الرئيسية / المكتبة الصحفية / فاروق الملك المحسود: 6/8 ما قبل الحريق و ما بعده  

فاروق الملك المحسود: 6/8 ما قبل الحريق و ما بعده  

قصة نجاة مصر من مؤامرة إقالة الوزارة في نوفمبر  1951

تضمنت مذكرات حسن يوسف باشا تفصيلات مهمة عن مصادفة قيامه بالجهد الأكبر أو الوحيد في إجهاض محاولة إلياس أندراوس لإقالة وزارة الوفد في نوفمبر 1951، ومن العجيب أن حسن يوسف يعزو نجاحه في هذا الإجهاض إلي المصادفة التي تولدت عن قرار وطني رائع اتخذته حكومة الوفد في ذلك اليوم ، ولم يكن قد أطلع عليه الملك فلما علم به الملك فاروق غير خطته من تغيير الوزارة الى العمل بجدية على دعمها حتى انه طلب من حسن  يوسف باشا ان يبيت في قصر السلاملك انتظارا لقدوم الفريق محمد حيدر القائد العام للقوات المسلحة  في الفجر لاتخاذ الخطوات اللازمة لهذا الدعم :  

” ….. لم يمض شهر علي نشوة الابتهاج التي عمت البلاد بإلغاء المعاهدة حتي راح المستشار الاقتصادي للخاصة الملكية إلياس أندراوس باشا يعرض علي الملك ضرورة تغيير الوزارة لعجزها عن مواجهة الموقف، ولأن الحالة المالية والاقتصادية آخذة في التدهور، ويرشح الدكتور حافظ عفيفي باشا رئيس مجلس إدارة بنك مصر رئيسا للحكومة الجديدة، ولم ير الملك مانعا من الأخذ بهذا الرأي،  وإنني لفي منزلي بسيدي بشر يوم 4 نوفمبر 1951 إذ اتصل بي هذا المستشار [هكذا يتكلم حسن يوسف عن إلياس أندراوس] وطلب مقابلتي لأمر عاجل، وكان الليل قد انتصف وجاءني وهو مستبشر بنجاح مسعاه لدي الملك في أمر تغيير الوزارة، وقال: إن مولانا أرسله في طلبي للتحدث في التفاصيل”.

“…… قمت على الفور إلي قصر المنتزه وكنت شارد الفكر، مضطرب الذهن، أقول لنفسي : كيف يمكن أن يحظى رئيس الحكومة بالشكر الملكي منذ أسبوعين ويتلقي الآن أمرا بعزله؟ وتصادف أن كانت الحكومة قد اتخذت في مجلس الوزراء في هذا اليوم بالذات قرارا سريا هاما لم يسبق عرضه علي الملك لأنه أضيف إلي جدول الأعمال ، ووافاني به النحاس باشا مع رسول من القاهرة وتسلمته في مساء ذلك اليوم، فحملته معي لأطلع الملك عليه،  وما أن استقبلني الملك في مكتبه فور وصولي إلي قصر المنتزه حتي ابتدرني بقوله: ما رأيك في حافظ باشا…، قلت: إن حافظ باشا رجل عظيم وإليه يرجع الفضل في إنقاذ بنك مصر منذ سنة 1940 وإدارته علي أحسن وجه إلي اليوم، ثم أضفت: قد يذكر مولانا أني سبق أن رشحت حافظ باشا لرياسة الوزارة كلما نشبت أزمة وزارية واستعصي حلها، بيد أني لم أفهم ما هي مظاهر تدهور الحالة الاقتصادية التي يدعيها إلياس باشا، كما لم يوضح لي توجيهات جلالتكم في أمر الوزارة الجديدة .. هل تكون من المستقلين أو من الأحزاب؟ وهل يدعي الوفد إلي الاشتراك فيها؟. أنصت الملك برهة .. ثم سألني عما في يدي، فقدمت له قرار مجلس الوزراء المشار إليه وكان يقضي بإصدار التعليمات إلي قوات الجيش المصري في السودان بأن تقاتل إلي آخر جندي إذا ما تعرضت لها القوات البريطانية هناك أو حاولت إخراجها من الخرطوم.

إعجاب الملك بسياسة الوزارة الوفدية في الدفاع عن سلطة مصر

ونمضي مع حسن يوسف باشا في روايته فنجد  وطنية الملك فاروق تدفعه تلقائيا إلى أن  يعدل عن قراره بإقالة الوزارة  و البدء  في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتشجيعها علي خطواتها الجريئة فيما يتعلق بالدفاع عن سلطة مصر وحقها في السودان: ” لم يسع الملك إلا أن يبدي إعجابه بما تضمنه هذا القرار وجال بخاطره ما عسي أن يحدث إذا ما اشتبكت القوتان في الصراع، وكأنه راجع نفسه وخلص إلي أن وزارة لها تلك الشجاعة لا يصح أن يكون جزاؤها العزل أو الإقالة، وفجأة قال لي: اطلب حيدر وبلغه هذا القرار وانتظر هنا في الاستراحة حتي يجيء من القاهرة ، ثم أخطرني بما يراه في كيفية تنفيذ هذا القرار الصادر من مجلس الوزراء.

” وبعد أن أصدر أمره إلي الحاجب المختار لكي يعد غرفة لي في السلاملك الملحق بقصر المنتزه حيث قضيت الليلة، أذن لي بالانصراف من مكتبه، وعلي الفور اتصلت بحيدر باشا القائد العام للقوات المسلحة فاستقل طائرة ، وحضر إلي القصر مع مطلع الشمس حيث أطلعته علي قرار مجلس الوزراء وقال: إنه قرار حكيم وإن قواتنا في الخرطوم علي أتم الاستعداد للنضال، وإذا ما احتاجت إلي إمدادات فإني مرسل إليهم بها، وتفاصيل أخري عرضتها علي الملك فلم ير داعيا لإثارة موضوع تغيير الوزارة” .

ومع هذا فان إلياس اندراوس ، وهو في رأينا شيطان رجيم ، لم يكف عن مساعيه المخربة للوطن  من اجل تحقيق هدف واحد هو وصوله هو نفسه إلى رئاسة مجلس إدارة بنك مصر ، وفي هذا المعنى يقول حسن يوسف باشا : 

“……… واستمرت وزارة النحاس باشا في الحكم وهي لا تعلم شيئا عن هذا كله، سوي ما نشرته بعض الصحف المتصلة بالمستشار الاقتصادي من أن أخبار الغد قد تتمخض عن تغيير في الأنظمة القائمة ،  ولم يهدأ بال أندراوس باشا، إذ أنه كان يعمل علي الانتقام من وزارة النحاس باشا لأنها لم تطلعه علي إجراءات إلغاء المعاهدة، ولأنه كان يتطلع إلي المنصب الذي يشغله حافظ عفيفي باشا في بنك مصر، ومازال يجدد السعي ولكن بطريقة عقلانية، إلي أن حقق مأربه” .

التجربة الديموقراطية التي عبرت عنها عريضة المعارضة في 1951

حفلت عريضة زعماء المعارضة في عهد وزارة الوفد الأخيرة بالشجاعة والجسارة في مواجهة الملك مع حرصها على الألفاظ وعلى توجيه النقد الى الحكومة الوفدية بدلا من توجيهه مباشرة للقصر ، و كان من الطبيعي ان تثير  غضب الملك حتى انه  احتفظ بأصلها في جيبه (أو في حافظته الخاصة ) حتي لا ينسي يوما أسماء موقعيها فيسامحهم أو يسمح لهم بالاشتراك في الحكم أو أمجاده.

ومن الطريف الذي لا يذكره أحد  ان اثنين من موقعي العريضة عادا الى الصفاء مع الملك ، ذلك  أن واحداً من الموقعين علي هذه العريضة وهو محمد حافظ رمضان باشا، زعيم الحزب الوطني طلب مقابلة الملك في خريف 1951 وتمت تصفية ما بينهما من جفوة، بل إن الملك [حسب رواية حسن باشا يوسف] رشحه بعد ذلك للتعيين عضوا في مجلس الشيوخ . وقد تحدث الدكتور حسين حسني سكرتير الملك عن دوره في إقناع محمد حافظ رمضان باشا بالاعتذار للملك بعدما استأذن من حسن يوسف باشا في القيام بهذا الدور،  أما الثاني وهو طه السباعي باشا  فقد اشترك في وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا بعدما بذل الهلالي نفسه جهداً في إقناع الملك أن  يقبل اعتذاره ويقبل اشتراكه في الوزارة.

كانت فرصة مراجعة المواقف لا تزال قائمة

ولعل في هذا دلالة على أن الأمر لم يكن قد وصل الى مرحلة اللا عودة ، بل إننا  نري «العريضة» شأن كل عريضة تتقدم بها أحزاب سياسية مماثلة تنقم علي الخصم الرئيسي (وهو الوفد في هذه الحالة) وتكاد تحمله كل المسئولية عما تعتبره فسادا وإجراما، ولا تتطرق بصراحة إلي نقد سلوك الملك نفسه مع أنها ـ والحق يقال ـ تمس كل ما أثير حوله في الصحافة الأجنبية من فضائح بطريقة مهذبة كأن تقول: «وغيرها من الشائعات الذائعات التي لا تتفق مع كرامة البلاد».. بل وتصل المذكرة إلي أن تنسب إلي الحكومة أنها لا تصارح الملك بالحقائق، وأنها تعتمد علي استخدام «التوجيهات الملكية» غطاء لبعض تصرفاتها في هذا الصدد.

العريضة تنتقد التراضي بين الحاشية والحكومة الوفدية

كما تصل مذكرة زعماء المعارضة بالتدريج إلي التصريح بما تنتقده من وجود حالة من التراضي بين الحاشية والحكومة الوفدية.. وهكذا.

تصوير الدكتور هيكل

وفي الفقرات التالية  ننقل عن مذكرات الدكتور محمد حسين هيكل ما يصور به قصة تلك العريضة  حيث يقول:

«عدت من أوروبا فألفيت القاهرة تتحدث عما تنشره صحف العالمين القديم والجديد عن ملك مصر، وذلك رغم منع الوزارة دخول هذه الصحف إلي مصر أو تمزيق الصفحات التي نشرت فيها هذه الأنباء،  وألفيت أصدقائي رجال المعارضة يتحدثون فيما لهذه الدعاية من أثر سيئ علي سمعة الوطن، وفي استخذاء الحكومة للملك وضعفها المطلق أمامه وأمام حاشيته. وتداولنا في الأمر واتفقنا علي أن واجبنا الوطني يقتضينا أن نقف في سبيل هذا التيار، وأن أول خطوة نخطوها في هذه السبيل أن نعد كتابا نبلغه للملك أول وصوله إلي مصر نبين فيه خطورة ما تنحدر إليه الأحوال في مصر، ونطلب إليه فيه أن يتخذ خطوة تنقذ البلاد من الخطر. ووضع هذا الكتاب ووقعناه وأبلغناه إلي الديوان الملكي عشية وصول الملك إلي الإسكندرية.

نص العريضة

«يا صاحب الجلالة ..

«إن البلاد لتذكر لكم أياما سعيدة كنتم فيها الراعي الصالح والرشيد، وكانت تحف بكم أمة تلاقت عند عرشكم آمالها، والتفت حول شخصكم قلوبها، فما واتتها فرصة إلا دلت فيها علي عميق الولاء والوفاء. وما العهد ببعيد بحادث القصاصين، وقد أنقذكم الله من مخاطره وهو أرحم الراحمين».

«واليوم تجتاز البلاد مرحلة قد تكون من أدق مراحل تاريخها الحديث. ومن أسف أنها كلما اتجهت إلي العرش في محنتها حيل بينه وبينها، لا لسبب إلا لأن  الأقدار قد أفسحت مكانا في الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف، فأساءوا  النصح وأساءوا التصرف، بل إن منهم مَنْ حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات هي الآن مدار التحقيق الجنائي الخاص بأسلحة جيشنا الباسل، حتي ساد الاعتقاد بين الناس أن يد العدالة ستقصر حتما عن تناولهم بحكم مراكزهم، كما ساد الاعتقاد من قبل أن الحكم لم يعد للدستور، وأن النظام النيابي قد أضحي حبراً علي ورق، منذ أن عصفت العواصف بمجلس الشيوخ فصدرت مراسيم يونيو سنة 1950 التي قضت علي حرية الرأي فيه، وزيفت تكوين مجلسنا الأعلي كما زيفت الانتخابات الأخيرة من قبل تكوين مجلس نوابنا».

ربما يجد القارئ من حقه علينا أن نتوجه بالنيابة عنه بالسؤال المنطقي : هل عصفت العواصف بمجلس الشيوخ  في يونيو 1950 ولم تعصف بمجلس الوزراء في 1944 .

سمعة الحكم المصري أصبحت مضغة في الأفواه  

«ومن المحزن أنه قد ترددت علي الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء هذه المساوئ وغيرها من الشائعات الذائعات، التي لا تتفق مع كرامة البلاد، حتي أصبحت سمعة الحكم المصري مضغة في الأفواه، وأمست صحافة العالم تصورنا في صورة شعب مهين، يُسام الضيم فيسكت عليه، بل ولا يتنبه إليه، ويساق كما تساق الأنعام، والله يعلم أن الصدور منطوية علي غضب تغلي مراجله، وما يمسكها إلا بقية من أمل يعتصم به الصابرون».

الحكومة لم تنتبه الى ان الملك الدستوري يملك ولا يحكم

«يا صاحب الجلالة..

«لقد كان حقا علي حكومتكم أن تصارحكم بهذه الحقائق، لكنها درجت في أكثر من مناسبة علي التخلص من مسئوليتها الوزارية، بدعوي التوجيهات الملكية، وهو ما يخالف روح الدستور، وصدق الشعور، ولو أنها فطنت لأدركت أن الملك الدستوري يملك ولا يحكم. كما أنها توهمت أن في رضاء الحاشية ضمانا لبقائها في الحكم، وسترا لما افتضح من تصرفاتها، وما انغمست فيها من سيئاتها ـ وهي هي لا تزال أشد حرصاً علي البقاء في الحكم وعلي مغانمه منها علي نزاهته ـ ولهذا لم نر بدا من أن ننهض بهذا الواجب فنصارحكم بتلك الحقائق ابتغاء وجه الله والوطن، لا ابتغاء حكم ولا سلطان، وبرا بالقسم الذي أديناه أن نكون مخلصين للوطن والملك والدستور وقوانين البلاد. وما الإخلاص لهذه الشعائر السامية إلا إخلاص الأحرار الذي يوجب علينا التقدم بالنصيحة كلما اقتضاها الحال».

التحذير من فتنة عمومية (أي من ثورة أو انقلاب)   

«يا صاحب الجلالة..

«إن احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد منتهٍ إلي حد، وإننا لنخشي أن تقوم في البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم، بل تتعرض فيها البلاد إلي إفلاس مالي وسياسي وخلقي، فتنتشر فيها المذاهب الهدامة، بعد أن مهدت لها آفة استغلال الحكم أسوأ تمهيد».

«لهذا كله، نرجو مخلصين أن تصحح الأوضاع الدستورية تصحيحا شاملا وعاجلا، فترد الأمور إلي نصابها، وتعالج المساوئ التي تعانيها مصر علي أساس وطيد من احترام الدستور، وطهارة الحكم، وسيادة القانون، بعد استبعاد مَنْ أساءوا إلي البلاد وسمعتها، ومَنْ غضوا من قدر مصر وهيبتها، وفشلوا فشلا سحيقا في استكمال حريتها ووحدتها ونهضتها، حتي بلغ بهم الفشل أن زلزلوا قواعد حكمها وأمنها، وأهدروا [فوق إهدار] اقتصادها القومي، فاستفحل الغلاء إلي حد لم يسبق له مثيل وحرموا الفقير قوته اليومى».

«ولاريب أنه ما من سبيل إلي اطمئنان أية أمة لحاضرها ومستقبلها، إلا إذا اطمأنت لاستقامة حكمها، فيسير الحاكمون جميعا في طريق الأمانة علي اختلاف صورها، متقين الله في وطنهم، ومتقين الوطن في سرهم وعلنهم».

«والله جلت قدرته هو الكفيل بأن يكلأ الوطن برعايته، فيسير شعب الوادي قدماً إلي غايته».

الموقعون على العريضة

هذا وقد وقع علي هذه العريضة كل من الزعماء التالية أسماؤهم: إبراهيم عبد الهادي، ومحمد حسين هيكل، ومكرم عبيد، ومحمد حافظ رمضان، وعبد السلام الشاذلي، وطه السباعي، ومصطفي مرعي، وعبدالرحمن الرافعي، وإبراهيم دسوقي أباظة، وأحمد عبد الغفار، وعلي عبد الرازق، ورشوان محفوظ، وحامد محمود، ونجيب إسكندر، وزكي ميخائيل بشارة، والسيد سليم.

ثناء حسن يوسف على حكمة الوفد في مواجهة العريضة

عبر حسن يوسف بوضوح عن إعجابه بالموقف الحكيم الذي وقفته وزارة الوفد الأخيرة تجاه عريضة المعارضة الشهيرة  في 1951، وكرر مديحه لسياسة الوفد في وزارته الأخيرة مركزاً علي هذه الجزئية:

” … وكان هذا تصرفا حكيما من الوزارة لأنها رأت أن في تقديم ست عشرة شخصية إلي المحاكمة بتهمة العيب في الذات الملكية، من بينهم رئيس سابق لمجلس الشيوخ ورئيس سابق للوزارة، فضلا عن رياسته للديوان وأربعة عشر وزيرا، وإجراء تحقيقات معهم وما يترتب علي ذلك من الادلاء بأقوالهم دفاعا عن أنفسهم، ما لا يتفق مع هيبة الملك وكرامة الجالس علي العرش، وقد أقر الملك هذا الرأي ومرت الأزمة بسلام ، وإن دلّ هذا علي شيء فإنما يدل علي أن الأمور يمكن أن تساس بالهدوء والروية بين القصر والوزارة طالما ابتعد عنها غير المسئولين من حاشية الملك ومَنْ لهم صالح شخصي في أمر من أمور الدولة ، ومع أن الأزمة انتهت إلا أنها تركت أثرا عميقا لا سبيل إلي محوه من خاطر الملك، فقد احتفظ بورقة دون فيها أسماء الموقعين علي العريضة، وكلما جاءت مناسبة أخرج الورقة من جيبه وذكرهم”.

حريق القاهرة في نظر المراغي : ما بين الملك والجيش

كان أحمد مرتضي المراغي الذي كلف بتولي وزارة الداخلية عقب حريق القاهرة من الذكاء بحيث اتهم الملك فاروق بالمسئولية عن الحريق من ناحية بصوت عال، واتهم الضباط أيضا بصوت خافت لكنه صريح ، ثم روى من الأحداث ما يرجح اتهام الضباط بطريقة أو أخرى مقدما مجموعة من القرائن في الحالين ،  ويأتي حديث المراغي عن حريق القاهرة من موقع تميز و قوة، فقد كان علي نحو ما صور نفسه في مذكراته قد نجح في تجنيب مدينة الإسكندرية (وكان محافظا لها في ذلك اليوم ) حريقا مماثلا لما حدث في القاهرة، وهكذا جاء به الملك وزيرا للداخلية غداة حريق القاهرة، وتولي بنفسه الإشراف علي التحقيقات في الحريق، وهكذا أتيح له أن يطلع علي كثير من وقائعه وخباياه، وهو يقدم لنا ملخصا لحواراته مع كبار رجال الأمن، كما يقدم تصوره للأسباب التي دفعت الحكومة إلي محاولة تعليق المسئولية عن الحريق في رقبة زعيم مصر الفتاة.

ويتهم المراغي الفريق عثمان المهدي رئيس أركان هيئة حرب الجيش بالتقاعس المقصود، وبأنه كان يخطط لعدم تدخل الجيش إلا بأقل قدر من التدخل،  ويثير المراغي شكوكا قوية حول التوجهات التي حكمت تصرف الجيش تجاه حريق القاهرة. و يشير إلي واقعة غير مشهورة تتعلق باشتراك بعض أفراد الجيش المصري نفسه في المظاهرات التي اندلعت يوم الحريق، وهو يذكر علي سبيل التحديد الضابط محمد علي عبد الخالق الذي تعرف عليه رجال الأمن من صورته وهو يقود المظاهرات وخلفه بعض جنود السواري.

ونحن نفاجأ بالمراغي الذي لم يكن وفديا، وهو يعترف بكل صراحة أن الملك فاروق دبر حريق القاهرة للخلاص من الوفد، ويخلص المراغي من الأدلة الكثيرة التي يقدمها إلي أن الملك نفسه كان قد تورط في الحريق، وهو يعلل إقدام الملك علي هذا التصرف الطائش بكراهيته للوفد ورغبته في التخلص منه بعد أن استعاد الوفد شعبيته بعد إلغاء النحاس باشا لمعاهدة 1936. كما يورد المراغي أدلة إضافية علي صحة تشخيصه، منها أن رئيس الديوان الملكي حافظ عفيفي طلب منه إغلاق ملف الحريق..

سلطة 1952 لم تفتح ملف الحريق

علي أن الأكثر أهمية من هذا كله أن المراغي يشير في ذكاء محسوب إلي أن السلطة بعد 1952  لم تفتح ملف حريق القاهرة للتحقيق علي نحو ما فعلت في ملفات أخري كالأسلحة الفاسدة ومقتل الامام الشهيد حسن البنا، وهكذا يتهم المراغي ضباط الثورة بالتواطؤ في إخفاء الحقيقة فيما يتعلق بحريق القاهرة. …

حسن يوسف يسفه وجهة النظر القائلة بمسئولية الملك عن الحريق  

“……. وقال بعض الكتاب والمؤرخين إن للملك مصلحة في حريق القاهرة لكي يتخذه ذريعة للتخلص من وزارة الوفد، ومعني هذا ببساطة شديدة أن الملك أراد التخلص من وزارة الوفد، ولما أعيته الحيلة في إيجاد مبرر لإقالتها وجد أن أيسر السبل هو حريق القاهرة. ومعني هذا أيضا أن الملك نسي أن الدمار قد يمتد إلي قصر عابدين، وفيه ولي عهده، وهو في المهد ولم تمض عشرة أيام علي مولده!!

ويواصل حسن يوسف الرد علي هذه الدعوي بخبرته و منطقه فيقول : ” إن مَنْ يقرأ تاريخنا المعاصر يجد أن الملك فاروق سبق أن أقال وزارة الوفد في 30 ديسمبر 1937 متحديا في ذلك نصيحة السفير البريطاني، وكان النحاس باشا وقتها هو بطل المعاهدة وصاحب الفضل في إلغاء الامتيازات الأجنبية، كما أن الملك أقال وزارة الوفد في 8 أكتوبر 1944 وهي مستندة إلي حراب الإنجليز في حادث 4 فبراير الشهير.. كما شرع في إقالة وزارة النحاس باشا يوم 4 نوفمبر 1951 وكانت تتمتع بكامل ثقته وتعمل جاهدة علي مرضاته، وفوق هذا وذاك فإن النحاس باشا قدم استقالته شفاها يوم 11 ديسمبر سنة 1951 وما كان أسهل علي الملك من قبول الاستقالة دون حاجة إلي إحراق العاصمة تبريرا للإقالة». وأضيفُ [الحديث لحسن يوسف باشا] إلي ما تقدم أن إقالة الوزارة في مصر لا تتطلب أكثر من أن يتباطأ القصر في توقيع المراسيم المقدمة من الحكومة، أو أن يطلب رئيس الوزراء مقابلة الملك فلا يجاب إلي طلبه.. وقد حدث هذا عدة مرات من دون حاجة إلي حريق أو تخريب».

الرواية الرسمية عن دور مصر الفتاة في حريق القاهرة

ومع أن حسن يوسف لا يوجه أصابع الاتهام إلي مصر الفتاة في حريق القاهرة، فإنه تبنى في كتابه بطريقة غير مباشرة ما شاع على أنه بمثابة الرواية الرسمية  وهي الرواية التي أشارت بوضوح إلي دور جماعة مصر الفتاة في التحريض علي النظام القائم مما كان يسهل اتهامها بالمسئولية عن أي عمل معاد كبير كهذا، وهو يقول في وضوح: ” .. بعد حل جماعة الإخوان المسلمين في ديسمبر 1948، وبعد صدور قانون مكافحة الشيوعية في مايو 1950، أصبح حزب مصر الفتاة هو الهيئة الوحيدة ذات الوجود الشرعي، وقد تأسست سنة 1933، وعرفت بعد ذلك باسم الحزب الوطني الإسلامي سنة 1940، ثم باسم الحزب الاشتراكي سنة 1946، وكان شعاره العداوة للنظام السياسي القائم ، وكانت له تنظيمات عسكرية هي فرقة القمصان الخضراء، وله صحيفتان : جريدة مصر الفتاة  وجريدة الشعب الجديد . استغل الحزب فرصة إلغاء الرقابة علي الصحف في عهد وزارة الوفد فأخذ ينشر مقالات مثيرة، منها ما يدعو رجال الشرطة للعصيان وتحريض رجال الجيش علي عدم الطاعة، ومنها ما يعتبر تنديدا بالنظام الملكي، أو تحريضا للعمال والفلاحين علي الثورة…… وكانت صحيفته تصدر كل خميس بعنوان بارز: “الثورة.. الثورة..” وكيف انتهي حكم لويس السادس عشر في فرنسا، وكان الملك يطلع علي تلك المقالات ويأمرني أن أتصل في شأنها بوزير الداخلية، وكان الوزير يسارع إلي إخطار النائب العام فيأمر بالتحقيق ثم لا يلبث أن تفرج النيابة عن المسئولين في الجريدة بكفالة، وكان هذا يتكرر بصفة منتظمة. وانتهز الحزب فرصة إلغاء المعاهدة وراحت صحفه تستغل حساسية الجمهور وحماسته في استهواء الكثير من العمال المتعطلين لكي يعتدوا علي محلات اللهو والمؤسسات الاستعمارية والرأسمالية ، ومنذ 18 أكتوبر 1951 دأبت مصر الفتاة» علي اتهام سينما ريفولي بأنها تدار لحساب الإنجليز، وقالت في 18 نوفمبر: إن القاهرة مازالت عامرة بدور السينما والكباريهات، وإنه يجب أن تقوم دوريات من الشعب الواعي المنظم بإيقاظ الملطوعين علي القهاوي والسكاري والبارات.. ونشرت الجريدة في نوفمبر بيانا بأسماء بعض الشركات والتجار الذين يتعاملون مع الإنجليز ودعت إلي تحذيرهم وأمهلتهم أسبوعا واحدا، كما نشرت تحذيرا ضد مَنْ يتعاملون مع بنك باركليز وأعادت التحذير في 12 ديسمبر».

تعقيبنا على رأي حسن يوسف باشا

فإن يقول حسن يوسف باشا  بكل وضوح معتمدا على حس القانوني المتمرس والمؤرخ المحايد : “ومما تجدر ملاحظته هنا أن الحريق والتدمير شمل جميع الأماكن التي ورد ذكرها في تلك البيانات التي سبق نشرها في جريدة مصر الفتاة”.

ونحن نعقب على رأيه  بهدوء بأنه في مثل هذه الحوادث الكبرى فان أية قوة [أخرى] خططت و نفذت حريق القاهرة لم تكن لتترك هذه الفرصة في أن تفعل ما تريد طالما كان من السهل عليها أن تنسب إلى غيرها (ممن هدد) الاعتداء على أماكن تلقت التهديد بالفعل من قوة [ما] دعت لمثل هذا العمل ، و اصبح التفكير التلقائي يسير في اتجاه ان من أعلن التهديد قام بتنفيذه  ، بينما الحقيقة الواقعة  أعمق من هذا .

ومع هذا فإننا نعترف بان العالم الذي عاش فيه حسن يوسف و انداده حتى ذلك اليوم لم يكن قد تشبع بعد بالقدرة على فهم مثل هذه الأساليب الشيطانية .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
ولاؤه لأمته هو السبب الحقيقي لفقدانه العرش  
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com