الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (18)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (18)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل الثامن عشر

الفصل الثامـن عشر

قضية صيانة الديموقراطية

(1)

كان النحاس مؤمنا أشد الإيمان بالديمقراطية، ولم يتنازل عن هذا الإيمان، بل إن هذا الإيمان هو الذي جعل النحاس يعاني من ألاعيب غير الديمقراطيين الذين كانوا ينتهزون أي فرصة للانقضاض علي الديمقراطية، وكان امتناع النحاس عن مشاركة أحزاب الأقلية إيمانا منه بالديمقراطية بعيدا عن مزايدات الجماعات السياسية.

وقد كانت هناك محاولات عديدة لإشراك الوفد في وزارة قومية، لكنها قوبلت جميعا من النحاس بالرفض، ومن هذه المرات:

– في نهاية 1929 (قبيل وزارة عدلي يكن باشا الأخيرة).

– في نوڤمبر ١٩٣٥ (في أثناء وزارة محمد توفيق نسيم).

– في يونيو 1940 (أي قبيل تولي حسن صبري الوزارة).

– في أغسطس ١٩٤١ (في أثناء وزارة سري باشا).

– في فبراير 1942 (بعد إقالة حسين سري باشا).

– في سبتمبر 1946 (أي في أثناء وزارة صدقي الثالثة).

– في ديسمبر 1948 (أي قبيل وزارة إبراهيم عبد الهادي).

وكان الوفد في كل هذه المرات يعتذر عن عدم القبول إلا أن يحل البرلمان القائم وأن تجري انتخابات حرة علي يد وزارة محايدة.

وأخيرا قبل الوفد الاشتراك في وزارة ائتلافية في يوليو ١٩٤٩، وكان ذلك تمهيدا لعودة الوفد إلي الحكم منفردا في يناير ١٩٥٠.

(2)

وسوف نتناول في هذا الفصل مواقف النحاس من قضية الديمقراطية من خلال إضاءة بعض مواقفه في بعض القضايا المتصلة بجوهر الديمقراطية، كي نكون صورة عن مفهوم واسع، ذلك أن مثل هذا الكتاب لا يتسع لتقصي مواقف النحاس الديمقراطية، ومواقفه من الديمقراطية ومن التوجهات غير الديمقراطية، بل من التصرفات غير الديمقراطية أيضًا.

من الإنصاف لأنفسنا أن نشير إلي إيماننا بحقيقة أن موقف النحاس من قضية الديمقراطية يتصل أيضًا بما تحدثنا به في فصول أخري عن إيمانه باستقلال القضاء كصمام أمان للديمقراطية في ظل عجز أقطاب النظام الملكي (من الملك ومعاونيه) عن الحفاظ علي الديمقراطية سواء أكان هذا العجز طبيعيًا أم مصطنعًا، كما يتصل بهذه الفكرة الحديث عن فكرة الدولة المدنية في عقلية النحاس وممارساته، كما يتصل بهذه الفكرة الحديث عن موقفه من الاتجاهات الفاشية.

(3)

وربما كان من المفيد أن نتأمل في بعض معارك النحاس من أجل الديمقراطية.

ونبدأ بالإشارة إلي أن النحاس باشا واجه بزعامته وأدائه أكبر انقلابين دستوريين عرفتهما مصر في عصر الليبرالية، وهما انقلابا محمد محمود (1928 ـ 1929) وإسماعيل صدقي (1930 ـ 1933)، وكان أداؤه في مواجهة هذين الانقلابين متميزا وقادرا علي الانتصار لحقوق الشعب، وعلي الانحياز للدستور، وعلي العمل من أجل ديمقراطية حقيقية.

وعلي الرغم من أن النحاس والوفد قد أثخنا بالجراح في هذين الانقلابين، فقد كان الانتصار حليفهما علي المدي الطويل، إذ توقف مستشارو القصر ورجال الحاشية وأنصار الاستبداد عن المشورة بالانقلابات الدستورية وتنفيذها، حتي إن فترة الملك فاروق بكل ما فيها من تجاوزات لم تشهد تعطيل الدستور، ولا إيقاف العمل به، ولا إلغاء الدستور، ولا إصدار دستور جديد.. وهو ما حدث في الانقلابين اللذين قاد النحاس كفاح الشعب فيهما.

صحيح أن الملك فاروق مضي في أكثر من سبيل آخر كي يحرم الأغلبية من تولي الحكم، ومن تسيير الأمور (وذلك فيما جري في انتخابات 1938 و1944)، لكن الحفاظ علي الدستور في حد ذاته كان مكسبًا تحقق بفضل كفاح الشعب وبفضل انتصار النحاس في كفاحه المستميت من أجل الديمقراطية ومن أجل الدستور.

ومن حق القارئ أن نصور له بعض الآليات التي لجأ إليها النحاس في كفاحه من أجل الدستور، ومن الإنصاف أن نشير إلي مدي ما اتسمت به هذه الاليات من الذكاء، وما حققته من توكيد حب الشعب للاستقلال وللدستور وللديمقراطية ولحكم نفسه بنفسه، ولفرض إرادته في اختيار ممثليه وحكامه.

وسوف أضمن ما أصور به هذه الآليات بعض تعليقات المؤرخ الأستاذ عبد الرحمن الرافعي الذي عرف بتحامله علي الوفد، بأكثر مما عرف بانحيازه له، متخذًا من هذه التعليقات دون غيرها ما توحي به من دلالة بالغة علي مدي نجاح النحاس باشا في إقناع القوي الوطنية بنبل كفاحه، واستقطابها نحو هدفه السامي.

(4)

وقد وصف الأستاذ عبد الرحمن الرافعي إقالة الملك فـؤاد للنحاس في يونيو 1928 وصفا فظيعًا منددا بها وبدلالتها حتي إنه قال:

«وهذه الإقالة لم يستخدمها ولي الأمر حتي قبل إعلان الدستور إلا حين أقال الخديو توفيق نوبار باشا سنة 1888، و(حين) أقال الخديو عباس مصطفي فهمي باشا سنة 1893 لاعتلال صحته، وهي أول إقالة لرئيس وزارة يتمتع بثقة البرلمان في عهد الدستور، وكان الظن أن الدستور يحول دون هذا الانقلاب، ولكن تبين أن السراي كانت مصرة علي أن تكون هي مصدر السلطات، رغم إعلان النظام الدستوري، وأنها إنما تتخذ المناسبات للوصول إلي الهدف وتستعين بنفر من طلاب المناصب فتختار منهم مَنْ تشاء ليتم الانقلاب علي أيدي طائفة منهم».

«بُنيت الإقالة في هذه المرة علي ما أصاب الائتلاف من صدع شديد، وهذا التسبيب يلقي الضوء علي الأسباب الحقيقية لاستقالة الوزيرين الدستوريين وزميلهما الوفدي الذي انضم بعد ذلك إلي حزبهما، ثم زميلهم الرابع المستقل، ويبين أن هذه الاستقالات كانت مدبرة تمهيدا لإقالة الوزارة واستئثار الأقلية بالحكم، وهذا الوضع هو ولا ريب إهدار للدستور ولسلطة الأمة، لأن معناه أن الأغلبية لا يجوز لها أن تلي الحكم إلا مؤتلفة مع الأقلية، مرضيا عنها منها، وإذا اختلفت معها أهدرت حقوق الأغلبية واستأثرت الأقلية بالحكم، وهذا معناه تغليب الحكم المطلق والزراية بهذا الشعب، والقضاء علي النظام الديمقراطي في البلاد».

(5)

ربما نتوقف هنا لنشير إلي أن العضوين الدستوريين اللذين يشير إليهما أستاذنا الرافعي هما محمد محمود (وكيل الحزب) الذي استقال في 17 يونيو، وجعفر والي الذي استقال في 19 يونيو.

أما الوفدي الذي كانت استقالته من الوزارة إعلانًا صريحًا بانضمامه إلي الأحرار الدستوريين فهو أحمد خشبة الذي استقال في 21 يونيو.

وأما المستقل الذي كان آخرهم في الاستقالة، إذ استقال في 24 يونيو، فهو إبراهيم فهمي كريم الذي شارك بعد ذلك في أكثر من وزارة أقلية.

ونعود إلي نص الأستاذ الرافعي:

«وفي الحق إن إقالة وزارة تتمتع بثقة البرلمان أمر لا يتفق مع روح الدستور ولا مع الأوضاع البرلمانية الصحيحة، لأن النظام الدستوري أساسه أن تتولي الحكم وزارة تمثل إرادة الأمة التي تعبر عنها في انتخابات حرة، والقاعدة أن تستقيل الوزارة أو تقال إذا هي فقدت ثقة مجلس النواب (المادة 65 من الدستور)».

«وأما أن تقال وهي متمتعة بثقة المجلس أي بثقة الأمة، فهذا يُعد انقلابًا في نظام الحكم «Coup d’Etat»، وخروجا علي النظام الديمقراطي، حقًّا إن لولي الأمر أن يتعرف رأي الأمة بإجراء انتخابات جديدة، وله في هذه الحالة أن يقيل الوزارة، ولكن هذا علي شرط أن يكون الغرض من الإقالة هو الرجوع حقًّا إلي الأمة بواسطة انتخابات حرة لا إكراه فيها ولا تزييف، أما أن يكون الغرض من إقالة الوزارة الدستورية التخلص من حكم الدستور فحسب، إما بوقف العمل به أو بتزييف الانتخابات العامة، فهذا ولا شك إهدار للدستور، وخروج علي روحه وأوضاعه، وفرض للحكم المطلق علي البلاد».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ويدين الأستاذ الرافعي موقف الأحرار الدستوريين فيقول:

«… كان حزب الأحرار الدستوريين هو محور هذا الانقلاب، وإن المرء لتأخذه الدهشة من أن حزبًا لم يكن له في البرلمان سوي ثلاثين نائبًا علي أكثر تقدير من مجموع 214 نائبًا يستأثر بالحكم غير مكترث للأوضاع الدستورية ولا لإرادة الأمة، وتزداد دهشته إذا لاحظ أن الثلاثين مقعدا التي كانت لهذا الحزب لم ينل معظمها إلا بسبب الائتلاف، إذ لم ينل في انتخابات 1924 سوي 6 مقاعد».

(6)

وقبل هذا فقد وصف الأستاذ عبد الرحمن الرافعي تآمر الأحرار الدستوريين بقيادة محمد محمود علي وزارة الائتلاف التي رأسها النحاس باشا في 1928 وصفا قاسيا فقال:

«بدأ الائتلاف يتعثر في سيره في عهد وزارة النحاس الأولي؛ ذلك أن ثمة اتفاق انعقد بين دار المندوب السامي البريطاني وحزب الأحرار الدستوريين والسراي علي تعطيل الدستور».

«وكانت وجهة نظر السياسة البريطانية أن عدم قبول مشروع تشمبرلن جريمة تستحق عليها الأمة حرمانها الدستور، ولم تكن الحلول التي انتهت بها أزمة الجيش، ومذكرة 4 مارس سنة 1928 وأزمة قانون الاجتماعات، لتصرف السياسة الاستعمارية عن عقاب الأمة علي رفض ذلك المشروع، أما السراي فكانت وجهة نظرها أن الدستور يحول دون تدخلها في الحكم وانفرادها به، فكانت تترقب الفرص لتعطيله، وكانت تعلم أن الحكومة البريطانية لا تعترض علي أي انقلاب يدبر ضد الدستور؛ إذ كانت ناقمة من الأمة عدم إقرارها مشروع المعاهدة، وأما الأحرار الدستوريين فهدفهم الوحيد هو الوزارة والمناصب، وإذا رأوا أنهم لا يصلون إلي احتكار هذه المناصب وإرضاء جميع أعضاء حزبهم عن طريق الدستور، فليصلوا إليها عن طريق تعطيل الدستور، وفي الحق أنهم أسرفوا في أطماعهم غاية الإسراف، لأنهم كانوا مشتركين فعلًا في وزارة النحاس، ولهم فيها أربعة مقاعد بمن انضم إليهم في الوزارة، فماذا كانوا يبغون أكثر من ذلك؟ولكنها الأطماع الشخصية لا تقف بهم عند حد، وهكذا كان تاريخهم القديم والحديث».

«وكانت وزارة النحاس قائمة ومؤيدة بثقة البرلمان، ولا يصح في هذه الحالة إقصاؤها عن الحكم، فكان الأمر يقتضي البدء باستقالة الوزراء الأحرار الدستوريين واحدا بعد الآخر، وبذلك يتصدع بناء الوزارة من ناحية تشكيلها الائتلافي، فتتخذ السراي من هذا التصدع وسيلة لإقالة الوزارة والتخلص منها من غير طريق البرلمان».

«وقد علم الأحرار الدستوريون أن السراي راغبة في استحداث الأزمة، فاتفقوا معها علي إنفاذ الانقلاب ضد النظام الدستوري، وبدأ اتجاه السراي إلي استعجال الأزمة من تعطيلها إمضاء المراسيم الخاصة بالحركة الإدارية، وكان تعطيل المراسم التي يقررها مجلس الوزراء عادتها (الضمير يعود علي السراي) التقليدية لإظهار رغبتها في إسقاط الوزارة، وكانت كلمة السر للمستوزرين، لكي يعدوا عدتهم ويجمعوا صفوفهم ويدبروا مكايدهم لإسقاط الوزارة المتمعتة بثقة البرلمان ليحلوا محلها علي أنقاض الدستور وسلطة الأمم».

(7)

وفي مقابل هذا فقد استطاع النحاس باشا أن يحشد نواب الشعب من خلفه في مجابهة الانقلاب الدستوري، وعلي عادة القانونيين فإن النحاس رأي أن يجتمع الشيوخ والنواب من أعضاء البرلمان في اليوم التالي لفترة الشهر التي حددت لتأجيل انعقاد البرلمان، وهو يوم السبت 28 يوليو 1928، ومن أجل هذا اجتمع النواب الوفديون في النادي السعدي في الثلاثاء السابق علي هذا السبت (وهو يوم الثلاثاء 24 يوليو) وأصدروا البيان التالي:

نحن شيوخ ونواب الأمة المصرية الموقعين علي هذا نعلن ما يأتي:

«من حيث أن كلا من مجلسي الشيوخ والنواب قرر بجلسة يوم الخميس 28 يونيو سنة 1928 أن يجتمع من تلقاء نفسه في يوم السبت 28 يولية سنة 1928 الساعة السادسة مساء».

«ومن حيث أن هذا القرار ما زال قائما ولا يؤثر فيه ما أقدم عليه الوزراء من استصدار الأمر بحل المجلسين وتعطيل بعض مواد الدستور لأن هذا باطل بطلانا أصليا لمخالفته لدستور البلاد».

«ومن حيث أننا أقسمنا اليمين علي احترام الدستور الذي هو حق الأمة القدس».

لـذلـك

«سيجتمع المجلسان في يوم السبت 28 يولية سنة 1928 الساعة السادسة مساءً تنفيذًا لأحكام الدستور».

القاهرة في 24 يولية سنة 1928

(8)

ولما كانت الحكومة قد أغلقت أبواب البرلمان وشمعتها (علي حد التعبير الشائع علي ألسنة المصريين وهو يعني وضع أختام بالشمع الأحمر تحريزًا للشيء، وإثباتًا لأن كائنًا مَنْ كان هو الذي فض هذه الأختام بالقوة)، فقد رأي أعضاء الهيئة الوفدية أن يطلبوا من رئيس الوزراء (باعتباره وزيرًا للداخلية) رسميا أن يفتح القاعات.

وقد كتب الأستاذ ويصا واصف رئيس مجلس النواب في خطابه:

«حضرة صاحب وزير الداخلية

حيث أنه بتاريخ 28 يونية سنة 1928 صدر مرسوم بتأجيل انعقاد البرلمان لمدة شهر ينتهي في 28 يوليه سنة 1928.

وحيث أنه في الفترة بين هذين التاريخين أغلق رجال البوليس قاعة اجتماعات مجلس النواب وأخذوا مفاتيح البرلمان. وبما أن المرسوم الذي صدر بحل مجلسي الشيوخ والنواب وتعطيل اجتمعاتهما مدة ثلاث سنوات مرسوم باطل بطلانا أصليا لمخالفته مخالفة تامة لنصوص الدستور.

وحيث إن اجتماع البرلمان سيحصل في 28 يوليه سنة 1928 طبقًا للدستور فلذلك ألتمس من دولتكم صدور الأمر بفتح قاعة مجلس النواب حتي يجتمع الأعضاء طبقًا للدستور في يوم 28 يولية المذكور».

وتفضلوا بقبول فائق احترامي.

(9)

وعلي الرغم من أن منصب رئيس مجلس الشيوخ كان شاغرا (بسبب وفاة رئيس المجلس حسين رشدي باشا قبيل تشكيل النحاس باشا لوزارته) فإن وكيل المجلس القائم بعمل الرئيس قد تصدي لمسئوليته بشجاعة فائقة:

وكتب الأستاذ محمود بسيوني وكيل مجلس الشيوخ:

«حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية

بتاريخ 28 يونيه سنة 1928 صدر مرسوم ملكي بتأجيل انعقاد البرلمان شهرًا نهايته 28 يوليه 1928، وحيث إنه صدر بتاريخ 19 يوليه سنة 1928 مرسوم آخر بحل مجلس النواب والشيوخ ثلاث سنوات يصح تجديدها. وحيث أن المرسوم المذكور باطل بطلانا أصليا لمخالفته لأحكام الدستور المصري.

وحيث إنه وإن جاز حلّ مجلس النواب في بعض أحوال خاصة لم تتوفر إلي الآن وبشروط معينة لم يتحقق واحد منها، فإن مجلس الشيوخ لا يمكن حله مطلقا بمقتضي الدستور المصري المقدس.

وحيث إن بطلان مرسوم الحل بطلانًا جوهريا يجعله عديم الأثر القانوني، وقد علمت أن دولتكم أصدرتم أمرا بغلق المكان المعد لمجلس الشيوخ وختم أبوابه بالشمع الأحمر».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وتفضلوا بقبول فائق احترامي.

وكيل مجلس الشيوخ

محمود بسيوني

(10)

وكان من الطبيعي والمتوقع أن يتغطرس محمد محمود باشا في إجابته علي هاتين الرسالتين البرلمانيتين وأن يزيد من تحصين البرلمان كيلا يمكن اقتحامه، وأن يسد الطرق الموصلة إليه.. إلخ.

وهكذا لجأ النواب إلي الحل البديل الذي لجأوا إليه من قبل عندما اجتمع برلمان 1925 في فندق الكونتيننتال علي عهد الزعيم سعد زغلول، وفي هذه المرة وقع اختيار النواب علي دار مراد بك الشريعي (وعنوانها: 93 شارع محمد علي: الذي هو الآن شارع القلعة) وصدر عن مجلس النواب بيان لا ينقصه العقل، ولا تنقصه الحماسة:

«نظرا لأن الوزارة حالت بقوة الجيش والبوليس دون اجتماع البرلمان في دارة اجتمع كل من مجلسي الشيوخ والنواب بدار آل الشريعي بشارع محمد علي في الساعة السادسة من مساء السبت 28 يوليه سنة 1928، وصادق كل منهما علي ما يأتي:

«لقد جاهد الشعب المصري من نصف قرن مضي في سبيل الدستور الذي هو حقه المقدس حتي ناله فكان أول ثمرة لجهاد متتابع وتضحيات متوالية، وابتدأت الأمة تعيش في ظله عيشا سعيدا مرضيا، وتسير في طريق الحياة المطلقة بعد أن كفل لها الاشتراك العملي في إدارة شئون البلاد والإشراف علي وضع قوانينها ومراقبة تنفيذها، وأصبحت تحس في نفسها شعور الراحة والطمأنينة علي حاضرها ومستقبلها، مع الاحتفاظ بروحها القومية والإبقاء علي صفاتها ومميزاتها التي هي ميراثها القومي العظيم».

«وبينما مجلسا الأمة، وهما مظهر سيادتها وعنوان سلطانها، يعملان لإصلاح ما أفسده الماضي وتطهير أداة الحكم مما اعتراه بسبب الحكومات المطلقة التي حكمت مصر قبل الدستور أو أثناء تعطيله سنتي 1925 ـ 1926 والإشراف علي ماليته وفحص أبواب ميزانيتها ومراقبة حكومتها ووضع التشريع الصالح لها، وصيانة حقوقها وضمان سيادتها والنهوض بالشعب المصري إلي المنزلة العليا التي يؤهله لها ذكاؤه واستعداده، وتتفق مع عظمته التاريخية القديمة وتسمح له بتبوء المكان اللائق به بين شعوب العالم المتمدين وأممه».

«وبينما ظل السلام والطمأنينة يرفرف علي الأمة إذ ببضعة أشخاص هم أعضاء الوزارة الحالية يقومون في 19 يولية سنة 1928 بثورة علي دستورها وأنظمتها ويحدثون انقلابًا خطيرًا في حياتها السياسية والاجتماعية ويطعنونها في صميم حريتها ويشوهون أمام العالم نهضتها، فعطلوا الدستور، وعطلوا البرلمان، وقضوا علي الحريات التي كفلها الدستور، واغتصبوا سلطة التشريع، وأعلنوا في البلاد حكم إرهاب واستبداد وحالوا بين البرلمان وبين الانعقاد في داره».

«ولما كان الأمر الذي استصدره الوزراء في 19 يوليه سنة 1928 بتعطيل بعض أحكام الدستور وحل المجلسين باطلًا أصليًا إذ أن مجلس الشيوخ لا يجوز حله مطلقًا (مادة 81 من الدستور) ومجلس النواب لا يكون حله صحيحًا إلا إذا كان الأمر الصادر بحله مشتملا حتما علي دعوة الناخبين لإجراء انتخابات جديدة في ميعاد لا يتجاوز شهرين، وعلي تحديد ميعاد لاجتماع المجلس الجديد في العشرة الأيام التالية لتمام الانتخابات (مادة 89 من الدستور) فإذا خلا أمر الحل من كل هذا وقع باطلًا».

«وربما أن تعطيل البرلمان مدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مخالفة للمادة الأولي من الدستور التي تقضي بأن يكون شكل الحكومة نيابيًا وللمادة 55 من الدستور التي تقضي بعدم جواز تعطيل أي حكم من أحكامه إلا في زمن الحرب أو أثناء قيام الأحكام العرفية وأنها لا تكون قائمة إلا بعد إذن البرلمان (مادة 45 من الدستور) وعلي أي حال لا يجوز تعطيل انعقاد البرلمان متي توفرت في انعقاده الشروط المقررة في الدستور (مادة 155 فقرة ثانية).

«ولما كانت المادة 25 من الدستور تنص علي أن السلطة التشريعية يتولاها الملك بالاشتراك مع مجلسي الشيوخ والنواب، كما تنص المادة 25 علي أنه لا يصدر قانون إلا إذا قرره البرلمان وصدق عليه الملك».

لـهـذا

يقرر المجلس ما يأتي:

أولًا: أن البرلمان قائم وله حق الاجتماع حسب أحكام الدستور.

ثانيًا: يقرر المجلس أن هذه الوزارة ثائرة علي الدستور ويعلن عدم الثقة بها، ووجوب تخليها عن الحكم.

ثالثًا: أن كل تشريع تستصدره هذه الوزارة يقع باطلًا.

رابعًا: أن كل ما يبرمه الوزراء من الاتفاقات السياسية أو التجارية أو المالية مع الدول الأجنبية أو غيرها خصوصصا ما نصّ عليه في الباب الرابع من الدستور أو أي إجراء تتخذه يعتبر باطلا وغير ملزم للأمة.

خامسًا: يؤجل المجلس من تلقاء نفسه اجتماعاته إلي السبت الثالث من شهر نوڤمبر سنة 1928 إلا إذا طرأ ما يدعو للانعقاد قبل هذا التاريخ فيدعوه الرئيس للاجتماع».

(11)

وقد أشار الأستاذ الرافعي في تاريخه (الجزء الثاني من أعقاب الثورة) إلي أن مجلس الشيوخ قرر تأييد القرار الذي أصدره مجلس النواب مع تعديل صيغته طبقا للدستور لتكون عدم تأييد المجلس للوزارة بدلًا من عدم الثقة، وذلك احتراما لما نص عليه الدستور من أن عدم الثقة حق لمجلس النواب وحده.

وقد أقسم أعضاء الشيوخ والنواب فردا فردا أن يحافظوا علي الدستور، وأن يدافعوا عنه حتي الرمق الأخير، بكل ما أوتوا من جهد وعزم(!!).

(12)

ومما يحق لتاريخ مصر البرلماني أن يفخر به أن النواب من أعضاء البرلمان واصلوا جهودهم في هذا الخط الحريص علي توكيد الشرعية والديمقراطية، فاجتمعوا مرة أخري في مطلع السنة البرلمانية الجديدة يوم السبت 17 نوڤمبر 1928، وكان اجتماعهم هذه المرة في دار جريدة «البلاغ» بشارع الدواوين، وقد أشار الأستاذ الرافعي إلي أن عدد النواب الذين حضروا الاجتماع كانوا 125 نائبا، وذكر تفصيلات أخري مهمة:

«وقد اجتمع مجلس النواب برئاسة أكبر الأعضاء سنًا وهو محمد بك سعيد، وتولي السكرتارية من النواب الأساتذة: فكري أباظة، وحافظ إبراهيم سليمان، ومحمد فخري موسي، وأحمد رشدي الجزار».

«ولما كان هذا أول اجتماع لدورة برلمانية جديدة فقد انتخب الأستاذ ويصا واصف رئيسًا للمجلس، وعلي الشمسي باشا، وحسين هلال بك وكيلين، وانتخب للسكرتارية النواب يوسف الجندي، وعبد الرحمن عزام باشا، ومحمد صبري أبو علم باشا، وحسين يوسف عامر، وألقي مصطفي النحاس باشا خطبة اعتبر فيها الوزارة ثائرة علي الدستور، وألقي الأستاذ فكري أباظة بك كلمة أعلن فيها أن الأمة كلها يد واحدة ضد المعتدين علي الدستور، وتكلم الأستاذ علي أيوب محتجا علي تسخير الحكومة للجيش في منع انعقاد البرلمان، وقرر المجلس بالاجماع عدم الثقة بالوزارة وتحميلها مسئولية كل عمل أتته مخالفًا للدستور، وأن الميزانية الوحيدة التي يجب العمل بها هي ميزانية سنة 1927 ـ 1928، وكرر المجلس قراره الذي أصدره في 28 يوليه سنة 1928، وهو أن كل ما يبرمه الوزراء من الاتفاقات السياسية أو التجارية أو المالية مع الدول الأجنبية أو غيرها، خصوصا ما نص عليه في الباب الرابع من الدستور أو أي إجراء تتخذه يعتبر باطلا وغير ملزم للأمة. وقرر أيضًا مطالبة الحكومة بسحب القوات المسلحة التي تحاصر دار البرلمان حتي يتمكن من الاجتماع في داره».

لكن الوزارة منعت الصحف من نشر هذا القرار أو أي نبأ عن اجتماع المجلس، ومنعت كل المطابع من نشره، ومع هذا فإن جماهير الشعب المصري علمت بهذا الاجتماع وقراراته من نشرات سرية وزعت في مصر، كما علمت به مما نشرته عنه صحف سوريا ولبنان.

(13)

وانتهت هذه الحرب بخروج محمد محمود باشا من رياسة الوزارة وتكليف عدلي يكن برئاسة وزارة لإجراء الانتخابات، وقد كان لعدلي باشا يكن الفضل في تتويج كفاح النحاس والوفد والشعب من أجل عودة الحياة الديمقراطية السليمة.

وقد استصدرت وزارة عدلي باشا أمرا ملكيا آخر في 31 أكتوبر سنة 1929 بإنفاذ أحكام الدستور والعمل بالمواد المعطلة منه وهي المواد 15 و 89 و 155 و 157، وبإجراء الانتخاب لمجلس النواب، ودعوة مجلس النواب الذي ينتجه هذا الانتخاب ومجلس الشيوخ الذي كان قائمًا في تاريخ 19 يوليه سنة 1928 إلي الاجتماع في 11 يناير سنة 1930، وكان معني هذا إعادة الحياة الدستورية التي أوقفها أمر 19 يوليه سنة 1928، والعمل بالمواد التي كانت معطلة من الدستور، وإجراء الانتخابات لمجلس النواب، وإعادة مجلس الشيوخ كما كان، أي إلغاء الأمر السابق الصادر بحله.

وفي 2 نوڤمبر صدر مرسوم آخر بتحديد يوم 21 ديسمبر سنة 1929 للانتخاب، ويوم 29 منه للإعادة في حالة عدم حصول المرشح للأغلبية في يوم الانتخاب الأول، وبدعوة البرلمان إلي الاجتماع يوم السبت 11 يناير سنة 1930.

وفي ذلك اليوم (2 نوڤمبر سنة 1929) فضت الأختام التي كانت موضوعة علي أبواب البرلمان منذ يوليه سنة 1928، وسلمت مفاتيحه إلي سكرتير مجلس الشيوخ.

(14)

وقد جاءت الانتخابات البرلمانية التي أجرتها وزارة عدلي لتتوج نجاح سياسة سياسة النحاس باشا في الانتصار للديمقراطية، ومكافحة الانقلاب الدستوري، والعسف بحقوق الشعب.

وقد بلور الشعب رأيه بكل وضوح حين انتصر للوفد الذي حصل علي (أو بعبارة أدق: حصد) 212 مقعدا من 235 مقعدا (أي بنسبة 90.2٪)، علي حين نال الحزب الوطني 5 مقاعد، ونال حزب الاتحاد 3 مقاعد، أما الباقون فكانوا مستقلين.

(15)

وقد تصدي النحاس والوفد والبرلمان الوفدي برياسة أحمد ماهر للانقلاب الدستوري الثالث الذي تزعمه إسماعيل صدقي في 1930 من قبل أن تبدأ خطواته التنفيذية، أي منذ لاح الانقلاب في الأفق قبول استقالة النحاس والاتجاه إلي تكليف إسماعيل صدقي بتشكيل الوزارة التي عطلت الدستور وألغته واستبدلته وسامت الشعب العنت والعسف.

ويذكر التاريخ أن النحاس باشا حضر بنفسه جلسة مجلس النواب التي أعلنت فيها استقالته، وأشار إلي سبب الاستقالة بقوله:

«عندما تولت الوزارة الحاضرة الحكم قطعت علي نفسها عهدا أن تصون أحكام الدستور وأن تحوطه بسياج من التشريع يكفل له حياة متصلة ونموا مطردا، ولقد أشرت إلي ذلك في الكتاب الذي تشرفت برفعه إلي جلالة الملك بقبول إسناد رياسة الوزراء إليَّ، كما تضمنه خطاب العرش الذي تُلي علي مسامع حضراتكم، ولكن الوزارة لم تتمكن من أن تقدم إلي البرلمان هذا التشريع الذي تقضي به المادة 68 من الدستور. ولذلك رأت من واجبها أن ترفع استقالتها إلي السدّة الملكية، والله نسأل أن يوفقنا جميعًا إلي ما فيه خير البلاد».

(16)

وطبقًا للتقاليد الدستورية فقد غادر مصطفي النحاس باشا جلسة مجلس النواب بعد أن ألقي هذا البيان، وصحبه الوزراء، لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد وقف القطب الوفدي الكبير الدكتور أحمد ماهر باشا رئيس مجلس النواب وخاطب النواب بطريقة حماسية:

«سمعتم بيان حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، فيجب أن تسمع الأمة صوتكم اليوم، نعم يجب أن تسمع البلاد تأييدكم لصاحب الدولة الرئيس في موقفه المشرف الذي يعمل به للدفاع عن الحياة النيابية، وعن النظام الدستوري للبلاد».

وقد قوبلت هذه الكلمة بالتصفيق الحاد، وبعد مناقشة قصيرة قرر المجلس بإجماع الآراء تجديد الثقة بالوزارة.

(17)

ويذكر التاريخ للنحاس وللوفد ذلك اليوم المشهود الذي عرف بـ«يوم السلاسل»، حيث جاء النواب برياسة رئيسهم ويصا واصف، وكلف ذلك الرجل الشجاع بوليس البرلمان بتحطيم السلاسل، فتولي اثنان من رجال المطافئ تحطيمها بالبلط علي نحو ما يفعلون لفك إسار مبني محاط بالحريق لا بد لهم من إنقاذه، وفي ذلك الاجتماع تُلي مرسوم التأجيل لكن النواب قابلوا ذلك بالقسم علي المحافظة علي الدستور.

وكذلك فعل أعضاء مجلس الشيوخ، بل إن أعضاء الشيوخ وافقوا علي بيان كان فتح الله باشا بركات قد أعده، وقد أثبت الأستاذ عبد الرحمن الرافعي نصه الذي كان علي النحو التالي:

«أولا: الاحتجاج علي ما ارتكبته الحكومة من مخالفة للدستور بأن أغلقت أبواب البرلمان ووضعت قواتها المسلحة حوله وفي داخله لتمنع بالقوة المسلحة شيوخ الأمة ونوابها من عقد جلستي المجلس المحددة لهما الساعة السادسة من مساء اليوم حتي اضطر حضرة رئيس مجلس النواب بأن يأمر قوات البرلمان بكسر السلاسل التي وضعتها الوزارة وفتح الباب وبذاك فقط تمكن شيوخ الأمة ونوابها من دخول البرلمان».

«ثانيا: استنكار ما أقدمت عليه الوزارة من المخالفات الدستورية الأخري من وقت تشكيلها».

(18)

ومن الانصاف للنحاس باشا وزعامته أن نشير إلي تقدير خاص حازه في أدائه السياسي في هذه الفترة، ورأيي أن هذا التقدير يمثل أعظم تقدير سياسي حازه النحاس من أقرانه أو أسلافه أو خلفائه في عصر الليبرالية، ويتمثل هذا التقدير في موقف عدلي يكن باشا الزعيم التاريخي للاعتدال، ذلك أن عدلي يكن أيد النحاس والوفد في كل خطواتهما من أجل مكافحة الانقلاب الدستوري الذي وقع في عهد صديقه (التاريخي) إسماعيل صدقي باشا.

وفي هذا الصدد فقد أرسل عدلي يكن بصفته رئيسًا لمجلس الشيوخ كتابا شديد اللهجة إلي إسماعيل صدقي احتجاجًا علي إغلاق الوزارة لأبواب البرلمان، وسنثبت نص هذا الكتاب.

ثم إن عدلي باشا فيما بعد ذلك، استقال من رياسة الشيوخ احتجاجا علي إلغاء الدستور رافضا مد يد التعاون إلي النظام الذي حاول صدقي إقراره، وكانت استقالة عدلي يكن باشا سابقة تاريخية مجيدة، وقد بعث بها من أوربا (أكتوبر 1930) حين كان في وسعه أن يتجاهل الأمر كلية.

ثم إنه ثالثا انضم إلي النحاس في المؤتمر الوطني الذي انعقد في مايو 1931 لمحاربة دستور صدقي، وعدم الاعتراف بالانتخابات التي جرت علي أساسه.

ثم إنه رابعا ظل علي هذا الموقف الموالي للشعب وزعامته المتمثلة في النحاس باشا، المعادي لصدقي، وانضم إلي النحاس في خطواته وكفاحه من أجل الديمقراطية، وقبل عن حب وإيمان أن يأتي اسمه تاليا لاسم النحاس في البيانات التي عبرت عن معارضة صدقي وخطواته الدكتاتورية.

وقد رزق الله عدلي يكن بهذه المواقف المتتالية حسن الختام لحياته التي انتهت في الشهر الأول من وزارة عبد الفتاح يحيي وبالتحديد في 22 أكتوبر 1933.

وهذا هو نص كتاب عدلي يكن في الاحتجاج علي احتلال القوات المسلحة لدار البرلمان:

«بتاريخ أمس 20 يولية توجهت قوة مسلحة من رجال الجيش والبوليس إلي دار البرلمان فأحاطت به، بعد أن اقتحم قسم منها أبوابه، وطلب إلي قومندان حرس البرلمان إخلاء الثكنة التي يشغلها ذلك الحرس فأبدي القومندان عدم إمكانة إجابة هذا الطلب إلا بأمر منا، وطلب أن يؤتي له بهذا الأمر أو أن يمهل حتي يتمكن من استئذاننا، فأبت القوة الاستماع له وأخرجت رجاله عنوة من الثكنة.

وترون دولتكم أن في إحاطة دار البرلمان بقوة مسلحة مخالفة لنص المادة 117 من الدستور، يزيدها خطورة انتهاك هذه القوة لحرمة البرلمان بدخول داره وإخراج حرسه عنوة من ثكناتهم.

فإزاء تكرار مخالفة هذا الحكم الدستوري لا يسعني إلا أن أكرر لدولتكم احتجاجي علي هذا العمل

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

21 يوليه سنة 1930

رئيس مجلس الشيوخ

عدلي يكن»

(19)

وهذا هو نص كتاب عدلي يكن إلي صدقي باشا في 24 يوليو 1930، متضمنا الاحتجاج علي إغلاق أبواب البرلمان:

«حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء

تنص المادة 117 من الدستور علي أن كل مجلس له وحده المحافظة علي النظام في داخله بواسطة رئيسه وأنه لا يجوز لأية قوة مسلحة الدخول في المجلس ولا الاستقرار علي مقربة من أبوابه إلا بطلب رئيسه.

علي أنه قد حدث أمس أن أرسلت الحكومة قوة أحاطت بالمجلس من غير طلب منا، بل إنها تجاوزت ذلك إلي الدخول في فنائه وإغلاق أبوابه لمنع الأعضاء من الوصول إلي قاعة الجلسة.

فأري من واجبي أن أحتج إلي دولتكم علي هذا العمل لمخالفته لحكم الدستور.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

رئيس مجلس الشيوخ

عدلي يكن»

(20)

وتمضي الأيام وتذهب وزارة إسماعيل صدقي والوزارة التالية لها وهي وزارة عبد الفتاح يحيي، ويأتي محمد توفيق نسيم رئيسا للوزارة، وتبدأ الأمة مرحلة جديدة في جهادها، وتتألف الجبهة الوطنية بناء علي ضغط الجماهير التي أذكي النحاس جهادها عامًا بعد عام، وينضم زعيما الانقلابيين الدستوريين الثاني والثالث (وهما محمد محمود، وإسماعيل صدقي) إلي الجبهة الوطنية تحت لواء النحاس باشا نفسه، ويكتب أقطاب هذه الجبهة كتابا بليغا إلي المندوب السامي البريطاني في 12 ديسمبر 1935.

وليس موطن العظة في كتاب زعماء هذه الجبهة (أو بالأحري أعضاء هذه الجبهة تحت زعامة النحاس) أن تأكدت للنحاس زعامته الحقيقية للجهود الوطنية فحسب، لكن كتاب هذه الجبهة ينبئ علي نحو ما نطالع نصوصه أن هؤلاء جميعا قد دانوا للنحاس بالزعامة حتي في إشارتهم إلي مفاوضاته مع البريطانين في 1930، وهي التي أشاروا إليها في البند الأول من كتاباتهم بمفاوضات الربيع من سنة 1930.

وهذا علي كل حال هو نص هذا الكتاب:

«حضرة صاحب السعادة المندوب السامي لدولة بريطانيا العظمي..

1 ـ حرص المصريون دائمًا منذ نهضت مصر مطالبة باستقلالها خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة علي أن يتم الاتفاق بين مصر وإنكلترا بتحديد علاقتهما وحل المسائل المعلقة بينهما، وقد قوي أملهم في إتمام الاتفاق حين انتهت مفاوضات الربيع من سنة 1930 إلي نصوص رضيها الطرفان وأوشكا أن يوقعاها لولا خلاف حصل في اللحظة الأخيرة أدي إلي عدم توقيعها».

2 ـ ويرجع حرص المصريين علي إتمام الاتفاق إلي أسباب حيوية بالنسبة لبلادهم، فإن عدم إتمامه يثير الاحتكاك بين مصر وإنجلترا من حين إلي حين. ولا شيء أحب إلي مصر من أن تتجنب كل سبب يدعو إلي هذا الاحتكاك الذي يفسد جو العلاقات بين الدولتين، وعدم إتمامه يعوق تقدم مصر ويضع العقبات في سبيل رقيها، ومن الأمثلة علي ذلك:

(أ) بقاء الامتيازات الأجنبية ماسة بسيادة مصر حائلة بينها وبين حق التشريع المالي وغير المالي الذي يسري علي المقيمين بمصر جميعًا، مع أن حريتها في هذا التشريع هي التي تمكنها من وضع ميزانيتها علي قواعد مالية صالحة وتكفل توزيع الضرائب توزيعا عادلًا.

(ب) وجود إدارة أوربية إلي جانب إدارة الأمن العام المصرية.

(جـ) حرمان البلاد من أن تكون لها قوة دفاع مصرية صالحة للذود عنها ولمعاونة حليفتها.

(د) حرمان مصر من الاشتراك في الحلبة الدولية ومن دخولها عضوا في عصبة الأمم لتساهم بنصيبها مع دول العالم في خدمة التقدم والسلام أسوة بغيرها من الدول المستقلة، [وليست] هذه إلا بعض الآثار الناشئة من عدم إبرام المعاهدة والداعية إلي حرص المصريين علي المسارعة إلي إبرامها.

3 ـ وفضلًا عن هذه العقبات التي تقف في سبيل تقدم مصر وتحد من استقلالها وحريتها، فإن بقاء المسائل المعلقة بغير حل قد كان من الأسباب التي أدت إلي عدم استقرار الحكم والطمأنينة في البلاد، وأدي ذلك في كثير من الأحيان إلي اضطراب المرافق العامة اضطرابا شملت آثاره المصريين والأجانب المقيمين في مصر علي السواء.

4 ـ ومنذ أن بدأت الأزمة الدولية التي نشأت عن نزاع إيطاليا والحبشة في هذا العام ازداد المصريون يقينا بضرورة المسارعة إلي عقد المعاهدة، فقد رأوا أن تطور هذه الأزمة قد ينتهي بهم إلي الاشتراك فيها، وقد يجعل بلادهم ميدان حرب بسببها، وقد اشتركت مصر في هذه الأزمة بالفعل منذ لبت الحكومة المصرية دعوة عصبة الأمم لتوقيع الجزاءات علي إيطاليا، كما اتخذت إنجلترا أراضي مصر ميدانا لاستعداداتها الحربية اتقاء للطوارئ، وقامت الحكومة المصرية من جانبها بتمهيد كل ما تستطيع من أسباب الدفاع عن المواصلات وتهيئة الجيش ونقل وحداته إلي الجهات التي تقتضيها الظروف.

5 ـ وقد ظل الشعب المصري يرقب ذلك كله واثقا بأن التعاون الصادق مع إنجلترا في هذه الأزمة يتيح أنسب الفرص لعقد المعاهدة التي انتهت مفاوضات سنة 1930 إلي تقرير نصوصها، وليس في عقد هذه المعاهدة ما يشغل إنجلترا لعدم الحاجة إلي مفاوضات جديدة تحتاج إلي مجهود ذي بال.

6 ـ ولو كان في إبرام المعاهدة بعض ما يشغل إنجلترا في الظروف الحاضرة التي كثرت فيها مشاغلها بسبب الأزمة الدولية فلن يبرر ذلك عدم إبرامها، فإن إبرامها هو المسألة الحيوية الجوهرية بالنسبة لمصر، وما بذلته مصر من معاونة صادقة يجعل من حقها أن تطلب من إنجلترا إبرام معاهدة رضيتها وصرحت بلسان وزرائها أنها لا تعدل عنها.

7 ـ لا شك إذًا في أن حرص المصريين علي إبرام المعاهدة واعتبارهم فرصة التعاون الصادق مع إنجلترا في الأزمة الدولية الحاضرة من أنسب الفرص لهذا الغرض يرجعان إلي أن الاتفاق بين الدولتين حيوي بالنسبة لبلادهم، مزيل لما يقوم من العقبات في سبيل حريتها ورخائها وتقدمها، وما دامت نصوص المعاهدة التي انتهت إليها مفاوضات سنة 1930 مقبولة من الحكومة البريطانية حسب تصريحاتها الرسمية ومقبولة كذلك من المصريين علي اختلاف هيئاتهم وأحزابهم، فإن عدم إبرامها ليس من شأنه أن يؤيد استمرار التعاون الصادق الذي بذلته مصر من جانبها حتي اليوم بكل أمانة وإخلاص. وأن تحل المسائل التي لم يكن قد تناولها الحل في مفاوضات هندرسن ـ النحاس 1930 بالروح الطيبة التي سادت تلك المفاوضات».

وتفضلوا سعادتكم بقبول فائق الاحترام.

تحريرًا في 12 ديسمبر سنة 1935

مصطفي النحاس

محمد محمود

إسماعيل صدقي

حمد الباسل

يحيي إبراهيم

عبد الفتاح يحيي

حافظ عفيفي

(21)

هكذا انتهي عهد الملك فؤاد وقد تمكن النحاس تمامًا من الانتصار علي فكرة الانقلابات الدستورية. وبدأت معاناته في عهد الملك فاروق من توجهات أخري تلتف حول الأصول الديمقراطية، باللجوء إلي النزعات الجديدة من قبيل تشجيع أو إثارة الاتجاهات الفاشية التي تجيد تقديم نفسها في صورة المحرض علي الخلاص!!

وقد كان النحاس معاديا للفاشية، محذرا منها، مواجها لها، وليس أدل علي هذا من موقفه من توجهات كل من مصر الفتاة، ومن بعض الجماعات الدينية في بعض فترات صعودها.

وكما نجح النحاس في التصدي لقوي الاحتلال الإنجليزي، وللأوتوقراطية متمثلة في القصر والحاشية، وللأحزاب المنشقة عن الوفد، فقد نجح نجاحا ساحقا في التصدي لبعض توجهات الجماعات الصغيرة التي كانت لا تفتأ تجد مكانا في الحياة السياسية بفضل تشجيع الملك والقوي الرجعية، ولعل أبرز هذه الجماعات جماعة «مصر الفتاة».

وقد روي زعيم مصر الفتاة أحمد حسين أنه كان هو الذي ذهب بنفسه إلي النحاس باشا في محاولة منه لطمأنته علي أن نشاطه ليس موجها ضد الوفد، لكن النحاس باشا كان حاسما معه وبدأ محاورته بأن اتهمه بأنه دسيسة، وأنهي هذا الحوار بأن حذره من مصير كل مَنْ ينشقون عن الصف، ولمح له في وسط حديثه بمعرفته أو بشكوكه في مصادر تمويل نشاطه.

(22)

وقد صعّد علي ماهر والجماعات الموالية.. والقصر والملك من ورائهما من مضايقاتهم للنحاس، ولجأ هؤلاء إلي تسيير المظاهرات المتعددة، لكن الخطوة الأكثر قسوة ورعونة كانت هي إطلاق عز الدين عبد القادر (وهو واحد من أحفاد أحمد عرابي باشا) أربع رصاصات علي سيارة النحاس باشا يوم 28 نوڤمبر ١٩٣٧، وعند القبض عليه اعترف بأنه عضو في جمعية مصر الفتاة، وأنه ارتكب جريمته لأنه قرأ معاهدة 1936 فلم تعجبه (!!).

وترتب علي هذه المحاولة وفشلها قيام وزارة الوفد بتصفية جماعة مصر الفتاة وتعقب أعضائها في كافة الأقاليم، حتي بلغ عدد المعتقلين (ثلاثمائة) معظمهم من أصحاب القمصان الخضر، كما تعقب الوفد أيضًا أنصار النقراشي باشا، وقبض علي الدكتور حلمي الجيار الذي كان يعد من أبرزهم، ثم أطلق سراحه بعد خمسة أيام.

وقد استعرضنا في كتابنا «علي ماهر باشا ونهاية عهد الليبرالية» كثيرًا من ملامح هذه الفترة وتفصيلات الأحداث فيها، مما لا نجد مجالًا لتكراره هنا.

كذلك فإننا استعرضنا في الفصول السابقة من هذا الكتاب كثيرًا من تطورات الأحداث في هذه المرحلة.

بيد أن ما ينبغي علينا الإشارة إليه هنا هو أن النحاس واجه منعطفا جديدا في صراعه من أجل الديمقراطية، وقد قاد الصراع السياسي الوفد في تلك المرحلة من تاريخه إلي اللجوء إلي أسلحة الخصوم لمجابهتها بعد أن اكتشف أن الأسلحة الجديدة تتطلب مثل هذا اللجوء، بما فيه من عدول عن تمسكه بالأساليب التقليدية.

ومن هنا نشأت فكرة القمصان الخضراء لشبان الوفد في مجابهة القمصان الزرقاء لمصر الفتاة، وغيرها من القمصان الملونة.

وقد أشرنا في ترجمتنا للدكتور محمد بلال (وهي تحت الطبع) إلي أن هذا الزعيم الشاب كان يجمع بين رئاسة القمصان الخضراء ورئاسة لجان الوفد، مما جعل تاريخ هذه وتلك يختلط علي بعض الباحثين وعلي بعض أدبيات التاريخ.

كما نقلنا ما روي عنه من اختيار اللون الأخضر باعتباره لون الفلاح المصري في ثياب عمله!!

(23)

والواقع أن تاريخ القمصان الملونة (شأنه شأن تاريخ كل جماعة سرية أو شبة سرية، وكل تنظيم عسكري أو شبه عسكري) لا يزال بحاجة إلي كثير من الإضاءة والتحليل والفهم، وينسحب هذا علي موقف زعيم وطني من طبقة النحاس من مثل هذا التنظيم، ولا يزال كثيرون حتي اليوم يظهرون عجبهم من أن يوافق النحاس علي وجود مثل هذا التنظيم مرتبطا بالوفد، أو تحت مظلته، وأن يكون للوفد دور في إنشاء القمصان الملونة ذات النزعة الفاشية؟

ويبدو لكثيرين أن إنشاء مثل هذه الجماعة لم يكن موجها ضد أحمد حسين أو الإخوان، وإنما كان موجهًا للقصر وللإنجليز كي يكف هؤلاء عن توظيف مثل هذه التنظيمات ضد الوفد.

ويبدو لي أن الوثائق البريطانية تؤيد ما أذهب إليه في هذه النقطة، وقد سجل السير مايلز لامبسون في تقريره السنوي عدة ملاحظات كان من أهمها:

اتخذ مؤتمر الشباب الوفدي قرارا في 9 يناير بتأسيس منظمة للشبيبة علي النهج الفاشي، وقد أيد الوفد هذا الاتجاه بعد أن وجد أن أحزاب الأقليات قد فعلت ذلك لحشد الشباب في حركة مناهضة للوفد.

تأسست لجنة من الوفد لتنظيم وتدريب فرق القمصان الزرقاء «الذين وصلتنا تقارير تفيد بأن عددهم قد بلغ في يوليو 10.000 شخص، واختير النحاس رئيسا للحركة».

(24)

ولا ينبغي لنا أن نترك هذا المقام من دون أن نشير إلي حقيقة أن القمصان الوفدية الزرقاء سرعان ما فاقت القمصان الخضر عددا وعدة وأهمية، وهكذا فإنه لما صدرت التعليمات بحل القمصان الخضر كثمن لقيام الوفد بحل القمصان الزرقاء، كان أعداء الوفد هم الذين حققوا الفوز بخلاصهم من سطوة قمصان الوفد.

(25)

ونعود لنقول، عن حق، إنه مع إيمان النحاس الشديد بانتفاء الحاجة إلي وجود القمصان الملونة فإنه ترك هذه القمصان تنمو تحت جناح الوفد، لكنه هو نفسه عاد وأوقفها.

وليس أدل علي إيمان النحاس بالديمقراطية وعمله لها من موقفه النهائي من قمصان الوفد الزرقاء.

ومع هذا فإن كثيرًا من المؤرخين الأجلاء ينظرون إلي الأمور علي نحو ما تتابعت به جزئياتها دون عناية بمثل نظرتي الكلية هذه.

وقد وصل الدكتور عبد العظيم رمضان إلي القول بأن فرق القمصان الزرقاء كانت سلاحا ذا حدين، وقد اختار النحاس باشا الحد الذي ذبح به نفسه وحزبه، فأقيل، في وجود القمصان الزرقاء، أسوأ إقالة في تاريخه، وتفرق القمصان عند أول طلقة أطلقتها حكومة محمد محمود باشا وأزيلت معسكراتهم بين ليلة وليلة من جميع أنحاء البلاد.

(26)

بل إن الدكتور عبد العظيم رمضان يري أن النحاس قد أضاع من يده فرصة ذهبية حين لم يعمل علي تقوية تشكيلات القمصان الزرقاء وزيادة فاعليتها لحمل القصر علي التفكير قبل الإقدام علي الإقالة، بل إن النحاس فعل العكس، بوحي من اقتناع باطني، فيما يبدو، بمنافاة وجود القمصان مظهريا للنظام الدستوري، وتأثرا بالهجمات الشديدة علي القمصان من جانب المعارضة والقصر للتخلص منها قبل الإقالة، ففي يوم 5 ديسمبر 1936 أصدر قرارا أتبع فيه الفرق لإدارته شخصيا، وحظر فيه علي الجنود حمل العصي أو الأسلحة من أي نوع كان، أو أن يسيروا في الشوارع، أو يوجدوا في الحفلات مرتدين القميص الأزرق في غير الأوقات والمناسبات التي يحددها المجلس الأعلي، وجعل مخالفة حكم هذه المادة الفصل حتما من الفرق.

وفي إبان اشتداد الأزمة بين الحكومة والقصر، وحينما كانت الإقالة علي وشك الوقوع، أصدر قائد الفرق «بناء علي إشارة من النحاس باشا»، بيانا أعاد فيه التنبيه إلي أن «أعضاء الفرق جميعا لا يجوز لهم حمل سلاح من أي نوع مهما كان حجمه أو وضعه، حتي لا ندع للخصوم مجالا لسوء تأويل حركتنا البريئة».

(27)

أما موقف النحاس والجناح الحكومي للوفد (!!) من أحمد حسين فقد تولته الصحف الوفدية التي هاجمت ما اعتبرته استغلالا من جانب أحمد حسين لاسم مشروع القرش في الدعوة الجديدة إلي مصر الفتاة، وقد طلبت الحكومة الوفدية إلي الدكتور علي إبراهيم باشا رئيس مشروع القرش أن يفسر كيف يسمح لبعض أعضاء مجلس إدارة المشروع بنشر الدعوة لتأليف هيئة سياسية تنشر مبادئها علنا، وتوزع نشراتها علنا في الطرقات، مع أن هذا العمل يخالف قانون المشروع «الذي يحرم الاشتغال بالسياسة، فضلا عن منافاته للمبادئ التي قام عليها مشروع القرش، والسياج المقدس الذي كان يجب أن يحاط به، وقد قام المشروع لخدمة الأمة، لا ليقلبه بعضهم حربا علي نهضتها السياسية».

كذلك قد اتهمت الحكومة الوفدية أحمد حسين صراحة بأنه ينفق علي جريدة «الصرخة» من مال المشروع، وأنذرته بأن القانون لن يسمح لأحد أن يفلت من يده إذا استمرأ المرعي، وتراءي له أن يواصل أية دعوة سياسية علي حساب مشروع القرش، والمشروع منها براء.

(28)

ومما رواه أحمد حسين عن لقائه بالنحاس بالتفصيل في مذكراته ومن وجهة نظره هو ننقل للقارئ هذه الفقرات التي تصور حقيقة موقف النحاس:

«… اعتقدت أنه يكون من المفيد أن أجتهد في مقابلة النحاس باشا لأزيل ما علق برأسه من سوء فهم، وأن أبين له كيف أن حركتنا هي حركة قومية بحتة نريد بها أن نعد جيلا جديدا من الشبان، وأن نبعث في الأمة روح الكفاح والجهاد».

«ولما كان النحاس باشا قد اعتاد مقابلتي من قبل، فقد رجوته أن يحدد لي ميعادا للمقابلة، وقد سمح لي بالمقابلة، ولقد كانت في بيت الأمة، ولست أذكر تاريخها بالضبط، ولكنها كانت في أوائل شهر نوڤمبر 1933».

«وقابلت النحاس باشا، فإذا به يجابهني بأنني دسيسة، وأنني لا بد أن أكون مدفوعا من جهة من الجهات للقيام بهذا العمل، ولخص شكوكه، أو بالأحري قرائنه علي ما يقول، في المال الذي تصرف منه علي هذه الحركة، فشرحت له كيف أنني عقب خروجي من كلية الحقوق سعيت للحصول علي قرض من بنك مصر مقداره مائتا جنيه أستعين به علي مواجهة الحياة العملية، وأني يا باشا مستعد أن أقدم لك كل الأوراق الخاصة بعملية القرض هذه، وأترك لك أن تتحري عن صحتها، وهنا شرع النحاس باشا يناقشني في صحة مبادئي والبرنامج الذي أذعته، فقال: إن في هذا البرنامج ما لا يتفق مع جهادنا، فليس فيه نص علي الدستور، وهل تفضل دستور سنة ١٩٣٠ أو دستور ١٩٢٣، وفيه بعض المبادئ الخطرة التي لا أكاد أفهمها، خذ مثلا «الله» التي وضعتها في أول شعارك، فلست أراها إلا شعوذة، لأن وضع كلمة الله في برنامج سياسي هو شعوذة، قلت: لا تنس يا باشا أن الإسلام دين لا يفرق بين الدين والسياسة».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«إلي هنا كان صاحب الدولة [أي النحاس باشا، وليس في هذا تمجيد للنحاس الذي كان لقبه أعلي من ذلك، وهو رفعة الباشا لأنه كان صاحب المقام الرفيع] قد ضاق ذرعا بمناقشتي في كل هذه التفاصيل، فرأي أن يصرح لي بما في دخيلة نفسه وما اعتقد أنه لب الموضوع، فقال: لا يوجد في مصر إلا راية واحدة هي راية الوفد، وكل وطني عامل يجب أن يعمل تحت لواء الوفد، فكل حركة أو كل عمل من الأعمال لا يكون تحت راية الوفد، فهو لا يمكن إلا أن يكون دخيلا علي الأمة، ودسيسة من الدسائس، فإذا كنت صادق النوايا وتريد خدمة بلادك، فعلام إنشاء الجمعيات، ووضع البرامج وإرسال النداءات؟ وإذا كان كل جندي يخرج علي قائده ويؤلف لنفسه جمعية ويضع برنامجا إذًا لتشتت الجهود، وعمت البلد الفوضي، فإذا كنت تريد أن تكون وطنيا فتعال بين إخوانك الشبان في الوفد، واندمج في صفوفهم».

«قلت: هذا صحيح يا باشا، وقد كان بودي أن أفعل ذلك، وأن أعمل تحت لوائك كأصغر جندي، ولكني لا أكاد أري للوفد برنامجا، ولا أري للوفد أهدافا في هذه الأيام إلا للوصول إلي الحكم، وأنا لا يمكن أن أكرس حياتي لهذه الغاية، ولكني أريد أن أدعو للأخلاق، وأن أدعو للدين، وأن أدعو للعمل، وأريد أن أكون عنيفا في جهادي، وإني أعتقد أن مصلحة الوفد المحققة أن توجد إلي جانبه هيئة وطنية متطرفة كيما يكون هو بالنسبة لها معتدلا، فيفضل الإنجليز التعاون معه وإجابة مطالبه، حتي لا يشجعوا التطرف، ويتحول كل الإعنات والإرهاق الذي يصب الآن علي الوفد صبا إلي هذه الهيئة الجديدة!».

«قال النحاس باشا (ولا نزال فيما يرويه أحمد حسين نفسه): افعل ما يحلو لك، فقد أعذر من أنذر. إنني سوف أعتبرك خارجا عن الوحدة، والأمة لا ترحم الخوارج، فكل من فكر في أن يخرج علينا فقد هدمناه هدما، والأمة لا ترحم».

(29)

ومع هذا كله فإنه عندما لقيت «مصر الفتاة» العنت علي يد وزارات محمد محمود (1938 – 1939) فقد حظيت بتعاطف أبوي من الوفد حتي إن الصحف الوفدية كفت عن مهاجمة الجمعية بعد القبض علي أعضائها، بل إنه عندما قبض علي أحمد حسين وزميليه في المرة الأولي، وتقرر الإفراج عنهم بكفالة، فقد دفعها عنهم أحد الزعماء الوفديين علي سبيل القرض، كما تولي بعض المحامين الوفديين الدفاع عن أحمد حسين وأعضاء الجمعية في التهمة التي وجهت لهم بالاعتداء علي البوليس والتجمهر في يونيو 1934، وكان علي رأس محامي الوفد الذين دافعوا عن شباب مصر الفتاة عبد الفتاح الطويل، ولما حكم عليهم بغرامة، اشترك عبد الفتاح الطويل في دفع جزء منها، كما اشترك حسن سرور المحامي (وهو وفدي أيضًا) في دفع جزء آخر.

(30)

وكان أحمد حسين نفسه، شأنه شأن كل زعماء الجماعات السياسية الصغيرة، يؤمن بأن زعامة الوفد للشارع المصري تمثل عقبة كبري في طريق مصر الفتاة، وليس أدل علي هذا الاعتقاد من حديثه المقارن بين النحاس والوفد من ناحية، وبين الزعماء الذين شجعوه (!!) في مراحل مختلفة من قبيل علي ماهر، ومحمد علي علوبة، ومحمد محمود، وبهي الدين بركات.

وقد حاول أحمد حسين انتقاد ما أسماه «الزعامة المقدسة التي فرضها النحاس باشا علي الأمة»، «وهذه الرغبة في القضاء علي الروح الجديدة التي نبعت من مصر الفتاة، ومهاجمة مصر الفتاة ومحاولة خنقها، كل ذلك أدي بنا إلي اعتبار الوفد خصمنا الأول، وضرورة العمل علي صرعه والتغلب عليه وإراحة البلاد من كابوسه، فكان هؤلاء أعوانا علي تحقيق هذه الفكرة، وخاضوا المعركة إلي جوارنا في هذا السبيل كل بأسلوبه، وفي دائرة قدرته».

(31)

وقد اعترف أحمد حسين بأنه لم يكن يهمه من تحالفه مع الزعماء الآخرين إلا هدم الوفد، حتي أنه يصور لنفسه والقراء أنه كان هو الأصل في عداوة الوفد، وأن الآخرين كانوا بمثابة الصدي!!:

«… ولم يكن يهمنا في ذلك الوقت تفاصيل ما يعملون، ولا الأهداف التي يسعون إلي تحقيقها لأنفسهم من هدم الوفد، ولم يكن يعنينا إذا كانوا مخلصين فيما يوجهونه من اعتراضات للوفد أم لا، لأننا كنا أصحاب المعركة، وهؤلاء لم يزد عملهم في كل ما عملوه أو قالوه (علي) تأييد ما نقول، أو تحبيذ ما نعمل، ولذلك فقد سرنا، وكان من مصلحة كفاحنا أن يكون هناك تحالف بين هذه القوي المختلفة حتي نصل إلي تحقيق الهدف الذي نسعي له، وهو تحرير البلاد من سيطرة الوفد، هذه السيطرة الفاسدة».

(32)

ويذكر التاريخ أنه لما طلب بعض أعضاء البرلمان من النحاس أن يظهر لهم أو أن يودع في المجلس إثباتا علي ما صرح به في أحد أحاديثه من عمالة أحمد حسين لدولة أجنبية رفض النحاس رفضا باتا إيداع مثل هذه الوثائق في مجلس النواب وصور المسألة في صورة الثقة به نفسه وبوزارته:

«إن الوزارة متثبتة مما قُدم إليها من الأدلة، وإن هذه المسائل تتعلق بسياسة الدولة العامة، وهي من أسرار الدولة ولا يمكن أن تتقدم بها ولن تتقدم، لأن أسرار الدولة فوق كل اعتبار، والوزارة مسئولة أمامكم، فإما أن تعطوها ثقتكم، وإما أن تسحبوا منها هذه الثقة، والرأي الأخير لكم».

(33)

ومن الطريف أن نائب الأحرار الدستوريين عبد المجيد إبراهيم صالح (الوزير فيما بعد ذلك) ناقش النحاس في هذه الجزئية مزايدا عليه وسأله كيف يسمح رئيس الوزراء، باعتباره رئيسا شعبيا، ورئيسا رسميا للدولة، وقد اقتنع دولته بخطر تلك الدعاية، أن يباح لهذا النفر (أي أعضاء مصر الفتاة) أن يتجولوا في المدن ويبثوا دعايتهم الخطيرة، ثم يتركوا أحرارا ؟

وقد رد النحاس باشا بقوله إن الحكومة تريد المحافظة علي سلامة الدولة، مع إباحة الحرية لكل مَنْ يريد، وأوضح النحاس أنه يتعامل مع هذه الجماعة علي مستويين جغرافيين مختلفين، فهو يترك لها هامش الحرية في المدن حيث لا خطر من آرائها في ظل حرية الفكر، لكنه يقيد هذه الحرية في القري حيث يمكن أن يكون هناك خطر، وقد عبر النحاس عن هذا بوضوح حين قال:

«إن سياسة الحكومة هي منع تجوال أعضاء الجمعية في القري، وإباحة الحرية المطلقة لها في زيها واجتماعاتها وخطبها في المدن، حيث يتسني لكل إنسان أن يقاومها وأن يناقشها وأن يعترض علي كل ما يبدو منها، وأن يدرك كنه ما تغمز، وحيث الاستعداد هنا واف، والبوليس يقظ متنبه، يحضر كل اجتماع، ويسمع كل ما يلقي فيه، فإذا رأي بوادر شر منعها في الحال».

(34)

وقد سجل الدكتور عبد العظيم رمضان في دراسته لتاريخ الحركة الوطنية أن أحمد حسين زعيم مصر الفتاة تنازل بنفسه عن الفرص التي تهيأت له لإثبات براءته من تهمة العمالة لدولة أجنبية التي وصمه بها النحاس، وقد جاءت هذه الفرصة عندما تداول القضاء اتهامه بهذه التهمة.

وفي الواقع فإن عبد العظيم رمضان كان يري أن بيان النحاس باشا في اتهام أحمد حسين لا يعدو من الناحية التاريخية أن يكون بيانا خطيرا فحسب، لكنه في ذات الوقت وعلي الرغم من إلقائه في قاعة مجلس النواب، وعلي الرغم من صدوره من رئيس الحكومة وزعيم الغالبية الشعبية في الوقت نفسه لا يمكن أن يرتقي من كونه بيانا سياسيا عن خصم سياسي، ليصبح حكما قضائيا دامغا.

*    *    *

وفي كل الأحوال فقد حارب النحاس باشا من أجل الديمقراطية في مواجهة من كانوا يحاربونها سواء أكانت حربهم مباشرة أم غير مباشرة، وسواء كانوا في القصور أم كانوا في الشارع السياسي.. ولا شك في أنه انتصر في حربه من أجل الديمقراطية.

لكن عصرًا تاليًا جاء ليهتف بعض أنصاره بسقوط الديمقراطية.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com