الرئيسية / المكتبة الصحفية / فاروق الملك المحسود: 1/8 الملك الذي دفع ثمن مشروعية 1952

فاروق الملك المحسود: 1/8 الملك الذي دفع ثمن مشروعية 1952

يمكن القول بلا مبالغة إن سلطة 23 يوليو 1952 بنت الجزء الأكبر من مشروعيتها على فكرة واحدة هي فكرة فساد الملك فاروق، ومن ثم فقد كان من الواجب الحتمي على أجهزة هذه السلطة وكتابها وصحفها وأدبياتها أن تواصل العمل ليل نهار في تجسيد هذا الفساد واختراعه اختراعا من أجل تصوير خطورته والمبالغة في تقديمه، ومع أن فساد ملك من الملوك لا يعني فساد الملكية كنظام سياسي فإن الصورة في وجدان المصريين الذين خضعوا للإعلام الناصري القوي تبدأ من الجزء فتحكم به على الكل حتى إنها وصلت بتصوير الأمر للعرب على أن صلاحهم لا يتحقق إلا بالخلاص من الملوك .

الحرص الدائب على إلصاق صفة الفساد باسمه

كانت النتيجة الحتمية ( أو الميكانيكية وغير الطبيعية)  أن جيلين بأكملهما لم يطالعا من مصطلحات الوصف في التاريخ الحديث إلا مصطلح فساد الملك فاروق من دون تطرق إلى مزايا ، ومن دون تطرق أيضا إلى فساد من قبله، فقد خلت كتب التاريخ والتربية الوطنية والتربية القومية في العهد الناصري و ما تلاه من الكتابات التي تتناول فساد أي ملك أو خديو أو حاكم من أسلاف الملك فاروق لأن هؤلاء كانوا بعيدين عن البؤرة التي يستهدفها أو يقتضيها ويتطلبها الإرشاد القومي بالمعنى الناصري.

يحضرني في هذه المناسبة مثل موح حدث بالمصادفة البحتة، في الأيام القليلة التي سبقت تنحي الرئيس حسني مبارك عن رئاسته في فبراير 2011، وذلك بعد أن عين الفريق أحمد شفيق رئيسا للوزراء وشكل وزارته وأقسم الوزراء اليمين أمام الرئيس وانصرف لممارسة شبقه المعروف بالأحاديث التلفزيونية، في تلك اللحظة سأله واحد من المحاورين عن إجراءات خروج الرئيس من السلطة فإذا بالفريق شفيق ، وهو يظن نفسه أتى بما لم يأت به الأوائل يقول في رده ما معناه : إن تقاليدنا تحتم علينا احترام الحاكم حتى وهو يتنحى ، وأراد أن  يستعرض معلوماته وأخلاقه فقال : حتى إننا ضربنا تعظيم سلام للملك فاروق .. الذي هو الملك فاروق وهو يغادر مصر! ونظر إلى الشباب المستمعين له وكأنه أفحمهم فإذا به يتلقى الرد الذي لم يكن يتوقع أن أحداً سيقوله له ، إذ قال شاب بسيط متواضع: وماله الملك فاروق؟ صعق الفريق شفيق وكأنه يريد أن يقول للشاب: ألا تعرف أن اسلافنا قد صوروا الملك فاروق إلها للفساد؟ وجعلوه منبع الفساد! وجعلوه لا يستحق الحياة؟ لكن الفريق شفيق الذي كان لا يتمتع إلا بطلاقة متوسطة وسرعة متوسطة في تدفق الأفكار وجد نفسه عاجزاً عن أن يقول هذه المعاني التي هي متمكنة من نفسه ووجدانه كما هي متمكنة من كل أبناء جيله فقد ولد الفريق شفيق في 1941 واصبح منذ بلغ الحادية عشر من عمره يستمع بكثافة إلى أسطوانات فساد الملك فاروق ، و على الرغم من أنه هو شخصيا كان يعرف عن فساد الضباط الذين حكموا بعد الملك فاروق أضعاف ما يعرفه غيره فإنه كان ينظر إلى الأمر على  أن المعرفة التي يعرفها عن الضباط وفسادهم معرفة شخصية، وعلى ان الشائع عن الملك فاروق حقائق ثابتة !

استمرار الهجوم على الملك فاروق بلا داع ملح

كان من الصعب على الملك فاروق أن يخرج من قبره ليقول للضباط: توقفوا عن الافتراء لأنكم تدمرون أنفسكم من حيث لا تدرون، و قد كان هذا هو ما حدث بالفعل ذلك أن أنظمة 23 يوليو 1952 المتعاقبة اعتبرت ما فعلته في الملك فاروق بمثابة كتالوج واجب التطبيق مع كل حاكم سابق وهكذا مارست الدولة العميقة حملات تشويه المشير عبد الحكيم عامر ثم الرئيس جمال عبد الناصر ثم الرئيس أنور السادات ثم الرئيس حسني مبارك  وبالطبع فقد نال الرئيس محمد مرسي حظه .

نمو ظاهرة التشويه بالافتراء

ومن العجيب أن هذا التشويه كان يتعمد الاستناد على الافتراء بدلا من الاستناد على أنصاف الحقائق أو الشائعات، ومن العجيب أيضاً أن كثيراً من مقررات التشويه كانت تنقل أوتوماتيكيا أو تُخلّق تلقائيا ، بل إن سامي شرف وهو أحد كبار الناصريين كان يستخدم القصص السلبية التي نسبت إلى الرئيس جمال عبد الناصر عن حق أو عن نصف حق فينسبها كما هي للرئيس أنور السادات من دون أن يهتز له جفن، مع أنه هو نفسه كان طرفاً في قصص الرئيس جمال عبد الناصر، بل ربما كان له فضل إنقاذ زعيمه من بعض الأخطاء التي كانت على وشك الحدوث بسبب ثقة الرئيس عبد الناصر في آخرين لم يكونوا محلاً لهذه الثقة.

الدفاع عن الملك فاروق لم يبدأ الا متأخرا

وفي المقابل ، فإنه لم يكن هناك من يستطيع الدفاع المبكر عن الملك فاروق بل إن من المدهش أن أول كتب أُلّفت أو صدرت في رد غيبة الملك فاروق لم تؤلف إلا بعد منتصف عهد الرئيس أنور السادات وحين أوشك هذا العهد على نهايته، بل إن مذكرات الدكتور حسين حسني سكرتير الملك الخاص الحافلة باحترام الملك وسلوكه وأدائه لم تنشر إلا بعد أربعين عاماً من خلع الملك.

تصويره فاسدا لم يكن يعني أنه كان مكروها

من الإنصاف أن نقول إن الملك فاروق لم يكن مكروها وهو ملك ، ولم يكن مكروها بعدما فقد الملك ، وعلى الرغم من كل الحملات التي شنتها سلطة 23 يوليو 1952 عليه وعلى صورته فإنها لم تتعد تصويره على أنه سيئ السمعة ، لكنها لم تجلب له الكراهية على أي نحو غير ذلك النحو المرتبط بسوء السمعة، ذلك أن هذه الحملات لم تفلح على الإطلاق فيما يثير الكراهية كأن يكون هناك ثأر شخصي بين الشعب والملك، وهو ما لم يتحقق لأنه لم تكن هناك نواة له ، فلم يحدث على الإطلاق أن تداول الشعب أن الملك قتل أحد أفراد الشعب من أجل نفسه أو من أجل أي شيء مادي (باستثناء شائعتين مصنوعتين و مفندتين) ، وليس أدل على هذا من أنه لم يقاوم الانقلاب العسكري ، بل إنه قال قولته المأثورة والمشهورة إنه يضحى بكل ملكه حتى لا تراق نقطة دم واحدة من أي مصري.

تشويه الملك امتد الى تشويه الحياة الحزبية

عنيت سلطة 23 يوليو بإضفاء صفات الفساد علي أحزاب ما قبل 1952، على نحو ما عنيت بإضفاء صفة الفساد على كل ممارسات فاروق ، وذلك علي الرغم من أن هذا الفساد لم يكن من المكونات الأساسية لهذه الأحزاب، وعلي سبيل المثال فحين يقال إن الوفد كان يعيد الوفديين إلي وظائفهم أو يعوضهم عن فترات الفصل السابقة من هذه الوظائف، فإننا يجب أن ننتبه إلي أن الوفد لم يكن هو الذي صنع المشكلة حين أُخرج هؤلاء من وظائفهم، وإنما الذي خلق المشكلة [في حقيقة الأمر] هو مَنْ جاء بغير الوفد ليتولى الحكم  ، وليشرد الوفديين بإخراجهم من وظائفهم .

وقل مثل هذا عن كل فساد نُسب إلي كل الأحزاب السياسية الأخرى قبل الثورة، ونحن لا ننكر وجود الفساد، لكننا ننكر بكل شدة أن يكون الفساد هو الطابع المميز للممارسة السياسية، أو أن يكون الفساد مكونا أصيلا من مكونات هذه الأحزاب، بل إنه من المؤكد أن جميع الأحزاب التي قامت قبل الثورة كانت بريئة تماما من الفساد كمكون لها، أو كعامل جوهري في تكوينها، بما في ذلك أحزاب القصر نفسه التي كانت تتكون من كفايات قانونية وعلمية متميزة، وإن كان عيبها الجوهري أنها لا تؤمن بالحركة الوطنية كما ينبغي (ويكفي علي سبيل المثال أن يحيي إبراهيم الذي رأس الوزارة وأجري الانتخابات ورسب فيها وهو رئيس للوزراء كان هو نفسه الذي رأس حزب الاتحاد عند أول تكوينه، وهو حجة قانونية وتربوية وفكرية..). ولا ينسحب هذا علي أحزاب القصر فحسب، لكنه ـ من باب الإنصاف ـ ينسحب أيضا علي الأحزاب الوقتية التي نشأت من أجل استغلال قيادات أو موجات عصرية في وقتها من أجل خلق مجد لمؤسسي هذه الأحزاب، بما في ذلك حزب العمال للنبيل عباس حليم، أو حزب الفلاح لعبد الحميد عبدالحق.

وينسحب هذا ثالثا علي الأحزاب التي أُسست صناعيا لتعطي للحاكمين الفعليين وجودا حزبيا حتي لو كان صناعيا، والمثل البارز علي هذا هو حزب الشعب الذي أسسه إسماعيل صدقي باشا ثم تخلص الحزب من المؤسس نفسه حين فقد هذا المؤسس الوجود في منصب رئيس الوزراء، وذلك على نحو ما أوضحناه بالتفصيل منذ ثلاثين عاما في كتابنا عن إسماعيل صدقي باشا .

الفساد لم يكن مكونا جوهريا في الحياة الحزبية

كانت هذه الأحزاب تعاني الفساد حقيقة، لكنها لا تتكون منه (مع غيره من العوامل الأخرى) أو علي أساس منه أو من أجله فقط [كما نري الآن].. ومع هذا فإن سلطة 1952 لم تمانع في أن تتبني الدعوة إلي إضفاء سمة الفساد علي ممارسات هذه الأحزاب، وربما لم تكن تقصد أن تجرم هذه الأحزاب علي نحو ما حدث ـ للأسف ـ في بعض كتب التاريخ والتربية الوطنية! لكن  المحصلة النهائية للأسف الشديد كانت مفزعة ومزعجة، وكانت أقسي ما يمكن علي مصير هذا الوطن الذي ننتمي إليه،  فقد نشأت أجيال جديدة وهي تظن أن الفساد في حد ذاته كافٍ لأن ينشئ أحزابا أو جماعات مدنية ذات تأثير في المجتمع السياسي والمدنى. وهكذا أصبحنا نواجه بأحزاب وبمنظمات غير حكومية ليس لها من مكون إلا الفساد، وربما يصدق عليها ـ أيضا ـ القول بأنه ليس لها من هدف سوي الفساد، بل وربما الإفساد من أجل الإفساد، وهو أقسي ما يمكن أن يواجه به مجتمع… والعياذ بالله.

محاولة إلصاق المسئولية عن استشهاد الإمام حسن البنا

فيما بعد ربع قرن من الزمان من 1952 وبعد وفاة الملك فاروق نفسه وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر نفسه وجدت فلول الشيوعيين أن من واجبها أن تشوه صورة الملك فاروق بالقتل ، و جاء هذا في الوقت الذي لم يكن أحد يهتم بالسياسة إلا الإسلاميون (أو الإخوان المسلمون) وعلى وجه محدد يرتبط بفكرة الهوية التي تحارب منذ فترة،  ومن ثم رأت هذه الفلول الشيوعية الممسكة بصناعة سلطة الصحافة أن تروج للقول بأن الملك فاروق هو الذي قتل الإمام الشهيد حسن البنا ، ومع أن الإخوان القدامى يعرفون أن تحقيقين أجريا في مقتل الإمام الشهيد ولم يكن في نتائج التحقيقين ما يشير إلى أي نوع من تورط الملك فاروق فإن الطلائع الجديدة من الشبان المنضمين للإخوان والذين نشأوا وهم يرون الرئيس جمال عبد الناصر يقتل خصومه واحداً تلو الآخر وجماعة تلو الأخرى لم يكن من الصعب عليهم أن يصدقوا أن لرأس الدولة (أي الملك) علاقة ما بقتل الإمام الشهيد،  وقد قدر لنا أن نشهد حواراً داخليا في الإخوان حول هذا الموضوع بين أب حضر عهد فاروق ، وابن لم يحضر إلا عهد عبد الناصر ، فرأينا عجبا من اليقين الذي يملأ الشاب بتورط رأس الدولة لأنه لا يتصور أمراً في الدولة من غير علم أو إذن رأس الدولة، ولا يتصور قراراً مثل هذا إلا في إطار استراتيجية كالاستراتيجيات الناصرية ، بل إنه لا يتصور قدرة على التنفيذ إلا وهي مرتبطة بالدولة نفسها، بينما الأب الإخواني يبتسم نصف ابتسامة ، متعجبا من ان العسكريين فعلوا هذا بأنفسهم وبالوطن ، ومن أطرف المواقف التي مرت بنا في هذا السياق قصة أن الملك توجه بنفسه إلى قصر العيني ليطمئن على أن الإمام الشهيد قد فارق الحياة (؟ ) وقد حرصنا على تتبعها حتى وصلنا إلى أن السيدة التي روتها كانت ممرضة متقاعدة منذ سنوات طويلة ، وأنها لم تر الواقعة بنفسها (على الرغم من أن تقديم الرواية يستند إلى رؤيتها هي نفسها الملك نفسه بعينيها)  وإنما سمعت بها .. ومن الطريف أن هذه القصة حين راجت في  البداية لم تكن تذكر أن الملك هو الذي توجه وإنما كانت تذكر أن رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي باشا هو الذي توجه ، وقد حرص إبراهيم عبد الهادي في مذكراته على أن يشير إلى تعجبه من أن يظن أحد أنه مجنون ليفعل فعلة مثل هذه!

ومع هذا الوضوح فإننا لن نعدم في الأجيال القادمة من يتبنى رواية هذه القصة بعد أن يضيف إليها كثيراً من الإضافات أو التحبيشات الدرامية، وربما تستخدم في عمل فني من الأعمال القيمة التي تشوه الإخوان فلم يعد هناك مبرر عند العسكريين لتشويه الملك باعتبارهم ورثته القانونيين (وإن لم يكونوا شرعيين).

كيف نمت ظاهرة تمني عودة الملك فاروق

على أن  لقضية شعور الشعب تجاه الملك فاروق جانبا آخر هو الأهم من حيث التاريخ وهو حب الملك فاروق وتمني عودته ، ورد فعل الناصرية تجاه هذه الظاهرة، ومن الأفضل أن نبدأ بالشعلة المفاجئة التي جذبت الانتباه إلى هذه الحقيقة التي لم تكن واردة في خيال الضباط ، ذلك أن ملك العربية السعودية جاء لزيارة مصر بعد قيام حركة 23 يوليو 1952 وكان لا بد من تنظيم مظاهر ترحيب شعبية بالملك الضيف ، وهكذا علقت زينات في الشوارع التي سيمر بها على نحو كثيف، وخرجت إحدى السيدات من الاسر الثرية التي تمتلك تليفونا في المنزل إلى الشارع فسألت عن هذه الزينات فعلمت أنها ترحيب بالملك ، فعادت بسرعة متحمسة منشرحة الصدر إلى البيت ، وبدأت تهاتف كل صديقاتها وأقاربها تزف إليهم الخبر السعيد بأن الملك فاروق سيعود اليوم ، وتطور الأمر في بعض هذه  البيوت إلى زغاريد ، وزغاريد مرددة للزغاريد ، أو مستجيبة للزغاريد .. وسرعان ما كانت بعض هذه العائلات الأرستقراطية رهن الاعتقال الفوري ، ولم تبارح هذه العائلات المعتقل إلا بعد شفاعات والتزامات ورعب وتقبيل للأرجل! … وإذاً فقد كان هناك من يتمنون عودة الملك فاروق بل ويعبرون عن سعادتهم بتحقق هذا الامل بالزغاريد.

و في مقابل هذه القصة فإن التفسير الناصري الجاهز أن هذه القصة مفبركة فيما يتعلق بالزينة ، للتغطية على الجرم ، وأنه كانت هناك محاولة بالفعل لإعادة الملكية وأن هذه العائلة كانت متورطة فيها ، وأن قصة الزغاريد لم تكن في ذات الوقت الذي حدثت فيه زيارة الملك السعودي لمصر.. ومع هذا فإن المعنى يظل قائماً يؤكده ما كان يصدر عن أبناء الطبقة الوسطى من التنهد و التنهيد إذا ما جاء ذكر الملك فاروق وأيام الملك فاروق.

القصة التي روجت فكرة قتل الملك بالسم

نأتي إلى القصص التي راجت عن واقعة قتل النظام الناصري للملك فاروق بالسم، و يمكن لنا أن نفهم (ما حدث ولا يزال يحدث) من تصنيع للروايات مصاحبة للرواية الخاصة بمقتل الملك فاروق على يد النظام الناصري، ونبدأ بأحدث الروايات التي سربتها أجهزة الدولة العميقة وهي تقول إن الملك فاروق كان قد تورط في قبول عرض سعودي تبناه الملك فيصل بن عبد العزيز 1906- 1975 بنفسه بإعادة الملكية إلى مصر، وأن الرئيس جمال عبد الناصر بقدرته على الحسم رأى حين وصلته التقارير أن الأوان قد آن كي ينهي هذا الموضوع بطريقة لا تحتمل المفاوضة ولا المصادفة، ويكفي الملك فاروق أن الرئيس نفسه هو والضباط قد تصدقوا عليه بما يقرب من 13 عاماً إضافية من العمر منحوها له (من عند أنفسهم ، في اعتقادهم) فعاشها في المنفى ، بينما كان زميلهم جمال سالم (أو أي جمال سالم آخر) يرى ضرورة إعدام الملك في وقت قيام الثورة مباشرة على نحو ما فعل الروس في نيقولا الثالث وعائلته! (وعلى نحو ما فعل نظام عبد الكريم قاسم بعد ذلك في 1958 في العراق! مستهديا بالطبع بالنموذج الروسي الذي هو النموذج الأمثل عند أي شيوعي قح من طراز عبد الكريم قاسم)،  و لهذا كله فإننا نستطيع أن نفهم و نتأمل عناصر القصة المتاحة في كتاب الأستاذ محمود فوزي عن حواره مع إبراهيم بغدادي بعنوان “كيف قتلت الملك فاروق”.

أما القصة بطبعتها الشعبية (الرديئة وغير الصادقة في كثير من تفصيلاتها  ) فأكثر إثارة إذ تقول إن إبراهيم البغدادي عمل جرسونا في ذلك المطعم حتى تمكن من وضع السم للملك في اليوم الذي قتل فيه الملك وإنه فعل ذلك لأنه كان وهو المتفوق في الكلية الحربية لا يملك ثمن ملابس لائقة لحضور حفل أقامه الملك لأوائل الكلية الحربية، وأن الملك بنفسه تولى توفير الملابس له ، وما هو أكثر من الملابس، ولهذا فإنه انتقم من الملك ، على هذا النحو المذهل في خسته ، بل إنه جاء مع جثة الملك من إيطاليا على نفس الطائرة التي أقلت الجثمان، لأنه كان يعرف أن البوليس الإيطالي سيصل إلى الحقيقة ، وأنه سيتعرض على أقل  تقدير للحجز في قسم الشرطة ريثما تتفاوض المخابرات المصرية مع المخابرات الإيطالية على إخراجه من أرض الجريمة، لكنه بحس  المخابرات  استطاع أن يغادر روما مع الجثة ، أو بالأحرى مع الملك الذي استطاع هو نفسه تحويله من ملك سابق إلى جثة حاضرة .

عام الوفيات

لو أن جنازة النحاس حدثت قبل وفاة الملك فاروق ما كان الرئيس جمال عبد الناصر قد سمح بدخول جثمان الملك فاروق على الإطلاق ، لكن الحقيقة تلبدت على نحو درامي في 1965 حيث مات السير مايلز لامبسون في 18 سبتمبر 1964  عدو فاروق ، ثم مات رئيس الوزراء تشرشل في 24 يناير ، ومات الملك فاروق نفسه في 18 مارس ، وفي  15 يونيو مات عزيز المصري معلم فاروق ، وأخيرا في 23 أغسطس مات النحاس زعيم الأمة طيلة  ما قبل عصر فاروق وطيلة عصر فاروق كله .

عبد الناصر ظل يتخوف من عودة فاروق حتى 1965

لا تزال الصالونات تشغل نفسها بالحوار حول هذا الموضوع، و كيف كان عبد الناصر الذي تحول (من قبل 1965) إلى ما يشبه الإله لا يزال يعمل حساباً للملك فاروق ويتمنى إزاحته من على وجه الأرض،  لكننا بالرغم من معرفتنا بعلوم النفس وبطب النفس نجد لأراجيف الناس ما يؤكدها في سلوك الرئيس عبد الناصر نفسه حيث حرص على دفن الملك في جنح الليل، وفي غير المقبرة المعدة له، وفي حضور عدد محدد من أفراد الأسرة، ونحن نملك رواية أمينة للأحداث كتبها مدير المباحث العامة الأشهر اللواء حسن طلعت في مذكراته، كما نملك أيضا رواية أمينة كتبها الأستاذ إبراهيم عابدين الذي تولى تغطية الحدث للإذاعة الأمريكية والذي شهد بنفسه دهاء البوليس المصري في فصل السيارة التي كانت تقل من يحمل الكاميرا عن الموكب للاستفراد بالكاميرا ، وتحطيم أي اثر يسجل الحدث.

ربما لو أننا لا نزال في ربيع أو صيف 1965 أي بعد وفاة الملك فاروق في مارس 1965 بشهور لكنا الآن نتناول الأمر بكثير من النقد للرئيس جمال عبد الناصر والتعجب من أن يكون “صبيانيا” في تفكيره على هذا النحو، لكن التاريخ يبتسم لنا الآن وهو يرانا قبل نهاية أغسطس 1965 ويرى عبد الناصر نفسه وقد شهد الانهيار المفاجئ لنفسيته على نحو لم يكن أحد يتوقعه ولا يتصوره،  فقد مات الزعيم مصطفى النحاس باشا في 23 أغسطس 1965 بينما كان عبد الناصر في الخارج وإذا بمصر كلها تخرج لتشييع النحاس وليس على لسانها إلا قول واحد ، أو هتاف واحد ، وهو قولهم : لا زعيم بعدك يا نحاس!.

ومعنى هذا أن الأسطورة الناصرية المرعبة التي نفخت بكل الإعلام والدعاية والترهيب والترغيب والأكاذيب لم تكن في جانب منها  إلا بالونا كبيرا جاءه  دبوس مفاجئ غير متوقع فأنهاه ، ودفن البالون مع دفن النحاس.. ولهذا فقد الرئيس جمال عبد الناصر كل ما كان بقيّ له من صواب ، وقال قولته المشهورة عن أن هذا الشعب لا يستحق ما عمله من أجله ،  فكانت قضية الإخوان 1965 وكانت الأحداث التي سبقت هزيمة 1967 وما بعدها من قرارات مضطربة الرؤية تماماً.

الخوف الغامض من حياة فاروق تحقق مع وفاة النحاس باشا 

و إذاً فقد جاءت جنازة النحاس لتبث في روع الرئيس جمال عبد الناصر أن الحقيقة لن تُفرض بمنطقه هو ، وأن ما يظنه أنه عمله للناس ليس كفيلا لأن يحوز حب الناس مهما كان ما فعله، وأن هذا الشعب يريد أن يختار من يشاء ثم يغفر له الأخطاء، وليس على استعداد لأن يكون متلقيا لما يلقى إليه من طعام وأن يبادل هذا الطعام بالحب،  وأدرك الرئيس جمال عبد الناصر أن معالجته  المعتمدة على فكرة الدواجن لم تفلح ، وأنه يستحيل أن يجد من الدواجن التي يطعمها ما يجده من يرعى القطط من حب القطط ، وبدأ الرئيس جمال عبد الناصر يفكر في الفارق فأدرك أن الذين يربون القطط لا يذبحونها، بينما الذين يربون الدواجن يربونها من أجل الذبح ، وبدلاً من أن يُعدّل من نظرته إلى رعاياه الذين يسميهم “الأخوة المواطنين” فإنه بدأ يعاقب الإخوة المواطنين على نحو ما حدث في تنظيم سيد قطب والأكاذيب الصناعية التي أحاطت به وجعلت الرئيس يفخر بأنه اعتقل بالفعل ثلاثين ألفاً  من أبناء الشعب في ليلة واحدة، وهنا كان الشعب يمصمص شفاه و هو يتذكر الملك فاروق بالرحمة. وهكذا أصبح اسم الملك فاروق بعد ستة شهور من وفاته لا يذكر إلا مقرونا بالرحمة، بعد أن كان يقرن عادة بوصف الفاسد من دون لعن ، أو على أكثر تقدير مع لعنة خفيفة في بعض اللحظات المفتعلة.

توقعاته للتخلي عن عرشه

كان الملك فاروق نفسه فيما هو ممكن استنتاجه  بلا مشقة ولا تكلف  يدفع الأمور دفعاً حثيثاً في اتجاه التخلي عن العرش، وقد وصل به الحال إلي درجة متكررة (ولا نقول نهائية ولا ثابتة) من اليأس من القدرة علي ضبط أمور المملكة التي ظن نفسه المسئول الأول والأخير عنها، وربما كانت هناك أسباب داخلية كثيرة دفعته إلي هذا، وربما كانت هناك مبررات شخصية، وقد بدأ يحس بان هناك رغبة خارجية عارمة في التخلص منه ، وان هذه الرغبة كانت قد بدأت في التعبير عن نفسها بإلحاح ، وهو ما نعرفه الان بعدما اتضحت أمامنا الحقائق الكفيلة بفهم الحوارات التي كنا نظنها عابرة، بينما  لم تكن  في واقع الأمر كذلك . وتحفل كتبنا التي تناولت هذه الفترة  برواية موقف فاروق المتوقع لقيام الثورة، بأدلة بارزة، ونحن نقرأ ما تدارسناه في كتبنا من روايات متطابقة تماماً عن قيام الملك فاروق بنفسه بتغيير اسم السلام الملكي إلي السلام الوطني ، و عن إحساس الملك فاروق بالنحس حين رشحت بريطانيا السفير ستفنسون سفيرا لها في مصر، وكان من قبل سفيرا في الصين ويوجوسلافيا ولم يترك البلدين إلا بعد انتهاء النظام الملكي فيهما بعد عمله سفيرا لبلاده. وفي هذا الإطار أيضا كان موقفه من والدته حين سمح للصحف جميعا بالهجوم عليها، وهو يعلم انه هو وعرشه سيكون اكثر من يؤذى بهذا الهجوم .  

فقد العرش بينما كانت أوراق اللعب لا تزال في يده

ونستطيع أن نقدم هذا المعنى من خلال مصفوفة طريفة : فقد كان الملك حتى 22 يوليو 1952 قادراً على أن يتوب عن غيه ويستدعي النحاس باشا ويكلفه بتشكيل الوزارة باعتباره زعيما للأغلبية، وكان هناك كثيرون يشيرون عليه بهذا لكنه آثر ألا يفعل لأنه كان يعرف أنه جعل نفسية النحاس باشا منقبضة تجاهه بما هو كاف لابتعاده تماماً  عنه ، وعدم العودة الا بشروط حاسمة .

وكذلك كان الملك فاروق في 22 يوليو قادراً على استدعاء علي ماهر باشا على نحو ما استدعاه رجال الجيش بعدها بيومين في 24 يوليو ، ولم يكن علي ماهر ليمانع لكن الملك كان يعرف أنه آذى علي ماهر إيذاء  بالغاً حين ضحى به في أول مارس 1952 من دون أي ذنب جناه وذلك لتنفيذ خطة كان هو قد قررها  كملك باستحضار الهلالي باشا لرئاسة الوزارة نكاية في الوفد.

وكان الملك في 22 يوليو قادراً على استدعاء محمد بهي الدين بركات باشا الذي كان قد استدعاه قبيل أول يوليو قبل حسين سري باشا ثم عدل عن تكليفه لما رآه من تأخره في تقديم أسماء من يرشحهم للوزارة.

وكان الملك في 22 يوليو قادراً على أن يطلب من حسين سري باشا الاستمرار في أداء مهام الوزارة  الروتينية بدلا من أن يحرره هكذا من المسئولية بمجرد تقديمه للاستقالة .

وكان الملك في 22 يوليو قادراً على تكليف الدكتور حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان بتشكيل الوزارة أو تكليف سياسي قديم من طبقة علي الشمسي باشا.

وكان الملك فاروق في 22 يوليو قادراً على تكليف الفريق محمد حيدر باشا نفسه بتشكيل وزارة عسكرية الطابع .

لكن الملك فاروق بروح الشباب لم يجد في نفسه اندفاعا إلى ممارسة أي حل من هذه الحلول على الرغم من أن هؤلاء جميعا لم يكونوا قد فقدوا الأمل فيه كملك  قادر على مواصلة دوره ، بل إن زعماء المعارضة أصحاب العريضة الشهيرة لم يكتبوها  في الواقع من أجل الخصام ولكن من أجل التقويم والحوار والتنبيه.

الظروف الدولية بعد الحرب العالمية الثانية

كانت السنوات الأخيرة من عهد الملك فاروق من ابرز الأوقات الحساسة والحرجة في تاريخ العالم كله، الذي كان قد خرج لتوه من أكبر وأحدث حرب عالمية، وبدأ يستعيد أوضاعه، ويرتب أنظمة الحكم في جميع أنحاء العالم، و بخاصة في الإمبراطوريتين اللتين يمكن وصف حالتهما عند خروجهما من الحرب بعبارات وأوصاف تستغرق كتبا بأكملها، لكنها لا تصل في بلاغة التعبير إلى جملة واحدة نستعيرها من أقوال السيد المسيح عليه السلام فنقول كسبت الحرب لكنها خسرت نفسها ..

الامبراطوريتان القديمتان تخسران نفسيهما

وقد بدا واضحا للجميع أن علي كل من بريطانيا وفرنسا أن تعيدا ترتيب بيتيهما من الداخل، وأن تنكمشا داخل حدودها الطبيعية، وتتخليا عن مستعمراتها البعيدة عن مواطنها إذا ما أرادتا أن  تواصلا الحياة.

بزوغ قوتي أمريكا و السوفييت

وفي ذات الوقت فإن الحرب قد بلورت وضعا جديدا أعطي امتيازا جديدا لحلفاء جدد، ولم يكن من المستغرب أن أقوي حليفين من الحلفاء وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي أصبحا يتمتعان بوضع أفضل من غيرهما، فقد كسبا الحرب من دون أن يتعرضا للاستنزاف البالغ، وهكذا فإن هاتين القوتين الكبيرتين كانتا لا تزالان تحتفظان بإمكانات أكثر قدرة علي الحياة، وعلي ممارسة السيطرة خارج حدودهما إلي ما لانهاية، ولكن درس الاستعمار القديم كان ماثلا في الوقت نفسه أمام أعينهما بكل سلبياته وأعبائه..

 نظرية الاستعمار الجديد بتطبيقاتها الخبيثة

وهكذا كان علي هاتين القوتين علي وجه التحديد أن تصوغا نظرية جديدة تمكنهما من السيطرة وتحقق لهما مكاسبهما، وفي ذات الوقت تختزل تكاليفهما في السيطرة، والحصول علي المكاسب إلي أدني حد ممكن، وهي الصيغة التي لم يكن الوصول إليها سهلا، لكنه لم يكن في ذات الوقت مستحيلا، وهكذا برزت إلي الوجود، وإلي الحياة نظرية الاستعمار الجديد بتطبيقاتها الخبيثة قبل أن تبرز علي صفحات الكتب أو الدراسات الأكاديمية.

استراتيجية الاستعمار الجديد في تمكين العسكر من الحكم  

كان  الاستعمار الجديد بجناحيه (الأمريكي والسوفييتي) قد لمح ثم فهم وأدرك واستنتج وتوصل  إلي  أن تولي حركة عسكرية حكم مصر يمثل بديلا افضل للقوي الخارجية الكبري من أن تصل إلي الحكم أو تعود إليه قوي الحركة الوطنية الأصيلة (الوفد) أو الصاعدة (كالإخوان) بخبراتها وتاريخها وشعبيتها وقواعدها وتوجهاتها وطموحاتها ورؤيتها.

وهكذا… فإنه ببساطة شديدة ومن دون اللجوء إلي التخوين أو الاتهام بالتواطؤ والعمالة، كانت القوي الخارجية الكبري ترحب وتدعم (حتي بدون اتفاق معلن أو غير معلن) دخول مصر حقبة حكم العسكر وسيطرة أسلوب  التجربة والخطأ من البداية (علي يد أية حركة عسكرية) بدلا من أن تبلور مصر نجاح التجربة السابقة التي استمرت تعاني وتجاهد وتنمو وتخبو وتزدهر وتترعرع علي مدي ثلاثين عاما، و سرعان ما وجدت هذه القوى أن عليها أن تعمل بكل وسيلة على أن تسرع بهذه الخطوة التي تمت بالفعل في 23 يوليو 1952، ومن الإنصاف أن نشير الى ان الملك فاروق كان مستوعبا لما يجري إلى حد كبير وأنه تعامل مع بعض الجزيئات بالمنطق الذي يقول : بيدي لا بيد عمرو ، و قد ساعده هذا المنطق على أن يحتفظ بصورة أفضل بكثير مما كان محتملا ، وعلى أن يلقى مصيرا أرحم بكثير مما كان واردا ، ومع هذا فإن التاريخ لا يزال يكشف من الأسرار ما يزيد الصورة وضوحا.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com