الرئيسية / المكتبة الصحفية / زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية ( 6 )

زعيم الأمة مصطفى النحاس وبناء الدولة الليبرالية ( 6 )

زعيم الأمة مصطفى النحاس/ الفصل السادس

الفصل السادس

الخلاف المبكر مع الملك فــؤاد

(1)

لم يكد النحاس يبدأ عهده في رياسة الوفد حتي وقع الخلاف الأول بين الوفد والملك، وكان حول الاحتفال بعيد الجلوس الملكي، ومع أن مثل هذا الخلاف لتفاهته كان قابلا للتجاوز، فإن الوفد، والنحاس علي رأسه، لم يتجاوزه، ومع أن الأدبيات التاريخية لا تعني بهذا الخلاف علي نحو ما تعني بغيره فإن الأدبيات «الشعبية» قد عنيت به، وهذا هو ما يرويه علي سلامة عن الخلاف الأول بين النحاس والملك فــؤاد ناقلًا معلوماته وجوهر نصوصه عن سابقيه من الوفديين:

«بعد أسبوع واحد من رئاسة مصطفي النحاس (للوفد المصري) ولزعامة الأمة، كان قد اقترب موعد الاحتفال بعيد جلوس الملك أحمد فــؤاد الأول ملك مصر في ٩ أكتوبر ١٩٢٧، وأراد القصر أن تحتفل البلاد احتفالا كاملا: فتقام فيه الزينات، وتضاء الثريات وترفع الأعلام وتمد فيه المآدب، دون أن تراعي فيه أحزان الأمة علي فقد زعيمها سعد زغلول، لكن مصطفي النحاس.. وقف موقفا جريئًا في مواجهة القصر، فطالب بمنع هذا الاحتفال احتراما لأحزان الأمة علي سعد».

وقد بدأت الصحف الوفدية حملة عنيفة علي الحكومة التي حاولت المضي في إقامة الاحتفال، وكان مقال عزيز ميرهم من أقوي المقالات المناهضة لهذا الاحتفال، ويذكر للأستاذ عزيز ميرهم عضو مجلس الشيوخ عن الوفد قوله:

«فليهنأ بالعيد من يشاء، وليهنأ بالزينة ضعاف العقول، وصغار الحكام، ويشترك في الوليمة أشخاص ليس لهم في الوطن نصيب لا قليل ولا كثير، ولتفتح خزينة الدولة علي مصراعيها تغدق أموال الفقراء فيما لا حظ لهم فيه، نافعا كان أو ضارا، كل ذلك وضع للشيء في غير محله، وخروج مفضوح عن الواجبات الأولية للمجاملة واللياقة ونصب الأفراح وسط المأتم العام».

«يجب أن نعلم جميعا أن جلالة الملك مدين للحركة الوطنية التي كان سعد علي رأسها، ولولا قيام تلك الحركة التي ساسها سعد بحكمته واقتداره لما كانت مصر اليوم مملكة، ولكانت مجرد سلطنة ترزح تحت عبء الحماية».

(2)

نعرف أن ثروت باشا كان قد شرع في مفاوضة البريطانيين فيما عرف في تاريخ المفاوضات بمفاوضات «ثروت ـ شمبرلن»، وقد حاول ثروت أن يستميل النحاس إلي الموافقة علي المشروع الذي توصل إليه لكن النحاس رأي أن المشروع يخلو من المزايا التي تدعو إلي قبوله، وأنه لا يختلف كثيرًا عن تصريح 28 فبراير، وكأني بالنحاس كان يردد قول سعد الشهير في وصف مثل هذه العروض أنها لا تعدو أن تكون كمثل الذي يقول: «أعطيتك ألف إلا ألفًا».

وقد تحدث النحاس في مذكراته التي رواها محمد كامل البنا عن موقف الوفد من مشورع معاهدة (ثروت ـ تشمبرلين) (1928) فقال:

«أرسل إليَّ ثروت باشا نص مشروع المعاهدة الذي حمله معه من إنجلترا وبمجرد أن أطلعت عليه، قررت رفضه لأول وهلة لأني لم أر فيه شيئًا يحقق مطالب البلاد، ولكنني احتفظت برأيي وجمعت الوفد وعرضته عليه، وبعد مناقشته بندًا بندًا قررنا رفضه بإجماع الأراء. ونقلت الجرائد المصرية والأجنبية هذا الخبر بسرعة، فضايق ذلك ثروت باشا، وتحدث في المجلس عن ألمه، وقال يجب أن يعرض المشروع علي الهيئة الوفدية، وألا يتسرع الوفد في نشر هذا الرفض قبل أن يأخذ رأي الهيئة التي تؤيده في البرلمان».

«دعوت الهيئة الوفدية إلي الاجتماع وعرضت عليها المشروع، فارتفعت الأصوات عالية برفضه، ولم يشذ واحد عن هذا الرأي».

«بدأت المساومات في قبول مشروع ثروت ـ شمبرلن، فلقد أرسل إليّ ثروت باشا بعض الأصدقاء ليحدثونني في هذا الخصوص، ويشرحوا لي فوائد المشروع، حدثني أمين بك واصف وهو صديق حميم لثروت باشا، فقلت له إن هذا المشروع ليس فيه أي مزايا تدعو إلي قبوله، وأنه لا فرق بينه وبين تصريح 28 فبراير الذي اعترف بإلغاء الحماية من ناحية ونفذها الإنجليز عمليًا من ناحية أخري بتدخلهم في كل صغيرة وكبيرة من شئون البلد».

«ولم يكتف ثروت باشا بهذا بل أرسل إليّ رسلًا أخرين غير أمين بك واصف منهم زكي أبو السعود باشا، وهو رجل أقدره وأحترمه، وأخذ يناقشني في المعاهدة بندًا بندًا ولما أطلع علي وجهة نظرنا ورأي أن المعاهدة لا تحقق شيئًا من برنامجنا اقتنع وانضم إلينا في الرأي وأبلغ ثروت باشا مما قلته له».

«ثم أخذ الإنجليز من ناحيتهم يبعثون إليّ ببعض أصدقائهم ليحاولوا إقناعي بقبول المشروع تارة بالتلميح بقوة إنجلترا ومنزلتها بين الدول، وتارة أخري بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأننا بلد ضعيفة لا نملك من أمرنا شيئًا، وأن شيئًا خير من لا شيء، وهذا المشروع مقدمة لا بأس بها للاستقلال فلنقبله ونطالب بالباقي، ولكني صممت علي موقفي وقلت لمن حدثني في هذا الخصوص إن الأمانة التي تركها سعد، والتي انتخبني إخواني خليفة له من أجلها لا يمكن أن أفرط فيها حتي أخر نفس من الحياة، وقد خلقنا للجهاد، ولن نضع الرأية من أيدينا حتي ننال حقنا ـ كما قال لنا سعد ونحن في المنفي ـ أو نموت كرامًا في سبيله».

(3)

لكن الأمور سرعان ما تتطور في اتجاه تولي النحاس رياسة الوزراء..

وقد روي كريم ثابت كيف كلف الملك فـؤاد النحاس بتشكيل الوزارة الأولي موحيا بأن الملك فـؤاد اتخذ هذه الخطوة نكاية في عبد الخالق ثروت رئيس الوزراء في ذلك الوقت، ولم يكن الملك فـؤاد يرتاح إلي ثروت علي الرغم من اعتداله، وذلك بسبب اعتداد ثروت بنفسه، ويبدو أن الملك فــؤاد لم يكن يعرف أن النحاس لا يقل اعتدادا بنفسه ولا برأيه عن ثروت.

(4)

وهذا علي كل حال هو نص كتاب الملك فـؤاد للنحاس بتشكيل الوزارة:

«عزيزي مصطفي النحاس باشا»

«لما لنا من الثقة بكم، ولما نعهده فيكم من الخبرة والجدارة لتولي مهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رياسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة الجليلة إليكم».

«وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف الوزارة، وعرض المشروع علينا لصدور مرسومنا العالي به».

«والله المسئول أن يمدنا في كل الأمور بعونه وعنايته، وأن يوفقنا جميعا لما فيه الخير للبلاد».

«صدر بسراي عابدين في 24 رمضان سنة 1346 (16 مارس سنة 1928)».

فــؤاد

(5)

وقد شكل النحاس وزارة ائتلافية ضمت بعض الوزراء من الأحرار الدستوريين، كي تكون بمثابة استمرار لسياسة الائتلاف القائم في ذلك الوقت.

ونفهم من مطالعتنا للوثائق المتاحة أن الإنجليز لم يظهروا معارضة صريحة لتكليف النحاس بتشكيل الوزارة، لكنهم سرعان ما بدءوا يضعون العراقيل والعقابيل في وجهه.

وقد كانت أبرز الأزمات التي واجهت هذه الوزارة هي تلك التي عرفت بأزمة قانون الاجتماعات العامة، وهو القانون الذي لم يكن يحظي برضا البريطانيين، لكنهم صعدوا الموقف منه ومن معارضتهم له حتي جعلوه بمثابة العقبة الرئيسية في العلاقات المصرية ـ البريطانية، والمفاوضات التالية لها.

وقد روت مصادر تاريخية كثيرة قصة الخلافات المتصاعدة حول هذا القانون، وسننقل للقارئ عن مجموعة من هذه المصادر (وفي مقدمتها كتاب الأستاذ عبد الرحمن الرافعي «في أعقاب الثورة» وكتاب الدكتور عبد العظيم رمضان: «تاريخ الحركة الوطنية» ملخصا لمسار هذه الخلافات وموقف النحاس باشا منها:

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

فبعد أسبوعين من تشكيل الوزارة «أرسل النحاس رد وزارته علي مذكرة ٤ مارس إلي المندوب السامي البريطاني، معلنا رفضه للإنذار وللأساس الذي استند إليه وهو تصريح 28 فبراير 1922، محتكما إلي القانون الدولي باعتبار أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة لا يجوز أن تفرض دول أخري الرقابة عليها، مشيرا إلي أن قبول الإنذار يعني القبول بالتدخل المستمر في شئون مصر الداخلية، مما يشل سلطة البرلمان في التشريع، وفي الرقابة علي أعمال الإدارة، ويجعل مهمة الحكم مستحيلة علي أية حكومة جديرة بهذا الاسم، مؤكدا في الوقت نفسه أن الحكومة المصرية تضع حماية الأجانب موضعا خاصا من رعايتها، وأنهم يتمتعون في مصر بمعاملة حسنة لا تقل عما يلقونه في أي بلد آخر بمن فيهم الرعايا البريطانيون».

ويروي أن الصحف البريطانية قالت: «إن رد النحاس وقح ومتبجح، وأعاد اللورد لويد تذكير النحاس في رد مضاد بأن استقلال مصر الذي أعلنته بريطانيا مشروط بحقها المطلق في تولي المسائل الأربع الواردة في إعلان الاستقلال، والمعروفة بالتحفظات الأربعة، ومنها حماية الأجانب إلي أن تُسوي هذه المسائل باتفاقات تعقد بين الحكومتين». وأضاف لويد قائلا: «إن حكومته سعت لوضع تسوية هذه التحفظات في مشروع المعاهدة التي رفضتها مصر، وعلي ذلك فإن استعمال الحكومة المصرية لسلطتها المستقلة في المسائل المرتبطة بهذه التحفظات مشروط برضاء الحكومة البريطانية».

(6)

وقد ذكر الأستاذ عبد الرحمن الرافعي، كما ذكر غيره من المؤرخين، أن أولي الأزمات التي واجهها النحاس باشا في رياسته للوزارة، كانت في الطريقة التي رد بها علي المذكرة التي أرسلها المندوب السامي البريطاني في آخر عهد وزارة ثروت، وقد كان الهدف من هذه المذكرة إحراج تلك الوزارة.

وقد رد النحاس باشا علي هذه المذكرة في 30 مارس 1928 معترضا بل منددا:

«أتشرف بإحاطة فخامتكم علما بأني اطلعت علي مذكرة سلمتموها إلي سلفي عن بعض مقترحات تشريعية معروضة علي البرلمان مما رأيتموه حقيقا بأن يضعف بصورة جدية سلطة الهيئات الإدارية المسئولة عن حفظ النظام، وحماية الأرواح والأموال في مصر، وبعدما أشرتم إلي ما أدرك الحكومة البريطانية من القلق بسبب ذلك، ذكرتم في ختام تلك المذكرة أنه بما أن المحادثات التي دارت بين حضرة صاحب السعادة السير أوستن تشمبرلن، وحضرة صاحب الدولة ثروت باشا لم تفض إلي الغاية التي أريدت منها، فإن حكومة حضرة صاحب الجلالة البريطانية لا يسعها أن تسمح بأن يكون اضطلاعها بما يفرضه عليها تصريح 28 فبراير سنة 1922 من المسئوليات معرضا لأي خطر يأتي من تشريع مصري من نوع التشريع الذي سبقت الإشارة إليه، أو من أي عمل إداري وتحفظ لنفسها الحق في اتخاذ أي تدبير تري أن الحالة تستدعيه».

«ولا يسع الحكومة المصرية في الجواب علي هذه المذكرة إلا أن تبدأ بالإعراب عن شديد أسفها لأن تجد نفسها أمام مذكرة 4 مارس التي لا تطابق ما للحكومة المصرية من رغبة صريحة في تنمية وتوثيق صلاح الصداقة التي يجب أن تسود العلاقات بين بريطانيا العظمي ومصر».

«فإن تلك المذكرة إذا نظر فيها من ناحية القانون الدولي تبين أنها ظاهرة الخروج علي القواعد المسلم بها فيه بشأن التدخل السياسي، إذ أن هذا التدخل ما لم تتغير طبيعته ووجهته تغيرا كليا، لا يجيز للدولة المتدخلة حق الرقابة علي أعمال الدولة الأخري».

«ومن جهة الواقع فإن الحكومة المصرية كانت ولاتزال تحرص علي أن تلقي في نفوس الرعايا البريطانيين، ونفوس الأجانب بوجه عام، كل الثقة بأنها ساهرة علي أمنهم وراحتهم، وأنها قد وضعت حماية مصالحهم موضعا خاصا من رعايتها، هذا ولو لم تكن تلك الحماية من نزعات الحكومة المصرية وتقاليدها الثابتة، لكانت نزعات البرلمان المبينة المعروفة كفيلة بأن توجبها عليها إيجابا، ولقد دلت الحكومة علي الدوام بتصريحاتها وأعمالها علي أن للأجانب أن ثقوا بأن ما يتمتعون به في مصر من حسن المعاملة لا يقل بوجه من الوجوه عما يلقونه في أي بلد آخر، هذا فضلا عما يجدونه فيها من كريم الضيافة التي امتاز بها الشعب المصري، وأصبحت من مناقبه».

«يضاف إلي ما تقدم أن المذكرة المشار إليها تهيئ السبيل لتدخل مستمر في إدارة شئون البلاد الداخلية، مما يشل سلطة البرلمان في التشريع، وفي الرقابة علي أعمال الإدارة، ويجعل مهمة الحكم مستحيلة علي أية حكومة جديدة بهذا الاسم، ولاريب لدينا في أن الحكومة البريطانية لم تقصد إلي شيء من هذا».

«لذلك لا يسع الحكومة المصرية أن تقبل تدخلا لو أنها سلمت بمبدئه لأسلمت ذاتها، وأنكرت وجودها، بل إنها كحكومة دولة مستقلة ذات سيادة لتدرج حق الإدراك ما عليها من واجبات، وتعتزم بعون الله وتوفيقه أن تنهض بأعبائها في حرص وذمة، وعلي وجه مرض للجميع».

«30 مارس سنة 1928».

رئيس مجلس الوزراء

مصطفي النحاس 

(7)

وقد رد المندوب السامي البريطاني في 4 أبريل سنة 1928 علي هذا الرد بخطاب احتفظ فيه بوجهة نظر الحكومة البريطانية فقال:

«لقد أبلغت حكومتي المذكرة التي وجهتها دولتكم إلي في 30 مارس، وقد كلفت أن أبلغكم أن حكومة جلالة الملك لا تستطيع أن تعد مذكرة دولتكم بيانا صحيحا للعلاقات الموجودة بين بريطانيا العظمي ومصر، أو لتعهداتهما المتبادلة، وقد أعلنت حكومة جلالة الملك استقلال مصر بمقتضي تصريح 28 فبراير سن 1922 مع تحفظات أربعة اشتمل عليها وأرفقت حكومة جلالة الملك تبليغ قرارها هذا إلي الدول ببيان ذكرت فيه أن رفاهية مصر وسلامتها ضروريتان لسلم الإمبراطورية البريطانية وأمنها، وأنها لذلك ستحتفظ دائما، باعتبار ذلك مصلحة بريطانية جوهرية، بالعلاقات الخاصة بينها وبين مصر، وهي التي اعترفت بها الحكومات الأخري منذ زمان طويل، وذكرت حكومة جلالة الملك حينما وجهت الأنظار إلي هذه العلاقات الخاصة كما هي مبينة في تصريح فبراير، أنها لا تسمح لأية دولة أخري أن تنازع أو تناقش فيها، وأنها تعد كل محاولة للتدخل في شئون مصر من جانب دولة أخري عملا غير ودي، وأنها تعد كل اعتداء علي أرض مصر عملا تدفعه بكل ما لديها من الوسائل».

«وبالنظر إلي هذه المسئولية التي تحملها بإزاء الدول الأخري، وإلي ما للمصالح البريطانية في مصر من الأهمية الحيوية للإمبراطورية البريطانية، فقد احتفظت حكومة جلالة الملكة بمقتضي التصريح السافل الذكر احتفاظا مطلقا:

«أولا: بسلامة المواصلات الإمبراطورية في مصر».

«ثانيا: بالدفاع عن مصر ضد كل اعتداء خارجي، أو تدخل بالذات، أو بالواسطة».

«ثالثا: بحماية المصالح الأجنبية في مصر، وحماية الأقليات».

«رابعا: بالسودان، وذلك إلي أن تسوي هذه المسائل باتفاقات تعقد بين الحكومتين البريطانية والمصرية».

«وقد سعت حكومة جلالة الملك لوضع تسوية كهذه، واعتقدت أنها وفقت إليها بواسطة المعاهدة التي جرت فيها المفاوضة بين رئيس الوزارة المصرية السابق».

«وإذا كانت الحكومة المصرية قد رفضت هذه المعاهدة فإن الحالة السابقة للمفاوضة تستمر، وعلي ذلك يعود المركز اليوم إلي مثل ما كان حين حبطت المفاوضات التي دارت بين المستر رمزي مدونالد وزغلول باشا إلا بمقدار ما طرأ عليها من التعديل بمقتضي المذكرات التي تبودلت في نوفمبر سنة 1924».

«أما النقط المحتفظة بها فتبقي محتفظا بها علي صورة مطلقة بواسطة حكومة جلالة الملك، وللحكومة المصرية أن تستعمل سلطتها المستقلة علي شرط أن يكون ذلك علي وجه مرض لحكومة جلالة الملك في هذه المسائل».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وقد حظي النحاس باشا بتأييد الأحزاب المصرية لموقفه من الحكومة البريطانية، وفي مجلس النواب حرص عبد الحميد سعيد (ممثلا للحزب الوطني)، وعبد المجيد إبراهيم صالح (ممثلا للأحرار الدستوريين)، أن يسجلا تأييدهما للوزارة وشكرهما لها باسم حزبيهما.

(8)

وفي اليوم التالي لوصول الرد البريطاني (٥ إبريل ١٩٢٧) ألقي النحاس باشا بيانا أمام مجلس النواب أشار فيه إلي رد اللورد لويد وأكد أن الحكومة المصرية متمسكة بوجهة نظرها. وبعد أسبوعين ألقي النحاس خطبة أخري في حفل أقامه المحامون لتكريمه، وقدم في هذه الخطبة تفسيرات لمشروع قانون الاجتماعات تثبت أن «نصوصه لا تعرض الأمن أو النظام العام أو أرواح الأجانب وممتلكاتهم لأية أخطار».

(9)

ونمضي مع ما يرويه الدكتور عبد العظيم رمضان وغيره من المؤرخين حول أداء النحاس الذكي في هذه المعركة، وهو أداء لم يكن كافيًا لإقناع البريطانيين بالسلام ولا بالتعاون.

وبعد شهر واحد جاءت مذكرة المندوب السامي البريطاني في 29 أبريل 1928، وقد تضمنت هذه المذكرة ما نعرفه من إنذار بسبب مشروع قانون الاجتماعات من البرلمان والحيلولة بين هذا المشروع وبين أن يصبح قانونا، وذلك من خلال عدم الاستمرار في مناقشة المشروع في البرلمان.

ووصلت الصفاقة البريطانية في هذه الأزمة إلي حد تحديد الساعة السابعة مساء الأربعاء 2 مايو 1928 كموعد لوصول رد الوزارة المصرية علي هذا الإنذار.

وكان هذا الإنذار بمثابة ثاني إنذار بريطاني لوزارة النحاس باشا (وذلك بعد الإنذار الأول الذي وجهته في 4 مارس).

وقد تمكن النحاس باشا بذكاء شدد من إجهاض هذا الإنذار بأن كتب إلي البريطانيين بموافقة الحكومة المصرية علي تأجيل نظر المشروع إلي الدورة البرلمانية المقبلة مع رفضه لروح الإنذار:

«… كما أني صرحت مرارا بأنه إذا دل العمل علي نقص في القانون بعد إصداره، فالحكومة علي أتم استعداد لاقتراح تعديله بما يتفق ومقتضيات النظام العام، تلقاء ما تقدم جميعه من المظاهر الجلية لصدق النية وحسن الاستعداد لا يسع الحكومة المصرية إلا أن تبدي أسفها الشديد علي أن الحكومة البريطانية لم تقدر رغبة الحكومة المصرية الأكيدة ومجهوداتها الصادقة المتوالية في توطيد العلاقات الطيبة بين البلدين».

«لذلك لا يسع الحكومة المصرية أن تسلم بما جاء في ذلك الإنذار فتعبث بحق مصر الأزلي عبثا خطيرا، بل وما كان لها أن تعتقد أن الحكومة البريطانية، بما عرف عنها من ميول حرة، تبغي إذلال أمة عزلاء من كل سلاح إلا قوة حقها، وصدق طويتها».

«ولهذا فإن الحكومة المصرية، مدفوعة إلي ذلك برغبتها الصادقة في التفاهم والمسألة التي كانت علي الدوام رائدها، قد طلبت بالأمس في حدود حقها الدستوري إلي مجلس الشيوخ أن يؤجل المناقشات في مشروع القانون إلي دور الانعقاد القادم، وقد وافقها المجلس علي ذلك، وهي تأمل أن تقدر الحكومة البريطانية تلك الخطة الودية، وأن يمهد بذلك السبيل إلي تذليل المصاعب الحالية في ضوء الثقة المتبادلة التي يجب أن تسود العلاق بين البلدين، وأن يعقبها عهد من التفاهم الحقيقي، والمودة والعدل».

(10)

وقد علق الدكتور عبد العظيم رمضان علي تعاقب الأحداث علي هذا النحو بما أبان به عن دهاء النحاس وذكائه ووطنيته:

«وفي مواجهة إصرار النحاس علي عدم سحب القانون عادت الحكومة البريطانية في 29 إبريل تؤكد إنذارها وتطلب أن يصلها خلال أربعة أيام تأكيد كتابي بأن الحكومة المصرية ستتخذ الإجراءات اللازمة لمنع مشروع القانون المنظم للاجتماعات العامة والمظاهرات من أن يصبح قانونا، وإلا فإن الحكومة البريطانية تعتبر نفسها حرة في أن تقوم بأي عمل تري أن الحالة تستدعيه».

«وهنا أدرك النحاس باشا بذكائه أن هناك محاولات لتصعيد الأزمة وأن السياسة البريطانية تسعي لمعاقبته علي رفضه المعاهدة، وامتناعه عن تسليم البضاعة، وأنها (بالتحالف مع أعدائه في الداخل) يراهنون علي «تطرفه» أو علي «انهياره» لأن الأول يمكنهم من العصف به، والعودة إلي الانقلاب علي الدستور، وحل البرلمان، وتسليم الحكم للمعتدلين لكي يسلموا البضاعة، ولأن الثاني يحرقه جماهيريا فلا يصبح هناك فارق بينه و بين المعتدلين، وآنذاك تسهل إزاحته وتسليمهم الحكم دون أن يغضب أحد».

«هكذا قرر النحاس أن يتراجع خطوة واحدة فقط لا يستجيب بها للإنذار، ولا يقبل الحيثيات التي بني عليها، ولكنها تؤجل الأزمة بمجملها إلي الوقت الذي تتوافر فيه ظروف تمكنه من مواجهتها بما لا يمس كرامة مصر، فقال في رد قوي أرسله إلي اللورد لويد: «إنه لا يسلم بأن لبريطانيا حقًّا في التدخل في التشريع المصري، استنادا إلي تصريح فبراير 1922، فهو تصريح من جانب واحد لا يقيد مصر ولا يلزمها، وأن القانون المعترض عليه ينظم الحريات الدستورية، ويصون الأمن صيانة تامة. وأضاف رد النحاس أن حكومته لا تسلم بما جاء في الإنذار لأن ذلك يعتبر عبثا خطرا بحق مصر الأزلي، ولكنها رغبة منها في التفاهم قد طلبت من «مجلس الشيوخ»في حدود حقها الدستوري تأجيل المناقشات في مشروع القانون إلي دور الانعقاد القادم».

(11)

وهكذا أعاد النحاس باشا بذكاء شديد الكرة إلي ملعب الانقلابيين الذين كانوا يبحثون عن مبرر لتقويض الائتلاف، بعد أن ثبت لهم أن النحاس لا يقل ذكاء ولا وطنية عن سعد، وأصبحت الحاجة ملحة إلي تحطيمه قبل أن يقوي ويزداد نفوذه بين الجماهير فتلتف حوله وتمنحه ما كانت تعطيه لسعد من حب ومساندة فيصعب القضاء عليه أو تعليمه الحكمة والتعقل، ومع أن الحكومة البريطانية اعتبرت رد النحاس ردا مقبولا، إلا أن مندوبها السامي في مصر اللورد لويد حاول أن يغريها بمواصلة تصعيد الأزمة، فاقترح أن تطلب تعهدا كتابيا من النحاس بأن القانون لن ينظر في أي وقت، ولكن حكومته رفضت الاقتراح:

«ودار الخلاف بين لويد وحكومته حول شعبية النحاس، فالمندوب السامي البريطاني يري أن رئيس الوفد لم يتنازل عن شيء، وأنه كسب من الأزمة جماهيريا، بينما تراجعت شعبية «الأحرار الدستوريين»، ولذلك اقترح علي حكومته أن تلزم النحاس بالرضوخ التام وإلا فقد تدخلها تأثيره، أو أن تعطي ضوءًا أخضر للملك لطرد النحاس وحل البرلمان، بينما رأي رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلن أن التصعيد قد ينعش شعبية النحاس علي عكس ما يتوقع اللورد».

«كان الإنجليز والملك يبحثون عن وسيلة تؤدب النحاس وتطوعه وتجعله من المعتدلين، وكان المعتدلون يرون أن الأوان قد آن لكي يتولوا الحكم، فقد مات سعد ولن ينتظروا علي النحاس حتي يصبح سعدا آخر فتضيع فرصتهم في الحكم إلي الأبد، وتختفي أمة أصحاب المصالح الحقيقية لتحل مكانها هذه الأمة التي كان سعد زغلول يفخر بأنه زعيمها: أمة الرعاع».

«وكانت الرغبة في تقويض الائتلاف والانقلاب علي الدستور قد انتعشت في صدور الأحرار الدستوريين منذ رفض النحاس المعاهدة، فترددوا في دخول الوزارة الائتلافية، ولم يكف الدكتور محمد حسين هيكل رئيس تحرير جريدتهم «السياسة» عن غمز الائتلاف وإحراج الحكومة، ولما لم تجد هذه الوسائل بدءوا المزايدة علي النحاس فاستقال رئيسهم محمد محمود من منصبه كوزير للمالية في اليوم التالي لإرسال الرد المصري علي الإنذار بدعوي أن الموقف الذي اتخذه النحاس ضعيف، وأنه كان عليه أن يواصل تحديه للبريطانيين أو أن يستقيل، ومع أن النحاس أقنعه بسحب الاستقالة إلا أن «السياسة» واصلت غمز الحكومة، ثم اشترك نواب حزب الأحرار مع نواب الحزب الوطني في الانسحاب من إحدي جلسات مجلس النواب بسبب الخلاف حول تعديل في اللائحة الداخلية للمجلس لمواجهة إخلال النائب بنظام الجلسات اقترحه رئيس الجلسة أحمد ماهر بعد أن حاول أحد نواب الحزب الوطني ضرب مكرم عبيد في إحدي الجلسات، ولم يكن الانسحاب أمرا ينسجم مع الائتلاف، أو يدل علي الحرص عليه، واشتعلت المعركة الصحفية بين صحيفة الأحرار الدستوريين وصحف الوفد، وبدا أن محاولة تصعيد الموقف علي الجبهة البريطانية قد انتقلت إلي جبهة الائتلاف، وخاطب الملك إسماعيل صدقي في تولي الوزارة خلفا للنحاس فوافق وعدل عن السفر إلي أوربا».

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وبدأ وزراء الأحرار الدستوريين، كما نعلم، يلزمون دورهم ثم بدءوا يستقيلون فاستقال محمد محمود باشا في 17 مايو. ثم استقال أحمد خشبة، وإبراهيم فهمي كريم، وجعفر والي معطين للملك الذريعة ليقيل الوزارة تحت دعوي أن الائتلاف الذي تستند إليه وزارة النحاس قد تصدع.

(12)

وقد أجاد النحاس باشا تصوير المؤامرة التي تمكن الملك بها من تصديع الائتلاف الوزاري برياسته، وكيف تمت هذ المؤامرة علي يد محمد محمود باشا وزملائه، وجاء في هذه المذكرات التي كتبها الأستاذ محمد كامل البنا:

«أخذت المجالس المختلفة تلغط بالخلاف الدائم بين الوزراء والوفديين من جهة وزملائهم الدستوريين من جهة أخري، بل تعدد الأحاديث حول أن الوزراء الدستوريين كانوا يجاهرون بالطعن في الوزارة ورئيسها علانية وأعلنوا أنهم سيستقيلون منها ولن يباشروا أعمالهم».

«امتنع محمد محمود باشا من الذهاب إلي الوزارة بحجة أنه مريض وأنه ملازم الفراش واستفسرت عن صحته، وكلمته متمنيًا له الشفاء، والعودة سريعًا إلي العمل فكان جوابه أن مرضه طويل مزمن، وأنه لن يستطيع أن يباشر مهام الوظيفة وأنه سيبعث إليّ استقالته وقرن القول بالعمل وأرسل إليّ كتاب استقالته محتجًا بالمرض وضعف الصحة».

«تلقيت كتابًا من إبراهيم فهمي كريم بك وزير الأشغال بالاستقالة لأنه هو كذلك مريض بالمصارين ويحتاج علاجه لوقت طويل، واتصلت به متمنيًا له الشفاء وطلبت إليه العدول عن الاستقالة وليأخذ إجازة طويلة يستريح فيها ويعالج ولكنه أصر».

«تلقيت استقالة ثالثة من أحمد خشبة باشا وزير الحقانية بحجة المرض أيضًا. جاءت استقالة رابعة من جعفر والي باشا فانكشف المستور وبان الخبئ، وقبلت الاستقالات الأربع وفكرت في أن أملأ الأمكنة الشاغرة بوزراء وفديين وأن أفض هذا الائتلاف وانتهي منه ومن دسائسه، وبعثت إلي الملك بهذا فرفض أن يعين خلفًا للمستقيلين».

(13)

هكذا نفهم من العبارة المنسوبة إلي النحاس في نهاية الفقرة السابقة أن الملك نفسه رفض أن يعين مَنْ يخلف المستقيلين!! وهو ما يعني ضرورة تشكيل وزارة جديدة.. وهو ما يعني ما لا يخفي علي أحد فهمه.

غير أننا نلاحظ في النص المنسوب إلي النحاس ترتيبًا مخالفًا لما سجله المؤرخ عبد الرحمن الرافعي فيما يتعلق بترتيب الاستقالات، فترتيب نص مذكرات النحاس يجعلها: محمد محمود، إبراهيم فهمي كريم، أحمد خشبة، جعفر والي. أما ترتيب عبد الرحمن الرافعي فيجعلها: محمد محمود، جعفر والي، أحمد خشبة، إبراهيم فهمي كريم.

وعلي كل الأحوال فإن النحاس المنصف يحرص علي أن يقرن الحديث عن التصديع بالإشارة إلي موقف دار المندوب السامي حيث يقول:

«… علي الرغم من احتجاج دار المندوب السامي علانية علي قانون الاجتماعات الذي قدم إلي مجلس النواب لكني أصررت علي نظره وبقيت أطلب إلي اللجنة التي تبحثه أن تعمل في تقديم تقريرها إلي المجلس لنظره، واجتمعت اللجنة عدة اجتماعات ووضعت تقريرها مدعمًا بالأدلة والأسانيد الدستورية والقانونية، وأيدت هذا القانون وقدمته للمجلس لتحديد جلسة لنظره، فهاجت دار المندوب السامي وماجت وأرغت وأربدت، وأعلنت أن هذا القانون إذا نظر فسنفعل ونفعل ولم التفت لهذا كله، بل صممت علي أن ينظر ولتفعل القوة ما تفعل، كما صممت علي أن تملأ الوزارات الشاغرة بمرشحين من رئيس الحكومة، لأن هذا هو لب الدستور ونصه، وأن الوزارة لا تزال متمتعة بثقة البرلمان، ويوم يسحب البرلمان منها الثقة ستتقدم بالاستقالة فورًا أما غير هذا فلا».

«أخذت الرسل تتري إليّ لأسحب قانون الاجتماعات، ويمكن بعد هذا حل مسألة الوزراء المستقيلين، ولكني رفضت لأني أعلم علم اليقين أن المؤامرة مدبرة، أن دار المندوب السامي والقصر مشتركان فيها وأن استقالة الوزراء الدستوريين الأربعة المؤتلفين مع الوفد منذ عهد سعد ليست حدثًا عارضًا، ولكنها تدبير محكم مبيت، يراد من ورائه ضرب الدستور والبرلمان وأغلبية الأمة ضربة قاضية، ويقصد منه أن يضعفوا قوة الوفد صاحب الأغلبية ظنًا منهم أن انتقال سعد إلي جوار الله قد أضعف الوفد وهيئته، ولكن هيهات.. هيهات».

«أصبحت الإدارة الحكومية مشلولة وتوقف الملك نهائيًا عن توقيع المراسم التي ترسل إليه، وانتظرنا أن يحدث الأمر الذي تبيته السراي مع الإنجليز».

(14)

وهذا هو نص كتاب الملك فــؤاد المتضمن إقالة النحاس باشا:

«عزيزي مصطفي النحاس باشا»

«لما كان الائتلاف الذي قامت علي أساسه الوزارة قد أصيب بصدع شديد، فقد رأينا إقالة دولتكم، شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم ما أديتم من عمل في خدمة البلاد».

«صدر بسراي عابدين في ٧ محرم سنة 1347 (25 يونيو سنة ١٩٢٨)»

فــؤاد

(15)

وهكذا جاء محمد محمود إلي الحكم في 1928 بعد هذه المؤامرة الصريحة.

وبدأ محمد محمود عهده، الذي عرف علي حد تعبيره هو نفسه باليد الحديدية، حيث شدد قبضته علي الحكم، وانتقص من الحقوق الديمقراطية للشعب، وعطل البرلمان ثم حله، وبدأت مرحلة من المراحل السوداء في الحقبة الليبرالية.

وبدأ محمد محمود في الوقت نفسه محاولاته للوصول إلي اتفاقية مع البريطانيين تحمل اسمه، وكان يعول علي صداقة كثير من كبار رجال الدولة البريطانيين في ذلك الوقت، فضلا عن أنه كان زميلا لبعضهم في أثناء دراسته في بريطانيا، وبعد مباحثات طويلة توصل محمد محمود إلي مشروع المعاهدة الذي عرف باسم «محمد محمود ـ هندرسون».

(16)

وأصبح النحاس في الظاهر وكأنه في مأزق الاختيار بين أن يدين بالزعامة لمحمد محمود، أو أن يدين نفسه برفض ما حصل عليه غيره من معاهدة أو مشروع معاهدة.

لكن النحاس كان من الذكاء العقلي، والدهاء السياسي بحيث بني خطته في القضاء علي جاذبية هذا المشروع (الذي توصل إليه محمد محمود في مفاوضاته مع هندرسون) علي أصل من أصول الديمقراطية، وكان هذا الأصل الذي استند إليه النحاس باشا هو رفض الإدلاء برأيه في هذه المقترحات رفضا تاما، إلا تحت قبة البرلمان المنتخب انتخابا صحيحا، وعلل هذا الموقف بقوله إن مناقشة هذه المقترحات، في ظل الدكتاتورية نقمة وفتنة، وفي ظل الدستور نور ورحمة وعصمة!

وكانت حجة النحاس، أنه لا معني لتقرير مصير الأمة، وهي مقهورة في الداخل، مهدرة حقوقها وحريتها!

وهكذا خرج النحاس بذكاء من مأزق الاختيار بين رفض النتائج وما يمثله مثل هذا الموقف من تجاهل لجهد بذل وأثمر، وبين قبول النتائج وما يمثله من تمجيد لمحمد محمود والأحرار الدستوريين.

وهكذا فهم محمد محمود نفسه أن النحاس بذكائه قد قضي عليه وعلي استمراره في مقاعد الوزارة بهذه الخطة. كما أن الإنجليز أنفسهم كانوا قد سبقوا محمد محمود إلي إدراك قوة النحاس في التأثير علي الجماهير وظهر ذلك عندما صاغوا المشروع علي أنه مقترحات، بعد أن كان قد صيغ من قبل علي أنه مشروع معاهدة.

وهكذا تمكن النحاس من النجاة من المأزق الذي حاول الأحرار الدستوريون وضع زعامة الوفد فيه، وذلك علي الرغم من أن بعض الساسة في ذلك الوقت ظنوا أن النحاس قد يجد نفسه مضطرا إلي أن يقبل بما توصل إليه محمد محمود.

(17)

ومن خفايا السياسة المصرية التي أهملت عن قصد أن واصف بطرس غالي قد أبدي رأيه في مصلحة مشروع محمد محمود، وقد وصفه أحمد حسين (الذي كان قد بدأ حياته مؤيدا لمحمد محمود في المعاهدة من خلال توليه رئاسة ما أسماه جماعة أنصار المعاهدة) في شطط واضح بأنه الرجل الذي كان، لولا ظروف خاصة، أحق بأن يتولي زعامة الوفديين من رئيسهم (الجليل) الحالي! وتحدي النحاس باشا أن يعلن انشقاق واصف باشا عن الوفد وخروجه عليه.

(18)

علي أن صراع وزارة محمد محمود مع النحاس لم يقف عند حد، وإنما امتد هذا الصراع إلي ميدان جديد لم يكن للسياسة عهد به قبل ذلك، وهو التشويش علي سمعة الزعماء مستغلين أحداثا ملفقة، وقد كانت قصة هذه المعركة التي واجهها النحاس بشجاعة منقطعة النظير قصة من أعجب القصص في تاريخنا الحديث، إذ حيكت لها مقدمات طويلة، وترتيبات معقدة تهدف إلي أن تتهم النحاس في ذمته ونزاهته بدعوي أنه قبل الدفاع في قضية سيف الدين ابتغاء المال والمال وحده، مستغلا في دفاعه وتعامله مع القضية نفوذه ونفوذ زميليه ويصا واصف (وكيل مجلس النواب الوفدي)، وجعفر فخري.

وقد حملت القضية اسم الأمير سيف الدين الذي كان ضحية نفوذ الملك فــؤاد (وهو أمير) ثم وهو سلطان (ملك)، وقد كان الأمير شقيقا للأميرة شويكار الزوجة الأولي للملك فـؤاد، ولما استحكم الخلاف بين الزوج وزوجته تدخل شقيق الزوجة واحتد علي زوج شقيقته وتطور الأمر حتي إنه أطلق الرصاص علي الزوج في نادي محمد علي، وكانت النتيجة الطبيعية أن ينكل بالأمير وأن يحجز في مستشفي الأمراض العقلية، وأن يحجر علي أمواله وضياعه، وأن تعاني والدته في سبيل إنقاذه بعد كل ما تعرض له من عذاب.

ومع أن رواية هذه القصة مما يخرج عن جوهر هذا الكتاب، فإننا لا بد أن نستعرض للقارئ خطها الأساسي، وملامحها المتتالية.

(19)

وقد لخص الأستاذ عبد الرحمن الرافعي قصة الأمير سيف الدين علي النحو الموجز التالي:

«ظهرت في الصحف (يونيو سنة 1928) مسألة قضية الأمير أحمد سيف الدين، واتفاق مصطفي النحاس والأستاذ ويصا واصف وجعفر فخري بك المحامين علي الدفاع عن الأمير لرفع الحجر عنه، وكان تاريخ الاتفاق علي الأتعاب في فبراير سنة 1927، قبل أن يتولي النحاس الوزارة بعدة شهور، وأخذت الصحف المعادية للوفد تشهر بهذا الاتفاق، وتصفه بأنه مناف لشرف المهنة، وأنه خيانة عظمي! وبدأت هذه الحملة في يونيو سنة 1928 في أعقاب استقالة محمد محمود، وجعفر ولي، فجاءت جزءا من المؤامرة التي دبرت للتخلص من النظام الدستوري، وقد تبين فيما بعد من حكم مجلس التأديب أن الاتفاق لا غبار عليه من ناحية شرف المهنة، ولا ينال من نزاهة المحامي».

«كان هذا الاتفاق يتضمن اتخاذ الإجراءات القضائية لرفع الحجر عن الأمير وإعادة جميع أملاكه إليه، إذ كانت هذه الأملاك موضع تصرفات مشكوك في نزاهتها، وتقدر بعدة ملايين من الجنيهات، وكان قد مضي علي تحرير الاتفاق نحو خمسة عشر شهرا سابقة علي إثارته في الصحف، وفي وقت لم يكن متوقعا أن يتولي النحاس رئاسة الوزراء فيما بعد، ولا غبار علي المحامي أن يتفق علي أتعاب جسيمة في مثل هذه القضايا التي تحتاج إلي جهود كبيرة للوصول إلي إحقاق الحق فيها، وقد تنازل النحاس عن توكيله في القضية بعد أن ولي رئاسة الوزارة، ولكن المؤامرة علي النظام الدستوري أثارت هذا الغبار لكي يحدث الانقلاب في جو من الاتهامات الباطلة ضد زعماء هذا النظام.

(20)

كما لخص الأستاذ الرافعي ما انتهت إليه المحاكمة:

«أحالت الوزارة في ديسمبر سنة 1928 مصطفي النحاس باشا والأستاذ ويصا واصف وجعفر فخري بك إلي مجلس تأديب المحامين، بدعوي إخلالهم بشرف مهنتهم، لاتفاقهم في فبراير سنة 1927 مع والدة الأمير أحمد سيف الدين علي أتعاب باهظة لرفع الحجر عنه وتسلمه أمواله، ولأنهم اشترطوا أن مؤخر الأتعاب لا يستحق إلاعند كسب الدعوي، وأنهم اتقفوا علي المرافعة في الدعوي بدون التثبت من ظروفها، وبدون اتصالهم بصاحب الشأن نفسه، وأن الاتفاق روعي فيه ما لهم من المراكز السياسية، وما لهم من نفوذ، وقد أمدت الحكومة الصحف بوثائق عن هذه القضية، وهي عقود الاتفاق علي الأتعاب، وأحبط نشرها بحملات شديدة علي نزاهة النحاس وصحبه، وعرضت عليّ الحكومة وقتئذ، وكنت محاميا بالمنصورة، وظيفة رئيس نيابة الاستئناف، وفهمت من ملابسات العرض أنهم يريدون مني أن أتولي المرافعة عن النيابة العمومية في هذه القضية، فاعتذرت، إذ كنت أعتقد أن التهمة لا أساس لها من الصحة».

«نظرت القضية أمام مجلس التأديب، وكان مؤلفا برئاسة حسين درويش باشا وكيل محكمة الاستئناف، وعضوية محمود سامي بك (باشا)، وبهي الدين بركات بك (باشا)، وعبد الحكيم عسكر بك المستشارين بها، والأستاذ عبد الخالق عطية المحامي مندوبا عن نقابة المحامين».

«وترافع عن النحاس وزميليه كل من الأساتذة مكرم عبيد (باشا)، وحسن صبري بك (باشا)، ومحمد نجيب الغرابلي باشا، والأستاذ محمود بسيوني، وسلامة بك ميخائيل، ومحمد يوسف بك، وكامل صدقي بك (باشا)، وأصدر المجلس حكمه في 7 فبراير سنة 1929 ببراءة النحاس وزميليه، وأثبت في أسباب حكمه تزييف بعض عبارات الترجمة العربية التي نشرت لبعض الوثائق المحررة أصلا بالتركية، وتصيد الشهود في القضية ليشهدوا زورًا لمصلحة الاتهام».

«غضبت الوزارة من هذا الحكم، فأصدرت قانونا بتعديل بعض أحكام لائحة المحاماة، ومن ذلك أنها جعلت محاكمة المحامين من اختصاص محكمة النقض والإبرام بصفة مجلس تأديب بدلًا من هيئة التأديب التي كانت مؤلفة بموجب اللائحة القديمة التي كان ينوب فيها عضو عن مجلس نقابة المحامين فأبطل القانون هذا الوضع، ونص علي أن يحاكم المحامون أمام محكمة النقض والإبرام بحيث لا يكون للنقابة ممثل في هيئة المحكمة، وجعل اجتماعها بجلسة سرية».

(21)

ولست أستطيع أن أمضي فيما أكتب من دون أن أشير علي القارئ أن يقرأ القصة الكاملة لقضية سيف الدين فيما أورده الأستاذ صلاح عيسي في كتابه «حكايات من دفتر الوطن».

وعلي كل الأحوال فإننا نجتزئ من روايته البديعة للقصة بهذه الفقرات الكفيلة بتصوير القصة وأبعادها علي نحو موجز:

«…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

رُبع قرن كامل في مستشفي للأمراض العقلية بقرية «تايسهرست» الإنجليزية، بدأت عام ١٩٠٠ بقرار غريب صدر عن «مجلس حسبي مصر» يقضي بالحجر عليه، ومنعه من التصرف في أمواله وممتلكاته. والغريب أن قرار الحجر لم يصدر استنادًا إلي كشف طبي وقع علي الأمير ودل علي أنه معتوه أو مجنون، لكنه صدر لأن الجناب العالي للخديو عباس حلمي الثاني استصوب ذلك».

«ففي ٥ إبريل ١٩٠٠، وبعد عامين قضاهما الأمير أحمد سيف الدين في السجن، من أصل الحكم الصادر بسجنه خمس سنوات بسبب الرصاصات التي أطلقها علي الأمير أحمد فــؤاد، أرسل وزير الحقانية (العدل) كتابا إلي النائب العام يطلب منه اتخاذ الإجراءات القانونية لتوقيع الحجر علي الأمير سيف الدين، وفي جلسة «مجلس حسبي مصر» التي عقدت في 18 إبريل ١٩٠٠ قال رئيس المجلس:

«إن عطوفة ناظر الحقانية أخبرني أن حضرات النظار رأوا في حالة إذا ما أمر المجلس بالحجر علي البرنس أحمد سيف الدين يكون من الموافق تعيين حضرة إسحاق بك أحمد قيما علي الأمير، وأن الجناب العالي يستصوب ذلك».

«وهكذا وقع المجلس الحجر علي الأمير السجين، وعُين إسحاق بك أحمد قيما عليه».

«وبعد أسابيع من صدور قرار الحجر اتفقت المقامات العالية علي الإفراج عن أحمد سيف الدين، وإبعاده إلي قرية تايسهرست للاستشفاء في مصحة للأمراض العقلية والنفسية، وهكذا امتدت فترة السجن من خمس سنوات إلي أجل غير مسمي».

(22)

وبعد معاناة طويلة تمكنت والدة الأمير من النجاح في تهريبه من المصحة:

«… وبعد أربعة أشهر فقط من هروب الأمير من سجنه، أرسلت الأميرة نوجوان هانم إلي القاهرة سفيرا فوق العادة هو محمد بك شوكت في مهمة استطلاعية هدفها استكشاف إمكانيات التوصل إلي اتفاق ودي، أو البحث عن ميدان تبدأ فيه الحرب».

«وصل شوكت بك وكيل الأميرة إلي القاهرة في ديسمبر ١٩٢٥، وبدأ اتصالاته بكل من يعنيهم الأمر من المسئولين وأمراء الأسرة المالكة والقيم علي الأمير، وبعد أشهر قليلة من المحادثات مع المقامات العليا أدرك أن مهمته صعبة للغاية، وأن خصوم الأمير يزدادون قوة وشراسة، إذ كان الملك فــؤاد قد استرد ـ في تلك السنة ـ سلطته المطلقة في أعقاب مقتل السردار واستقالة وزارة سعد زغلول، فغاب زعيم الرعاع الذي لا يكف عن الصراخ بأن الأمة هي وحدها مصدر السلطات، وأصبح القصر يحكم مصر بشكل مباشر، وعطل العمل بالدستور، وحل البرلمان، وامتلأت السجون بالمئات من قادة الوفد الذين اتهموا في قضية مقتل السردار، وما تفرع عنها من قضايا، وليس في الوزارة القائمة آنذاك مَنْ يستطيع أن يتدخل لصالح الأمير الذي أطلق الرصاص علي صاحب الجلالة، وكل أعضائها من أتباع السراي و«برادع الإنجليز».

«ولم يغير عزل محمد سعيد باشا (رجل الملك) عن القوامة علي الأمير والدائرة، وتعيين الأمير محمد علي إبراهيم (ابن شقيق الأمير سيف الدين) مكانه، من الأمر شيئا، إذ لم يكن القيم الجديد أقل قسوة علي عمه المحجوز عليه من رجل الملك، حتي إنه انتهز فرصة هروبه من «تايسهرست» فقطع مخصصاته السنوية، وتوقف عن الإنفاق عليه».

(23)

ونأتي إلي المرحلة التي دخل فيها النحاس باشا بإرادته أو بنخوته إلي هذا الصراع الذي كان الملك فؤاد نفسه أحد أطرافه (غير المباشرين):

«في ٢ فبراير ١٩٢٧ وقع شوكت بك (وكيلا عن الأميرة نوجوان) عقدا مع المحامين الثلاثة يوكلهم فيه برفع الحجر عن الأمير، وإعادة أمواله إليه، ونص العقد علي أن المحامين الثلاثة يتولون المدافعة والمرافعة عن حقوق الأمير أمام مجلس البلاط، أو أي جهة قضائية أو إدارية للحصول علي رفع الحجر عنه وتسليمه إدارة أمواله، وعلي سبيل الاحتياط ترتيب نفقة له».

«وعن الأتعاب نص العقد علي أنه في حالة الحصول علي قرار برفع الحجر عن الأمير تكون الأتعاب 117 ألف جنيه، أما في حالة تقدير نفقة تصل إلي ٢٢ ألف جنيه تكون الأتعاب عشرة آلاف جنيه، فإذا قلت عن ذلك أو كثرت عنه فإن الأتعاب تزيد وتنخفض حسب أهمية النفقات التي ترتبت. أما إذا صرف للأمير نفقة (أو متجمد نفقة) عن الفترة بين هروبه من المصحة وصدور الحكم في القضية، فإن الأتعاب تكون خمسة آلاف جنيه إذا كانت النفقة 60 ألف جنيه، وتزيد أو تقل في حدود هذه النسبة».

«وُقع العقد في مكتب ويصا واصف في الصباح، ولأن كتبة المكتب كانوا آنذاك (كما هي العادة في مكتب كل المحامين) يتابعون قضايا المكتب في المحاكم، فقد كتب كل منهم نسخة بخط يده ثم وقعوا عليها وتبادلوها».

«ومع أن المفاوضات التي سبقت توقيع العقد كانت قد انتهت بالاتفاق علي أن يتقاضي المحامون الثلاثة خمسة عشر ألفا من الجنيهات كمقدم أتعاب، إلا أن شوكت بك اعتذر لهم بأن أحوال الأميرة المالية ليست علي ما يرام بعد الأموال الطائلة التي أنفقتها علي مغامرة تهريب الأمير من تايسهرست، وما أنفقته بعد ذلك علي علاجه، فقبل المحامون تخفيض مقدم الأتعاب إلي ألف وخمسمائة فقط اقتسموها بواقع خمسمائة جنيه لكل منهم».

(24)

وقد نجح خصوم النحاس في نسج قصة وهمية (تشويقية) عن تهريب عقد الاتفاق ونشره والتعليق عليه، ودفع السلطات (المتواطئة) إلي بدء تحقيق مع النحاس في إطار حديث اتهامي زاعق عن استغلال الفوذ:

«استمر تحقيق الأفوكاتو العمومي إلي 19 سبتمبر ١٩٢٨، إلي أن أوقف في ذلك التاريخ انتظارا لعودة محمد حافظ رمضان بك من أوربا لسؤاله عن الظروف التي أحاطت بتقديم اقتراحه بمشروع قانون إلغاء مجلس البلاط، وعاد حافظ رمضان واستمعت النيابة في 16 أكتوبر إلي أقواله فجاءت مخيبة للآمال، فقد نفي الرجل أي علاقة بين اقتراحه بإلغاء «مجلس البلاط» وبين قضية الأمير سيف الدين، وقال إنه لا يعرف محمد شوكت بك، وإن أحدا من المحامين الموكلين في القضية لم يحدثه في هذا الاقتراح قبل تقديمه، وإن الغرض من تقديم الاقتراح لم يكن يهدف إلي إخراج القضية من ولاية المجلس، وأضاف أن الخطوات التي مر بها اقتراحه في لجان مجلس النواب كانت عادية الإيقاع، وربما أقل من العادية، وأنه لم يلحظ أن المشروع قد لقي عناية خاصة».

«وأحبطت شهادة حافظ رمضان كل الرغبات الشريرة التي قادت المتآمرين منذ البداية، وجاءت قيمتها من أن صاحبها خصم سياسي للنحاس، ورئيس للحزب الوطني الذي كانت جريدته «الأخبار» واحدة من الصحف التي شنت الحملة ضد زعيم الأغلبية، فضلا عن أن شهادته قد مزقت واحدة من أهم وقائع الجانب السياسي من الاتهام، وهي تهمة السعي لاستصدار تشريع بإلغاء مجلس البلاط، لصالح أحد أطراف النزاع في قضية منظورة أمامه».

(25)

ومن تحقيق إلي تحقيق تمضي الأمور في اتجاه براءة النحاس باشا من التهم التي لفقها له خصومه:

«وانتهي التحقيق الثاني إلي ما انتهي إليه التحقيق الأول، وظلت أوراقه ساكنة بلا حراك لمدة تزيد علي شهرين، وكشف رد النائب العام علي خبر نشرته صحيفة مصرية هي «المقطم» وأخري إنجليزية هي «الديلي تلجراف» عن أن هناك أزمة سببها اختلاف في وجهات النظر حول طريقة التصرف في التحقيق بين الأفوكاتو العمومي مصطفي بك حنفي وبين النائب العام، فقد ذكر الخبر الذي نشرته الصحيفتان أن الأفوكاتو العمومي قد رفع تقريرا عن التحقيق يبرئ فيه النحاس وويصا واصف مما نُسب إليهما، ويؤجل البت في التهم الخاصة بجعفر فخري، فأسرعت وزارة الحقانية تعلن (في بلاغ رسمي) أن القضية لا تزال بين يدي النائب العام، وأنه لم يبت فيها، ولم يكذب البلاغ واقعة التقرير الذي أرفقه الأفوكاتو العمومي بتحقيقاته، وهو تقرير لم يظهر بعد ذلك في القضية، وتهرب النائب العام من تقديمه بدعوي أنه مجرد مكاتبة إدارية بين المحقق ورئيسه الأعلي».

(26)

وكانت الحرب الإعلامية (بلغة عصرنا) قد اندلعت واستعرت واستمرت علي أشدها:

«وطوال الأشهر الستة التي استغرقها التحقيق بمرحلتيه لم تكف صحف الانقلابيين عن التعليق علي الوقائع التي يجريها بشأنها، واستباق أحكام القضاء بافتراض صحة الوقائع ثم التنديد بالمجرمين الذين ارتكبوها، إذ كانوا يتوهمون أن الإلحاح علي تكرار الوقائع سينتهي باقتناع الرأي العام المصري والأوربي بصحة الاتهامات، وبالتالي بصواب الخطوات السياسية التي اتخذت بحق حياة نيابية فاسدة، ودستور يتيح للنصابين والأفاقين فرصة النيابة عن أمة جاهلة، غافلة، تحتاج إلي تربية سياسية لتحسين اختيار مَنْ يمثلونها قبل أن تكون مصدرا للسلطات».

(27)

وتمضي القضية إلي نهايتها التي برأت ساحة النحاس وجعلت الحكومة تتورط في تعديل القانون بما يهيئ لها في المستقبل أن تصدر أحكاما ظالمة دون رادع:

«وفي ٦ فبراير 1929 أصدر مجلس تأديب المحامين برئاسة حسين درويش باشا وكيل محكمة الاستئناف وحضور ثلاثة من مستشاريها هم: عبد الحكيم عسكر، ومحمد سامي، ومحمد بهي الدين بركات، وممثل لنقابة المحامين هو عبد الخالق عطية، ورئيس النيابة أحمد شرف الدين، حكمه في القضيتين ببراءة المتهمين الثلاثة من كل التهم الموجهة إليهم، وسجلت حيثيات الحكم لزعيم الأغلبية أوصاف «الشفقة والرفق والقيام بالواجب والنزاهة، والصلابة في الحق»، ودمغت المتآمرين بصفات «السرقة والتزوير واستخدام الأشرار»، وعلق اللورد لويد المندوب السامي البريطاني علي الحكم قائلا: إن الاتهامات التي وجهت للنحاس وزميليه كانت متهافتة لدرجة أن أقصي حكم كان يمكن صدوره ضدهم هو الحكم بالتوبيخ، بينما جاء حكم البراءة انتصارا للوفد، وضربة عنيفة لهيبة الحكومة وسمعتها، فقد جمعت القلوب حول النحاس باشا، وضمت شتات العطف نحوه».

«وهكذا انتهت المؤامرة علي زعيم الأغلبية إلي عكس ما كان يريده المتآمرون، فلم تحطم النحاس بل قوته، ولم تقض علي شعبيته بل زادت من حب الناس له وتعاطفهم معه ومع كل ما يمثله، واستفز الحكم الحكومة فأسرعت بعد أقل من ثلاثة أسابيع علي صدوره تدخل تعديلا علي قانون المحاماة تجعل تأديب المحامين من اختصاص محكمة النقض والإبرام، وتسحب من نقابتهم حق التمثيل في عضوية المجلس، وكتب وزير الحقانية محمد أحمد خشبة باشا مذكرة تفسيرية للقانون شهر فيها بالمحاماة، وعرّض بالحكم الذي أصدره مجلس التأديب، فغضب المحامون وأضربوا عن العمل لمدة أسبوع علي سبيل الاحتجاج علي التعديل وعلي تعريض الوزير بهم في مذكرته التفسيرية».

(28)

هكذا أشارت أسباب الحكم ببراءة النحاس باشا في قضية سيف الدين إلي أن النحاس كان ينبغي أن يُشكر علي صنيعه وعطفه علي حال هذه السيدة (والدة الأمير سيف الدين)، التي لم يكن لديها مال توكل به محاميا كبيرا يستطيع أن يدافع عن ولدها المظلوم، ومن ثم فلم يكن هناك مبرر لانتقاده إذا عمل خيرا، وأن يقال عن عمله هذا إنه أفسد المحاماة (!!) وخرج علي تقاليدها (!!)

(29)

وقد لخص إبراهيم فرج قصة سيف الدين علي النحو المبسط التالي:

«… وقد أجبرت الحكومة النائب العمومي وقتها أن يقدم النحاس باشا إلي مجلس تأديب المحامين بتهمة أنه خرج علي تقاليد المهنة.. وعبث بكرامة المحاماة كما يزعمون ورفع الأمر إلي مجلس تأديب المحامين، وكان رئيس هذا المجلس رجلا من خصوم الوفد هو المستشار حسين باشا درويش، ونظرت القضية وترافع فيها كبار محامي مصر وقتها: الغرابلي ومكرم عبيد وحسن صبري وكامل صدقي.. واستطاعوا أن يبرزوا العمل الكبير الذي استطاع أن يقوم به هذا الرجل العظيم لوجه الله وضد الملك.. لا يعبأ إلا بأنه يري إنسانا ضعيفا مظلوما يريد أن يرد له حقوقه ويريد أن ينقذه من الحاجة والعوز، فإذا بمجلس التأديب هذا يصدر حكما بالبراءة ويقول في أسباب الحكم عبارات مشرفة علي مدي التاريخ، يقول: كيف يمكن أن يقال إن هذا العمل الكريم محل مؤاخذة؟ إن هذا الرجل الذي قبل أن يترافع عن أحمد سيف الدين.. هذا البائس المسكين.. إنما يستحق الشكر.. كل الشكر.. لا أن يؤاخذ لأنه راعي ظروفهم ولم يقبض منهم شيئا لأنهم لم يكونوا يملكون شيئا في هذا الوقت».

(30)

وعقب صدور الحكم ببراءته في قضية سيف الدين (فبراير 1929) أصدر النحاس باشا لجماهيره بيانا بليغا قال فيه:

«إن هؤلاء الخصوم غير الشرفاء الذين اصطنعوا تلك الدسائس الرخيصة لم يتورعوا عن الدس والسرقة والتزوير وشرائهم ذمم الشهود في سبيل خصومتهم الأثيمة النكراء».

«لقد أرادوا بهذه القضية أن تكون وثيقة خزي وعار ضد مصطفي النحاس، ولكن الله أراد أن تكون وثيقة شرف ونزاهة، وبهذا طاش سهمهم وخاب فألهم وزادت الأمة التفافا حول زعيمها».

وقد قال النحاس في هذا البيان:

«بني وطني..

لا أدري أي يوميكم أحق بشكري، وأمتع بفكري، وأولي بأن ينفس عن صدري، أيوم حزنكم يوم اتهامهم خليفة سعد؟ أم يوم حكم فيه بإعلان البراءة؟ وهو حكم علي خصوم الوفد؟ وأنا في كليهما خادم هذه الأمة الكريمة المغمور بعطفها، المرموق بحبها، ووالله لقد أكبرت حزنكم، كما أكبرت فرحكم، فلله دركم، وهو القادر علي أن يتولي عني جزاءكم، فلنتوجه جميعا بالشكر لأحكم الحاكمين، الذي برأ حياتنا النيابية من كيد الكائدين، وحفظها من رجوم الشياطين».

(31)

وقد ختم النحاس بيانه بهذه العبارة البليغة المعبرة عن الإيمان بالله وشكره، وهو ما يدلنا علي حجم المحنة النفسية التـي عاشها النحاس طيلة هذه القضية:

«أيها المواطنون الأعزاء…

لقد ناديتكم يوم الاتهام فما كذبتكم، ووعدتكم فما أخلفتكم، واليوم ها أنتم الأعلون بحمد الله.. فاسجدوا لله واشكروا».

مصطفي النحاس

(32)

هكذا عاش النحاس باشا أياما صعبة في ظل حكم محمد محمود، وقد شغل بقضايا شبه شخصية، كما شغل بقضايا عامة، لكنه لم يقبل أبدا أن يتواءم مع حكم وزارة محمد محمود، ولا مع إجراءاته، وقد عبر هو نفسه عن هذا المعني في بيانه الشهير ضد وزارة محمد محمود باشا (٢٢ يوليو ١٩٢٨):

«أيها المصريون.. لقد برح الخفاء وتمزق ثوب الرياء، فسلطت عليكم وزارة محمد باشا محمود أقصي عدوانها، وأجرمت في حق الوطن بما لم يجرؤ عليه مصري من قبلها، محاولة أن تحطم في لحظة ما شيدته الأمة في سنوات من جهادها ومتصل عملها، فجاءت علي يدها الكارثة الكبري، وحققت أشأم الظنون فيما أعدته للبلاد من عنف وبلوي، ولم تكن في البلاد ثروة طائحة، ولا نكبة جائحة، كلا، بل هي ثورة منهم علي الدستور، وعلي الحرية، وعلي النظام، وعلي الأمة، بل علي الإنسانية في عصر أصبحت فيه الحرية من مقومات الحياة وأسبابها الأولي، فسلبوا مصر دستورا لها، وحرية نعمت بها، في الوقت الذي هبت فيه أمم الشرق كسوريا والعراق والهند وغيرها، وكسبت نظما دستورية ونيابية لم تكن قد تمتعت بها، فهل كتب للإنسانية أن تنمو وتتطور بينما مصر تتأخر وتتدهور، وهل غيرنا يكسب ونحن نخسر، كلا فلن ترضي البلاد أن يرجع بها القهقري، وأن تقسر علي حكم الاستبداد قسرا، فكلمة الأمة هي العليا، ولقد كانت وستبقي كلمتها دستورا».

«أيها المصريون.. لقد خرجت هذه الوزارة علي الدستور والقانون معا فعطلت نصوصا حرم الدستور تعطيلها أبدا، وحرمت الأمة برلمانها، ووقفت الحياة النيابية سنوات تمدها بما يوحيه إليها طغيانها، ولم يكفها أن سلبت الأمة سلطانها فمدت يدا شريرة إلي شعورها ووجدانها، وسدت عليها المنافذ في اجتماعاتها، وصحافتها وحرية أفرادها، ولم يأخذها في ذلك ورع ولا خجل».

«أيها الوزراء.. لقد عطلتم ضمائركم.. فقد أقسمتم بالله وبالوطن وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، أن تحترموا الدستور وأحكامه، فحنثتم اليوم بأيمانكم وحملتم الأمة نتائج عصيانكم فإذا لم تخشوا حساب الضمير فهلا تخشون حساب الساعة وحساب الساعة عسير؟».

«أيها المصريون.. إن الدستور قائم طالما أنكم تريدونه، محترم إذا كنتم أنتم تحترمونه فكونوا واثقين من حقكم ثقتكم في أنفسكم، ذاكرين دروس نهضتكم، فليست هذه المحنة مهما اشتدت بأقسي مما رأيتم أيام الأحكام العرفية الإنجليزية أيام السجون مفتحة أبوابها والمجاهدون الأبرياء يحشرون فيها باسمين، أيام كانت المعتقلات النائية، والمنافي السحيقة، تتلقف أبناءكم وزعماءكم وهم فرحون مستبشرون، أيام كانت الأحكام العسكرية تصدر ضدهم وهم لعذابها مستعذبون، كلا فما كانت القوة لتزيد تلك الشعلة المقدسة إلا اشتعالا، وما كانت الشدائد لتوهن من ثبات أمة اعتزمت في الحق نضالا».

«أيها المصريون.. إن وفدكم الذي زعموه فئة قليلة وخصصوا مع ذلك لمحاربته سنوات طويلة، إنما هو رمز إرادتكم، وصوت نهضتكم، فلن يهدم أبدا وإن تألبت عليه قواتهم، إذ الوفد أمة لا نفاد لرجالها، وفكرة لا سبيل إلي تقطيع أوصالها، وسيبقي الوفد رافعا علم الجهاد كما رفعه سعد من قبل عاليا ظهورا، فما كفاح اليوم إلا ذلك الكفاح القديم، قد تجدد لتخليص الدستور من أيدي الرجعيين، وإنقاذ حرية البلاد واستقلالها من أيدي الغاصبين، وإن الوفد ليعاهد الله والأمة عهدا جديدا مسئولا، ألا يعبأ بظلم الظالمين، وإن نكلوا به تنكيلا».

«أيها المصريون.. يريد الغاصب مرة أخري أن يمتحن وطنيتكم، ويبلو ثباتكم فوطدوا دعائم نفوسكم، وأثبتوا للعالم الذي يرقبكم أنكم وإن كنتم لا تحتملون ضيما، فحاشا لكم أن ترتكبوا إثما، فما كان سلاحكم في الجهاد إلا قوة إيمانكم، ومضاء عزيمتكم، ولئن كانت الكارثة عظيمة، فأنتم أعظم، ولئن كانت القوة كبيرة فالله أكبر».

مصطفي النحاس

(33)

وفي 1929 بدأ الملك فـؤاد سياسة جديدة تمثلت في دعوته للنحاس باشا لتأليف الوزارة مرة ثانية، فإذا بالنحاس لا يقبل بهذا العرض، ويصر علي إجراء انتخابات تسبق تكليفه بتشكيل الوزارة، وهو ما تم بالفعل، وقد روي كريم ثابت، المعروف بولائه للملك قصة هذا الموقف فقال:

«… ومن غير علم توفيق نسيم رئيس الديوان الملكي.. أوفده إليه (يشير النص إلي أن الملك فــؤاد أوفد سعيد ذو الفقار كبير الأمناء) ليؤكد له: أن «مولانا» يحبه، ويقدره، ويثق به».

«وأنه لما أقاله في المرة السابقة كان مكرها علي ذلك من لورد لويد فأمضي الإقالة علي مضض شديد.. وبألم شديد».

«وأن ثقته به ظلت كاملة في تلك الفترة».

«وأنه ما برح ينتظر الفرصة الملائمة ليعيده إلي الحكم..» و«قد حانت ولله الحمد!».

«وأنه ليس أدل علي أن ثقته به لم تتزعزع من أنه يريد الآن أن يدعوه إلي تأليف الوزارة فورا بدون حاجة إلي وزارة انتقال، أو إلي انتخابات جديدة!».

«وأنه يترك له أن يجري بعد ذلك انتخابات جديدة، أو أن يحيي البرلمان القديم الذي حله محمد محمود لما قرر وقف الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد».

«فكلفه النحاس أن يرفع إلي جلالة الملك شكره العظيم علي عواطفه نحوه وثقته به».

«أما فيما يتعلق بالموضوع، فأوضح أنه بعدما قيل في كتاب إقالته إنه لا يمثل البلاد، لم يعد في مقدوره أن يعود إلي الحكم إلا بعد إجراء انتخابات جديدة يعلن فيها الشعب مشيئته!».

«حاول سعيد ذو الفقار أن يقنعه بأن يجري هو هذه الانتخابات بعد تأليفه الوزارة، فلم يفلح، فقد أصر النحاس علي أن تجري الانتخابات وزارة محايدة منعا لكل قيل وقال».

(34)

وقد تحدث النحاس باشا في مذكراته التي رواها الأستاذ محمد كامل البنا عن محاولات الملك فؤاد إقناعه بالعودة إلي رئاسة الوزراء في أثناء حكم محمد محمود باشا فقال:

«بعث إليّ مراد محسن باشا يطلب مقابلتي فحددت له اليوم، وقد تحدث معي في أن الملك فاض به من تصرفات محمد محمود، وأنه أصبح لا يطيق رؤيته، وأنه يقول «نار النحاس ولا جنة محمد محمود»، وهذه فرصة للتقرب إلي القصر ولا تضيعها، وأجبته بما سبق أن أجبت به، بأن الملك إذا كان يريد حقًا إعادة الدستور والحياة النيابية فما عليه إلا أن يفعل، فقال مراد باشا إنه لا يستطيع لأن الإنجليز يتدخلون في كل شيء كما تعلم، فرددت عليه بأن عودة الدستور والحياة النيابية مسألة داخلية لا شأن للإنجليز بها، ولا يحق لهم أن يتدخلوا فيها فقال مراد باشا أنت تعلم ظروف الملك والتهديدات التي تحيط بعرشه في كل مناسبة، ولن أكتم عنك أن المندوب السامي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة حتي في تعيين صغار الموظفين، وأرجو أن تراعي هذا وتقلل من تشددك بعض الشيء، لأني أعلم أنك أنت وحدك تصر علي موقفك، ولو شاورت أعضاء الوفد فيما أطلب لوافقوك حتي تتخلصوا من هذا الكابوس، وتكون بهذا قد خدمت الوفد وخدمت القصر وسيقدر لك الملك هذا العمل، فقلت له إن أعضاء الوفد جميعهم أشد مني تمسكًا وتعصبًا لحقهم واستنكارًا لتصرفات السراي ورجالها ولا تظن أن أحدًا منهم يفرط في حق من الحقوق، أو يخضع للتهديد أو يقبل المغريات».

(35)

ونري في المذكرات المنسوبة إلي النحاس إشارة واضحة إلي الدور الذي قام به محور الإبراشي ـ الغرابلي، في سبيل الخلاص من محمد محمود، وهو دور آثر أن ينجح ويجنح، بالاضطرار إلي عودة النحاس وحكم الشعب:

«… قال لي الغرابلي باشا إن زكي الإبراشي باشا تحادث معه بشأن التقريب بين الوفد وبين السراي، وإنه يري أن الوقت قد حان لأن أمد محمد محمود في الوزارة لن يدوم طويلًا، وأن الإنجليز لن يتفاهموا وأظن الباشا يعلم هذا من قبل، وأنه تحدث مع كثير من المقربين إلي الملك فوافقوه علي أن الظرف مناسب للتفاهم حتي يمكن الخروج من الضيق التي تعانيه البلاد، وأجبته مرة أخري بأني لن أقبل تفاهمًا مع السراي، ولا مع غيرها إلا علي أساس الاعتراف بحقوق البلاد، وعدم التدخل في شئونها، وعودة دستورها وبرلمانها، وعلي غير هذا الأساس لن أقبل أي تفاهم، فقال إن عيد الملك فؤاد سيكون في 26 مارس ويحسن أن تذهبوا وتقيدوا أسماءكم في سجل التشريفات، فرفضت رفضًا باتًا أن أذهب إلي القصر، لا مهنئًا ولا معزيًا إلا علي أساس رد الدستور والحياة النيابية التي عطلها محمد محمود بغير حق».

(36)

ونحن نعرف ما حدث بعد ذلك حيث ألف عدلي وزارة محايدة أشرفت علي إجراء الانتخابات التي أسفرت عن فوز الوفد، وهكذا أجريت الانتخابات وفاز الوفد كالعهد به بأغلبية ساحقة، واضطر الملك فــؤاد إلي تكليف النحاس بتشكيل الوزارة علي نحو ما طلب النحاس نفسه بعيدا عن دعاوي الائتلاف والوزارة القومية وما إليها.

(37)

وهذا هو نص كتاب الملك بتكليف النحاس بتشكيل الوزارة:

«عزيزي مصطفي النحاس باشا»

«لما عهدناه فيكم من الإخلاص والولاء وحسن الروية، قد اقتضت إرادتنا إسناد رياسة مجلس وزرائنا إليكم».

«وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف هيئة الوزارة، وعرض المشروع علينا لصدور مرسومنا به».

«ونرجو الله أن يجعل التوفيق رائدنا جميعا فيما يعود علي بلادنا بالخير والسعادة».

«صدر بسراي القبة في غرة شعبان سنة ١٣٤٨ (١ يناير سنة ١٩٣٠)»

فــؤاد

وقد رد النحاس باشا بكتاب لطيف العبارة رقيق الحاشية لكنه يؤكد علي موقف النحاس ومبادئه، وكان مما ورد فيه:

«تفضلت جلالتكم فأصدرت أمرها الكريم إلي الوزارة السابقة فباشرت الانتخابات العامة طبقا لأحكام الدستور في جو من الحرية والحياد التام، وأسفرت الانتخابات عن صورة صحيحة لإرادة البلاد في التعلق بحياتها النيابية، والاستمساك بدستورها وحرياتها في ظل عرشكم المفدي».

«وستتقدم الوزارة ببرنامجها إلي البرلمان، جاعلة من أغراضها الأولي العمل علي تثبيت قواعد الدستور وصون نصوصه وأحكامه، والسير بالبلاد في طريق الإصلاح من جميع نواحيه، والسعي إلي تحقيق استقلال البلاد استقلالا صحيحا، والوصول إلي اتفاق شريف وطيد بين مصر وبريطانيا العظمي، وتوثيق عري المودة بيننا وبين الدول الأجنبية».

(38)

وقد صادف النحاس باشا قبل تشكيله لوزارته الثانية تعنتا بريطانيا مسبقا فيما يتعلق بدخول كل من أحمد ماهر والنقراشي في الوزارة الجديدة، ونحن نعرف أن النقراشي دخل هذه الوزارة وكان دخوله فيها (يناير 1930) هو أول تاريخه مع المناصب الوزارية، أما أحمد ماهر فإنه لم يدخل هذه الوزارة مع أنه كان وزيرًا وفديًا منذ الشهر الأخير في وزارة سعد زغلول (أكتوبر 1924)، وقد ألقت مذكرات النحاس التي سجلها محمد كامل البنا الضوء علي الظروف والمناقشات التي قادت إلي التوافق علي حل وسط بين النحاس والبريطانيين في هذه القضية:

«… زارني رسول من قبل المندوب السامي هو مستر سمارت وحدثني بأن الوزارة المقبلة هي وزارة الوفد قطعًا، وأن الإنجليز ينبهون من الآن أنهم لا يرغبون في أن تضم الوزارة الجديدة أحمد ماهر ولا محمود النقراشي نظرًا للتهم التي وجهت إليهما واشتراكهما في قتل بعض الإنجليز، فعجبت لهذا الأمر وقلت للرسول أولًا أنا لم أكلف بتأليف الوزارة رسميًا إلي الآن وحتي لو كلفت فما شأن الإنجليز بهذا الأمر وهو مسألة داخلية بحتة من حق الملك وحده، واختيار الوزراء من حق رئيس الوزارة، ولما تحدث الرسول عن العهد الجديد الذي تريد بريطانيا أن تبدأه مع مصر حتي تنتهي المسألة قلت له: إن هذه بداية غير طيبة وتدخل غير مشروع، ونبهته إلي أن تصريح 28 فبراير 1922 الذي صدر من جانبهم، وتحفظت فيه بريطانيا بأربعة تحفظات ليس منها التدخل في شئون البلاد الداخلية وقلت له بلغ المندوب السامي بأني أرفض هذا الطلب رفضًا باتًا، ولو أدي الأمر إلي أن أرفض تأليف الوزارة إذا عرضت عليّ، فالكتاب يقرأ من عنوانه، وودعته وأنا مصر علي رأيي».

«ظلت مسألة دخول أحمد ماهر والنقراشي الوزارة محل أخذ ورد، فقد اتصل بي المندوب السامي شخصيًا وفاتحني في هذا الأمر فصممت علي رأيي، ونبهته مرة أخري إلي أن تصريح 28 فبراير لم يحتفظ إلا بأربعة تحفظات ليس منها هذا الطلب وقلت للمندوب في شيء من الحدة: إن هذا التدخل لا يبشر بالخير وليس هذا ما اتفقنا عليه عند المقابلة من أننا سنكون متفاهمين، ولكنه قال إن هذه تعليمات وزارة الخارجية البريطانية، كذلك زارني بعض المتصلين بالقصر الملكي وأخبروني أن الملك يطلب مني التساهل في هذا الأمر حتي لا تعود البلاد إلي عهد كعهد محمد محمود الذي ضج منه الناس حتي الملك نفسه، ولكني صممت علي رأيي وليكن ما يكون».

«زارني مستر ريد وفارس نمر وثالث لا أذكر اسمه وفاتحوني هم كذلك في مسألة ماهر والنقراشي واستمعت إلي حديثهم وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث دخل علينا واصف غالي ومرقص حنا عضوا الوفد واشتركا في الحديث وطرح مستر ريد فكرة قال: «نقسم البلد قسمين»، تختار أنت في الوزارة واحد من الاثنين وتترك الثاني، ويقبل الإنجليز هذا الحل فنكون بذلك قد أرضينا الطرفين، ولكني رفضت».

(39)

وتحرص المذكرات المنسوبة إلي النحاس علي الاعتراف بالفضل لأحمد ماهر في حل مشكلة اعتراض الإنجليز علي وجوده في الوزارة، ونحن نعرف أن النحاس ثمّن هذا الحل علي نحو رائع، وأن أحمد ماهر تولي رياسة مجلس النواب، كما انضم فيما بعد للوفد المفاوض من أجل المعاهدة في 1936:

«… وإذا بأحمد ماهر يدخل علينا ويشترك في الحديث ويعلن أنه تفويتًا علي خصوم الوفد اللعب والدس في هذا الأمر فإنه يرفض هذا الحل ويرشح النقراشي للوزارة ويبقي هو في الخارج حتي لا تتأزم الأمور أكثر من ذلك، وسر الحاضرون جميعًا بهذا الاقتراح وقالوا إنه حل كريم للأزمة بل قد صرح فارس نمر بأن الملك سيفرح كثيرًا لأن الإنجليز قد أنذروه بأنه إذا تقدم النحاس إليه بأعضاء الوزارة وفيهم أحمد ماهر والنقراشي فيجب أن يمتنع عن توقيع المرسوم الملكي، ولعل هذا هو السبب المباشر في أنه لم يعهد إليك بتأليف الوزارة حتي الآن برغم مضي أكثر من عشرة أيام علي استقالة عدلي باشا، فرددت عليهم بأن يتركوا لي فرصة حتي أعرض الأمر علي هيئة الوفد مجتمعة».

«دعوت الوفد للاجتماع فحضر جميع الأعضاء، وعرضت الأمر عليهم فوافقوا جميعًا علي أن اختيار النقراشي وزيرًا، وتنازل أحمد ماهر عن الوزارة عن رضاء واختيار يعتبر حلًا سليمًا فيه صون للكرامة وحل مرض للأزمة وانتصار للوفد الذي أصر علي موقفه برغم كل ما جري، فقبلت خضوعًا لرأي الأغلبية، وبلغ الخبر دار المندوب السامي فاتصل بي السفير، وقال لي إن وزارة الخارجية البريطانية عارضت هذا الحل في بدء الأمر ولكني شرحت لهم الموقف وأخيرًا اقتنعوا وأصبح لا مانع لدينا من أن تؤلف الوزارة، ولقد تضايقت من كلمة لا مانع لدينا، وتأثرت كثيرًا إذ أننا لا نزال بعد جهاد عشر سنين منذ ثورة 1919 إلي الآن نتلقي الأوامر من الإنجليز حتي في أخص المسائل الداخلية، وسخطت علي الظروف القاسية التي تمر بنا، واتجهت إلي الله مرة أخري أن يخلصنا من هذا الكابوس الجاثم علي أنفاس البلاد».

(40)

ويبدو أن حال النحاس مع الملك فــؤاد في هذه الوزارة لم يكن بأفضل من حاله معه في وزارته الأولي، إذ سرعان ما وقع الخلاف بين الملك والنحاس في قضايا جزئية كثيرة، وسرعان ما عاد الملك فــؤاد سيرته الأولي في تفضيل وزارات يضعها هو علي وزارة تأتي بها الجماهير، وسرعان ما عملت الامبريالية البريطانية علي تصعيد خلافات الملك والنحاس، وهنا جاءت الفرصة للملك فــؤاد ليأتي بمرشحه المفضل لرياسة الوزارة، وهو إسماعيل صدقي.

(41)

ومن الجدير بالذكر أن إسماعيل صدقي باشا كان مرشح الملك في المرة الأولي في 1928، علي حين كان اللورد لويد يفضل محمد محمود، وكان لكل من الملك والمندوب السامي البريطاني وجهة نظر، ومن ثم فإنهما احتكما إلي «القرعة» التي جاءت بمحمد محمود.

ربما جاز لي أن أقطع تواصل الحديث هنا لأثبت مفارقة طريفة تدل علي حجم المفارقة التاريخية، ذلك أن صديقي مجدي ناسخ هذا النص صمم مرة بعد أخري علي أن يكتب كلمة «الفرصة» بدلًا من «القرعة»، وليس هذا في حد ذاته إلا دليلا علي أنه بعقله الواعي لم يطق أن يصدق أن تكون هناك قرعة أو اقتراع في مثل هذا القرار، لكن هذا هو ما حدث بالفعل.. اقترع الملك فــؤاد واللورد لويد فإن جاءت القرعة «ملكا» كان صدقي رئيسا للوزراء، وإن جاءت القرعة «كتابة» كان محمد محمود رئيسا للوزراء، وهكذا جاء محمد محمود بالقرعة!!

وها هي الأيام تعوض صدقي فرصة جديدة ويأتي ليحكم حكمه الشهير بالحديد والنار، وليلغي الدستور ويضع دستورا جديدا، ويحارب الوفد أشرس حرب لاقاها الوفد في تاريخه كله، وأصبحت الحياة السياسية في تلك الفترة (1930 – 1933) سجالا بين الوفد والقوي الوطنية المؤتلفة معه من ناحية، وصدقي من ناحية أخري.

(42)

أما أكثر خلافات النحاس باشا مع الملك فـؤاد أهمية في عهد وزارته الثانية فهو الخلاف حول قانون محاكمة الوزراء، وهو الخلاف الذي لم ينته إلا بإقالة الوزارة.

وكانت وزارة الوفد قد تقدمت بمشروع قانون يقضي بمحاكمة الوزراء الذين يقدمون علي قلب دستور الدولة،أو حذف حكم من أحكامه أو تعديله بغير الطريقة التي رسمها الدستور، أو مخالفة حكم من أحكامه الجوهرية (كما فعل زعماء الانقلابات الدستورية)، فضلا عن محاكمة كل وزير يبدد أموال الدولة العامة، وحددت العقوبة بهذا القانون علي أن تكون الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة والغرامة التي تتراوح بين 1000 جنيه ولا تزيد علي 10000 جنيه، فلما عرض مشروع هذا القانون الجريء علي السراي رفض الملك فــؤاد توقيعه لعرضه علي البرلمان، لما أحسه بذكائه من أنه سيترتب عليه شل يد الملك والإنجليز في تعيين وزراء عن طريقهم ينفذون ما يريدون مخالفا لأحكام الدستور وقوانين البلاد.. وهنا اتفقت كلمة السراي والبريطانيين علي عدم إصدار قانون محاكمة الوزراء، وكان هذا هو السبب الحقيقي أو المباشر لتقديم مصطفي النحاس كتاب استقالة وزارته.

وعلي صعيد آخر فقد فشلت المفاوضات التي دارت بين النحاس وأرثر هندرسن وزير الخارجية البريطانية إذ ذاك، وعندئذ اعتبر الملك فــؤاد فشل هذه المفاوضات بمثابة فرصة مواتية للتخلص من النحاس ومن النفوذ الوفدي، فتوسل بقانون محاكمة الوزراء لتحقيق غرضه في إقالة النحاس وإخراجه من الحكم.

(43)

ويجدر بنا أن نلقي الضوء علي مفاوضات النحاس ـ هندرسن مستعينين بما سجلته الأدبيات التاريخية، وفي مقدمتها كتابات الرافعي وعبد العظيم رمضان:

«قرر مجلسا الشيوخ والنواب يوم 6 فبراير سنة 1930 تفويض الوزارة في أن تفاوض الحكومة البريطانية في مقترحاتها للوصول إلي «اتفاق شريف وطيد يوثق عري الصداقة بين البلدين».

«وتألف الوفد الرسمي للمفاوضة علي النحو الآتي: مصطفي النحاس باشا رئيسا، وعثمان محرم باشا، وواسف بطرس غالي باشا، والأستاذ مكرم عبيد أعضاء، ثم الدكتور أحمد ماهر، ومحمود حسن بك المستشار الملكي، والأميرالاي إبراهيم بك بدران، والقائمقام حافظ صدقي بك، والأميرالاي أحمد رفعت بك مستشارين، ومصطفي الصادق بك سكرتيرا عاما، ثم الأستاذ محمد كامل سليم، ومحمود صديق بك، والأستاذ جورج دوماني، وأحمد راغب بك، والأستاذ محمد صلاح الدين، وإبراهيم ممتاز، وأحمد سعد عبد الحميد الشريف، ومحمود زكي سالم، وأمين عثمان، وسابا حبشي، وصبحي حوا موظفي السكرتيرية».

«وصحب الوفد من الصحفيين الأساتذة: عبد القادر حمزة عن (البلاغ)، وأحمد حافظ عوض عن (كوكب الشرق)، ومحمود عزمي عن (اليوم)، وعبد الله حسين عن (الأهرام)».

(44)

وقد سرد الأستاذ الرافعي تعاقب أحداث المفاوضات علي نحو دقيق:

«سافر وفد المفاوضة قاصدا لندن يوم 20 مارس، وجرت المفاوضات بينه وبين المستر هندرسن وزملائه، وافتتحت في حفلة أقيمت بقاعة «لوكارنو» التاريخية بوزارة الخارجية البريطانية يوم الاثنين 31 مارس».

«ثم قطعت يوم 8 مايو، لعدم الاتفاق علي المادة الخاصة بالسودان، فقد كانت المادة الثالثة عشرة من مقترحات هندرسن تنصّ علي ما يأتي: «مع الاحتفاظ بحرية إبرام اتفاقات جديدة في المستقبل معدلة لاتفاقات سنة 1899 يتفق الطرفان المتعاقدان علي أن يكون مركز السودان هو المركز الذي ينشأ من الاتفاقات المذكورة، وبناءً علي ذلك يظل الحاكم العام يباشر بالنيابة عن الطرفين المتعاقدين السلطات التي خولتها إياه الاتفاقات المشار إليها».

«وقد طلب الوفد تعديل هذه المادة وأن يكون نصها كما يأتي: «مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل لتعديل اتفاقيتي سنة 1899، قد اتفق الطرفان المتعاقدان علي أنه بغير إخلال بحقوق مصر ومصالحها المادية يكون مركز السودان هو المركز الناشئ من هاتين الاتفاقيتين، وكإحدي نتائج اتفاقيتي سنة 1899 يواصل الحاكم العام بالنيابة عن الطرفين المتعاقدين مباشرة السلطات المخولة له بمقتضي الاتفاقيتين المشار إليهما، وقد اتفق الطرفان المتعاقدان علي أن يدخلا إذا طلب أحدهما ذلك في مباحثات ودية بشأن تطبيق الاتفاقيتين المذكورتين في خلال اثني عشر شهرا من تنفيذ المعاهدة الحالية».

(45)

وقد أبان الرافعي عن الاختلاف الذي اقتضاه الوفد في مفاوضاته:

«والنص الأخير يختلف عن النص الأول في أنه يقرر أن إدارة السودان تستمر طبقا لاتفاقيتي سنة 1899، ويقر في الوقت نفسه أن لا يكون في هذه الإدارة مساس بحقوق مصر ومصالحها المادية، وهو ما لم يرد في النص الأول ويقرر النص المعدل أيضًا أن قيام الحاكم العام بمباشرة سلطته هو نتيجة من نتائج اتفاقيتي سنة 1899، أما النص الأصلي فمدلوله أن السلطة الحالية للحاكم هي كل ما تنحصر فيه نتائج الاتفاقيتين، وأن نصيب مصر في إدارة السودان لا يتعدي قيام الحاكم العام بشئون الحكم، ثم إن النص المعدل يضرب لتعديل اتفاقية سنة 1899 أجلا لا يتجاوز عاما، أما النص الأول فلا يحدد موعدا لهذا التعديل ويترك لإنجلترا الحرية في أن تجيب مصر إلي طلبها التعديل أو لا تجيب».

«وقد قبل الجانب البريطاني هذا التعديل بعد نقاش طويل، ولكن مجلس الوزراء البريطاني رفضه بإجماع الآراء، مع أن أربعة من الوزراء ومنهم مستر هندرسون قبلوه من قبل أثناء المفاوضة، إذ كانوا هم المتفاوضون مع الوفد المصري، كما رفض أيضًا تعديلا يتعلق بإمكان إعادة أورطة من الجيش المصري إلي السودان، وسوغ الجانب البريطاني هذا الرفض بأن مجرد التعهد بعقد المؤتمر للبحث في تطبيق اتفاقية 1899 قبل مضي عام معناه أن هناك تساهلات أخري، وهو ما لا تبغيه الحكومة البريطانية، وقيل عن سبب نكول الوزراء البريطانيين الأربعة عن قبولهم هذا التعديل أن الوزارة ـ وكانت من حزب العمال ـ خشيت أن تتهم من خصومها من المحافظين والأحرار بالتساهل في المسألة المصرية، فيتحرج مركزها، وقد بدا هذا الحرج من سقوط مرشح حزب العمال في انتخاب فرعي لمجلس العموم، إذ فاز عليه مرشح المحافظين، فجاء هذا النجاح نذيرا لوزارة العمال، وزاد عليه أن الوزارة البريطانية تلقت تقارير من مصر بأن الدوائر الأجنبية غير راضية عن اتفاق قد يضعف النفوذ الأجنبي في الحكومة، وكان مما نقمت منه هذه الدوائر شروع وزارة النحاس في إنشاء بنك التسليف الزراعي، وما توقعه الأجانب من أن إنشاءه سيضر بمصالح البنوك الأجنبية، ووردت أيضًا برقية من حاكم السودان العام (السير چون مافي) بأنه إذا أمضيت المعاهدة كما ارتضاها المستر آرثر أندرسن فإن أعضاء مجلس الحاكم العام يستقيلون، ومهما تكن هذه البرقية مناورة سياسية فإن هذه الاستقالة تحرج ولا ريب مركز الوزارة في إنجلترا، فلهذه الأسباب مجتمعة قررت الوزارة التمسك بالنص الأول للسودان كما ورد في مقترحات هندرسن، فلم يقبله الوفد المصري، ومن ثم قطع المفاوضات».

«ومع أن قطع المفاوضات معناه أن إنجلترا تريد أن تغتصب من حقوق مصر ما لا يقبله مفاوض رسمي أو غير رسمي، وكان يجب أن يعقبه تضامن الأمة في الاستمساك بحقوق مصر كاملة بإزاء سياسة العدوان البريطانية، فقد انتهز طلاب المناصب في مصر هذه الفرصة لإسقاط الوزارة وإحداث انقلاب جديد للوثوب إلي كراسي الحكم، واطمأنوا إلي أن السياسة البريطانية نقمت من الوزارة البرلمانية عدم قبولها مشروع هندرسن بحذافيره، وأنها تميل إلي الانتقام منها بواسطة العناصر والسلطات المحلية المصرية عقابا لها علي عدم قبول المشروع برمته، مثلما كان الموقف تماما عندما رفضت الوزارة البرلمانية سنة 1928 مشروع تشمبرلن».

(46)

وقد تقدم النحاس باستقالته دون أن ينتظر أن يقيله الملك، وكان هذا المعني واضحا في كتاب استقالته الموجز:

«مولاي»

«أتشرف بأن أرفع إلي سدتكم العلية استقالتي وزملائي من الوزارة، نظرا لعدم تمكننا من تنفيذ برنامجنا الذي قطعنا علي أنفسنا العهد بتنفيذه، راجيا أن تتفضلوا بقبولها».

«وإني علي الدوام يا مولاي خادم سدتكم المخلص الوفي الأمين».

«القاهرة في 20 محرم سنة 1349 (17 يونيو ١٩٣٠)»

مصطفي النحاس

…. …. …. …. …. …. …. …. …. …. ….

وكانت هذه الاستقالة بمثابة بداية أقسي عهود الوفد والحركة الوطنية في مواجهة الانقلاب الدستوري والاستبداد والبطش المتعسف علي يد إسماعيل صدقي.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com