الرئيسية / المكتبة الصحفية / عباس حلمي الخديو الأخير : 2/6 تاريخه الانساني

عباس حلمي الخديو الأخير : 2/6 تاريخه الانساني

الوصف الجميل الذي وصفه به الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى

لعل أجمل و أصدق وصف لشخصية الخديو عباس حلمي هو قول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى إنه كان جريئاً واسع الأمل مصريا بحتاً كما حكم عليه لورد كرومر منذ لقائهما الأول ، وقد نفخ في مصر روحاً جديدة أذكت نار الوطنية الكامنة، وجرأت المصريين على مناهضة الاحتلال.

جدول 1 : مقارنة مولده و وفاته وعمره  بحكام  أسرة محمد على

مولد

وفاة

عمر

محمد علي

1769

2/8/1849

80

إبراهيم باشا

1789

30/11/1848

59

عباس حلمي الأول

1/7/1812

13/7/1854

42

محمد سعيد

17/3/ 1822

17/1/1863

41

الخديو إسماعيل

12/1/1830

6/3/1895

65

الخديو توفيق

30/4/1852

7/1/1892

40

الخديو عباس حلمي

14/8/ 1874

21/12/1944

70

السلطان حسين كامل

21/11/1853

9/10/1917

64

الملك فؤاد

26/3/1868

28/4/1936

68

الملك فاروق

11/2/1920

18/3/1965

45

 

جدول 2 : مقارنة مدته وسنه  بحكام  أسرة محمد على

بداية

نهاية

مدة

سن التولي

محمد علي باشا

1805

1848

43

36

إبراهيم باشا

1848

1848

شهور

59

عباس حلمي الأول

1848

1854

6

36

محمد سعيد

1854

1863

9

32

الخديو إسماعيل

1863

1879

16

33

الخديو توفيق

1879

1892

13

27

الخديو عباس حلمي

1892

1914

22

18

السلطان حسين كامل

1914

1917

3

61

الملك فؤاد

1917

1936

19

49

الملك فاروق

1937

1952

15

17

اعتزازه برحلة الحج وزبارة الرسول عليه السلام

انفرد الخديو عباس حلمي الثاني بحرصه على أداء فريضة الحج ، و كانت رحلته هذه حدثا حضاريا ، وقد خلدها أمير الشعراء أحمد شوقي 1868-1932 بقصيدته الرائعة إلى عرفات الله ، وذلك بعد أن هرب ذلك الشاعر العظيم من صحبة الخديو تحسبا لمشقة السفر ، وقد عبّر الخديو عباس حلمي الثاني  عن أن ارتشافه من منهل الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أسبغ عليه السكينة والهدوء منذ قام برحلة الحج.

نسبه المميز بين حكام أسرة محمد علي

من بين حكام الاسرة العلوية ، فقد كان الخديو عباس حلمي الثاني هو الوحيد الذي يجمع بين فرعين من الاسرة العلوية فجد أبيه هو إبراهيم باشا ثاني حكام الأسرة العلوية بعد مؤسسها ، و جد أمه هو عباس الأول ثالث حكام الأسرة العلوية بعد مؤسسها ، وكان أيضا الوحيد الذي يتصل نسبه بالأسرة العثمانية حيث كانت جدته لأمه ابنة سلطان وأختا لأربعة من السلاطين .

رده البليغ على ما وسموا شخصيته به من العيوب

“…… لقد وضعوا، على رأس نقاط ضعفي، الطموح، والتعطش إلى القيادة، وحب المؤامرات، على الطريقة الشرقية كما يقولون،  وهذه الدوافع الثلاثة إذا كان بوسعها أن تشرح بعض فترات حكمي، إلا أنها لم تكن إلا تشويها لشعور واحد، ومستمر، وقوي للغاية، وهو الذي كان يحرك كل أفعالي، ألا وهو حبي لبلادي، وهذا الحب لمصر هو الذي يوجه قلمي.”

ضعف وعي مذكراته بمعنى الاستقلال الوطني

قبل أن نتحدث عن مذكرات الخديو عباس فإننا نقول إنها تكاد تدلنا دلالة واضحة على ضعف وعي كاتبها أو صاحبها بالاستقلال الوطني على الرغم من أنه ظل طيلة المذكرات ينص نصوصا واضحة وقاطعة على إيمانه بهذا الاستقلال وعمله من أجله، ولهذا فإنه يمكن لنا أن نقول إن لجوء الخديو للفرنسيين لصياغة أفكاره في المذكرات أو في غيرها هو الذي أوقعه في هذا المأزق، وقد تبدى هذا المأزق بصورة فجة في حديثه الحزين عن فشل حملة فاشودا، التي كانت فرنسا تستهدف بها أن تضع قدمها في أرض وادي النيل، والتي لم تكن في أحسن أحوالها تزيد عن حملة احتلال لأرض مصرية ، ونحن نرى عبارات الخديو في التعبير عن هذا الحزن أو الأسف وكأنها صادرة عن استعماري فرنسي عتيد وليس عن مواطن فرنسي بسيط فما بالنا أنها كتبت او وردت  منسوبة الى حاكم مصر المعروف بمناداته بالاستقلال .

تعريفنا و وصفنا لمذكرات الخديو

قلنا في مقدمة كتابنا إن هذا الخديو صادف حظاً عجيباً إذ عزل وهو في الأربعين من عمره (وهي السن التي توفي والده حين بلغها) وعاش حتى السبعين، وهكذا فإنه قضى سنوات من النضج الإنساني محروماً من عرشه متطلعاً إلى استعادته، وظل هكذا حتى تنازل عن حقوقه في العرش في مطلع الثلاثينات وارتبط بهذا الحظ أنه كتب مذكرات ، يمكن وصفها بلا تجن بانها مكتوبة باللغة والروح الفرنسية لكن هذه المذكرات لم تترجم كاملة إلى اللغة العربية ولم تنشر في كتاب إلا في 1992 أي بعد ما يقرب من ثمانين عاماً من تركه عرشه، ومع هذا فإنها صدرت في ظروف مصادفة من وجه طريف هو أن تجربة عباس حلمي دون غيرها من تجارب حكام أسرة محمد علي السابقين عليه واللاحقين به مثلت أقرب نموذج للعهد الذي صدرت فيه المذكرات وهو عهد الرئيس حسني مبارك فقد كان العهدان أقرب عهود مصر الحديثة إلى التعقل والاستقرار والبناء على الماضي من دون حساسية والنظر إلى المستقبل من دون ادعاء ، والتوسط في الحكم على الأمور والصعاب ، وذلك على الرغم من أن الشخصيتين مختلفتان وكذلك كانت المشروعيتان في الحالين.

تتكون مذكرات الخديو عباس حلمي من سبعة عشر فصلاً، خصص الأول لطفولته وبداية حكمه مباشرة ، ثم تحدث في الفصل الثاني عن توليه السلطة الذي اعتبره يبدأ بالمقابلة الأولى مع لورد كرومر وليس باعتلائه العرش الذي تحدث عنه في الفصل الأول. وتحدث في الفصل الثالث عن النفوذ الخارجي فبدأ أولا باستعراض السياسة التركية وكأن مصر لم تكن جزءاً من الدولة العثمانية أو هكذا أراد من كتبوا مذكراته الذين أشاروا [بتعسف شديد و غير مبرر] بأن يكون هذا الفصل مقسوماً بين الدولة العثمانية وفرنسا ومن العجيب أن علاقة فرنسا انتهت بمقتضى الاتفاق الودي في 1904 بينما ظلت علاقة تركيا وهي علاقة عضوية حتى عزل الخديو لكن هذا بالطبع لم يكن يهم الفرنسيين الذين يريدون أن يثبتوا أن رأس فرنسا في مصر كانت برأس الدولة العثمانية التي لا تعبر عنها المذكرات للأسف في عناوين هذا الفصل إلا بتركيا .

 وفي الفصل الرابع تحدث الخديو عباس حلمي عن الأحزاب السياسية المصرية مبرراً دوره هو نفسه في رعاية ودعم كل من مصطفى كامل باشا والشيخ علي يوسف. وفي الفصل الخامس يتحدث الخديو عن جيش الاحتلال ويتضمن هذا الفصل الحديث عن واقعة دنشواي ، و من الجدير بالذكر أنه يخص هذه الواقعة بالملحق الثالث الذي يتضمن النداء الذي نشره مصطفى كامل في الفيجارو الفرنسية في 11 يوليو 1906. وفي الفصلين  السادس والسابع يتحدث الخديو عباس حلمي عن التعليم والجامعة. وفي الفصل الثامن عن السودان. وفي الفصل التاسع عاد الخديو عباس حلمي للحديث عن فرنسا ومصر ثم يتحدث بأسف شديد عن نجلزة مصر. ومن الواضح أن هذا الفصل مكتوب و موجه بعناية لفرنسا بيد فرنسيين وليس له أية علاقة عضوية حقيقية بالمذكرات من حيث هي مذكرات خديو مصر .

وفي الفصل العاشر تحدث الخديو عباس حلمي عن الفلاح والسخرة والكرباج وهو حديث يشبه أحاديث السائحين الأوربيين عن الشرق ، وما كان أحرى الخديو أن يضمن هذا الحديث في فصل موسع يظهر ما كان متاحا بكثرة من فضله هو نفسه في ميادين الزراعة والري والاشغال المائية والرقعة الزراعية والاستصلاح وتطوير الزراعة ولكنه وقع ضحية من وثق بهم ، حيث  يفضل الغربيون و المستشرقون أن يكتبوا ذكرياتهم المغرضة عن الشرق بنوع من الايمان المفتعل بالمركزية الأوروبية. وقد أفرد الخديو عباس حلمي بعد ذلك الفصول الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر  للمعتمدين البريطانيين الثلاثة الذين تناوبوا على تمثيل بريطانيا في حكم مصر في عهده :  10 صفحات لكرومر الذي سبق الحديث عنه في كثير من الصفحات و6 صفحات للسير جورست يختمها بالحديث عن أن المصريين لم يقدروه حق قدره، وكأن المصريين لا يضمون من بينهم أميرهم عباس حلمي. والفصل الثالث عشر عن كشتنر في 14 صفحة محاولا ان يشفي غليله منه ومن تاريخه الأسود معه. ثم يأتي الفصل الرابع عشر وكان الأحرى به أن يتقدم على الفصول الثلاثة السابقة لأنه يتحدث عن الإنجليز في مصر، لكنه في حقيقة الأمر أخره لأنه تضمن جهود أو مهمة إسماعيل أباظة باشا في لندن.

جعل الخديو عباس حلمي من الفصل الخامس عشر من مذكراته ميدانا لذكر انطباعاته الانتقامية من  رؤساء مجالس النظار الذين عملوا معه ، وقد تعمد أن يدينهم و يهينهم في مجموعهم بالحديث عنهم بعد المعتمدين البريطانيين، ولو أنه اتخذ المنطق لجعله الفصل الحادي عشر ثم جعل الفصل الرابع عشر في المحل الثاني عشر ثم جعل فصول مذكراته الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد هذين الفصلين أي في الترتيب الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. و قد أفرد الخديو عباس حلمي الفصل السادس عشر لمحاولة اغتياله، ثم تحدث في الفصل السابع عشر عن عزله تحت عنوان: إنجلترا تنتهك حقوقي المشروعة وتمنعني من العودة إلى بلادي وتعلن حمايتها على مصر.

 وقد ختم الخديو عباس حلمي الكتاب بسبعة ملاحق:

  • الأول خطاب مصطفى كامل باشا للخديو
  • الثاني هو الاتفاق الودي المعقود في أبريل 1904 بين فرنسا وانجلترا
  • الثالث هو نداء مصطفى كامل باشا المنشور في الفيجارو عن دنشواي
  • الرابع هو مذكرة مسيو لامبير عن الشكوى من نجلزة التعليم في مصر
  • الخامس هو اتفاقية الحكم الثنائي للسودان.
  • السادس هو خطاب الشيخ علي يوسف عن تدخل لورد كرومر في الحياة الدينية
  • والسابع هو مشروع الاتفاقية المقترحة لمد قناة السويس.

بداية عهده في حياة جده الخديو إسماعيل المعزول

من المدهش أن الخديو عباس حلمي منذ يومه الأول واجه وضعا إنسانيا  يستحق أن تكتب فيه مسرحية من أكثر مسرحيات التاريخ إثارة ً ذلك أن جده الخديو إسماعيل الذي حكم مصر 16 عاما ما بين 1863 و 1879 كان لا يزال على قيد الحياة منفيا في الخارج، و صحيح أنه كان قد بلغ سن الشيخوخة إذ كان قد تعدى الستين بعام أو عامين حين أصبح الخديو عباس حلمي حاكما (وهو الذي كان في الخامسة من عمره حين نفي) لكن عباس حلمي وجد نفسه بسبب الطغيان الأوربي ( الذي كان نوبار باشا رئيس الوزراء احد ادواته ) عاجزاً عن أن يستقبل جده ليقيم في مصر في سنواته الأخيرة بدلاً من أن يظل في المنفى حتى يموت فيه في 1895 بعد تولي حفيده (أي عباس نفسه) الحكم بثلاث سنوات ، ومن العجيب  أنه في مقابل هذه السنوات  فإن عباس حلمي نفسه قضى ثلاثين عاماً كاملة بالتمام والكمال  في المنفى حاكما سابقا ممنوعا من أن يعود إلى مصر، وممنوعا بالاسم من أن يؤول إليه عرش مصر مرة ثانية حتى لو أنه كان أكبر الراشدين من أسرة محمد علي على قيد الحياة، و ذلك تبعا لما نص  عليه بالاسم قانون صدر في عهد الملك فؤاد ، وهكذا فإن شقيقه الأصغر منه بعام واحد وهو محمد علي توفيق أصبح هو ولي العهد للملك فاروق بينما كان عباس حلمي نفسه لا يزال على قيد الحياة ، وقد ظل شقيقه وليا للعهد طيلة عهد الملك فاروق باستثناء الشهور الستة الأخيرة عندما رزق الملك فاروق بابنه احمد فؤاد الثاني يناير 1952 ثم شاء القدر أن يكون الأمير محمد عبد المنعم الذي هو  ابن الخديو عباس  وصيا على عرش الملك أحمد فؤاد الثاني في 1952  .

علاقته بجده الخديو إسماعيل 

من الشائع ان الخديو عباس حلمي كان معجبا بجده إسماعيل أكثر من إعجابه بوالده، ومع أننا لا نميل تماما لهذا الرأي ، فقد  كان الدافع إلى مثل هذا الظن ما يمكن وصفه من أثر نفسي عميق كان صدى طبيعيا لتربيته المقدرة للإنجازات بحكم الأفق الواسع الذي أتيح له في الرحلات ، والذي جعله يتعلق بروح التقدم ويقدر قيمة ما نسميه الآن بالاستثمارات طويلة الأجل. وبالطبع فقد عرف الخديو عباس وهو صبي بما كان متداولا من رغبة الخديو إسماعيل في استعادة عرشه ، وهي رغبة كانت تحظى ببعض الرضا من أوربيين ، وعلى سبيل المثال فإن السياسي الألماني الشهير بسمارك سعى في 1885 من أجل عودة الخديو إسماعيل للحكم لكن مسعاه لم يُقنع الدول الغربية الأخرى التي لم تكن تريد عودة مصر الى تطلعاتها بأية صورة من الصور . وعلى كل حال فقد زار الخديو عباس حلمي جده الخديو إسماعيل في السراي التي اشتراها في اسطنبول [سراي ميركون] في صيفي 1893 و1894.

ثناؤه على الخديو إسماعيل

مع أن الخديو عباس حلمي الثاني في مذكراته كان كثير الفخر بإنجازات جده الخديو إسماعيل فإنه  لم يكن  يُبدي العناية الكافية بالحديث عن عناصر القوة والذكاء والتقدم في أداء جده الخديو مفضلاً على ذلك تعداد الإنجازات نفسها، أي أنه لم يكن يصف جهاد إسماعيل من أجل الإنجاز وإنما يُعدد ثمرات  الإنجاز ، وهو يبدو في تناوله لتاريخ جده وكأنه فخور في المقام الأول [بتملكه] لهذا الجد أي بانه ينتمي الى هذا الجد العظيم .  وقد كان في وسع الخديو عباس حلمي أن يُحدثنا في فقرات ومواضع متعددة عن الخيال الذي راود ذلك الجد العظيم أو الأمل الذي كان يحدوه أو الطموح الذي كان يعمل من أجله، وصحيح أن القريب من الصورة لا يُدرك مثل هذه الأبعاد بما ينبغي و لا على نحو ما ينبغي لمن يكتب تاريخا لكن هذه حالة مختلفة جدا ، فهذه المذكرات كتبها صاحبها بعد أكثر من عشرين عاما من البعد عن العرش والبقاء في منطقة التأمل والتدبر ، لكنه فيما يبدو تأثر كما نقول بالفرنسيين الذين ساعدوه على كتابة مذكراته، و لم يحيطوا ولم يحظوا بما فيه الكفاية بمعنى الشعور الوطني من حيث هو شعور وطني لشعب ذي ماض عريق وإنما  عنوا به من حيث هو مرتبط بتملك العرش فحسب.

إقراره بوسائل جده في الحصول على فرمانات استقلاله 

لم يجد الخديو عباس حلمي  حرجا في أن يعدّد بطريقة براجماتية صريحة وسائل جده الخديو إسماعيل في الحصول على ما حصل عليه من استقلال و تميز في اطار  الدولة العثمانية ، و الظاهر ان الفرنسيين الذين كتبوا المذكرات كانوا حريصين على إقحام هذه الفقرة التي يمكن القفز عليها تماما : “.. دخل إسماعيل في مفاوضات مع السلطان. ووصل إلى أهدافه، عن طريق زياراته الشخصية لإستانبول، وعن طريق هداياه الثمينة للسلطان وحاشيته، واستخدام وزيره نوبار لسياسة حكيمة وفعالة، وعن طريق إثارته اهتمام حكومات وملوك أوربا، وأكثر من ذلك في الأوساط السياسية المختلفة، وفي الصحافة الأوربية، سواء عن طريق مندوبيه، أو عن طريق كم هائل لا ينتهي من المراسلات، وهي الأكثر تأثيراً، والتي توجد بالمحفوظات التاريخية في قصر عابدين الخديوية وحدها، ما لا يقل عن عشرين ألف رسالة منها”.

تقصيره في حق جده

ومن إحقاق الحق أن نقول إن الخديو عباس يفتقد ما هو ممكن من الاعذار او عن هذا التقصير تجاه سيرة جده ، ذلك أنه عاصر نشاط الأمير عمر طوسون 1872 ـ 1944 [وهو أمير مثقف من اسرة محمد علي ولد قبله بعامين و توفي معه في العام نفسه  لكن العرش كان بعيداً عنه أو اصبح كذلك بناء على مساعي الخديو إسماعيل لاستبقاء العرش في نسله] ، و مع هذا فقد كان هذا الأمير شعلة من النشاط في كتابته للتاريخ العلمي لعصر محمد علي وبعثاته و لإمبراطورية مصر في عهد إسماعيل ، ومن ثم فقد كان من الواجب على الخديو عباس حلمي أن يُعنى بتاريخ جده المباشر عناية تتناسب أو تتوازى مع عناية الأمير عمر طوسون بجدهم الأكبر محمد علي باشا و بعثاته ، أو عنايته بالوجود المصري في إفريقيا في عصر الخديو إسماعيل.

حبه لتدين الخديو توفيق وأخلاقه 

هذه فقرة من أكثر فقرات مذكرات الخديو عباس حلمي الثاني  تعبيراً عن حبه الشديد و تقديره العميق لوالده الخديو توفيق: “لقد امتلك الخديو توفيق، بلا جدال، كل قوة الشخصية وقوة الصفات اللازمة لحكم بلاده …..  ولقد تزوج بواحدة فقط في بلاد تشتهر بتعدد الزوجات، وكانت أول مرة يقوم فيها حاكم، وربما مواطن !![هكذا تقول المذكرات]، بالتصرف بهذه الطريقة، وكان سلوكه يرفع المستوى الأخلاقي للأسرة المسلمة في أيامنا ، وكان مؤمناً دون تظاهر، ومتدينا دون تطرف، ومع ذلك فكان مستعداً بإصرار لتأييد إخوانه في الدين، وحصل على ذلك التأثير الخير، الذي يسمح للبلاد بأن تستعيد وتعيد عقد علاقات وثيقة للتعايش مع الأوربيين الذين كانوا قد خشوا زيادة التعصب الذي سببه عرابي وزملاؤه”.

تفسيره لاجتماع العزة و التساهل في شخصية والده

” …..   وفي تلك الظروف، التي كانت المؤامرات والنفاق سائدة فيها، وإلى أقصى درجة، كان الخديو توفيق والدي، مخلصا وثابتا على المبدأ ، وكانت له، علاوة على ذلك، موهبة العرفان بالجميل، وهو أمر نادر عند الرجال …..  وكانت كل أعمال حياته متأثرة بشعور العزة العالية، وإذا كان قد أظهر نفسه متساهلاً في ظروف عديدة، فإن ذلك كان نتيجة لوطنيته ،  وكثيراً ما منع نفسه من اتخاذ موقف يمكنه أن يكون حاسماً، ولكنه قد يسرع بتعريض شعبه لحرب أهلية دون خلاص. …. وكان الخديو توفيق كريماً. ولم تكن أي حركة من حركاته تحمل علامة هذا الطغيان الذي كانت أوربا ترى فيه الصفة السائدة عند الشرقيين، وبنوع خاص لدى رؤساء الحكومات الشرقية، وعلى العكس من ذلك فقد اُعترف عالمياً بأن الظلم الذي ارتكب باسمه، كان دائما رغم إرادته، ولم يؤخذ عليه أي عمل استبدادي، وكانت رقة مشاعره ، وفراسته كذلك  توجهانه إلى أن يعرف بالتحديد من أي جانب يكون الخير أو الخطأ، وبذلك، كان على العالم أن ينحني أمام استقامته، وتوازن ذكائه”.

يصف والده بالتوازن المتمدن

و يستطرد الخديو عباس حلمي الثاني :  “…… ولم تتمكن المساوئ التي حدثت في فترة حكمه من أن تحطم ذلك التوازن الثمين، الذي وضعه في خدمة وطنيته، وكان وجوده ونسبه وتأثيره المعنوي هبة مستمرة لبلاده. وكان هذا هو السبب، وطوال فترة حكمه، في أنه لم يمارس أي رغبة أوتوقراطية على الرجال الذين طلبهم، مع الاحتياجات والأحداث، لكي يتعاونوا معه في الحكومة”.

يشيد بوعي والده  على الرغم من قلة حظه من التعليم

ويواصل الخديو عباس حلمي الثاني مديحه لوالده فيقول :  “……وكان النشاط الضخم لإسماعيل قد حرمه من أن يتابع تعليم أبنائه العديدين، وحصل توفيق على التعليم الذي كان موجوداً في ذلك العصر للطبقات العليا من المجتمع التركي المصري. ولم يمنعه هذا من أن يتابع، وبكل اهتمام جاد، ومع قدرة طبيعية للتحليل، الأحداث والمشكلات اليومية، سواء في مصر، أو في بقية أنحاء العالم.  ….. وتمكنت مصر من أن تحقق إصلاحاتها، وتمكّنت البلاد من أن تستعيد بتصميم طريق التقدم والنمو، نتيجة للمرونة الواضحة لتوفيق، وسياسته الحكيمة، وأخيراً نتيجة لقوة تحمله وبعد نظره” .

تفسيره لعيوب والده الخديو توفيق

يقول الخديو عباس حلمي الثاني  :

“……لكني واثق من أن نقاط ضعفه الواضحة أوحت، له بها رغبته في أن يحمي بلاده من أي خطر يراه ضدها، ودون أن يتمكن من أن يبعده، وليس هناك ما هو أصعب من ممارسة الحكم في ظروف مثل تلك الظروف الوعرة”.

جده لوالدته

هو الأمير إبراهيم الهامي 1836 ـ 1860 ابن الوالي عباس الأول الذي كان ثالث حاكم من أسرة محمد علي ، و الذي كان يطمح أن يجعل هذا الابن وليا لعهده ليخلفه في الحكم بيد أن عباس نفسه قتل في 1584، و قد توفي هذا الجد في 1860 قبل ولادة الخديو عباس نفسه بأربعة عشر عاما ، و قبل أن يصبح جده لأبيه (الخديو إسماعيل ) واليا في 1863.  

جدته العثمانية  شقيقة السلطان عبد الحميد

هي الاميرة منيرة سلطان ابنة السلطان عبد المجيد الأول1823 ـ 1861 ، وهو السلطان العثماني الحادي والثلاثون الذي تولى السلطنة وهو في السادسة عشرة، وحكم 22 عاماً ما بين 1839 و1861 وتوفي وهو في الثامنة والثلاثين بمرض الدرن ، وهي أخت السلاطين الأربعة : السلطان عبد الحميد  1842- 1918 وإخوته السلاطين (مراد الخامس ومحمد رشاد الذي هو محمد الخامس ومحمد وحيد الدين الذي هو محمد السادس) وقد عاصر عهد والدها من حكام مصر كل من محمد علي باشا ثم إبراهيم باشا وعباس الأول ومحمد سعيد ، ولدت هذه الجدة (الاميرة منيرة سلطان) عام 1844.

زواج جديه لوالدته

تقول الأدبيات المتاحة أن جدته لوالدته خطبت لجده في 1854 (أي وهي في العاشرة من عمرها حسب تاريخ الميلاد المثبت وربما أكبر من هذا لو كان تاريخ الميلاد تقريبيا)  وعلى كل حال فقد تم زواج جده إبراهيم الهامي باشا من جدته الاميرة منيرة سلطان في 31 يوليو 1857، وأنجب هذان الزوجان أربعة أبناء في ثلاث سنوات (توأما من ولد وبنت، ثم ابنتين) في ثلاث سنوات .

الوفاة المبكرة لجده لوالدته وخاله

توفي جده لوالدته إبراهيم الهامي باشا غرقاً في مضيق البوسفور في 9 سبتمبر 1860 (في اسكودار) ونقل جثمانه إلى مصر حيث دفن. أما الخال الوحيد للخديو الذي هو توأم والدته  فقد توفي عقب مولده .

وفاة والدته بعد السبعين من عمرها

عاشت والدته السيدة أمينة الهامي ما بين  1858- 1931 و شهدت تولية ابنها 1892 وعزله 1914.

زوجتاه وضعف دورهما في الحياة العامة  

تزوج الخديو عباس من إقبال هانم 1876- 1941 في 1895 ودام زواجهما فيما هو متاح من المصادر حتى 1900 ، ثم تزوج من  السيدة  جاويدان  هانم 1877- 1968 وهي نبيلة نمساوية – مجرية مولودة في بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية باسم ماريانا ماي توروك، و قد اعتنقت الإسلام ، و دام زواجهما ما بين 1910 و 1913 ، وكانت فنانة رسامة و عازفة على البيانو ، و يروى أنها عملت فترة بالتمثيل ، و بالترجمة الفورية ، و كتبت مذكراتها ، وتوفيت في جراتس بالنمسا.

ومن العجيب أن دور والدته أو حضورها  في الحياة العامة كان يبدو أنشط من دور زوجتيه، وكذلك كان دور عمته الأميرة فاطمة إسماعيل ، بل إن دور زوجة عمه وخليفته السلطان حسين وهي السلطانة ملك أصبح أبرز بكثير من أي دور لأي سيدة تنتمي له مباشرة ، وكذلك كان الحال فيما بعد مع الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد .

شقيقه و شقيقته

ومن الجدير بالذكر أن شقيقه الأمير محمد علي توفيق فقد عاش حتى 1955 وتوفي في سويسرا، أما شقيقتهما  الأميرة نعمت الله 1881- 1966 التي كانت متزوجة من ألامير جميل طوسون ثم  بعد وفاته من الأمير كمال الدين حسين ابن السلطان حسين (الذي كان مرشحا لخلافة والده) فقد عاشت في مصر معززة مكرمة وتبرعت بقصرها 1930 ليكون مقراً لوزارة الخارجية واكتفت هي بقصر صغير عاشت فيه متصوفة.

حديثه عن بعض ملامح نشأته

مع أن مذكرات الخديو عباس حلمي حرصت على الحديث عن نشأته فان هذا الحديث خلا من أي روح لحديث وجداني عن التجربة الذاتية تماما فلم يعبر عن ذاتية صاحبه على الاطلاق، و فيما عدا حادث او حادثين بروتوكوليين لا قيمة لهما من الناحية الإنسانية فان المذكرات لم تعبر عن صاحبها الا في الجزء الذي استطرد فيه الى رحلاته المبكرة ، وعبّر عن فهمه المبكر لاختلاف طابع البيئات والشعوب .

حرص والده على تعليمه مع أولاد المصريين

روى الخديو عباس حلمي الثاني  أنه تلقى ما يوازي التعليم الإلزامي المصري مع شقيقه الأمير محمد علي توفيق في مدرسة أسسها والده لهذا الغرض وضمت معهما  100 طفل من أبناء الاسر الراقية على حد تعبيره : ” ومنذ عام 1880 حتى عام 1882، أمر والدي، ومن أجلي وأجل أخي محمد علي، ببناء مدرسة على جانب قصر عابدين، لها حديقة كبيرة لكي تستقبل مائة طفل من الاسر الراقية. وكانوا يعلمونهم مجاناً، ويمنحونهم الغذاء. وهناك تعودت على أن أعيش بين أولاد البلاد، وأتحدث لغتهم، وذلك في نفس الوقت الذي كان فيه المدرسون يعلمونني الإنجليزية”.

فضل والده في تدريبه على حب الرحلات

انتبه الخديو عباس حلمي الثاني إلى ذكر عناية والده الخديو توفيق بتوسيع مداركه من خلال الرحلات والبرامج المنظمة سلفاً لاطلاعه على الحياة المدنية الحديثة في كل صورها:

 “.. وكان والدي يعرف أن النفوس تتفتح وحدها أمام الجمال وسحر المناظر المغرية، سواء كانت هذه المناظر من صنع الطبيعة، أو كانت من عمل فنانين مشهورين. وهكذا وجهني صوب المظاهر المختلفة لعمل الشعوب …. ورغم أنه [ الضمير يعود على والده ] لم يخرج من مصر أبداً، فإني أدين له بحب مزايا الرحلات.

رحلاته ذات البرامج المحددة  ولقاء الملكة فيكتوريا

وهو فخور بالرحلات المبكرة التي هيأها له والده : ” وفي سن عشر سنوات، كنت قد زرت أوربا ، وفي سن الحادية عشر ذهبت ومعي أخي محمد علي إلى لندن، حيث قدموني للملكة فكتوريا كوليّ عهد لمصر، بواسطة سفير تركيا … وفي سن الثانية عشرة، كنت في النمسا، في داخلية التريزيانوم في فيينا”.

زار كل مصانع أوربا  و مراعيها

يقول الخديو عباس حلمي ببساطة مفعمة بالاعتزاز و الفخر :  “…..  ومن مراعي أيرلندا الخضراء إلى سهول روسيا التي ليس لها حدود، ومن فرنسا ذات السمات الشخصية والمميزة، إلى ألمانيا المنظمة والضخمة، ومن شواطئ إيطاليا الجميلة إلى النرويج، ومن غابات التيرول إلى السهول المبتلة والقنوات المليئة بالمياه في هولندا. …… هكذا تشكل تفكيري، شيئاً فشيئاً، أمام مظاهر نشاط الإنسان، وقوة العمل”.

إدراكه لنماذج الاختلاف في الشعوب: ألمانيا و إنجلترا

“……ولقد أثر فيّ الألمان بالقوة الكبيرة لانضباطهم وبمنهجهم، ووجدت لدى الإنجليز العلاقات المحببة في مجتمع مقسم بين سحر الود الساذج وبين جمود شعب متعالِ ومنغلق”.

المصانع الألمانية في مدينة إسن  وفي بلجيكا

وصف الخديو عباس حلمي الثاني الأثر القوي الذي تركته مشاهدة المصانع الألمانية في مدينة إسن  وفي بلجيكا في ذاكرته :  “…… وأثرت مصانع “إسن” في تصوراتي. فهذه المدينة المليئة بالحديد والنار، التي يتحرك فيها الآلاف من العمال أعطتني فكرة عما يمكن أن يفعله العلم بالاشتراك مع العزيمة. وكان إعجابي بالمناطق الصناعية في بلجيكا لا يقل عن ذلك” .

حديثه عن طبيعة هولندا

وهو يصور ما يعرفه الناس عن صراع الهولنديين مع البحر فيقول: “……  وزرت أيضاً هولندا، حيث لم أمل من الإعجاب باستمرار مجهود هذا الشعب الشجاع، الذي هو في صراع دائم مع البحر، ويظهر امتداد المناطق المجففة من البحر والمزروعة، وجوانب خنادقها، والشبكة المتلألئة من قنواتها ، هذه المعركة بين الإنسان والعناصر الطبيعية، التي حصل فيها الذكاء البشري على نقاط، في غالب الأحيان”

وفي موضع آخر يقول الخديو: ” …..وحينما كنت، في هولندا، فقد شاهدت الصراع ضد البحر، الذي كان يغطي على الأرض، وهو يستعد دائما لغزوها”  .

ما أثار إعجابه في فرنسا

يحاول الخديو عباس حلمي أن يبرز قدرته على وصف الفرنسيين فيقول  : “أحببت عند الفرنسيين بساطتهم بدون تكلف، وفلسفتهم كرجال سعداء، وخصائلهم البورجوازية التي تصحح الكثير من النزعات المؤقتة”.  

وفي موضع آخر يقول الخديو: “……  وفي فرنسا، اجتذبني الاتجاه الفردي للسكان، والتوزيع الديمقراطي للملكية، وتواكل الفلاح، وحبه للأرض، وإخلاصه للذكريات، وخاصة تميزه بالعقلية الاقتصادية، وتملكني الإعجاب بإبداع العامل، ودقة عمله، واستعداداته الخاصة للصناعات الفنية، واهتمامه بتشكيل المادة، وانشغاله دائما في عمله بالمقاييس الجمالية.

حديثه العابر عن إيطاليا

“…… وفي إيطاليا رأيت الصراع من أجل ردم المستنقعات. وذكروا لي أن النيل نفسه قد أعطى المهندسين الفكرة بهذه الطريقة. ودهشت لأن إدارة الري، في مصر، لم تتعامل أبداً مع النهر بخطة طويلة المدى، يكون نجاحها مضموناً، ونتائجها وفيرة النفع”. وفي موضع آخر يقول الخديو عباس حلمي : ” وسمحت لي إيطاليا بأن أوازن بين اختيار المناهج وبين الظروف”.

تربيته النمساوية – الألمانية

نبدأ الحديث عن تربيته الأوربية بالتنبيه إلى إن حكام الأسرة العلوية لم يكونوا كما يتصور البعض فرنسيين في تعليمهم وان كانوا فرنسيين في الظاهر من ولائهم السياسي ، و الحضاري ، وفي الواقع فانهم  كانوا مختلفين حتى إنه لا يمكن الجمع بينهم  في مسار واحد ، ومن بين هؤلاء الحكام فقد كان هناك أربعة على اتصال وثيق بثلاث حضارات نظراً للظرف التاريخي أو للتعليم الذي تلقوه والنشأة التي صادفتهم ، ومن العجيب أن نشأة الرابع منهم لم تكن تخطط من قريب ولا من بعيد لما صار إليه بحكم الزمن حين أصبح أول من نال لقب الملك ، وهؤلاء الأربعة هم:

  • محمد سعيد باشا ابن محمد علي الذي تعلم في فرنسا ، ومكّن للفرنسيين من الوجود الفاعل في مصر من خلال تعاقده على قناة السويس .
  • الخديو إسماعيل الذي تعلم في فرنسا وتخرج فيما يوازي كلية الهندسة فيها واستعان بخبراتها ومهندسيها في انجاز كثير من أعماه .
  • الخديو عباس حلمي الذي تعلم في النمسا بل وتزوج فيما بعد من النمسا.
  • الملك فؤاد الذي قضى الفترة الأولى من حياته كلّها في إيطاليا حيث نفي والده الخديو إسماعيل وكان هو حين نفي والده لا يزال صبيا (نفي والده 1879 وولد هو 1868)

فيما بين الأولين (سعيد و إسماعيل ) و الأخيرين ( عباس حلمي و فؤاد) كان الخديو توفيق يدين بالحفاظ على عرشه لبريطانيا ومن تم فإنه كان في الظاهر يرتبط بها ارتباطا أكثر من عضوي ، لكنه لم يتعلم في خارج وطنه ، أما عباس الأول فقد جمعت تربيته بين وجوده في الحجاز وفي مصر.

امتنانه لامبراطور النمسا فرانسوا جوزيف وفضله عليه

كان الخديو عباس حلمي في أثناء دراسته يحظى برعاية من  امبراطور النمسا فرانسوا جوزيف 1830- 1916  ، وهو واحد من اكثر  حكام العالم طولا في فترة حكمهم إذ حكم 68 عاما من عمره الطويل الذي بلغ 86 عاما ، وهو نفسه الامبراطور الذي قتل  ولى عهده  فنشبت الحرب العالمية الأولى بسبب مقتله 1914 .

وقد تحدث الخديو عباس حلمي بامتنان عن فضل الامبراطور فرانسوا جوزيف عليه عندما فوجئ بوفاة والده وأن عليه أن يسافر ليتولى حكم بلاده: “.. وكان عليّ أن أصل إلى مصر في أسرع وقت، وحتى لا أنتظر وصول سفينة مصرية لعدة أيام، وضع الإمبراطور فرانسوا جوزيف إحدى سفن اللويد النمسوية تحت تصرفي. واصطحبني عالمان، وأربعة ضباط من التابعين لإمبراطورية النمسا …. وكان أحد هذين العالمين، سويسريا، وهو المسيو لوي روييه Louis Rouiller، وكان استاذي للقانون الدولي في الأكاديمية الشرقية في فيينا. وكان رجلاً رفيع الذكاء، عميق الثقافة. وكان يتمتع بمزايا ، وفهم جيد مطلق، وهدوء محترم. وكان يحب مؤسسات بلاده، ولم يكن هناك ما هو أجمل، بالنسبة له، من مبادئ حكومة سويسرا الحرة. وطلبت من فرانسوا جوزيف ( أي الامبراطور ، و من الطريف أن مذكرات الخديو بدأت تتحدث بالاسم  المجرد عمن كان امبراطورا من قبل أن يولد والده) أن يتفضل بتركه تحت تصرفي في مصر، حيث سأحتفظ به كأمين عام (سكرتير عام). وقدم لي خدمات واضحة حتى وفاته …….. وبينما كنا مسافرين بالسرعة المعتادة للسفن، حاول المسيو روييه أن يحدد، وفي نظرة إجمالية، شروط نهوض مصر، وعاش من جديد معي الخطوات المتتالية لعملية إعادة بعث تدهش العالم”.

حديثه عن معاونيه  الفرنسيين الخمسة

هذا هو التعريف الذي يقدمه الخديو عباس حلمي في مذكراته بالأساتذة الفرنسيين الخمسة الذين قدر له أن يستبقيهم لمعاونته في حكم مصر والدعاية لنفسه في الخارج: “…. كان روييه Louis Rouiller ، ذلك الأستاذ السويسري الذي كنت اقدر إمكانياته وإخلاصه، والذي كنت قد ألحقته بشخصي منذ سفري من فيينا، يشغل منصب السكرتير العام في القصر، ولقد تجمع حوله أربعة من الفرنسيين المميزين:

  • المسيو بوترون Bourton، رئيس اللجنة المختلطة لأملاك الدولة
  • المسيو برونيير Pruniers، رئيس المحكمة المختلطة من الدرجة الأولى في القاهرة، والذي وصلت به النزاهة إلى حد أن يرفض منصب مستشار في المحكمة، لكي يستمر في خدمة قضية الاستقلال المصري في القاهرة، بشكل أكثر فائدة.
  • المسيو برون Pront، المندوب الفرنسي في إدارة السكك الحديدية للدولة،
  • المسيو أرستيد جافييو Aristide Gavillot، ذلك الصحفي الكفء. ولقد مكننا هذا الأخير وضمن لنا مساعدة وكالة هافاس، وعدد كبير من الصحف الباريسية في ذلك الوقت.

“وهذه الشخصيات الخمس، كوّنوا في الخارج، أول مركز للدعاية في صالح استقلال مصر. ونتيجة لذلك، حصلت مصر الحديثة على اتصال مع العالم الخارجي، وأفهمت أوربا آمالها، ووجدت مدافعين عنها في البرلمان الفرنسي ، وهؤلاء الرجال، وتحت الإشراف الحكيم للمسيو دي ريفسو، ومن خلال الاتصال بالعرش عن طريق روييه، تفرغوا لعملهم لمصلحة مصر وحدها، واثقين من أن اعتراف مصر بالجميل لن يذهب إلّا صوب البلاد التي تكون قد فهمت ذلك الهدف، وساندته مساندة جدية”.

شبابه أغراه بكثير من الممارسات السياسية

كان شباب الخديو عباس مشجعا له على أن يخوض بنفسه غمار الحياة الحزبية كما لو أنه كان زعيم حزب، ومع كل ما يمكن انتقاده في هذا الذي فعله الخديو فإننا نعترف بأن ممارساته غير الناضجة هذه كانت صاحبة  الفضل الأكبر فيما تلاها من الممارسات السياسية الناضجة التي كانت ثورة 1919 نفسها أبرز نتائجها، ومن المعهود في كتابات بعض المصريين عن تاريخهم وهي كتابات بيروقراطية الروح أن يقولوا إنه كان الأولى بالخديو (أو الأولى بشيخ الأزهر أو بأي زعيم ديني أو دعوي ) أن يترفع عن ممارسة السياسة ، وأن يكون حكما بين الأطراف المختلفة وهي فكرة لا تؤدي إلى شيء إلا الموات والركود التام لأنها تعبر عن عقيدة شبه تقليدية خطرة لا تتصور السياسة في مكانتها العالية وانما تتصورها  شيئا من الأشياء التي لا يليق بالإنسان المتحضر (الجنتلمان) الا ان يترفع عنها ، و ينسحب هذا تدريجيا الى التفريط في الواجبات السياسية  ، لا في الحقوق السياسية وحدها ، فكيف لزعيم سياسي محلي أن يعارض الحكومة، إذا لم تكن الحكومة نفسها قد تصدت لشيء أظهرت المناقشات أنه يحتمل الوجهين،  ولهذا السبب في المقام الأول فقد أحدث طرح القضايا الوطنية للنقاش العام بمشاركة الخديو عباس كثيرا من الارتقاء الفكري و السياسي حتي لو لم ينتبه المصريون في ذلك الوقت الى تلك الحقيقة ، و على سبيل المثال فإن مناقشات مد امتياز قناة السويس في الجمعية العمومية أو البرلمان (الذي يوصف بأنه كان محدود السلطة) كانت هي التي عوّدت هؤلاء الساسة المحليين الذين أصبحوا بعد هذا من زعماء ثورة 1919 (و ما أعقبها من حقبة ليبرالية متميزة) على أن يبلوروا آراءهم وأن يقدموها في صورة ناضجة كفيلة بحشد الجماهير من وراء هذه الآراء المدروسة التي تقدم  البدائل و الأرقام و التقديرات.

تأثير القوة الداخلية في شخصيته

لم يكن المحدد الأول في أداء الخديو عباس حلمي إذاً هو القوى الخارجية وإنما كان في كثير من الأحيان يصدر عن  القوة الداخلية بدءا من شخصيته هو نفسه،  فقد تولى الحكم في الثامنة عشرة (مثله في هذا كمثل الملك فاروق) مع اختلاف الظروف إذ لم تكن هناك حياة دستورية مكتملة ولا حياة حزبية فاعلة ، ولا زعامة متوجة للأمة وللأغلبية وللأقلية أيضا ، و هكذا كانت الأمور في ظاهرها سهلة على هذا الحاكم الشاب لكنها كانت في الوقت ذاته تفتقد للدعامات القوية التي يخلقها وجود السياسة المحليين، وقد ضاعف من قوته “القلقة” أن طموحه الشديد كان كفيلا بأن يزيد من قلقه وأن يجدد إقلاقه في كل حين .

تحرره النسبي من الدولة العميقة

تحرر الخديو عباس إلى حد كبير ،وليس إلى حد مطلق ، من قسوة أجهزة الدولة العميقة متمثلة فيمن كانوا يتتبعون الأخبار ويرصدون التحركات والأفكار، وكان هؤلاء يسمون اصطلاحا بالجورنالجية [قبل أن يحاول بعض الصحفيين  قصر استخدام اللقب على أنفسهم من قبيل التعريب المباشر] ، وعلى الرغم من أن الخديو نفسه كان يتطور أو حتى يندفع  بأمور العلاقات مع الأشخاص إلى ما يشبه الخصومة فإنه كان يضع سقفا لما يمكن أن تؤدي إليه الخصومة ، والدليل على هذا أن كل من كانوا يريدون التحرر من جو السيطرة المفروض في اسطنبول أو إيران أو الجزيرة العربية أو بلاد الشام أو الاناضول كانوا يأتون إلى القاهرة، ولم يقتصر هذا على من كانوا قادرين على أن يمارسوا نشاطاً تجاريا أو يمارسوا ما نسميه الآن نشاط رجال الأعمال، وإنما كان أهل الفكر أنفسهم يفدون إلى القاهرة ليمارسوا التنفس الذي لا بد منه لأهل الفكر، وقد كانت القاهرة بطبعها قادرة على استيعاب هذه الجماعات التي تريد أن تتنفس أو تتنهد ، أو أن تتكلم وتحاور ،أو أن تُسمٍع أو تُسمَع ، وقد انضم لهذه الجماعات بعض المصريين الذين كانوا منفيين في عهد والده الخديو توفيق، فعادوا في عهده سواء صدر العفو عنهم من الخديو عباس (أو من الملكة فكتوريا كما تحب بعض المصادر أن تثبت سبب العفو ومصدره) وسواء في ذلك انقضاء أجل النفي أو انقضاء مبرراته بعد تثبيت الاحتلال البريطاني لأقدامه في مصر.

إثباته لشهادة لورد كرومر  والمؤرحين في حقه

لسنا بحاجة إلى القول بان الخديو عباس حلمي كان حفيا بأن يصف عصره بأنه كان عصر كفاح في كفاح و إنه تصرف بالوسائل الضعيفة التي اتيحت له ضد ظلم  لورد كرومر  ، ومن أجل كرامة مصر ومن أجل سيادتها وللحصول على استقلالها، ولهذا السبب فإنه  حرص على أن  يذكر أن لورد كرومر نفسه لم ينكر قيمته في كفاحه ضده :  “…….فقد اعترف لي بكل المبادرات، وكل تحسينات كنت قد اقترحتها في صالح مصر، والتي نسبها لي بكل بساطة! واعترف المؤلفون الذين قرأت لهم حتى اليوم، بالصفات والمواهب التي جعلتني جديراً بهذا المكان. ولم ينكروا على ، ورغم تفسير غير متعمق لأفكاري وأفعالي ، بأن مطالب واجباتي كحاكم، وكمواطن مصري، كانت دائماً أمام عيني، وأن فهمي الكامل لها قد وجد خطواتي عبر صعوبات الاحتلال الذي وقع، والذي لم يمكن القبول به أبداً.

فخره بأنه استطاع تكوين جهاز مخابرات خاص به

ومن الطريف الذي يتناسب مع ما نعرفه عن ترك الخديو عباس نفسه أحيانا على سجيتها فيما يتعلق بأفعاله وتوجهاته ، أنه لم يجد حرجاً في أن يعترف بأنه أنشأ لنفسه نظاماً مخابراتيا خاصاً به، ومع أن هذا الجهاز كان متواضعاً ولا يكاد يُذكر إذا ما قورن بأية مخابرات لاحقة فإنه كان يظنه إنجازاً ، وهو يعبر عن هذا ا فيقول :  “ولما كانت الوسائل حولي صالحة للتجسس علي، وجدت أنني بدوري، يحق لي أن ألجأ إلى استخدام وسائل خصومي لكي أفلت من حبائلهم: فأصبحت لي «مخابرات» في كل مكان، في المدارس، وفى الوحدات العسكرية، وحتى في منزل السردار.

كانت الوطنية مرتبطة بالدين

ويعترف الخديو عباس بما لم يعترف به غيره من أنه كان يستند الى قوة الدين و الى اعتبار الوطنية جهادا : ” ……. وخدمني في ذلك، وبشكل يثير الإعجاب، عدد من الشباب، المخلص لبلاده وأميره، والذين كان نشاطهم وتطوعهم نابعا من اعتقاد عميق بأنهم يقومون بعمل ديني .. وفى هذه الفترة، كان الدين لا يزال قادرا على إثارة حماس الرجال، ويشحذ هممهم، وكان عامة الشعب لا يزالون يجهلون معنى الوطن، وربما رجع ذلك إلى أن من كان يسير أموره لم يكن يخدمه”.

حياته في المنفى

لسنا نعرف على وجه اليقين كثيراً من المعلومات عن معيشة الخديو في المنفى، ولم يشأ هو أن يجعل هذه الفترة من عهده محلاً للحديث عنها في مذكراته فقد اختار أن تكون المذكرات عن عهده في الحكم فحسب، ونحن نظن أن ثراء الثلاثين عاماً التي عاشها في المنفى بالأحداث لم يكن يقل عن ثراء الأعوام الثلاثة والعشرين التي قضاها في الحكم، ومع هذا فإننا نستطيع أن نلمح من تاريخ حياة ابنه الأمير محمد عبد المنعم بعضاً مما يصور ملامح حياة الأسرة في المنفى.

مقبرته

دفن الخديو عباس حلمي في مقابر والده الخديو توفيق الواقعة الآن على طريق الأوتوستراد.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com