الرئيسية / المكتبة الصحفية / الشخصية السوية (2)

الشخصية السوية (2)

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 22]

[حوارات الدين والطب و السياسة/ 22]

 

وحسبما تعلمت من أستاذي فإني لم أشأ أن أجعل زميلي يعيش معاناة أكثر مما هو فيه، ولهذا فقد استأذنت زميلي في أن نلغي موعد الغد معتذرًا بسفر طارئ، وكان من حسن الحظ أنه استجاب ـ بسرعة ـ إلى هذا الطلب المريب مني! لأنه ظن نفسه في موقف ضعيف!!

وفي أول لقاء لي مع أستاذي أنهيت إليه في رفق شديد أنه شكك زميلي في نفسه بما أنكر من حديث حقيقي.

قال أستاذي: وماذا كنت تظنني أفعل؟

قلت: تجبر خاطره.

قال: أي خاطر؟ وأي جبر؟ إنما تقصد إحياء الموتى.

قلت: أوصل الأمر إلى هذا الحد؟

قال: بل إنه وصل إلى حد نفخ الروح في التماثيل.. هل تظن لنفخ الروح في التماثيل جدوى؟

قلت: أهذا رأيك في حب الشباب؟

قال: إنما هي ضلالات مبكرة.

قلت: والحب؟

قال: الحب هو ما يبقي لا ما يومض.

قلت: وذكرى الوميض؟

قال: يتكفل بها الرماد.

قلت: لكن الشاعر يقول : إنه يرى تحت الرماد وميض نار.

قال: وهذا في حد ذاته دليل على الضلال.. إلا إذا أردت أن تغير العلم وتعريفاته.

وظل أستاذي على هذه العقيدة حتى توفاه الله.

***

كان أستاذي يؤمن أن النجاح في الحب لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال عوامل النجاح التي لخصتها المعادلة الخاصة بالماء والنار، فإذا كان الزوجان مائيين نجحت العلاقة، وإن كان أحدهما كذلك نجحت العلاقة، أما إذا كان كلاهما ناريًا فإن العلاقة تفشل، فإذا افترضنا أن كل احتمال من الاحتمالات الأربعة يمثل 25% فإن الناتج النهائي يقف بالفشل عند حدود 25% فقط، وهو حد معقول.

وكان أستاذي ينسب إلى حميه، وكان رجل أعمال ذكيا، هذه النظرية ويسعد بنسبة هذه النظرية إلى هذا الرجل المجرب.

دار حوار بيني وبين أستاذي حول هذه المعاني ذات مرة، فإذا به ميال إلى القول بفكرة أن الإخفاق في الحب أكثر من النجاح فيه، وإلى أن الحب الذي يتولد عن المعاشرة الحسنة غالبًا ما يفوق في صموده وفي خلوده الحب الذي بدأ قبل الزواج.

ثم قال لي أستاذي: هل تدرى شيئًا عن تجربتي الأولى في الارتباط؟

قلت: لا.

قال: هل قرأت في أهرام الأسبوع الماضي أن زوجة عميد إحدى الكليات المرموقة سببت له مشكلة كبيرة؟

قلت: نعم قرأت الخبر، هي زوجة فلان، عميد الكلية الفلانية.

قال: أتعرفها؟

قلت: لا.

قال: لكنك تعرف خالها.

قلت: مَنْ هو؟

قال: هو صديقك فلان، وكان هذا الرجل مهنيا عظيما، ومثقفا كبيرا، نائبا لرئيس الوزراء، وعضوا في مجمع اللغة العربية أيضا.

قلت: أكانت هذه السيدة هي مشروع ارتباطك الأول؟

قال: نعم.

قلت: أحدس أنها كانت ملكة جمال، فعائلته بل قريته هي إحدى مواطن الجمال في إقليمنا في الدقهلية.

قال: هي أكثر من ذلك.

قلت: وما الذي أفشل التجربة؟

قال: قلت لك كل شيء ثم تسألني؟ بالطبع أفشل جمالها التجربة، وتكفل بالباقي التعويل على نفوذ خالها.

قلت: ولابد إذًا أنك سعدت بالنجاة من التجربة.

قال: وإلا كنت أنا اليوم في الموضع الذي فيه الزوج!

قلت: لكني أذكر أني استشرتك ذات مرة في موضوع مشابه فأثنيت على قيمة الجمال.

قال: هذا من حقك.

قلت: لكني كنت أسألك رأيك لا حقي.

قال: لكنك كنت في نظري لازلت غرا.

قلت: وهل اختلف الأمر؟

قال: باختلاف الزمن.

قلت: كأنك تريد للعقل وحده أن يحكم الزواج.

قال: لم أقل هذا أبداً.

قلت: أشم هذا من نقدك لكثير من مشاعر القلوب، وانطباعات الأعين.

قال: هذا هو ما يفهمه كثيرون من تعليقاتي مع أني لا أقصد بها إلغاء دور القلب.

قلت: بل إنك تنحيه جانبا.

قال: المشكلة يا محمد أن حصر الناس تفكيرهم في الازدواجيات الشائعة تجعلهم يتصورون أن كل شيء ضد العقل هو مع القلب، وهكذا يجعلون النزق والخطأ والجنون وغيرها أحكاما للقلب لا لشيء إلا لأنها ليست أحكام العقل، والأولى بهم أن يصنفوها تحت عنوان «أحكام لا قلبية ولا عقلية».

قلت: أيعني هذا أنك تؤمن بدور القلب؟

قال: لو لم أكن أؤمن بدوره ما حاورتك.

قلت: فماذا كنت تفعل إذًا في سؤالي؟

قال: كنت أقول لك: لقد قالوا من قديم الزمان: القلب وما يريد، وبهذا أكفي نفسي مئونة مناقشاتك.. المرهقة.

قلت: أتنكر أن القلب يريد ويدفع صاحبه إلى ما يريده.

قال: أنكر.

قلت: فما الذي يدفعنا إلى أن نفعل ما نهوى؟

قال: الجانب الآخر من العقل.

قلت: تعني أنه ليس الجانب الأول؟

قال: نعم.

قلت: أما أنا فأعتبر الجانب الآخر من العقل هو القلب.

قال أستاذي: إنك بدفاعك عن القلب ألغيت وجوده تماما.

قلت: هذا هو ما أعتقد.

قال: فما تفعل إذًا في هذا العضو الذي نعالجه، ونداويه، ونداديه، ونرفع اسمه فوق عياداتنا، وعلى تذاكرنا الطبية، وعلى كروتنا الشخصية؟

قلت: ما هو إلا المضخة.

قال: ونحن؟

قلت: وما نحن إلا مهندسو المضخة.

قال: وفي أي تخصص من تخصصات الهندسة الكبرى تقع هندسة المضخة؟

قلت: في الهندسة الميكانيكية.

قال: الآن علمت اهتمامك الحثيث بالهندسة الميكانيكية، واستشهادك بها مع أنه لم يكن يعنيني عنوان الفرع الذي تنقل عنه، وكنت أكتفي بذكاء الأفكار التي تنقلها، وإني أشهد أنك كنت أحس بما يحسه بعض مستمعيك الذين لا يعرفونك فيحدسون أنك أستاذ في هذا الفرع.

قلت: فهل يمكن لك أن تتوسط في منحى الأستاذية في الهندسة الميكانيكية؟

قال: دعني أتأكد أولا إن كان علاج المضخات يتبع الهندسة الميكانيكية أو لا.

قلت: أتشكّ في قولي؟

قال: بل ربما حصلت لنفسي على هذه الأستاذية قبل أن أتوسط لك فيها.

قلت: أتري حالنا يكون أفضل لو تحولنا إلى أساتذة في الهندسة؟

قال: أفضل بكثير.

قلت: لم؟

قال: نشخص دون أن تستنزف الآلات وجداننا،

ونعالج دون أن تعصي الآلات أوامرنا.

ونُؤجر دون أن يسمم المرضي أبداننا.

*****

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com