل حول مؤتمر الامتيازات ورأي فرنسا في إلغاء امتيازات رعاياها المقيمين في مصر، ووجدت ترحيبًا كبيرًا واستعدادًا طيبًا لنجاح المؤتمر مما جعلني استبشر خيرًا بأننا سنصل بإذن الله إلي إلغاء الامتيازات الأجنبية وما يتبعها من محاكم مختلطة، ومحاكم قنصلية وما شاكل ذلك، وتوحيد القضاء ويصبح كله مصريًا ويتساوي أمامه المواطنون والأجانب علي السواء».

(19)

ونحن نعرف أن النحاس باشا كان يستقبل كثيرًا من رجال الأعمال الأجانب بصحبة معارفهم رجال الأعمال المصريين كعبود باشا، كما أنه استقبل، علي سبيل المثال، الجنرال كاترو الحاكم العسكري لبيروت، الذي جاء بصحبة البارون إمبان (وفي موضع آخر يشير إلي أن هذا البارون هو هو مسيو رينيه إمبان).

(20)

ومن ناحية أخري فقد كان النحاس علي صلة وثيقة بأبناء الجاليات المصرية في الدول الأوربية المختلفة، وكان يتبادل الرسائل مع هؤلاء باستمرار، وكانوا من خلال علاقتهم به يحسون بتوثق روابطهم بوطنهم وسياساته، وكانوا كذلك يدعون النحاس لزيارتهم، وزيارة الدول التي يقيمون فيها، علي نحو ما يدعو الأهل بعضهم بعضًا:

«تلقيت رسالة من أبناء الجالية المصرية في برلين عن طريق سفير مصر في ألمانيا حسن نشأت باشا يلح فيها أصحابها علي تلبية دعوة لحفلة تكريم تقام لي بمناسبة مروري علي ألمانيا، وقد قبلتها وقررت الإقامة في ألمانيا بضعة أيام للراحة والاستجمام».

(21)

وتحفل مذكرات النحاس باشا بالحديث عن الاتصالات المستمرة والمراسلات المطولة بينه وبين زعيمي الهند غاندي ونهرو، وزعيم الباكستان محمد علي جناح، وفي مذكرات سنة 1934نقرأ روايته عن إحدي رسائل نهرو المبكرة:

«تلقيت رسالة من جواهر لال نهرو زميل المهاتما غاندي زعيم الهند في الجهاد رسالة خطية يحييني فيها، ويتحدث عن ذكريات أيام المنفي في (سيشيل) التي قضيناها معًا، ويؤكد أن الهند تسير علي خطي نهضة مصر وتقتبس من أساليب جهادها وكفاحها ضد الاستعمار ما يهديها إلي الطريق المستقيم للثبات، وأن غاندي لا يترك فرصة إلا تحدث فيها عن زغلول باشا وخليفته، وعن ثورة مصر وأثرها في جميع بلاد الشرق المغلوبة علي أمرها، وأنه يشاركه الإعجاب بنهضة المصري ونجاحها في حركة مقاطعة البضائع الأجنبية وخاصة الإنجليزية منها، وذكر أن حركة المقاومة في الهند والدعوة إلي ارتداء الملابس الوطنية قد نجحت نجاحًا كبيرًا وهزت الاستعمار هزة عنيفة».

«وقد رددت عليه برسالة عبرت فيها عن عميق مشاعري وتأثري من رسالته وحملته تحية خاصة وتقديرًا كبيرًا للمهاتما غاندي الزعيم الشرقي الصميم والذي لم تغيره تعاليم إنجلترا التي درس فيها، وتعلم في معاهدها عن أن يكون هنديًا شرقيًا يقود شعبه إلي العصيان المدني وهو لا يملك من السلاح إلا مغزلًا يغزل عليه الثوب الذي يلبسه وعنزه يشرب من لبنها حتي لا يحتاج إلي شيء من المحتلين المغتصبين».

(22)

وقد لعب النحاس باشا دورًا متكررًا في تهدئة النزاع بين المسلمين والهندوس في الهند، وذلك من خلال مراسلاته مع الزعيم محمد علي جناح، وقدرته علي إقناع الزعيمين الهنديين غاندي ونهرو بما كان يطلبه الزعيم جناح أو يشكو منه، وفي مذكرات 1938 يروي النحاس:

«حمل إليّ البريد الخارجي رسائل مختلفة وكانت الرسالة التي لفتت نظري إليها رسالة من السيد محمد علي جناح الزعيم الهندي المسلم يقول في بعض فقراتها إن الخلاف بين الأقلية المسلمة في الهند وبين أغلبية الهندوس بلغ مداه، وأنهم يذبحون أبناء المسلمين في الشوارع كلما ظفروا بهم، وأنه هو وعدد من زملائه المسلمين يحاولون التفاهم مع غاندي أو جواهر لال نهرو علي وقف تلك المذابح ولكن بلا جدوي، ويطلب إليّ أن أكتب لجواهر لال نهرو بصفته صديقًا قديمًا أن يستعمل نفوذه مع طائفة الهندوس للكف عن المذابح التي يرتكبونها جهارًا نهارًا في جميع الشوارع يوميًا وغيرها من البلاد».

«وقد تأثرت جدًا لهذا النبأ وما يلقاه إخوان مسلمين لنا من أجل عقيدتهم وما يقاسونه في سبيل القيام بواجباتهم، وعولت أن أكتب لجواهر لال نهرو رسالة أطلب فيها أن يعمل جهده علي وقف المذابح وأن يحاول مهادنة المسلمين لأنه لا ينتفع من وراء هذا الخلاف إلا المستعمرين، كما سأكتب ردًا علي محمد علي جناح أوصيه فيه باستعمال الحكمة ومحاولة التفاهم مع غاندي أو جواهر لال أو غيرهما من كبار زعماء الهندوس».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«كتبت رسالتين إحداهما إلي جواهر لال ضمنتها تحيتي واحترامي وإشادتي بجهاد المهاتما غاندي وأثنيت علي وطنيته وكفاحه هو ومساعده نهرو، ثم طلبت إليه أن يحاول ما وسعه الجهد إنهاء الخلاف الناشب بين الهندوس والمسلمين، وأن يضم صوته إلي صوتي في أن يطلب من غاندي أن يأمر أنصاره بالكف عن المذابح التي تنقل للصحف تباعًا أنبائها والتي تصل إلينا تفاصيلها فتدمي لها قلوبنا وتتأسي نفوسنا، وأشرت إلي أن زعيمًا واسع الأفق كغاندي علي درجة من الثقافة والحنكة لا يستعصي عليه أن ينهي تلك الخلافات العقيمة التي لا تعود إلا بالوبال علي الهند وتعطلها عن المضي إلي طريقها لطلب حريتها واستقلالها، ولن ينتفع من وراء هذا إلا إنجلترا التي تؤمن بحكمة (فرق تسد)، وناشدته بحق الأخوة القديمة وعشرة المنفي التي تقاسمنا فيها الآلام وشظف العيش أن يسعي جهده لحل الخلافات».

«كما حررت رسالة أخري إلي محمد علي جناح ردًا علي رسالته شكرته وأنبأته أني كتبت لجواهر لال نهرو بخصوص الخلاف القائم بينهم، ورجوته أن يعمل كذلك من جهته علي إنهاء المشاكل التي بين المسلمين والهندوس وذكرته بأن الاستعمار لم ينفذ إلا من ثغرة الأقليات وحمايتها والأغلبية وطغيانها، وأنا قاسينا هذا في وطننا فإن إنجلترا لم تحتل مصر إلا بحجة حماية الأقليات، ولما قامت ثورة 1919 كان أول عمل بدأنا به أن أبطلنا حجة خصومنا وقامت الأقليات من أقباط مصر تنادي بإنهاء الاحتلال وتعلن تضامنها مع الأكثرية المسلمة ونصحت له أن يستعمل نفوذه في حل هذه المسائل أو علي الأقل تعليقها مؤقتًا إلي أن يتم استقلال الهند وجلاء المحتلين عنها ثم تتفرغون بعد ذلك لحل مشاكلكم الداخلية».

(23)

وتلقي المذكرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا الضوء علي زيارة نهرو لمصر قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهي الزيارة التي صحبته فيها ابنته أنديرا غاندي، وما دار في هذه الزيارة من حوارات بين الزعيمين أبانت عن حسن تقدير النحاس للسياسة الدولية، ووعيه لما يجب علي الدول المستضعفة من تعاون، وما ينبغي أن تتحلي من تربص بالسياسة الدولية التي لا تستهدف صالح المستضعفين، وإن أظهرت الود تجاههم:

«تلقيت رسالة من جواهر لال نهرو بأنه ينوي الحضر إلي مصر بصحبة ابنته أنديرا غاندي لزيارة الآثار ولقضاء بضعة أيام عندنا، وكتبت إليه الرد أرحب به وطلبت أن يحدد الموعد حتي أرسل من يستقبله».

«أرسلت اثنين من السكرتارية لمقابلة جواهر لال نهرو وابنته أنديرا غاندي علي إثر وصول برقية منه وحجزت لهما في الفندق وقد عاد السكرتيران وأخبراني بأنهما استقبلا الضيف الصديق وصاحباه إلي أن وصل إلي الفندق وأطمأنا عليه، وقد رأيت أن أرجئ زيارته والتسليم عليه حتي يستريح من عناء السفر».

«قصدت إلي الكازينو لزيارة جواهر لال نهرو، وقد سررت كل السرور لرؤيته صحيحًا معافي وقدم إليّ ابنته أنديرا غاندي وهي فتاة شابة سمراء اللون تلبس الساري علي عادة الهنود، وراقني منها أنها مثقفة ثقافة عالية وملمة بسياسة الإنجليز وأساليبهم في حكم الهند إلمامًا واسعًا (علي صغر سنها) وقد قلت لجواهر لال نهرو إنني أتنبأ لهذه الفتاة بمستقبل باهر فابتسم وقال إني أعدها لتكون خليفتي في العمل السياسي للبلاد».

«وتناول حديثنا الحال العالمية فقال جواهر لال إن إنجلترا ـ لو دخلت الحرب ـ فسوف ترغمنا علي أن نقف في صفها ونحارب برجالنا ولا نستطيع ونحن مستضعفون أن نعصي لها أمرًا، وأن المهاتما غاندي يري أن تظل حركة العصيان المدني ومقاطعة البضائع الإنجليزية سائرة لا تنقطع قامت الحرب أو لم تقم، وأنه حملني إليك رسالة خاصة بصفتك زعيم الشرق، ومصر هي أم الشرق وثورتها هي الثورة الأم، لهذه الاعتبارات كلها كلفني أن نعد العدة لعمل مشترك ضد الاحتلال علي اختلاف الديار وتباين النظم، فأجبته أني أرحب بالعمل المشترك معًا وعلي استعداد لبحث أي اقتراح تتقدمون به، ونعمل علي أن ننسق مجهوداتنا بحيث لا تداهمنا الحرب علي غرة، ويأتي الإنجليز ويأخذون كل ما يريدون ويدافعون عن أنفسهم، ونحن نظل مستعبدين وتابعين للإمبراطورية، فقال ما رأيك في المقاطعة أجبت إنها تنفع عندكم، ويمكن أن تكون شاملة ولكن عندنا لا يمكن تنفيذها علي وجه الدقة، وذلك لأن لدينا أحزاب وأقليات وقصرًا يسكنه ملك وحاشية وجاليات أجنبية كبيرة وهذه كلها لن تنفذ قرار المقاطعة إذا دعونا إليه وأعلنا عنه، ولكنني من ناحيتي أنا وإخوتي أعضاء الهيئة الوفدية نعلن في كل فرصة، وندعو في كل وقت لمقاطعة البضائع الإنجليزية».

«وقد قرنا القول بالعمل فأنت لا تجد واحدًا منا يلبس قماشًا إنجليزيًا أو حذاء أجنبيًا، ولكن هذا لا يؤثر في إنجلترا كثيرًا لأن البلد فيها خصوم وأجانب وأعداد كثيرة يستجلبون بضائعها ويروجون تجارتها وتجارة البلاد الأجنبية التي لها جاليات عندنا».

«وقد ودعته بعد أن حملته تحية وشكرًا خالصًا للمهاتما غاندي علي كريم تحيته وعظيم تمنياته لمصر والمصريين».

(24)

وفي مذكرات عام 1940حديث عن تكرار شكوي الزعيم المسلم الهندي محمد علي جناح من ظلم الهندوس وجورهم، لكن هذه الرسالة تنهي إلي النحاس تفكير المسلمين في الانفصال عن الهند بعدما وجدوا في الانفصال الحل الوحيد.

ويظهر مما يرويه النحاس أنه كان قد اقتنع منذ هذا الوقت المبكر (1940) بأن الانفصال قد يكون هو الحل الوحيد لمسلمي الهند، لكنه كان بإشفاقه علي الهنود المسلمين يتحسب لما لا بد من التحسب له، وكان يود لو تأكد أنهم أعدوا للأمر عدته.. ولهذا فإنه كان يوصيهم بالصبر ويفكر في كسب الوقت، ويحاول في الوقت نفسه أن يجد حلًا لمشكلتهم بالضغط علي أصدقائه من زعماء الهنود:

«حمل إليّ البريد الخارجي رسالة مطولة من محمد علي جناح الزعيم المسلم الهندي يقول فيها إنه وإخوانه زعماء المسلمين يفكرون جيدًا في أن يعلنوا انفصالهم عن الهند وحكامها، لأن الأحداث الطائفية التي تقع كل يوم تسفر عن عشرات القتلي والجرحي وأن الإنجليز يعلنون سرورهم واغتباطهم كلما رأوا المسلمين يموتون ويقتلون كل يوم، وسألني الرأي في هذا».

«وللحقيقة أني تألمت كل الألم ولكني حائر كيف أرد عليه، هل أؤيد وجهة نظره وأشجعه علي الانفصال، وإذا شجعته كيف ينفصل دون إعداد ولا ترتيب، وإذا بقي فهل يمكن السكوت علي ما يقع كل يوم وما نسمعه من هذه الأحداث المؤلمة، وقد فكرت في دعوة الوفد لأستشير الإخوة والزملاء في هذا الأمر الخطير، وهذه الفواجع التي تحل بعدد كبير من إخواننا في العقيدة الإسلامية».

«وفكرت في أن أكتب للزعيم غاندي وجواهر لال نهرو مرة أخري في هذا الخصوص وأن تكون لهجة الخطابين شديدة عسي أن تؤتي ثمارها، ولكني أرجأت هذا حتي أري إخواني من أعضاء الوفد».

(25)

ثم يروي النحاس باشا أنه استشار زملائه في الوفد، وعرض عليهم أفكاره فيما يتعلق بالمشكلة الهندية، وما يبدو من مستقبلها في الأفق:

«اجتمع الوفد اليوم برئاستي في النادي السعدي، وقد عرضت عليهم ترجمة دقيقة للرسالة التي تلقيتها من محمد علي جناح، وبعد أن أطلعوا عليها أخذنا نتباحث في الكيفية التي نرد بها عليها والاقتراحات العملية التي نقترحها، وبعد أن تناقشنا طويلًا عرضت عليهم فكرة إرسال رسالتين إحداهما إلي غاندي وأخري إلي جواهر لال نهرو نطلب إليهما أن يتدخلا بما لهما من مكانة في نفوس المواطنين طالبين أن يكفوا عن ارتكاب هذه الأعمال الممقوتة».

«وقد استقر الرأي علي أن نكتب أولًا إلي محمد علي جناح نطلب إليه أن ينتظر هو وإخوانه بعض الوقت حتي تنجلي الأمور بعض الشيء ونحن نؤيدهم علي أن يتحينوا أول فرص مناسبة ويعلنوا انفصالهم عن الهندوس، ونخبره أن الوفد بكامل هيئته أرسل رسالتين إحداهما إلي غاندي والأخري إلي نهرو ونطلب إليهما أن يعملا جديًا علي وقف هذه المآسي وأن يردا علينا سريعًا برأيهما وأن نبصرهما بعواقب هذه الأعمال، وهما لا شك يعرفان نتائجها التي تنعكس علي استقلال الهند وعلي مستقبله، ثم نوصي المسلمين بالتذرع بالصبر والاحتمال والأناة حتي يقضي الله أمرًا كان مفعولًا».

(26)

ويروي النحاس باشا أنه صدر فيما كتبه من رسائل إلي الزعماء الهنود عن قرار الوفد. وفي هذه الرواية دلالة واضحة علي مدي ما يمكن لزعيم أن يتيحه من مشاركة أقطاب حزبه في رسم مواقف السياسة الخارجية بعيدًا عن دعاوي إدخال السياسة الخارجية نطاق قرارات السيادة:

«نفذت قرار الوفد فيما يختص بمشكلة المسلمين في الهند وكتبت الرسائل التي تقررت وبعثت بها إلي أصحابها، وقد أضفت إلي رسالة غاندي عبارات فيها أن شهرته مبنية علي عدم التعصب، وأنه يعمل علي تحرير المنبوذين من أبناء ملته، أفلا يتسع أفقه ـ وأنا أعتقد أنه ناضج ـ فيعمل علي حضّ مواطنيه ألا يتحرشوا بمواطنيهم من المسلمين حتي تظهر الهند بمظهر الرجل الواحد بقيادة زعيم واحد».

«وكتبت لنهرو بهذا المعني وذكرته بالأحاديث التي كانت تدور بيننا وبين والده ونحن في سيشيل وأننا كلنا ضحية الاستعمار وأن المحتل لا يفرق بين دين ودين ولكنه يلتهم المواطنين جميعًا، وانتظرت في ألم ممض أن يأتيني رد أطمئن فيه علي حال إخواننا في الدين والعقيدة».

(27)

وفي مذكرات 1948 ـ 1949 نري النحاس باشا يكاد يكرر ما سبق له أن تحدث فيه مع زعماء الهند من الطرفين، ونحن نلاحظ حرص النحاس الدائم علي وصف جناح بأنه الزعيم الهندي الكبير، وكأنما ظل النحاس مقتنعًا تمامًا بأن الباكستان هند، وبأن الباكستانيين هنود، وأن الزعامة مرتبطة بالقومية الهندية.

ثم تروي المذكرات التي حررها الأستاذ البنا منسوبة إلي النحاس قصة لقائه بالزعيم الهندي محمد علي جناح الذي زار القاهرة:

«… كتب إليّ محمد علي جناح الزعيم الهندي الكبير أنه سيحضر إلي القاهرة ويريد أن يقابلني ليتحدث معي في مشكلة المسلمين في الهند والهندوس الذين يقتلونهم وجاء محمد علي جناح وأقمت له حفلة عشاء دعوت إليها أعضاء الوفد وعددًا كبيرًا من المشتغلين بالمسائل الإسلامية ومن يهمهم قضية الهند خاصة».

«واجتمع بنا جناح وزملاؤه وحاولت كعادتي أن أحمله علي الصلح مع الهندوس خصوصًا بعد أن كتبت إلي جواهر لال نهرو أكثر من مرة وكتبت لغاندي عقب اغتياله ولكنه شرح لنا الحالة في الهند قال إن الخلاف بين الهندوس والمسلمين خلاف جذري فالهندوس يقدسون البقرة ويرون روثها مقدسًا ونحن نذبحها ونأكل لحمها وكلما رأوا مسلمًا يفعل ذلك يقتلونه، ويغضب المسلمون فتقوم المعارك ويقتل فيها كل يوم العشرات والمئات».

«فاقترحت عليه خصوصًا وأن الحرب قد انتهت ودبت الحياة إلي الهند وبدأت تكون عادية، اقترحت عليه أن يجمع البلاد التي يسكنها غالبية من المسلمين في ناحية من نواحي الدولة المتشعبة الأطرف المتسعة الأرجاء ويؤلفوا دولة خاصة بهم لها كيانها ونظامها وعاداتها وتقاليدها ولا يكون بينها وبين الهند إلا علاقة الإخوة والجوار. وأخذنا نفكر في اسم لتلك الدولة فاقترحت أن يأخذ الحرف الأول من اسم كل بلد إسلامي حتي إذا اجتمعت الحروف أخذوا منها اسمًا عامًا للدولة الوليدة. وأخذ يذكر أسماء البلاد: بنجاب، إسلام أباد، كشمير، وهكذا.. وأخذنا حرفًا من كل بلد إسلامي فاجتمعت كلمة «باكستان» فقلت له علي بركة الله اذهبوا إلي مجلس الأمن أو هيئة الأمم بعد أن تتفقوا علي الانفصال والاستقلال الداخلي عن الهند، وألفوا حكومتكم ونظموا دولتكم واختاروا لها النظام الذي تريدون والطريقة التي تحبون أن تحكموا بها والله معكم ويعينكم».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ويظهر لنا من هذا الذي يرويه محمد كامل البنا علي لسان النحاس، أن زعيمنا نفسه كان صاحب فكرة فصل الباكستان، بل إنه، كما تقول الرواية، كان مشاركًا بالرأي في اختيار اسم الدولة الجديدة، ومع أن مثل هذه الدعوي تحتاج كثيرًا من التحقيق والتمحيص، فإننا أوردناها علي نحو ما وردت في المذكرات.

(28)

وقد احتفت مذكرات إبراهيم فرج بالحديث عن العلاقة بين الوفد وحزب المؤتمر الهندي، وإن كان إبراهيم فرج قدم رؤيته من منظور مختلف، ويقودنا التأمل فيما ترويه المذكرات إلي مدي الخسارة الجسيمة التي حققتها بلادنا باتجاه الثورة إلي تجاوز تراث الوفد في السياسة الخارجية ومحاولة إهماله والالتفاف عليه.

ويبدو إبراهيم فرج حريصا علي إثبات مدي وعي النحاس المبكر للإطار الذي كان ينبغي ألا تتعداه علاقته بنهرو في ظل حكم الثورة، ومن الجدير بالذكر أن نهرو نفسه كان واعيا تمام الوعي لطبيعة العلاقات الداخلية في مصر، ولهذا فإنه بحصافته قد اشترط ألا يزور مصر بدون أن يزور النحاس.

وقد أكدت مذكرات إبراهيم فرج علي حقيقة أن علاقة نهرو بالنحاس بدأت بعلاقة النحاس باشا نفسه بوالد نهرو، ومع هذا فإننا حتي الوقت الذي نشرت فيه مذكرات إبراهيم فرج لم نكن نسمع إلا طبول الصحافة الأحادية تقفز علي هذا كله للأسف الشديد، وتبدأ تاريخ العلاقات المصرية ـ الهندية من باندونج!!

يقول إبراهيم فرج:

«المرة الأولي التي اعتقلت فيها كانت سنة 1953 بسبب زيارة رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو للنحاس باشا في بيته في يوليو (تموز) سنة 1953:

«كان نهرو في لندن لحضور مؤتمر لدول الكومنولث البريطاني وطلب أن يمر بالقاهرة ويمكث عدة أيام بشرط أن يقابل النحاس باشا.. وطلب من سفير الهند في القاهرة تحديد موعد لهذه المقابلة وسفير الهند كان اسمه السردار بانيكار.. وقد عاملته عندما كنت وزيرا للخارجية بالنيابة وهو من تلاميذ غاندي ورجل وطني جدا.. فإذا به يتصل بي عن طريق أحمد قاسم جودة الصحفي ـ رحمه الله ـ الذي كان يعمل باستعلامات السفارة الهندية، ثم اتصل السفير بي أيضًا وأطلعني علي برقية نهرو فقلت له:

«أظن أن النحاس باشا سيعتذر.. فأنتم ترون أن الحكومة تحاربنا.. وسنسبب لكم متاعب، فقال لي: علي كل حال اسأل النحاس باشا».

«وأبلغت النحاس باشا بما دار بيني وبين بانيكار، وحدث ما توقعته فعلا.. فقد رفض النحاس باشا وقال لي: يجب أن نقنعه بشدة بأنه ليس من مصلحة العلاقات بين مصر والهند أن نتدخل بمثل هذا الشكل وتكون هناك زيارات، لأن النظام يعتبرنا خصومه وألغي الوفد وانتهي الأمر».

«فأبلغت قاسم جودة أن يخبر السفير باعتذار النحاس باشا وأسبابه.. فإذا بالسفير بعد يومين يتصل بي ويلقاني هنا في مكتبي ويطلعني علي برقية جاءت من نهرو، يقول فيها: إنه إذا لم يقابل النحاس باشا فلن يمر بمصر وسيسافر مباشرة إلي نيودلهي».

«فعدت للنحاس باشا وقلت له: إنه من غير المعقول بعد هذا ألا تقابل زعيم دولة كنهرو».

«فوافق وكنا يوم الإثنين وطلب النحاس باشا أن تكون المقابلة يوم الخميس الساعة ١١ صباحا في منزله بجاردن سيتي».

«عندما وصل نهرو لمطار القاهرة استقبلته نيابة عن النحاس باشا وأثني ـ قبل ركوبه السيارة ـ علي النحاس باشا، وكانت الحكومة استقبلته استقبالا رسميا.. وتوجه نهرو إلي فندق سميراميس، وبعد ذلك أقام بالسفارة الهندية».

«وجاء نهرو.. وكنا أربعة. نهرو وبانيكار والنحاس باشا وأنا توليت الترجمة.. ودار بين نهرو والنحاس باشا حديث ودي وتاريخي رائع.. أخذ النحاس باشا يسرد عليه علاقته بوالده موتيلال نهرو وكيف قابله في مؤتمر الصلح سنة ١٩١٩ و1920 عندما كان موتيلال مع غاندي..والنحاس باشا في وفد مصر.. وكانا يسكنان في فندق واحد وربطتهما علاقة طيبة ومودة.. وكانا يتلاقيان كل يوم في مؤتمر الصلح وفي اللجان وأحبه جدا، وكان موتيلال معجبا بالوفد وبسعد زغلول باشا ومأخوذا به..».

«وأذكر أن نهرو قال للنحاس باشا:

«أنا أعتبرك معلما لجيلين في الهند».

«ويقصد بهذا جيل والده وجيله هو».

(29)

وللمستشار طارق البشري عبارات مهمة في تفسير اهتمام النحاس باشا (والوفد معه) بالشأن الهندي:

«… فهو بلد مشارك لمصر في حركته الوطنية ضد الإنجليز في الفترة نفسها، وهو بلد يخوض معركة فتنة طائفية أنقذ الله مصر منها، وهو بلد يؤثر مصيره في مصير الاستعمار البريطاني بعامة، ولكن المثير للدهشة هو زيادة الاهتمام به عن الاهتمام بالسودان، حسبما يكشف الحديث في المذكرات عن شواغل النحاس اليومية في أمور السياسة، ولا أريد هنا أن أعيد ما ذكره النحاس عن الهند ولكني أشير لما ورد بالمذكرات عن الخلاف بين المسلمين والهندوس، وأدراك كل من محمد علي جناح زعيم المسلمين هناك وغاندي ونهرو لمنزلة الحركة الوطنية المصرية وأثرها المعنوي واحترامهم لها ولزعيمها وكذلك ما تشير إليه المذكرات من استغاثة المسلمين الهنود بالنحاس من اضطهاد الهندوس لهم، وشكاية محمد علي جناح من ذلك وطلبه من النحاس التدخل بنفوذه لدي غاندي ونهرو ليبذلوا سعيهم لوقف أسباب الشكاية، وما تشير إليه المذكرات أيضًا من اهتمام النحاس بذلك كله وبذله ما وسعه الجهد لمساعدة التوجه الحدودي للحركة الوطنية الهندية ولمساعدة المسلمين هناك، ثم اقتراح النحاس علي محمد علي جناح أن يستقل المسلمون بدولة لهم إن لم يكن بد من ذلك، ويجمع النحاس الوفد لمناقشة هذا الأمر ولتأييد الانفصال، كل هذه الأخبار والمواقف بدت لي هامة أردت التأكيد عليها في هذه الدراسة (تطالع المذكرات علي وجه الخصوص أيام 2 أغسطس 1926 و24 نوڤمبر 1938 و17 و20 و22 يناير و8 فبراير 1939، و17 مايو و18 و20 و21 سبتمبر، و11 و12 و19 أكتوبر 1940 و1 و2 و3 نوڤمبر 1941، ثم اقتراح النحاس علي محمد علي جناح تأليف دولة خاصة باسم باكستان في المذكرات التالية لليوميات، ص 910)، ثم زيارة نهرو للنحاس في معزله بعد الثورة 23 يوليو».

(30)

ونعود إلي إبراهيم فرج الذي يلقي بأضواء علي بعض التفاصيل القديمة في علاقة الوفد بحزب المؤتمر الهندي الحاكم فيقول:

«إن غاندي نفسه في سنة ١٩٣٢ عند رجوعه أو مجيئه ـ لا أذكر بالتحديد ـ من مؤتمر المائدة المستديرة في لندن الذي انتهي بالفشل أبرق له النحاس باشا وهو علي ظهر الباخرة التي أقلته يدعوه للنزول في مصر ودعاه لحفلة شاي.. فرد غاندي بالموافقة.. وأعد له النحاس باشا تورتات لا توجد بها المواد التي لا يأكلها غاندي.. تورتة تفاح.. تورتة جوز هند.. ودعا الهيئة الوفدية لها.. لكن الإنجليز رفضوا أن ترسو المركب في الميناء ورفضوا نزول غاندي، وكانت المراكب تحمل التموين إليها في البحر.. فأرسل النحاس باشا وفدا يضم النقراشي وأحمد حمزة وقاسم جودة وأنا لمقابلة غاندي علي المركب فسمح الإنجليز لنا بزيارة غاندي».

«وتصادف أن كان هذا اليوم يوم صمت لا يتكلم فيه غاندي أبدا، وكان له كل أسبوع يوم صمت، فالنقراشي باشا ـ رحمه الله ـ كان يكتب له بالإنجليزي علي ورقة، ويرد غاندي كتابة دون أن يتكلم، كتب له إننا نحييك ونأسف جدا أنك لا تستطيع النزول، فكتب غاندي أنا أحييكم وبلغوا تحياتي إلي النحاس باشا وإلي مدام زغلول ـ يقصد زوجة سعد باشا زغلول ـ وأنا أحيي جهادكم».

«إلي أن طلب منا الإنجليز النزول.. وكان غاندي يجلس علي ظهر الباخرة وليس في كابينة فاخرة وهو يلبس الرداء الذي يكاد يغطي جسمه ورأسه عار.. وعدنا.. والنحاس باشا ـ رحمه الله ـ أتحفنا بتوزيع هذه التورتات».

ثم يروي إبراهيم فرج قصة زيارة أنديرا غاندي مع والدها:

«وفي سنة 1933 جاء نهرو إلي مصر ومعه ابنته أنديرا غاندي.. كانت فتاة لطيفة في نحو السادسة عشرة وقتها.. وزار بيت الأمة ـ بيت سعد باشا ـ والتقطت لهما صورة مع النحاس باشا أخذها نهرو».

(31)

ويجب علينا، في هذا الفصل، أن نلخص سريعا سياسة النحاس تجاه الحرب الكورية التي اتخذ منها موقف الحياد بعدما ظهر له أنه الموقف الأليق بمصر المستقلة:

في ٢٥ يونيو ١٩٥٠ عبرت قوات كوريا الشمالية خط العرض 38 الفاصل بينها وبين كوريا الجنوبية، وبدأت حرب كوريا الشهيرة، ودعت أمريكا مجلس الأمن للانعقاد، وقد أصدر هذا المجلس قراره، بإدانة عدوان كوريا الشمالية علي كوريا الجنوبية، وكانت روسيا ممتنعة عن حضور اجتماعاته، وصوتت مصر، وكانت عضوا غير دائم بمجلس الأمن، لصالح القرار بناء علي تعليمات النحاس.

في ٢٧ يونيو ١٩٥٠ تقدمت أمريكا باقتراح لمجلس الأمن لتقديم المساعدات إلي كوريا الجنوبية، وبدأت أمريكا ترسل قوات عسكرية إلي كوريا الجنوبية للاشتراك في القتال، فأرسل النحاس تعليماته بالامتناع عن التصويت علي الاقتراح.

في ٣٠ يونيو ١٩٥٠ دعا النحاس إلي مؤتمر صحفي في فندق سان استيفانو بالإسكندرية وأملي بيانه للصحفيين بموقف الحكومة وحيادها في النزاع وقال:

«لو أن مندوب مصر استطاع الاشتراك في التصويت لأعلن امتناع مصر عن إعطاء صوتها، وذلك للسبيين الآتيين:

1 ـ أن النزاع المعروض ليس في حقيقة الأمر إلا مظهرا جديدا من مظاهر الخلاف المستحكم بين الكتلتين الغربية والشرقية، ذلك الخلاف الذي يهدد سلام العالم وأمنه.

2 ـ أن هناك قضايا اعتداء علي شعوب وعلي سيادة دول أعضاء في هيئة الأمم المتحدة ووحدة أراضيها وقد رفع هذا الاعتداء إلي الهيئة (مجلس الأمن) فلم يعمل علي وضع حل له كما يعمل الآن في حالة كوريا.

(32)

وننتقل بعد الهند وكوريا إلي علاقة النحاس والوفد بثورة إيران التي قادها الزعيم الإيراني الكبير محمد مصدق، يروي النحاس باشا في مذكراته عن عام 1941 كيف بدأت معرفته بالزعيم الإيراني الدكتور محمد مصدق:

«حمل إليّ البريد رسالة من طهران عاصمة إيران عليها توقيع [دكتور محمد مصدق] ولم أكن قد عرفته من قبل، ولا سمعت به، وكانت رسالة تحمل عبارات طيبة عن زعامة مصر للبلاد الإسلامية، وعن اقتداء جميع البلاد الشرقية بها والحذو حذوها في الجهاد ومقاومة الاستعمار، كما جاء فيها أنه ألف في بلاه حزبًا يناهض به الاستعمار ويقاوم حكم الفرد، وأنه يطلب إمداده ببعض الآراء والاقتراحات التي تنفع في هذا السبيل».

«ولقد بعثت في طلب السيد مهدي رفيع مشكي باعتباره إيرانيًا، لأساله إن كان يعلم عن مرسل الرسالة شيئًا، ولما جاء أخبرني أن [مصدق] رجل متعلم في أوربا وهو شديد المراس قوي الشكيمة وكان دائمًا يتتبع خطوات سعد زغلول باشا في تصرفاته ويتخذه قدوة له، ويري أن الوفد المصري هو الهيئة الوحيدة في جميع الهيئات التي عرفها وقرأ عنها التي تعمل بنظام وتجاهد بإيمان».

«ويري [مهدي] أن أرد عليه ردَا يناسب القام فهو رجل له منزلته بين مجاهدي إيران وله مستقبل كبير، شكرت له هذه المعلومات وانتويت أن أكتب للدكتور مصدق رسالة ردًا علي رسالته الرقيقة».

«حررت رسالة مطولة إلي الدكتور مصدق بالفرنسية تضمنت شكري علي رسالته الطيبة وإعجابي بما عمل في بلده، وزكيت تأليفه حزبًا يطالب بحقوق بلاده، ونصحت له أن يكون واضحًا صريًحا مع المواطنين، قوي العزيمة مع المحتلين، سوط العذاب علي كل من يعتدي علي بلاده، ولا يجامل لأن المهادنة والمجاملة لا تجدي نفعًا ولا توصل إلي حق، وأن الثبات والمثابرة والتصميم كل هذا هو الذي يؤدي إلي النجاح».

«وأرسلت نسخة من قانون تأليف الوفد ولائحته الداخلية ونظامه الذي يسير عليه وأبديت استعدادي لبذل كل مساعدة ممكنة له في سبيل نجاح مشروعه، ورجوت أن تكون هذه الرسالة فاتحة اتصال دائم بيننا، كلما جد أمر أو عرض ما يوجب التشاور فيه».

(33)

ويقدم لنا إبراهيم فرج في مذكراته تفصيلات أخري عن هذه العلاقة تجعلنا نفخر بوطنية النحاس العظيم، وتوجهاته السياسية الناضجة علي المستوي الدولي، وها نحن نري النحاس أسبق السياسيين في العالم كله إلي تأييد الثائر الإيراني العظيم الدكتور مصدق في إجراءاته الإصلاحية في إيران، بل إنه ـ وهذا هو وجه العظمة التي لم تعرفها مصر بعده ـ يفاجئ العالم ومصدق نفسه بأن يعقد معاهدة مع مصدق يشجعه بها، ويضعها في وجه خصومه حتي يسير في طريقه إلي النهاية وينفذ خطته، وقد كان مصدق هو الآخر علي مستوي الموقف فقطع علاقة إيران بإسرائيل بمجرد عودته إلي إيران، ولنقرأ هذه التفاصيل المشرفة التي يتقاسم صاحب المذكرات وكاتبها روايتها:

«حسنين كروم: أنا أذكر أن إنجلترا بعد تأميم البترول أعلنت عن تحركات عسكرية لقواتها، وصرح عدد من قادتها بضرورة مهاجمة إيران ونشرت أخبارًا بأنها ستستخدم قواعدها العسكرية في منطقة قناة السويس لمهاجمة إيران استنادا إلي معاهدة سنة ١٩٣٦.. لكن الحكومة الوفدية سارعت بإعلان موقفها.. وهو أنها لن تسمح بأي حال من الأحوال ولأي سبب بأن تستخدم بريطانيا قواعدها في قناة السويس لمهاجمة إيران. ولم تكن المعاهدة ألغيت رسميا وقتها، بل تطرفت وأعلنت أنها لن تسمح بمرور أي قوات بريطانية في قناة السويس إذا كانت في طريقها لمهاجمة إيران حتي ولو كانت قادمة من قبرص أو مالطة.. فهل كانت الحكومة مستعدة لمواجهة نتائج هذا الموقف لو أن إنجلترا هاجمت إيران فعلا انطلاقا من مصر؟ أم أنها كانت تهوش؟».

«إبراهيم فرج: نعم كانت الحكومة جادة، بل إن التحدي كان واضحا علي تلك التصريحات التي أدلي بها النحاس باشا ونشرت في كل أنحاء العالم.. لقد أعلنا وتحدينا علنا، أننا سنمنع بالقوة مرور أية سفينة حربية في قناة السويس إذا كانت متجهة إلي إيران لمهاجمتها.. ولم نكن نهوش.. كنا علي استعداد لمواجهة إنجلترا.. كما كنا علي استعداد لمواجهتها عندما ألغينا معاهدة 1936 رسميا وبدأنا حرب القنال ضد قواتها.. والاستعداد لم يكن يتمثل في إعداد جيوش وأسلحة نواجه بها إنجلترا.. إنما كان استعداد وروح الشعب المصري لمقاومة الإنجليز ومواجهتهم فيما لو استخدموا أراضينا لمهاجمة إيران.. لم نقبل مهما كان الثمن.. أن تكون مصر نقطة انطلاق للاستعمار يهاجم منها شعبا آخر يكافح في سبيل حقوقه».

«وأنا أسألك بدوري: عندما قامت ثورة سنة 1919، هل كنا نملك الجيوش والأسلحة التي نواجه بها قوات الإمبراطورية البريطانية أكبر وأقوي قوة عسكرية في العالم وقتها؟».

«لا.. ومع ذلك واجههم شعب مصر وواجه معهم الحكومة القائمة والملك.. أما في عام 1951 فكان الشعب والحكومة صفا واحدا ضد الإنجليز. ثم لا ننسي أننا نمثل الشعب ولم يكن ممكنا أن نتغاضي أو نقبل أن تكون مصر مركز عدوان ضد الشعوب الأخري. نحن لم نهوش كما تظن أو كما تتساءل.. والدليل أن مصدق عندما جاء لزيارة القاهرة سنة 1951 ذهبت إلي مطار القاهرة لاستقباله نيابة عن النحاس، لأنه كان يسير علي خطة ألا يستقبل بنفسه أي زائر في المطار.. إنما كان يرسل مَنْ ينوب عنه.. وقد أنابني في استقبال الأمير عبد الإله الوصي علي العرش في العراق».

«وكان مصدق في الفترة التي قضاها بيننا ضيفا معززا مكرما وصحبه في الزيارة ابنه وطبيبه الخاص ووزير البترول الإيراني. وكان النحاس باشا يزوره يوميا.. وعندما تزايدت التصريحات البريطانية حدة ضد مصدق في أثناء وجوده في مصر.. اقترح النحاس باشا أن نوقع مع إيران معاهدة تحالف وصفها الإنجليز بأنها معاهدة دفاعية هجومية.. فرد النحاس باشا بأنه مع مصدق لآخر المدي».

«قبيل سفر مصدق بيومين.. قال لنا النحاس باشا: إن تأييدنا لمصدق لا يصح أن يكون مجرد تأييد شفهي ومجرد كلام.. وهو سيسافر بعد يومين ولا بد أن يتحول تأييدنا لإيران إلي معاهدة نضعها في وجه الخصوم جميعا، ونشجع بها الرجل حتي يسير في طريقه إلي النهاية وينفذ خطته».

«ولما أبلغت مصدق بهذا كاد أن يطير من الفرح وقال لي عبارة ما زلت أذكرها وهي: «إن النحاس باشا كثير عليكم».. قالها بالفرنسية».

«فقلت له: لا.. لأن هذه قضية مشتركة بيننا وبينكم.. كرامة الإنسان وحقوق الشعوب وثروة الشعب الإيراني التي تضيع عليه ويجب أن تعود إليه.. فقابلني في غرفتي بوزارة الخارجية».

«اتصلت بالدكتور وحيد رأفت وأبلغته بما طلبه النحاس باشا وأعطيته النقاط الأساسية التي يراد وضعها في المحالفة كما أملاها النحاس باشا. وكان النحاس باشا ومصدق قد طلبا وضعها.. وساد الاعتقاد أن مصر ستدافع عن إيران كما يدافع عنها مصدق».

«وأعدت المعاهدة علي عجل ولكن بإتقان معروف عن العلامة المدقق وحيد رأفت.. واستغرق تحضيرها أربعا وعشرين ساعة.. وطبعت علي أوراق وزارة الخارجية وعملت البروتوكولات اللازمة لها. وفي حفلة صغيرة وقع عليها النحاس باشا ومصدق.. وحضرت هذا التوقيع الذي تم قبل مغادرة مصدق القاهرة بيوم واحد».

*    *    *

وبعد كل هذا يقول إبراهيم فرج:

«وأنا أعترف الآن أنني لم أدرك أن هذا اللقاء بين النحاس باشا ومصدق يمكن أن يغيظ الإنجليز إلي هذا الحد إلا بعدما قرأت مذكرات إيدن».

(34)

وربما كان من الضروري هنا أن نشير إلي حقيقة مهمة، وهي أن موقف النحاس باشا النبيل من ثورة مصدق في إيران كان هو الذي دفع مصدق وحكومة إيران إلي الوقوف ضد إسرائيل، بل إلي قطع علاقة إيران بها علي الرغم من أن الشاه محمد رضا بهلوي كان قد استجاب للضغوط واعترف بإسرائيل، ولنقرأ ما يرويه حسنين كروم علي لسان إبراهيم فرج عن موقف النحاس من دفع مصدق إلي التضامن ضد الصهيونية :

«… مصدق هو الذي قال للنحاس: نريد أن نسير في خط سياسي واحد.. وأن الدول الإسلامية يجب أن تتضامن في وجه الصهيونية.. وردا علي هذا الكرم الذي تفضلت به أعلن قطع علاقة إيران بإسرائيل. فالنحاس باشا لم يكن ليتدخل بهذا الشكل في شئون إيران.. ومصدق استخلص بأن من الواجب علي إيران بالإضافة لكونها بلدا إسلاميا أن تقف في وجه تيار الصهيونية. وثانيا ردا علي المجاملة التي أبداها النحاس باشا نحو إيران وهي أسعدته وخدمته كثيرًا.. ودعمت موقفه في مواجهة الدول الغربية.. والذي أطاح بمصدق ليس الإنجليز.. إنما المخابرات الأمريكية أطاحت به وأعادت الشاه محمد رضا بهلوي.. لأن أمريكا كانت تريد وراثة نفوذ إنجلترا في المنطقة وتريد السيطرة علي بترول إيران».

*    *    *

علي هذا النحو يمكن لنا القول باطمئنان إن النحاس باشا بدأ بفطرته السياسية النقية، وبخبرته وحنكته اتجاهًا جديدًا ومبكرًا في مقاومة الاستعمار الجديد متمثلًا في الاستعمار الاقتصادي الذي كانت صورته قد بدأت تتضح في الأفق.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com