الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (14)

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية (14)

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر

استقلال القضاء

(1)

ظل النحاس متمتعا وفخورًا بماضيه المشرف في القضاء، وقد انعكس هذا الاعتزاز علي اهتمامه بتنفيذ الأحكام واحترامها، واللجوء إلي القضاء في المنازعات مع مخالفيه، والالتزام بالأحكام الصادرة في هذه النزاعات.

أما فضله في استقلال القضاء فيتمثل في إصدار القانون ٦٦ لسنة ١٩٤٣ باستقلال القضاء،وبمقتضي هذا القانون أصبح القضاء سلطة مستقلة بذاتها، أي أنه حصل علي حقه في الاستقلال عن السلطتين الأخريين وبذلك أصبحت هناك منذ ذلك الحين حدود واضحة في نظام الدولة بين سلطات ثلاث: القضائية و التشريعية والتنفيذية، وقد نظم هذا القانون طريقة تعيين القضاة وترقيهم ونقلهم وندبهم وعدم قابليتهم للعزل وواجباتهم وحقوقهم وطريقة محاكمتهم وتأديبهم، وتنظيم كل ما يتعلق بأمورهم، ويري بعض المراقبين أن هذا القانون لم يترك صغيرة أو كبيرة إلا وقد عالجها ووضع الحلول المناسبة لها بما يحفظ عليهم كرامتهم ويؤمنهم علي مستقبلهم.

(2)

وقد عبر النحاس عن عقيدته تجاه القضاء أفضل تعبير بما تضمنته خطبته في حفل استقلال القضاء (١٠ يوليو ١٩٤٣) حيث قرن الاحتفال باستقلال القضاء باحتفال الوطن بعيد الجهاد وعيد الدستور حيث قال:

«أيها السادة…

«إن للأمم في تاريخها أياما تسعد بها وتهنأ، ولها في جهادها أعيادا تعتز بها وتفخر، لأنها مستمدة من صميمها، مقتبسة من كيان حياتها، تري فيها عزتها، وتشعر بشخصيتها. ولعل أبرز أعياد مصر في تاريخها الحديث وأخلد أيامها علي الزمان عيد جهادها لاسترداد حقوقها، وعيد دستورها الذي كسبته بعد جهاد طال أمده، واتسعت شقته، وأحيط بالأشواك، وارتطم بالعقبات، وجاء علي إثره إلغاء الامتيازات الأجنبية عملا مجيدا كلل بالتوفيق واقترن بالنجاح».

«ولعل من مفاخرنا نحن خدام مصر وقادتها أن نتحدث بنعمة الله علينا ونذكر مهللين مكبرين أنه سبحانه وتعالي جاء بكل هذه المكرمات علي أيدينا، وكان طبيعيا أن نكون أول من يفكر فيما يسعد بلادنا، ويرفع رءوسنا، ويزيد في اطمئنان مواطنينا علي حقوقهم، ويشعرهم بأننا رعاة مصالحهم، فإن من تفكيرنا وعملنا مشروع استقلال القضاء الذي نحتفل اليوم به ونشترك جميعا فيه».

(3)

وقد تحدث النحاس في خطابه عن استقلال القضاء حديثا رومانسيا عكس به مشاعر الوجد التي كانت تسيطر عليه تجاه المنصب الرفيع الذي تولاه في مطلع حياته:

«واستقلال القضاء، أيها السادة، معني تحسه النفوس حلوا كأنغام الطبيعة، جميلا كأحلام الشباب، طالما تمني كل مبتغ الخير قاصدا رفعة البلاد أن يكون مظهره بارزا للعيان تغلغله في النفوس. استقلال القاضي الذي وكلت حقوق الناس إليه، وأصبحت أموالهم وأرضهم وديعة بين يديه، يجلس في محراب العدالة قبلة القسطاس المستقيم، وغايته إحقاق الحق وإنصاف المظلوم، لا سيف من نقل أو عزل يسلط عليه، ولا تهديد ولا وعيد ينال منه، بل يختلي في صومعته المقدسة، هادئة نفسه، مطمئنا ضميره، يبحث وينقب، ويراجع ويقلب، حتي يصل إلي ما يستريح إليه، وليس عليه من رقيب سوي علام الغيوب. هذه حال قضاتنا من قديم، وهي ما أوحت إلينا أن نظهر ما خفي واستتر ونجعله في حرز أمين».

«ألا ما أجل هذا المنظر، وأجمل وأروع ذلك المظهر، وأسعد مصر وحكومتها الشعبية إذا أحيط قضاتها بضمانات قرت عيونهم، ورفعت بين الناس ذكرهم، ومكنت لهم استقرارهم، فلا يقال لقاض بعد اليوم عزلناك لأنك حكمت، أو أقصيناك لأنك تحديت وما خضعت».

(4)

وقد كان النحاس حريصا علي الدوام علي تجديد الإشارة إلي موقف حكومة الوفد الداعم لاستقلال القضاء:

«ولقد كان من سياسة حكومتنا أن يتحقق للقضاء استقلاله الفعلي، لأنه حق القاضي الطبيعي، وكنا في كل عهد نتولي فيه الحكم نضع نصب أعيننا تحقيق هذه الأمنية، والوصول إلي هذه الرغبة، فلم تكن الظروف تواتينا، ولا الأيام تنتظرنا، حتي إذا ما ولينا أمر البلاد هذه المرة جعلنا من أول ما عنينا به هذا المشروع، وما زلنا به حتي أخرجناه وسجلناه، فأصبح حقيقة قانونية فوق ما كان حقيقة فعلية في عهد الحكومات الدستورية فأرضينا بذلك ضمائرنا وبلادنا، ودعمنا سلطة القضاء ثالث السلطات وأحطناها بكل الضمانات والكفالات».

«ولا عجب أن يبلغ حرص وزارة الشعب علي استقلال القضاء هذا المبلغ، فرئيسها المتشرف بخطابكم من صميم الأسرة القضائية محاميا وقاضيا وابن المدرسة التي أخرجت أبناءها، له الفخر كل الفخر أن يشرف بالانتساب إليها، ويتحدث عن أحلي ذكريات شبابه التي قضاها في بيئتها، ومساعدوه في عمله كلهم مشبع بهذه الروح العالية، وجلهم من أبناء الأسرة نفسها ومن المحامين الذين تعتز بهم المحاماة وتهنأ، وهم فوق هذا وذاك أبناء الوفد وخلصاء سعد عماد القضاء والمشيد للعدالة صرحا عاليا، والذي دعا إلي الحرية وفني في سبيلها، وخلفناه علي هذا التراث المجيد حتي كلل مسعانا بالفوز فما أخلقنا بتقديس الحرية، وما أجدرنا بالعمل علي إعطائها لكل إنسان وليست حرية القاضي إلا جزءًا لا يتجزأ من الحرية العامة، وركنا لا يتم تشييدها إلا به، فإذا اطمأن إلي حريته، واستراح إلي مستقبله، عاش في هدوء بال وراحة ضمير، عند ذلك يزداد المواطنون رضا واطمئنانا، وتستقر البلاد أمنا ونظاما، وليس أثر هذا القانون قاصرا علي شئوننا الداخلية فحسب، بل هو يتعداها إلي شئوننا الخارجية، إذ هو متصل وثيق الاتصال باستقلال البلاد وكرامتها القومية بين الدول التي تتمتع بالحرية والاستقلال».

(5)

وكان النحاس باشا حريصًا علي أن يطلب من زملائه رجال القضاء أن يولوا عنايتهم الكبري للوجه الآخر لهذه القضية:

«بقيت لي كلمة أخيرة أوجهها إلي حضرات زملائي وإخواني وأبنائي القضاة.. كبيرهم والصغير… أي رجال القضاء»

«الآن وقد أدينا نحوكم ونحو مصر واجبنا، وأرضينا ضمائرنا، وحققنا أمنية من أعز أماني بلادنا، الآن وقد وضعنا حاضر العدالة ومستقبلها بين أيديكم، وحطناكم بكل الضمانات التي تحميكم، وتجعل ضمائركم هي الحكم، العدل، ورأيكم هو القول الفصل الذي لا معقب عليه، ولا راد له، الآن نري أن نذكركم لا نصحا منا، ولا نسيانا منكم، ولكنها ذكري تنفع المؤمنين، ليكن لكم من ضمائركم راعيا، ومن خشية الله علام الغيوب حافزا، ومن استقلالكم وتحريكم الحقائق عن الظلم سياجا مانعا، واذكروا دائما تلك الحكمة الأزلية التي ألهمها الله محمدا عليه الصلاة والسلام: «ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء إلا من عدل»، اذكروا دائما أن الميل لأحد المتخاصمين حتي بالقلب خطيئة، وامتياز أحدهم علي الآخر في مجلس القضاء شبهة، فابتعدوا ما استطعتم عن الخطايا، وتجنبوا الشبهات، وإياكم أن تخلطوا السياسة بالعدالة، أو تدخلوا الحزبية في القضاء، فهذا سلاح ذو حدين يفتك بالظالم والمظلوم علي السواء، والويل لأمة تحكمت في قضائها النزوات والأهواء، وطوبي لقاض سما بقضائه عن الشبهات وارتفع عن الشهوات، وكان الحق رائده، والعدل قائده، ورضا الله غايته ومقصده، طوبي لقاض لم يكن عبد هواه، ولم يبع آخرته بدنياه، إلا ما آثره عنه الناس وأكرمه عند الله».

«هذه كلمتي وجهتها إليكم، وتذكرتي تلوتها عليكم، ولا أخالكم إلا لها مصغين، وبها عاملين، فكلكم لا شك يحسها كما أحسها، وكلكم يعرفها ويقدرها حق قدرها: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها والله لا يضيع أجر المحسنين..

«وإني بهذه المناسبة أعلن في حفلكم هذا أن الحكومة قد قررت منحكم قطعة أرض مساحتها 2089م٢ التي أخذتموها بأنفسكم، كما وافقت علي منحكم 10.000 جنيه مساهمة لإقامة ناديكم عليها».

(6)

ظل النحاس باشا طيلة حياته مؤمنًا باستقلال القضاء واحترامه، وقد كان هذا السلوك هو الذي هيأ المناخ في أثناء وزارة الوفد الأخيرة للسلطة القضائية كي تتولي التحقيق في صفقة الأسلحة الفاسدة، وهو التحقيق الذي بلغ ذروته عندما طلب النائب العام استقالة حيدر باشا القائد العام للقوات المسلحة وعثمان المهدي رئيس أركان حرب الجيش، لكن النحاس باشا نفسه فيما روته المذكرات التي سجلها الأستاذ محمد كامل البنا يأسف من أن سلوك النائب العام تبدل وخضع لحاشية الملك، مما دفع النحاس باشا أن يجبره علي الاستقالة أو النقل إلي وظيفة أخري، وهي واقعة معروفة ولا تزال في حاجة إلي كثير من إلقاء الضوء عليها.

«شمر النائب العام عن ساعد الجد وبدأ التحقيق في صفقة الأسلحة الفاسدة في حماسة، وثبت لديه أن إدمون جهلان أحد موظفي السراي والمقربين إلي الملك مدان فأصدر أمرًا بالقبض عليه في الحال، وهرب أدمون إلي السراي الملكية يحتمي فيها واتصل حسن يوسف وكيل الديوان الملكي بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين وكان يقضي الصيف في مصيف بلطيم ورجاه أن يمنع البوليس من تنفيذ أمر النائب العام لأن هذه رغبة جلالة الملك، فأبي فؤاد وأصر علي تنفيذ أمر النائب العام في الحال، ولما أخبرني وزير الداخلية بهذا الحديث باركته وشكرته علي سرعة الرد علي طلب وكيل الديوان».

«واضطر المسمي جهلان إلي تقديم نفسه إلي النائب العام الذي أرسله إلي السجن حتي يتم التحقيق، ولم يكن جهلان هو وحده المتهم في صفقة الأسلحة بل كان هناك عدد من موظفي السراي أمر النائب العام بالقبض عليهم معتمدًا علي تأييد الحكومة في جميع تصرفاته، وقبض علي انطون بوللي، ومحمد فهمي حسين، وطلب استقالة حيدر وزير الحربية، وعثمان المهدي رئيس أركان حرب الجيش باعتبارهما مسئولين عن صفقة الأسلحة الفاسدة».

«لكن النائب العام محمد عزمي الذي شجعته هذا التشجيع كله وأعطاه وزير العدل صكًا كتابيًا بأن يتصرف بحرية وعدل وشجاعة.. هذا النائب سرعان ما خضع لأوامر حاشية الملك وإذا بالحكومة تفاجأ بأنه أصدر أمرًا بالإفراج عن المعتقلين في صفقة الأسلحة من رجال القصر الملكي، ولم يكتف بهذا بل حفظ التحقيق بالنسبة لرجال الحاشية جميعًا، وسحب طلب استقالة حيدر وعثمان المهدي اللذين طلبهما من وزير الحربية أول التحقيق وعادا إلي منصبيهما».

«أثارني هذا التصرف وآلمني كل الألم فاستدعيت وزير العدل وقلت له خير النائب العام حالًا بين أحد أمرين: إما أن يستقيل من منصبه أو ينقل إلي وظيفة أخري، واستدعاه ونقله إلي إدارة قضايا الحكومة».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(7)

وقد أشرنا في كتابنا «في رحاب العدالة» إلي ما روي به عبد الفتاح حسن بعض ملامح موقف وزارة الوفد من قضية الأسلحة الفاسدة، ولعل أول هذه الملامح أنه استطاع، ولم يكن قد أصبح وزيرًا بعد، أن يعلن عن تمكين النائب العام من القبض علي أحد رجال الحاشية، لو أنه أراد القبض عليه، ومن الإنصاف أن نشير إلي أن الوزارة الوفدية تحت قيادة النحاس كانت تعزف لحنا واحدا في هذه القضايا الشائكة، وهو ما مكن عبد الفتاح حسن من أن يتخذ مثل هذا الموقف بكل وضوح وكأنه رئيس الوزارة الوفدية نفسه.. مع أنه كان لا يزال وكيلًا برلمانيًا فحسب.. ولنقرأ هذه القصة التي أكدها الطرف الثاني وهو حسن يوسف باشا:

«… كان فؤاد سراج الدين يلقي خطابا في حفل افتتاح مركز بلطيم، بوصفه وزيرا للداخلية، وإذا برسول يهمس في أذني ـ وكنت حاضرا ذلك الحفل ـ أن السراي اتصلت بنقطة السواحل التي تقع علي مسافة قريبة من مكان الاحتفال، وتطلب الاتصال تليفونيا بالوزير بصفة عاجلة، وقدرت أن خطاب الوزير قد يستغرق وقتا طويلا، وربما كان الأمر المراد الاتصال بالوزير فيه شأن يقتضي المبادرة بالاتصال، ودنوت منه واستأذنته في الانصراف وصحبني محمود البديني إلي حيث وصلنا نقطة السواحل، فإذا بالمتكلم هو حسن يوسف وكيل الديوان الملكي، واعتذرت عن عدم حضور الوزير، فقال: إنه كان يريد أن يستطلع رأي الوزير في وضع إدمون جهلان (وكان جهلان أحد المقربين للملك من المتهمين في قضية الأسلحة الفاسدة) الذي حضر من الخارج حيث كان في رفقة الملك، الذي كان قد صدر أثناء وجوده بالخارج أمر النائب العام بالقبض عليه، وأشار حسن يوسف إلي أن جهلان معتصم حاليا بقصر عابدين، وإلي أنه أمين خزينة الملك، وأنه عاد من الرحلة بشأن خاص ويعتزم العودة، واستفسر حسن يوسف عن الوضع بالنسبة لأمر القبض فيما لو أراد النائب العام تنفيذه، فقلت له: إن النائب العام له سلطته ومن حقه أن يمارسها، وإن وزارة الداخلية لا تملك أن تخالف النائب العام الذي له إن شاء تنفيذ أمره، فقال حسن يوسف: هل هذا هو رأي الوكيل البرلماني أم هو رأي وزير الداخلية؟ فكان جوابي أن ذلك هو رأي الحكومة، وانتهي الحديث عند هذا الحد، ونقلت إلي الوزير ـ الذي كان قد فرغ من خطابه ـ فحوي الحديث الذي دار بيني وبين حسن يوسف تليفونيا فأقرني تماما علي ما قلت».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(8)

وقد حرص عبد الفتاح حسن علي أن يشير إلي أن حسن يوسف قد سجل هذا الموقف بكل أمانة في السجلات الملكية، وأن مجلة «التحرير» التي أصدرتها الثورة بعد قيامها قد نشرت نص هذا الحديث التليفوني:

«وحدث أثناء نظر قضية فؤاد سراج الدين بمحكمة الثورة، وكنت محاميا للمدعي عليه (فؤاد سراج الدين في القضية المذكورة سنة 1954) أن نشرت مجلة التحرير ـ التي كانت تصدر في ذلك الوقت وتعبر عن اتجاهات الثورة ـ نص حديث عثر عليه في السراي يتضمن الحديث المشار إليه، وقد تبين من مطالعة الحديث المنشور بالمجلة أن حسن يوسف قد سجله في ذلك التقرير الصادر عنه بكل دقة، وأمانة، وصدق، وقدمت عدد مجلة التحرير إلي محكمة الثورة كدليل ساقته عناية الله لإعطاء صورة صحيحة عما كان يجري في تلك الأيام من عام 1950».

(9)

وهناك ملمح آخر تدلنا عليه مذكرات عبد الفتاح حسن فيما يتعلق بقضية الأسلحة الفاسدة وموقف الوزارة الوفدية منها، فهو الإشارة إلي أن الملك فاروق نفسه كان قد بدأ يحسب حسابا لامتداد إجراءات النيابة العامة ضده هو شخصيا:

«… وأبعد من ذلك مدي أن الملك قبل وصوله إلي ميناء الإسكندرية من رحلته إلي الخارج في صيف 1950 أرسل يستفسر عما إذا كان من الجائز أن تتخذ النيابة العامة ضده (شخصيا) إجراء عند نزوله إلي أرض الميناء، فأجيب ردا علي استفساره بأن هذا غير جائز دستوريا، ولكن هذه الحصانة الدستورية مقصورة علي شخصه، ولا تمتد إلي أحد سواه من حاشيته أو مرافقيه».

ثم يقول عبد الفتاح حسن:

«لا بد أن استفسار الملك والرد عليه قد عثر عليهما ضمن ما وجد بالقصور الملكية من وثائق يلزم بعد تصنيفها علي يد الأمناء المختصين اطلاع الرأي العام عليها».

ويحلل عبد الفتاح حسن ما رواه بنفسه فيقول:

«ولئن دل الاستفسار من جانب الملك علي شيء فإنما يدل علي مدي إشفاق الملك علي ذاته من تصرفات النيابة العامة، وخوفه علي شخصه من أن تمتد إليه أوامرها».

(10)

وربما كان من حق النحاس باشا ومن حق القارئ في مقامنا هذا أن نلقي بعض الضوء علي موقف الوفد مما عُرف بالتشريعات المقيدة للصحافة التي تقدم بها نائب وفدي (هو أسطفان باسيلي المحامي) إلي البرلمان الوفدي الأخير، وسوف نعتمد في تصوير الأمور علي رواية وزير وفدي شارك في هذه المعمعة وهو عبد الفتاح حسن، وقد عرضناها بالتفصيل في كتابنا «في رحاب العدالة».

ومن الجدير بالذكر أن النائب نفسه قد استشعر أن عليه أن يخضع للرأي العام فسحب التشريعات التي تقدم بها.

وهذه هي رواية عبد الفتاح حسن:

«قدم أسطفان باسيلي المحامي عضو مجلس النواب ثلاثة اقتراحات بمشروعات قوانين بشأن الصحافة: أحدها بتعديل أحكام قانون العقوبات (م 199، 200 ع) بحيث تكون المادة 199 ع:

«إذا ارتكبت جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المواد السابقة وفي المادتين 303/2 و 308، بطريق النشر في إحدي الجرائد واستمرت الجريدة أثناء التحقيق أو بعد إحالة الدعوي إلي المحكمة علي نشر مادة ما يجري من أجل التحقيق أو المحاكمة أو من نوع يشبهه، أمرت المحكمة بناء علي طلب النيابة العامة وبعد سماع أقوال المتهم بتعطيل الجريدة مرات لا تقل عن ثلاث ولا تزيد علي خمس عشرة مرة، ويعاد هذا التعطيل كلما عادت الجريدة إلي النشر المحظور».

«ويبطل فعل هذا الأمر إذا صدر أثناء مدة التعطيل أمر بحفظ القضية أو قرار بألا وجه لإقامة الدعوي أو حكم بالبراءة».

«وتشير المذكرات إلي أن المادة 303/2 ع خاصة بالقذف في حق الموظف العام أو ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة، وأن المادة 308 ع خاصة بالعيب أو الإهانة أو القذف أو السب طعنا في عرض الأفراد أو خدشا بسمعة العائلات، كما تشير إلي أن للمادة 200 ع (وهي التالية للمادة المراد تعديلها) آثارا معينة علي صدور الحكم بالإدانة».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«وثاني الاقتراحات إضافة أحكام لقانون المطبوعات بتفسير المادة 15 من الدستور بحيث تعتبر الجريدة خطرا علي النظام الاجتماعي إن ثبت أنها دأبت بكيفية مطردة علي نشر ما من شأنه إيقاع العداء بين طبقات المجتمع أو إغراء الناس بالقضاء علي إحداها أو تسويدها، ويجوز في الحالات المذكورة لمجلس الوزراء إلغاء الجريدة أو وقفها، ولوزير الداخلية إنذارها».

«وثالث الاقتراحات ينص علي نظر الجرائم الصحفية علي وجه السرعة».

(11)

وقد أردف عبد الفتاح حسن تلخيصه لهذه التعديلات بإنكار أي دور له في إعدادها أو اقتراحها، مشيرًا إلي صدي هذه التشريعات في الرأي العام وبين الشيوخ والنواب الوفديين:

«وقد قوبلت التشريعات المقترحة بموجة من السخط، وكان من بين الساخطين عدد كبير من الشيوخ والنواب الوفديين».

«وأود أن أسجل من جديد تأكيدي بأنني لم أشترك بأية صورة من الصور في اقتراحها أو صياغتها».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«من المؤكد أن الملك لم يطلب مني ـ عند أداء اليمين ـ أو بعد ذلك وضع أو تقديم تلك التشريعات، ولم يشر إلي ذلك علي أي وجه من الوجوه».

«وينبغي أن تكون لنا الشجاعة للقول بأن وزيرا أو أكثر، ووكيلا لوزارة العدل ربما كانوا قد اقتنعوا بصواب إصدار تلك التشريعات بالصورة التي تبدت عليها، فلما قوبلت بموجة من السخط رأت الحكومة أن تعلن تخليها عن مؤازرة استصدار تشريعين من التشريعات الثلاثة».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ربما كان من حق القارئ علينا أن نشير هنا إلي ما هو معروف من أن الدكتور طه حسين وزير المعارف كان من المؤيدين لإصدار تلك التشريعات!!

(12)

وقد كرر عبد الفتاح حسن الإشارة في ذكاء إلي ضيقه بالشائعات التي نسبت إليه إصدار هذه التشريعات، وإلي تصديه مباشرة لهذه الشائعات ورد فعله الحاسم في مواجهتها، وتوجيه النحاس باشا له بالتوجه إلي البرلمان وإعلان عدم مؤازرة الوزارة الوفدية لتشريعين من تلك التشريعات:

«… وأذكر أنني كنت قد ضقت كثيرا بما أشيع حول وضعي من تلك التشريعات، وبما تردد من أن لي دورا في صياغتها، فلما لم يعد في طاقتي تحمل ما يلصق بي قابلت مصطفي النحاس في صباح اليوم الذي كان مقررا لعقد اللجنة التشريعية بمجلس النواب بإدارة جامعة الإسكندرية واستأذنته في الاستقالة من الوزارة، وقلت له: إن التشريعات مرة المذاق لدي الشعب بكافة طوائفه، وهي ضارة بسمعتنا خصوصا أن البعض يرمينا بأننا إنما ننفذ مشيئة الملك، وهو أمر غير صحيح، وانتهي الحديث بموافقة النحاس لأتوجه إلي اللجنة التشريعية وأعلن أن الحكومة تصرح بعدم مؤازرتها لتشريعين من تلك التشريعات، وأسرعت بالذهاب إلي اللجنة فإذا بأسطفان باسيلي كان قد سبقني بإعلان تخليه أمام اللجنة عن تلك التشريعات».

«وبمجرد أن وصلت إلي مقر اللجنة إذا بموريس فخري عبد النور المحامي ـ عضو مجلس النواب ـ يقول إنه يريد أن يسأل الوزير إن كانت الوزارة تعتزم استصدار هذه التشريعات بمراسيم بقوانين في غيبة البرلمان؟ وكنت أعرف أنه ليس عضوا في تلك اللجنة بالذات، وإنما له حق حضور اللجنة المذكورة مستمعا دون أن يسجل له طلب أو رأي.. وبدا علي وجهه ما يشير إلي الظن بأنني ربما أتهرب من الجواب علي سؤاله، ونهض علي الأثر عزيز فهمي عضو اللجنة التشريعية، وهو من أعز أصدقائي، ويعرف جيدا من قبل وضعي علي حقيقته من تلك التشريعات، وكان من أبرز الساخطين، وأشد المقاومين لأي قيد علي الحريات، وهو بطبيعته يقاتل في صف الحرية دائما، ويستعذب الاستشهاد في سبيلها، وصاح: أنا عضو في اللجنة التشريعية ومن حقي أن أسألك».

(13)

هكذا نفهم من النص الذي أثبته عبد الفتاح حسن في ذكرياته ما لم يشر إليه صراحة من أنه (أي عبد الفتاح حسن نفسه) لمح لموريس فخري عبد النور أنه ليس من حقه أن يسأله لأنه ليس عضوا في اللجنة التشريعية، ونحن نفهم هذا من عبارة النائب الوفدي الشهير عزيز فهمي الواضحة.

ويورد عبد الفتاح حسن نص محضر جلسة لجنة الشئون التشريعية وفيه:

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«عبد الخالق عمر (وفدي): أنا أري أن تقرر اللجنة بأن تطالب الحكومة بوعد بألا تستصدر هذه التشريعات في غيبة البرلمان بمراسيم بقوانين».

«محمد زكي (نائب مستقل): اللجنة لا تستطيع استصدار مثل هذا الإقرار، إذ ليس في إمكاننا أن نكلف الحكومة به».

«الرئيس: نحن كلجنة محال علينا موضوع للمناقشة، وصاحب الاقتراح سحبه، وبالتالي سقط هذا الموضوع فليس للجنة أن تتكلم فيه».

«أسطفان باسيلي: حتي ولا تناقش فيه».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

الأستاذ عزيز فهمي (وفدي): أشيع إن صدقا وإن كذبا أن الحكومة وافقت موافقة ضمنية علي بعض ما جاء في مشروعات القوانين التي سحبها اليوم زميلنا الأستاذ أسطفان باسيلي، وبما أن هذه الشائعة تركت في نفوس بعض حضرات النواب المحترمين، وفي الرأي العام أثرا غير طبيعي، لذلك يكون من المستحسن ـ فيما أظن ـ لو تفضل أحد حضرات أصحاب المعالي الوزراء بتصريح يثبت في محضر الجلسة يطمئن اللجنة التشريعية، وحضرات النواب جميعا إلي أن الحكومة لا تزمع إصدار مثل هذه التشريعات بالذات أثناء العطلة البرلمانية في صورة مراسيم بقوانين طبقا للمادة 14 من الدستور، وأنا واثق من أن الحكومة لن تلجأ إلي هذا».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

ثم يدلنا المحضر المسجل علي أن عبد الفتاح حسن (وهو الوزير الوفدي) كان يتباري مع عزيز فهمي (وهو النائب الوفدي) في الانتصار لحرية الرأي، والتعبير عن الإيمان بهذه الحرية:

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«حضرة صاحب المعالي عبد الفتاح حسن: «إن هذه الحكومة ـ وعلي رأسها مصطفي النحاس ـ ليست أقل حرصا من أغلي غلاة المتحمسين لحرية الصحافة، وتقديس رسالتها، وليس للشائعات التي يرددها البعض ـ مغرضا في ترديدها ـ أي وزن في تقديرها فهي لا تتصرف في المسائل العامة إلا مبتغية الصالح العام دون غيره، وإذا كان حضرة النائب المحترم أسطفان باسيلي قد قدم الاقتراحات بمشروعات القوانين التي طرحت علي لجنتكم فإن الحكومة قد بسطت وجهة نظرها فيها».

«وإذا كان حضرة النائب المحترم ـ بباعث من الصالح العام وحده ـ قد بدا له أن يستردها، فتقدير ذلك إلي اللجنة أولا ثم إلي البرلمان ثانيا».

(14)

ومع حرص هؤلاء الوفديين علي التقاليد البرلمانية التي لا تلزم نفسها بتعهد دون ضرورة له، فإن الوزير الوفدي قد تعهد أمام النواب بما طالبوه بعد أن أثبت وسجل أن هذا التعهد مما لم تجر به التقاليد البرلمانية:

«أما ما أشار إليه حضرة النائب المحترم الدكتور عزيز فهمي من سماع رأي الحكومة، أو علي الأصح بتعهدها فلم تجر التقاليد بذلك في مثل هذه الحالة، ولكني أطمئنه بأصرح عبارة أن هذه الحكومة لا يمكن أن يطوف بخاطرها أن تستصدر تشريعات مثل ما عرض عليكم في غيبة البرلمان، وتصرح بأنها لن تستعمل المادة 14 من الدستور في هذا الشأن بالذات، والذي أقدره وأفهمه أن الرخصة الموجودة في المادة 14 من الدستور لا تجيز ذلك».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(15)

وقد انتقل عبد الفتاح حسن مباشرة (علي نحو ما يدلنا محضر الجلسة الذي أثبته في ذكرياته) إلي تنبيه النواب إلي الفرق الكبير بين التشريعين الأول والثاني من ناحية، والثالث من ناحية أخري، وقدم مبرراته للحرص علي مناقشة التشريع الثالث وإقراره، وهي مبررات قوية كما نري:

«علي أني أصارحكم أيضا بأن التشريع الثالث وهو الخاص بالإجراءات الجنائية لا يمكن لأحد أن يدعي أن فيه مساسا بالحرية من قريب أو من بعيد، كما أنني أعتبر أن الصحفي الذي يقدر رسالته لا يمكن أن يتصور فيه أنه يستهدف أمل التراخي في محاكمته، لأنه لا يمكن أن يطعن صحفي بأكثر من أنه حين يكتب ـ والطبيعي أن يكون مؤمنا بما يكتب وبصحة ما يكتب ـ ويقدر في الوقت ذاته أنه سيتراخي في الفصل فيما أثاره، إن رئي إقامة الدعوي العمومية عليه، ولم أسمع من أحد من حضرات ممثلي نقابة الصحفيين اعتراضا واحدا علي هذا التشريع، كما أن حضرة النائب المحترم الدكتور عزيز فهمي ـ في مجال غير هذا المجال ـ لم يطعن علي هذا التشريع طعنا ذاتيا، لهذا أصرح بأن هذا المشروع وهو الخاص بالإجراءات الجنائية، تعتزم الحكومة أن تتقدم به في هذه الدورة إليكم».

«الدكتور عزيز فهمي: أشكر لحضرة صاحب المعالي عبد الفتاح حسن هذا التصريح وتفسيره للمادة 14 من الدستور يبعث في نفوسنا كل الطمأنينة، أي أن الحكومة لن تصدر أي تشريع من التشريعات، سواء كان خاصا بحرية الصحافة أو غيرها، ومعالي عبد الفتاح حسن تكلم عن مشروع الإجراءات الجنائية، وإنني لا أري في نظر قضايا الصحافة علي وجه الاستعجال ضررا ما».

«الأستاذ محمد زكي: سأتبناه أنا».

(16)

وقد أورد عبد الفتاح حسن من فقرات المضبطة البرلمانية ما يدل دلالة واضحة علي أنه كان حريصا علي أن ينفي التهمة عن زملائه ممن مالوا إلي تأييد هذا القانون، وقد أشرنا من قبل إلي أن الدكتور طه حسين نفسه كان، وهو وزير المعارف في وزارة الوفد من مؤيدي هذه التشريعات.. لكن عبد الفتاح حسن لا يركز علي إبراء الاتهام عن نفسه ونسبته إلي الآخرين من زملائه من وزارة الوفد، وإنما هو بدفاع المحامي القدير يلجأ إلي القول بأنه لا يجوز الفصل بين وزراء الحكومة القائمة وتقسيمهم إلي قائمتين:

«حضرة صاحب المعالي عبد الفتاح حسن: إذا كان قد بدا للبعض بأن يصور الوزراء فوضع البعض منهم في قائمة ووضع الآخرين في قائمة أخري، فإنني أعتقد أن هذا الوضع غير صحيح لأننا كلنا في قائمة واحدة هي قائمة الشرف دون غيرها حيث يفهم الشرف، وفي قائمة دعاة الحرية حيث تفهم الحرية، ونحن دائما في صف الصالح العام دون غيره، لهذا كنت معتزما ـ إن كنت استطعت أن أدرك هذا الاجتماع من بدايته ـ أن أقرر هذا بلسان رفعة رئيس الحكومة وبلسان جميع الوزراء دون تفريق بين أحد منهم، فنحن علي رأي واحد ولن نختلف في هذا الشأن، فإذا قلتم إن أحد الوزراء في قائمة الشرف وقبل آخر أن يكون في صف الآخرين ويظل في منصب الحكم فإنكم تتهمونه بالكثير».

وقد أكدّ عبد الفتاح حسن علي هذه الفكرة بطريقة أخري، مشيرا إلي أن إبداء الرأي علي لسان وزير ما لا يستتبع أن يكون هناك رأي غير رأي الأمة:

«والحق الذي يقال إن هذه الحكومة علي رأي واحد وفكرة واحدة في تقديسها للحرية، وأنه حين تتجلي إرادة البلاد فيكم أنتم لا في أحد آخر تنزل علي إرادتكم لأنها لا تنحني إلا لإرادتكم، وأنتم الذين تمثلون إرادة الأمة، ونحن عند مشيئتكم لهذا حين قلت لحضراتكم إن المشروع الأول الذي وجه إليه من الاعتراضات ما وجهه أحد المعترضين الذي سمعته وكنت من الدعاة لسماعه وكنت محاولا في كل مرة أن أمنع ما يمكن أن يعوق كلامه، وأنت تسمعني يا دكتور عزيز الآن وتفهمني، وإذا كان هذا رأيي، ولا أقول إنه شأن يختلف عن شأن جميع حضرات الزملاء، فأنا واحد منهم أمثل فكرتهم جميعا دون تفريق أو تمييز لأحد منا علي الآخر، وإذا كانت هذه الإرادة قد تجلت فنحن عند إرادتكم لا ننحرف عنها، ولا يمكن أن يصدق ما يتردد من الشائعات من أن هذه التشريعات ستصدر وفي غيبة البرلمان علي غير مشهد منكم وبمراسيم بقوانين خاصة بحرية الصحافة وقد أردتم أن أعيد هنا ذلك لهذا تعمدت أن أكون صريحا في الرد».

(17)

وقد كرر الوزير الوفدي عبد الفتاح حسن التأكيد علي أهمية عرض مشروع القانون الثالث لما يراه من فائدة للصحافة والصحفيين في نصوص هذا المشروع:

«أما فيما يختص بالمشروع الثالث فسأكون صريحا أيضا حين أقرر أن في هذا المشروع خدمة للصحافة لأنه لا يجوز أن يقال للصحفي أنت تكتب ومؤمنا بما تكتب وتقذف في ذوي الصفة العامة ومن حقك أن تقدم الدليل علي صحة الوقائع، ومع ذلك تطلب التراخي في محاكمتك».

«إنني أجل الصحافة ولم أسمع ممن اتصلت بهم من رجالها اعتراضا ما علي هذا التشريع، وإن كانوا قد سلكوه ضمن التشريعات الأخري، إلا أنه لا يجوز أن تُعمم المعارضة علي التشريعات كلها، فهل يستطيع أحد من حضراتكم أن يقول ف أن هذا التشريع وكل قوامه سرعة المحاكمة دون تحديد لأمد الفصل في الدعوي ودون قيد علي طريقة استمداد المحاكم للعناصر التي تكون علي أساسها رأيها، هل يستطيع أحد أن يقول إن فيه مساسا بالحرية؟».

«وهل الصحفي الذي يقدس رسالته يشفق من سرعة نظر الدعوي للفصل فيها؟ فإن كان لأحد من حضرات النواب رأي آخر فيما أقول فإني علي استعداد لسماعه ومناقشته».

«والحكومة تصارحكم بأنها عند الرأي الذي بسطته من أنه إذا لم يتبن أحد من حضراتكم هذا المشروع، فإنها ستتقدم به إلي المجلس في هذه الدورة وتطلب نظره علي وجه الاستعجال، وله (أي للمجلس) الكلمة الأولي والأخيرة».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

«محمد زكي (نائب مستقل): أطلب الاستمرار في نظر الاقتراح بالقانون الخاص بالجرائم التي تقع بواسطة الصحف».

«الرئيس: بناء علي ذلك قررت اللجنة نظره».

«حضرة صاحب المعالي عبد الفتاح حسن: بعد استئذان حضرة الرئيس، أذكركم بأننا ناقشنا هذا المشروع، وكان باقيا أخذ الرأي، وأنا الذي كنت طلبت إرجاء أخذ الرأي».

«الرئيس: المشروع سبق مناقشته في الجلسة الماضية، وأعتقد أنه لا داعي للمناقشة فيه وسنأخذ الرأي الآن».

(18)

ومما يحسب لعبد الفتاح حسن حرصه علي أن يسجل نتيجة التصويت علي هذا المشروع في البرلمان علي مستوي اللجنة، ثم علي مستوي مجلس النواب نفسه. ومن الجدير بالتقدير أن نري من المعترضين علي المشروع ثلاثة وفديين كان منهم أحمد أبو الفتح، وإبراهيم طلعت، ونحن نعرف من تاريخهما ومعاناتهما في عهد الثورة ما يجعلنا نقدر حجم هذه المعاناة بعد ما عاشوه من حرية مفرطة تجلت في مثل هذه المواقف:

«أخذ الرأي فاتضح أن الأغلبية تؤيد الاقتراح، ووفق عليه بالإجماع.. وكان أعضاء اللجنة هم: عبد المجيد عبد الحق، عزيز فهمي، إبراهيم مكاوي، شفيق الديب، عبد العظيم عيد، عبده البرتقالي، الدكتور حامد خليل الشريف، محمد زكي، مصطفي صبري الشنواني، محمد محمد قراعة، أسطفان باسيلي، عبد الخالق أحمد عمر».

«ثم أسفرت مناقشة المشروع في مجلس النواب عن الموافقة عليه بأغلبية 116 صوتا ضد سبعة أصوات: أحمد أبو الفتح، أحمد حمادي، إبراهيم طلعت (وفديون) ـ إبراهيم شكري (اشتراكي حزب أحمد حسين) ـ الدكتور نور الدين طراف (حزب وطني) ـ محمد توفيق خشبة ، علي كامل كيلاني (الهيئة السعدية)».

«ثم أقر مجلس الشيوخ المشروع بجلسة 20 أغسطس 1951».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

(19)

ونأتي إلي قصة تتصل بالفهم الدقيق والعميق لسيادة القانون في الممارسات اليومية والاقتصادية علي حد سواء، وهي قصة من أكثر القصص إثارة وغموضًا، وهي التي عرفت بقضية «الكورنر»، وقد دار اللغط فيها حول مساندة وزارة الوفد أو بعض مسئوليها لفرغلي باشا وعلي يحيي باشا في موقفهم من تجار القطن، مما أدي إلي تحقيقهم أرباحًا بدلًا من أن يحققوا خسائر كانت متوقعة، وذلك بسبب لجوء التجار إلي مجلس الدولة لإنقاذهم من الوفاء بتعهداتهم تجاه التاجرين الكبيرين، مستندين في هذا اللجوء إلي عدم شرعية المضاربات والمعاملات في البورصة، وهو ما كان يعود بالخسارة علي فرغلي ويحيي.

وقد ظلت الحقيقة في هذه القضية غائمة حتي نشر فرغلي باشا مذكراته التي تناولناها بالمدارسة في كتابنا «مذكرات الهواة والمحترفين»، وقدم بكل وضوح ما يفيد أن الملك (وحاشيته) هم مَنْ تورطوا (بمقابل) في الوقوف إلي جانبه.. وإن كان هذا قد ظهر علي أنه تأييد من الحكومة لبيت من بيوت المال المصرية.

وقد أشرنا في كتابنا إلي أن فرغلي باشا لم يجد حرجا في أن يروي كيف استطاع بطرق أو بأخري أن يفلت من خسارة ملايين الجنيهات، وكيف استطاع علي يحيي باشا أن يجعل الملك يؤثر علي الحكومة بحيث يمارس ضغطا علي الوزارة الوفدية القائمة لصالح فرغلي باشا ويحيي باشا في مقابل 150 ألف جنيه للملك و10 آلاف جنيه للأوركسترا (أي الحاشية) بمن فيها إندراوس:

وفي الحقيقة فقد أضاف فرغلي باشا إلي المصادر التاريخية شهادة مهمة له حول موقف كل من الملك وحاشيته وحكومة الوفد من هذه القضية الكبري الشهيرة بقضية الكورنر، وقد أشرنا عند نشرنا لكتابنا «مذكرات الهواة والمحترفين» إلي حقيقة أن شهادة فرغلي باشا في كتابه هذا واضحة وصريحة في إدانة الملك وتبرئة النحاس باشا والوفد، وعلي الرغم من أننا لا نستطيع أن نعتمد عليها اعتمادًا كليا في هذا الصدد فإن الضوء الذي تلقيه هذه الشهادة علي الأحداث قد أعطي فهمنا لما جري بعدًا جديدًا جدًا لم يكن متوفرًا قبل صدور كتاب فرغلي باشا الذي عبر فيه عن وجهة نظره بطريقة الرواية، أو قل إنه روي فيه الوقائع متأثرة بوجهة نظره، وها هو يقول بمنتهي الوضوح:

«كانت الفترة من عام 1934 إلي عام 1950 هي السنوات التي وصلت خلالها إلي قمة النجاح في حياتي الاقتصادية والعامة، وأصبحت مساهمًا في عدد كبير من الشركات، وعضوًا في مجالس إدارات العديد من الشركات، والبنوك، وحصلت علي لقبي «بك» و«باشا» ودخلت مجلس الشيوخ عضوا، وأطلقت عليَّ الصحف الأجنبية والمصرية لقب «ملك القطن» كما أن شركة «فرغلي» للأقطان والأعمال المالية توسعت في أعمالها، وبدأت تحقق ربحًا سنويا يصل إلي حوالي المليون جنيه، وتوطدت علاقتي مع كبار الساسة المصريين، وصناع القرار، وانتخبت رئيسًا لبورصة القطن، ورئيسًا لاتحاد المصدرين عدة مرات، وساهمت في أعمال الكثير من الجمعيات الخيرية، وحصلت علي عدد من الأوسمة».

«إلي أن كان عام 1949 حيث اتفقت مع «علي يحيي باشا» وآخرين علي تكوين مجموعة شرائية، وتعاقدنا علي شراء نصف مليون قنطار قطن، ومن المعروف أن هذا التعاقد يتم في بورصة العقود قبل أن يوجد القطن في الأسواق».

«وعندما يقوم صغار وكبار التجار ببيع أقطانهم إلي المصدرين فهم يفعلون ذلك ثقة منهم في إمكان تدبير هذه الكميات عن طريق شرائها من المزارعين».

«بعد فترة اكتشف هؤلاء التجار أنهم لن يتمكنوا من تسليم الكميات التي تعاقدوا علي بيعها لنا بالمواصفات المحددة في العقود، وفي الوقت المحدد أيضًا، بدءوا يفكرون في الخروج من المأزق، فقدموا شكوي إلي البورصة يطلبون إعفاءهم من التسليم بالشروط المحددة في العقود، ونظرت البورصة في الشكوي، وأقرت بضرورة تسليمهم الأقطان حسب ما جاء في العقود وعندما خسروا الجولة الأولي في البورصة بدءوا جولة أخري بأن قدموا شكوي للحكومة ونظرت الحكومة شكوي التجار وبعد مداولات واتصالات في وزارة المالية، أفتت الوزارة بإمكانية تسليم التجار أقطانا لاتطابق المواصفات المحددة في العقود».

(20)

ونمضي مع فرغلي باشا وهو يروي كيف تطورت الأمور إلي لجوء التجار إلي مجلس الدولة، وكيف بني خطته علي الخلاص من المأزق الذي أصبح معرضًا للوقوع فيه.. وهو ما تحقق من خلال الدور الذي لعبه الملك فاروق من خلال إلياس إندراوس باشا المستشار المالي للملك:

«لم يكتف التجار، ومعظمهم من جنسيات ليست مصرية بهذا الكسب الذي تحقق لهم في جولتهم الثانية، ففكروا في جولة أخيرة أمام مجلس الدولة، فرفعوا قضية طعنوا فيها بعدم شرعية المضاربات والمعاملات في البورصة، وكان واضحًا أن المجلس سوف يؤيد شكواهم».

«بدا واضحًا أن خسارتنا سوف تصل إلي ملايين الجنيهات إذا أقر مجلس الدولة بحقهم في الامتناع عن تسليم الأقطان المتعاقد عليها».

«كانت الوزارة الموجودة في ذلك الوقت وزارة وفدية برئاسة «النحاس باشا» ووزير المالية فيها هو «زكي عبد المتعال باشا» وحاولنا التفاهم معه حول الموضوع لكسب تأييده في خلافنا مع التجار، لكن وزير المالية أخذ موقفًا يميل نحو صالح التجار، وأصر علي هذا الموقف».

«اتجه تفكيرنا إلي طريق آخر شعرنا أنه أيسر السبل لكسب المعركة مع التجار، ورشح «علي يحيي باشا» للقيام بهذه المهمة. سافر «علي يحيي باشا» وعرض الأمر علي «إلياس أندراوس باشا» المستشار المالي للملك فاروق، والذي وعده بعرض الأمر علي جلالة الملك والرد عليه خلال ثلاثة أيام».

«كان أندراوس باشا دقيقًا في موعده، اتصل بعد ثلاثة أيام بالضبط وأبلغ «علي يحيي باشا» أن الملك علي استعداد للتدخل لصالحنا علي شرط أن ندفع للملك مبلغ 250 ألف جنيه، وللأوركسترا «الحاشية» مبلغ 25 ألف جنيه. وفوجئنا بالمطلب تمامًا. وبدأت المساومات والحسابات حول تخفيض المبلغ، وبعد فترة من الأخذ والرد وصل المبلغ إلي 150 ألف جنيه للملك، 10 آلاف جنيه للأوركسترا، بمن فيهم أندراوس بالطبع، كل ذلك لكي يمارس الملك سلطاته علي الوزارة كي تقف موقفًا محايدًا ومنصفًا، وبعد أن تمت الصفقة واطمأن الملك لحصوله علي المبلغ المحدد، دعا مجلس الوزراء إلي غداء في قصر عابدين، وأثناء الغداء وجه الكلام إلي «النحاس باشا» قائلا: «أظن أنه لا يرضيك يا رفعة الرئيس أن يكون وزير ماليتك سببًا في هدم وخراب بيوت مال مصرية نعتز جميعًا بها، ومن الواجب أن نشجعها، ونحافظ عليها، تلك البيوت التي استطاعت بجهدها أن تنافس وتتفوق علي بيوت مال أجنبية». وأجابه النحاس باشا بأنه سوف يبحث الأمر مع وزير المالية».

« وفي اليوم التالي مباشرة علمت بتفاصيل هذا الحديث، كما صدر قرار وزير المالية زكي عبد المتعال باشا تراجع فيه عن قراره السابق. إلي هنا انتهت مشكلة الحكومة، وبقيت مشكلة مجلس الدولة، ولم يكن هناك أمل في كسب هذه الجولة».

(21)

ومن الإنصاف للقارئ أن نطلعه علي ما يرويه فرغلي باشا عن تطورات هذه القضية التي استمرت في المحاكم عشرين عامًا وانتهت إلي أن حكمت المحكمة لصالح فرغلي، وتعللت بأن الفتوي التي أصدرها مجلس الدولة بعدم شرعية أعمال البورصة تضر بالاقتصاد الوطني ضررًا بالغًا.

«لم يكن باقيا علي الموعد المحدد لتسليم الأقطان طبقًا للمواصفات المحددة في العقود غير أيام قليلة، ولو أمكننا تعطيل مجلس الدولة عن إصداره فتواه إلي أن يحين هذا الموعد لحلت المشكلة، ورشحت أنا للقيام بهذا الدور».

«كان رئيس مجلس الدولة في ذلك الوقت هو السنهوري باشا وتقدمنا عن طريق محامينا ندفع بعدم حياد رئيس المجلس، كوسيلة للتعطيل وكسب الوقت.كان علينا أن نتقدم بالمستندات التي تثبت صحة الدفع المقدم منا، وتلكأنا في تقديم تلك المستندات حتي حان الموعد المحدد في العقود لتسليم الأقطان، وأثبتت البورصة عدم تسليم التجار للأقطان، كما أثبتت في نفس الوقت قدرتنا علي السداد، وكسبنا الجولة».

«وبعد أيام صدرت فتوي مجلس الدولة وجاءت لصالح التجار، ولكن بعد فوات الأوان».

«انتقلت بعد ذلك القضية إلي ساحة المحاكم، وظلت مستمرة حوالي عشرين عامًا لنكسبها نحن في النهاية، وكانت من ضمن حجج المحكمة أن فتوي مجلس الدولة بعدم شرعية أعمال البورصة التي تتم يوميا في ملايين الجنيهات المصرية تضر بالاقتصاد الوطني ضررًا بالغًا».

«انتهت هذه الأزمة عام 1950 بعد ضجة إعلامية كبيرة علي صفحات الصحف، وفي المنتديات العامة، ولقد كسبت بعض الصحف نتيجة مساندتها لنا آلاف الجنيهات، كما كسب المحامون مبالغ طائلة وسميت هذه العملية أيامها بعملية الكورنر».

(22)

هكذا كان انحياز الوفد تحت قيادة النحاس واضحًا إلي سيادة القانون، حتي لو جاء هذا الانحياز متوافقًا مع نتيجة توصل إليها أصحابها من خلال الرشوة.

ومن الحق أن نقول إن قوة شخصية النحاس وقوة تمسكه بالقانون كانت تدفعانه إلي اتخاذ القرار الذي يراه صائبًا من وجهة نظر القانون دون حساب للتوازنات السياسية أو العلاقة مع الملك أو ضغط الرأي العام.. وهي أمور ثلاثة كفيلة بأن تفسد علي صاحب القرار قراره أو جعله يؤجل البت في مثل هذه القضايا تجنبًا للقيل والقال.. ولم يكن النحاس باشا لحسن الحظ من هذا الطراز من الساسة.

وقد أشرت في كتابي السابق ذكره إلي أنه من اليسير علي الباحث المتحيز ضد الوفد أن يقول إن فرغلي باشا يروي ما يرويه الآن بعد أن ساعده الوفد وهو يرد لهم الجميل، ولكن في مذكرات فرغلي باشا فقرات تالية تنبئنا بما هو أقرب إلي المعقولية من أن فرغلي كان يخوض معاركه التجارية من منطق رجل الأعمال، وأنه أيضا يرويها من هذا المنطق لامن منطق التلونات السياسية، ولنقرأ معا روايته عن الأزمة التالية التي واجهته في هذه الفترة، وهو في روايته يتهم أحد الوزراء الوفديين صراحة.. بل إن حل العقدة الدرامية التي وجد فرغلي باشا نفسه ضحية لها لم يحدث إلا بالإقالة المفاجئة لوزارة الوفد، وهذا، علي كل حال، هو نص عبارات فرغلي باشا:

«لم يكن قد مضي عام ونصف علي الأزمة السابقة التي سميت بعملية الكورنر، وحتي حدثت أزمة أخري، كادت تعصف بكل ماحققته من نجاح مالي، وأذكر جيدًا أن هذه الأزمة هي الوحيدة التي جعلتني أبكي أمام زوجتي. اجتزت أزمة 1949 متحالفًا مع عدد من كبار المصدرين، أما هذه الأزمة فقد خضتها وحدي ضد مجموعة من المصدرين يساندهم ويتعاطف معهم أحد كبار وزراء الحكومة الوفدية. وعالم التجارة بلا قلب، قد يتحالف معك زميل اليوم، وغدًا تجده متحالفًا مع غيرك ليدوسا عليك بالأقدام.والذي حدث أنني تعاقدت علي بيع 250.000 قنطار من القطن بسعر القنطار ثمانية جنيهات أي حوالي 2 مليون جنيه، وبعد أن تعاقدت علي تلك الكمية الضخمة، فوجئت بمجموعة الخبراء الرسمية في البورصة ترفض القطن الذي تقدمت به بحجة أنه لايطابق المواصفات، وطلبت مجموعة أخري من الخبراء لتحكم بيننا، ولكني فوجئت باللجنة الثانية توافق علي نفس الرأي الذي قالته اللجنة الأولي. وعرفت من أحد الخبراء، وكانت تربطني به صلة قرابة أن وراء رفض قطني مجموعة من المصدرين يساندهم أحد الوزراء».

«وشعرت أن الضربة سوف تكون قاسية، والخسارة فادحة».

«اتصلت بأحد كبار الصحفيين، وكان في نفس الوقت صاحبًا لدار صحفية، وطلبت منه أن يكتب مقالا باسمي يتهم فيه مندوب الحكومة في البورصة بأنه متحيز ومغرض، وقال لي الصحفي الكبير إنه لا مانع عنده أن يفعل ذلك لكن في مقابل دفع مبلغ 5000 جنيه، وعندما قلت له إن المبلغ ضخم قال لي: «إن نشره لمثل هذا المقال قد يعرضه للسجن». وافقت علي دفع المبلغ، واشترطت أن يظهر في الصفحة الأولي تحت عنوان: «إني أتهم» وبنفس الألفاظ. وخرج المقال كما اتفقنا، ولكنه لم يترك الأثر الذي توقعته. وبدأت أشعر أني سوف أتحمل خسارة المليونين من الجنيهات، ولم يكن ذلك بالنسبة لي أمرًا سهلا».

«قلت في بداية هذه الذكريات إنني مؤمن بالحظ.. ذلك الحظ هو الذي وقف بجانبي هذه المرة، فبينما أنا في حيرتي وحزني، إذا بحكومة الوفد تقال بسبب حريق القاهرة، وتأتي وزارة جديدة، ومندوب جديد للحكومة ويقبل القطن، وبدلا من خسارة 2 مليون من الجنيهات حققت ربحًا».

(23)

كذلك يتصل بالإصلاحات التشريعية التي تمت في عهد النحاس ما نقلناه عن مذكرات عبد الفتاح حسن في كتابنا «في رحاب العدالة» من تبني الوفد فكرة قيام محكمة النقض بتحقيق الطعون في الانتخابات البرلمانية حتي يكون الحكم في هذه الطعون أقرب إلي الصواب وبعيدًا عن طغيان الأغلبية البرلمانية.

وقد ذكر عبد الفتاح حسن نفسه أنه تحدث مع الملك فاروق في هذه الفكرة عقب أدائه اليمين الدستورية مباشرة، وكان قد استعد برءوس موضوعات حتي إذا ما أتيحت له فرصة الحديث مع الملك استغل الفرصة لمثل هذه الموضوعات.

يقول عبد الفتاح حسن:

«… وقدرت مقدما أنه ربما يستبقيني الملك فترة في أثناء أداء اليمين فأنتهز الفرصة لإثارة تلك المسائل، واستأذنت وقلت: إن الطعون في الانتخابات ينظرها البرلمان، فلو كانت هناك أغلبية فإنها ربما تنحاز لرفض الطعن الخاص بأحد ممن ينتمون للأغلبية في البرلمان، و قد يكون الطعن مستندًا لأسباب صحيحة، ولهذا فإنه من الأصوب أن يعهد لمحكمة النقض بنظر الطعون الانتخابية، فقال: «حد حايشكم إنكم تعملوا كده؟».

«وكنت أسمع أن مثل هذا الاقتراح قد جرت محاولات عديدة في مختلف المناسبات ومنذ وقت طويل، ولكن العقبات كانت تزرع في طريق إتمامه، ومن تلك العقبات ما قيل من أن القصر لا يرحب بذلك الاقتراح».

«ولما عدت إلي مصر بعد أداء اليمين انتهي الأمر إلي صدور قانون بذلك تمت الموافقة علي مشروعه في مجلس الشيوخ بتاريخ 10 سبتمبر 1951، ومما يسجل لعبد المجيد عبد الحق (وفدي)، ولراغب إسكندر (سعدي) أنهما كانا قد اقترحا ذلك من قبل ومن مدة طويلة سابقة علي التاريخ المشار إليه».

(24)

وقد نقلنا في كتابنا « في رحاب العدالة» عن عبد الفتاح حسن ما روي به قصة ميلاد التكوين القضائي لما سمي «مكتب مراجعة الأحكام العسكرية»، وهو المكتب الذي لا يزال يعمل حتي وقتنا هذا:

ونحن نري النحاس في هذه القصة حريصًا علي أن يحمل القضاة مسئوليتهم عن سلامة تطبيق القانون وأن يعينهم علي أداء هذه المسئولية علي أدق وجه ممكن:

«حدث في سنة 1943 أني قابلت فؤاد سراج الدين ـ وكان وزيرا للداخلية ـ ويتبعه مكتب مراجعة الأحكام العسكرية، حيث كنت أعمل فيه، (وكانت الأحكام العرفية قائمة بسبب الحرب العالمية التي نشبت في سبتمبر سنة 1939)، ولم تكن لي أية صلة سابقة به، ورجوته في تلك المقابلة أن يعفيني من العمل بذلك المكتب، وأن يوافق علي عودتي إلي عملي القضائي السابق».

«ومن المؤكد أن تلك المقابلة قد تركت في نفسي أثرا بعيد المدي، إذ سألني عن سبب طلبي، فصارحته بأنني مكلف بمراجعة الأحكام الصادرة من المحاكم العسكرية بالقاهرة، والإسكندرية، وطنطا، والمنصورة، وشبين الكوم، وأن إبداء الرأي في شأن تلك الأحكام يعرض علي مدير الأمن العام (محمود غزالي)، ولم يكن من رجال القانون، ثم ترسل القضايا إلي رئاسة مجلس الوزراء (الحاكم العسكري العام) للنظر في التصديق، وكان خاتم الحاكم العسكري العام (في الواقع) عند جورج واكد، أحد موظفي الرئاسة، وكانت القضايا ترسل يوميا للرئاسة بأعداد هائلة، مما دفعني إلي طلب إعفائي من الاستمرار فيه». وعرضت الأمر علي وزير الداخلية وسألني عما إذا كان الحاكم العسكري العام يراجع القضايا؟.. فنفيت احتمال إمكان حصول ذلك، فقال: والحل؟ قلت: يندب مستشار من وزارة العدل يعهد إليه بخاتم الحاكم العسكري، ومعه عدد كاف من القضاة، وانتهت المقابلة بعبارة من الوزير فهمت منها أنني لن أعود إلي عملي السابق».

«ولم أدرك علي وجه الدقة مؤدي تلك العبارة إلا بعد بضعة أيام حيث صدر قرار الحاكم العسكري العام بتشكيل مكتب مراجعة الأحكام العسكرية من السيد علي السيد وكيل محكمة مصر رئيسا للمكتب (وبعد ذلك بسنوات أصبح رئيسا لمجلس الدولة)، وعضوية القضاة: محمد سلامة (وبعد ذلك وزيرا للعدل)، والإمام الخريبي (وبعد ذلك رئيسا لمجلس الدولة)، وإبراهيم عثمان يوسف (وبعد ذلك وكيلا لمحكمة الاستئناف)، ومحمود عبد الرازق (وبعد ذلك وكيلا لمحكمة الاستئناف)، ومحمد ذهني (وبعد ذلك وكيلا لمجلس الدولة)، وغيرهم. كما شملني أيضا القرار، وطلبوا منا أن نتوجه إلي الإسكندرية ـ وكنا في الصيف ـ لمقابلة وزير العدل محمد صبري أبو علم، ورئيس الوزراء مصطفي النحاس، وأثناء مقابلة وزير العدل قلت: «والختم يكون عند رئيس المكتب»، مشيرا بذلك إلي خاتم الحاكم العسكري، وانصرفنا، وفي طريقنا لمقابلة رئيس الوزراء لامني السيد علي السيد لما ذكرته لوزير العدل عن الختم، ونصحني ألا أكرر ذلك أمام رئيس الوزراء، وقال: إننا سنؤدي واجبنا كقضاة، وسندون الرأي كتابة، وهذه هي مهمتنا، واقتنعت بما قال، ثم قابلنا مصطفي النحاس، وكانت هذه أول مقابلة ألقاه فيها، وذكر لنا رئيس الوزراء أن وزير العدل ووزير الداخلية معا قد وقع اختيارهما علينا، وأضاف بأنه بطبيعة الحال لا يراجع القضايا التي ترد إليه بعد مراجعة المكتب المختص، وأنهي الحديث بأن أي ظلم يقع في الأحكام لا تكون مسئوليته علي أحد سوانا».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

هكذا كان النحاس باشا زعيما مسئولا يخاطب رجالا أهلًا للمسئولية، ويمكنهم مما يساعدهم علي تحمل المسئولية، وينهي إليهم أن الظلم مسئولية تقع علي ضمائرهم.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com