الرئيسية / المكتبة الصحفية / الأستاذ الشيخ سيد المرصفي الذي جعل ألأدب علما من العلوم

الأستاذ الشيخ سيد المرصفي الذي جعل ألأدب علما من العلوم

ليس من المبالغة أن نقول إن التاريخ الاحترافي (أو المهني) لمؤرخي الأدب أو تاريخ أستاذية الأدب أو تاريخ أستاذية تاريخ الأدب، يبدأ بالأستاذ الشيخ سيد علي المرصفي (1857 ـ 1931)، وهو من باب التصوير الشعبي المجازي المحبب لنفوس الأكاديميين: أستاذ ابن أستاذ، لكنه من حيث النسب ليس كذلك، وإن كان الدكتور محمد رجب البيومي قد أثبت أنه امتداد لابن بلده الشيخ حسين المرصفي الكبير (١٨١٠ – ١٨٨٩) صاحب كتاب الوسيلة الأدبية.

أستاذ الجيل الذي تحقق فيه معنى اللقب

والشيخ سيد علي المرصفي هو أستاذ الجيل الذي تحقق فيه معنى هذا اللقب قبل الأستاذ أحمد لطفي السيد، فإذا كان الأستاذ أحمد لطفي السيد أستاذ الوجاهة في المجتمعات الثقاقية ؛ فإن الأستاذ سيد المرصفي هو أستاذ الوجاهة في معاهد العلم لأنه كان الأستاذ الأكاديمي المعلم الموجه المهذب الدال على الصواب، وعلى المنهج، وعلى مصادر العلم ومصادر النقد ومصادر التصحيح.

كان وجوده، مجرد الوجود في حد ذاته، في صحن الجامع الأزهر أو في حرم تلك الجامعة المصرية الوحيدة المتاحة في الأزهر وما حوله، هو السبب الرئيسي وربما الوحيد في إقبال الأزهريين أو أساتذة المستقبل على الأدب وعلى دراسته، وفي تفضيل كثير من هؤلاء للاستماع إلى دروس الأدب لا على دروس العلوم الأخرى فحسب، ولكن على دراسة العلوم الأخرى؛ لأنهم كانوا يرون في دراسة ما يحاضر فيه الأستاذ المرصفي حياة حية تغريهم بالاضطراب فيها يوما بعد يوم، وتغريهم أيضًا بالتفرغ لها بعد ذلك.

وعلى هذا النحو نفهم غرام طه حسين وأحمد حسن الزيات وغيرهما بالأدب، نفهمه كرد فعل عميق لهذا الشعور الأخاذ الذي كان لا يفتأ يقتنصهم وهم يعودون من طريقهم إلى سيد المرصفي، ويجتذبهم وهم يذهبون إليه، ويتملكهم  مرة أخرى وهم يعودون إلى هذا الطريق مرة بعد أخرى وقد أحبوا أن يعودوا إليه مرة بعد أخرى.

وقد قلنا في مقدمة كتابنا هذا إنه أول من أهل الأدب ليكون علما دراسيا بالفعل بعدما دعا الأستاذ الشيخ محمد عبده الى هذا بالفكر والقدوة وضرب القدوة وقدم ما يسمى في العلم بالعينة. وقلنا أيضا في المقدمة إن الأستاذ المرصفي هو أول من عاش المعنى الذي يدل عليه لقب أستاذ الجيل، ولا تتعارض أستاذيته مع أستاذية أحمد لطفي السيد، ذلك أن أستاذية المرصفي أستاذية تكوين، وأستاذية لطفي السيد أستاذية تلميع، كما أن أستاذية المرصفي أوسع ميدانا، وأبلغ أثرا، وقد كانت أستاذية فارضة لنفسها وطبعها وتوجهاتها إلى حد عميق.

نشأته

ولد الشيخ سيد علي المرصفي عام 1857، أي أنه يكبر الزعيم سعد زغلول بعامين على أرجح الأقوال في مولد كل منهما، وجعل حياته كلها للعلم على طريقة العلماء المتصوفين المتفرغين الزاهدين الذين يغرهم العلم بالعلم ويغريهم به.

ولد هذا الأستاذ، واسمه بالكامل سيد بن علي بن حسن المرصفي، في درب الركراكي بشارع باب البحر بالقاهرة سنة 1857، وتلقي تعليما دينيا والتحق بالأزهر الشريف، ودرس على عدد من كبار علماء عصره ولما أجازه أساتذته العلماء عين بمدرسة والدة عباس، ثم مصححا بدار الكتب المصرية، ثم عاد للعمل مدرسا للغة بالأزهر الشريف، ومدرسة بولاق، وظل طيلة حياته منشغلا بالأستاذية بمعناها الواسع والمثالي معا.

وفي أثناء عمله بالتدريس بالأزهر لعب دورا رائدا ومتصلا في إعادة  الاهتمام بالدراسات الأدبية الي مكانتها المرموقة في  مناهج التعليم الازهرية ، وإلي بؤرة اهتمام الطلاب حتي أصبح  الأدب من الدراسات الأكاديمية، ومن مكونات مؤسسات التعليم الوطنية، وذلك بفضل ارتقائه بأداء واجب هذه الأستاذية علي مدي سنوات طويلة، وهو أداء تميز كما وصفناه في مقدمة هذا الكتاب بالاقتدار والاصطبار والإثمار، وجمع هذه العوامل معا في سلاسة ويسر، وقد تمكن من صبغ الدراسات الأدبية في الأزهر (ومن ثم المؤسسات التي تلته) بأسلوبه القادر علي النقد والتحقيق، وعلي الصياغة والتعبير، وعلي معاملة التراث بندية وحب وذكاء، وهكذا ضرب بسهم وافر في جذب النابهين إلي ميدان الدراسات الأدبية، وفي رفع شأن هذه الدراسات الى جوار العلوم الشرعية التي كانت تستحوذ علي صورة الأزهر في عيون المجتمع.

تأثيره العميق غير المسبوق

كان تأثير سيد المرصفي في تلاميذه أسطوريا، إذ كان صاحب فضل في الأخذ بيد تلاميذه إلي مواطن الجمال في التراث العربي، والدفع بهم إلي مدارج الارتقاء الفكري من خلال الفحص والنقد والتمحيص والتمثيل والإفادة.

 وقد  تمكن سيد المرصفي بدأبه أن يحول تلاميذه  إلي ما أصبحوا عليه بالفعل: بناة نهضة فكرية وتربوية وصحفية من دون أن يفقدوا قدراتهم الأولي، ولا انتماءاتهم الأصلية، وهكذا فإنه  كما نقول دائما كان أستاذ الجيل الحقيقي في جيله ، ولعل تعداد أسماء بعض تلاميذه يعطينا فكرة عن أستاذيته التي أظلت كلا من: مصطفي لطفي المنفلوطي، وأحمد حسن الزيات، وطه حسين، وعبد العزيز البشري، وعلي عبد الرازق، وزكي مبارك، ومحمود حسن زناتي، وأحمد محمد شاكر، وحسن السندوبي، ومحمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد الههياوي، وعبد الرحمن البرقوقي، ومحمد إبراهيم هلال، ومن الشعراء المجيدين: علي الجارم ، وأحمد الزين، وحسن القاياتي، ، ومحمود رمزي نظيم، وأحمد شفيع السيد، ومن تلاميذه أيضا الشيخ محمد الخانجي البوسنوي، وزكي مجاهد صاحب كتاب الأعلام الشرقية، والشيخ محمود العشماوي شيخ البيومية، والشيخ أحمد إبراهيم شاهين السناري، والشيخ سعيد الطيب الجزائري.

بيته امتداد للازهر

كان بيت الشيخ المرصفي نفسه امتدادا للجامع الأزهر من حيث كان الأزهر جامعة وحيدة، وكان تلاميذه يتبعونه إلي بيته فينعمون بالاستماع إليه، أو بمواصلة الاستماع إليه، ويفيدون من مكتبته وتعليقاته، وقد عاش حياته أستاذا في الأزهر إلي أن أدركته الشيخوخة وكسرت ساقه فاضطر إلي البقاء في بيته، وهكذا تحول بيته تلقائياً إلي امتداد للأزهر تعقد فيه حلقات الدرس، وظل كذلك إلي أن توفي.

تحقيق الدكتور البيومي لمرحلة تكوينه العلمي

إلي الدكتور محمد رجب البيومي يعود الفضل في وصف طبيعة الحلقة الأولى  من سيرة الحياة العلمية للأستاذ سيد المرصفي ، فقد تواترت أقوال المراجع علي أنه روى أنه كان تلميذا للسيد عبد الهادي الإبياري، لكن الدكتور البيومي رأي استحالة هذا بسبب اختلاف ذوق الرجلين (وإن كنت لا أري هذا عاملا حاسما تماما فكم رأيت في الطب من أساتذة بنوا مجدهم على مناقضة أساليب أساتذتهم)، وقد ذهب الدكتور البيومي إلي أن الأستاذ المرصفي الأول (أي الشيخ حسين المرصفي صاحب “الوسيلة الأدبية المتوفي 1889) هو أستاذ المرصفي الثاني (أي سيد بن علي المرصفي)

فخر الدكتور زكي مبارك بصحبته للمرصفي

يقول الدكتور زكي مبارك:

“صحبت الأستاذ سيد المرصفي ستة أعوام، فتلقيت عليه شرح الحماسة، وشرح الكامل، وشرح الأمالي، وكان في ذلك العهد أعلم الناس بأسرار العربية، وكنت أكتب كل ما ينطق به من جد وهزل، حتى جمعت ثلاثين كراسة، هي اليوم أنفس ما أملك من ذكريات الأزهر الشريف”،

“لقد فكرت كثيرا في الظروف التي كونت الشيخ سيد، ثم انتهيت إلى أنه فضل الله يؤتيه من يشاء”.

اعتزاز الأستاذ محمود شاكر بما تلقاه عنه من العلم

يقول الأستاذ محمود شاكر:

“ثم الفضل الأكبر للرجل الثاني، فقد كان شيخي وأستاذي الذي علمني العربية، وهو الشيخ سيد بن علي المرصفي، مات منذ دهر طويل، أكثر من خمسة وخمسين سنة، كان عالما لا يُبارَى، وكان في حالة فقر شديد في أول أمره، وهو عالم من علماء الأزهر، وكرهه الأزهريون لأنه كان لا يدرس إلا الأدب، كتاب الكامل للمبرد، والحماسة لأبي تمام، فأغفلوه إلى أن جاء والدي وكيلا للأزهر، وكان يعرف فضل الشيخ المرصفي، فبحث عنه.

مارواه الشيخ محمد شاكر لابنه محمود عنه

” وأقص عليكم قصته كما رواها والدي: في غرفة أو غرفتين في حواري الأزهر العتيقة، عرف بيته وذهب إليه، فوجده جالسا وحوله الكتب، ومحيطاً نفسه بدائرة من العسل حتى لا يزحف البق إليه، فعينه والدي مدرسا للأدب. وأنا أدركت الشيخ عندما كنت طالبا في المدارس الثانوية وصاحبته، وهو الذي علمني العربية، وقرأت عليه كتاب “الكامل” للمبرد، و”الحماسة” لأبي تمام، وفصولا من “أمالي” أبي علي القالي.

“هذا الرجل اشتغل أول أمره مصححاً في دار الكتب، وقد نشر كتاباً واحداً وهو الجزء الأول من كتاب “الخصائص” لابن جني، وهي الطبعة الأولى، قبل أن يطبعه كاملا الشيخ النجار في ثلاثة أجزاء، فهذا الرجل بقي في دار الكتب سنين يشتغل مصححا”

كان يحتفظ لنفسه ببعض أسرار العلم

” وكانت له خبرة بجميع كتب الأدب التي كانت في دار الكتب، وكان أيضا لا يحب البوح بعلمه، أشياء معينة لا يخبر أحداً بها، مما قرأته عليه في شرح كتاب الكامل أنه رجع إلى مخطوطة في دار الكتب من ديوان ابن مقبل، لما توفي الشيخ، بحثت عن هذه النسخة في دار الكتب فلم أهتد إليها إلى هذا اليوم”.

مشاركته في الثورة العرابية

بقي أن نشير إلى التوجه السياسي للشيخ المرصفي، ومن الجدير بالذكر أنه كان مؤيدا للزعيم أحمد عرابي وشارك في الثورة العرابية مؤازرا واعتقل مع من اعتقلوا.

قصيدته المرصفية في مدح عرابي باشا

ألف الشيخ المرصفي القصيدة المرصفية في مديح ذلك الزعيم الوطني، وقد طبعت هذه القصيدة في مطبعة بولاق (1882)، وفيها يقول الشيخ المرصفي:

 

يا آل مصر تنبهوا فمن الذي            

 

يرضي بذل في الخليفة أنكد

يا آل مصر علمتمو ما حل فيً

 

هند وتونس من بلاد سرمد

هذا وللمولي الكريم نمد أيد

 

ينا لنصر جيوشنا بتأيد

 

تجدر الإشارة إلي أن احتلال تونس تم في عام 1881 في العام السابق علي احتلال مصر (1882)، وهو ما كان المرصفي واعيا له.

قصيدته في مدح الشيخ الشربيني

كان الشيخ المرصفي منذ مرحلة طلبه للعلم محبا للشيخ الشربيني الذي صار بعد ذلك شيخا للأزهر، و لم يكن يجد حرجا في الجمع بين حب ذلك الشيخ وكونه من أتباع الشيخ محمد عبده، وقد أنشد بين يديه قصيدته في تحيته التي يقول فيها:

 

ملاك العلا في غرة ملكت يدي

 

أمن شأن مثلي في العزازة أن يدي

أبت عزمتي أن آخذ الحمد هينا

 

بغير سنان أو لسان محدد

فلما انتهى من قصيدته قال الشيخ الشربيني: “علقوها فوق رأسي”، فسميت ثامنة المعلقات منذ ذلك الحين، وقد لاحظنا أن بعض المصادر تخطئ فتذكر أنه أنشد هذه القصيدة في الشيخ الإنبابي.

حصوله على العالمية من الدرجة الأولى

تقدم الشيخ المرصفي لامتحان العالمية فحصل عليها من الدرجة الأولى الممتازة في شعبان 1310 هجرية (فبراير ١٨٩٣) .

رواية الأستاذ شاكر عن تخليه عن وظيفته

” … واشتغل بتدريس العربية في مدرسة عباس باشا الابتدائية، فعتب عليه شيخ الأزهر الإمام الإنبابي أن يحرم الأزهر فضله وعلمه، فشكا من أن مرتبات الأزهر لا تكفيه، فتفضل الشيخ الإنبابي ومنحه مرتب التدريس بالأزهر على أن يلقي درسا في جامع الزاهد بجهة باب البحر، بين المغرب والعشاء، فيجمع بينه وبين التدريس بمدرسة عباس باشا الابتدائية، فكان يؤم درسه الأدباء والفضلاء”.

” وحين كان مدرسا بهذه المدرسة تأخر قليلا عن الموعد المقرر، فاستدعاه الناظر، فكان جوابه تقديم الاستقالة، ومما أثر عنه أنه كان يقول: “ذهبنا إلى المدارس فوجدناها نظاما بلا علم، وجئنا للأزهر فوجدناه علما بلا نظام، فآثر العلم واشتغل بالتدريس في الأزهر”.

حبه للمبرد وإحياؤه لكتابه  

كان الشيخ سيد المرصفي محبا للمبرد، وقد اشتهر كتابه أو موسوعة رغبة الآمل من كتاب الكامل (ثمانية اجزاء).. إلي حدود قصوى، لكن حبه للمبرد العظيم لم يمنعه من نقده وتصويب رواياته ومقالاته في إخلاص ودأب وتجرد.

وقد أشار الشيخ سيد المرصفي نفسه في مقدمة الجزء الأول من شرحه الكبير للمبرد إلى أنه لم يجعل من كتابه رغبة الآمل شرحا تفسيريا لنصوص الكامل فقط، بل اهتم ببيان ما اختار أن يصفه بقوله: ” حاد فيه أبو العباس المبرد عن سنن الصواب من خطأ في الرواية، وخطر في الدراية، إذ كان المبرد يعتد كثيرا في لفظه علي جودة حفظه، فربما نزع في غير منزع عن القصد سهمه، أو صعد في الأدب مرتقي زلت به إلي الحضيض قدمه”.

تصويبه لبعض آراء  المبرد متأثرا بحماس الأزهريين في تفنيد الخطأ

هكذا  تناول الأستاذ المرصفي كتاب الكامل للمبرد متأثرا بحماس الأزهريين في تفنيد الخطأ،  ومع هذا الذي يبدو وكأنه نوع من تعالي المرصفي علي المبرد ، وهو سلوك أزهري معهود يبرره في رأينا حماسهم  المتدفق للعلم والحق ، فإن المرصفي هو صاحب الفضل في اعتماد كتاب “الكامل” للمبرد، ليكون محورا للدراسات الأدبية في عصره وما بعد عصره، وقد أخذ علي عاتقه أن يحقق هذا الكتاب ويقدمه لتلاميذه، فكان الكامل بين يديه : يتم قصائده، ويشرح الألفاظ الصعبة فيه ، ويتعرض لنسبة الأبيات، ويترجم لصاحب الأثر الذي استشهد المبرد بنصوصه ، ويشرح ما تركه المبرد دون إيضاح.

حبه لكتاب الأمالي لأبي علي القالي

وكذلك فعل الشيخ سيد المرصفي مع كتاب “الأمالي” لأبي على القالي، حيث ناقش لغوياته، وعارض نصوصها المختلفة، وبحث في المخطوطات المتآكلة عما غاب من القصائد، ليكمل ما نقص.

أسرار الحماسة

أما كتاب أسرار الحماسة فقد خصص الجزء الأول منه لشرح ديوان الحماسة لأبي تمام بالأسلوب المشهور له في الشرح والتعليق.

العقد الفريد لابن عبد ربه

وقد امتد منهج الشيخ سيد المرصفي بأسلوب هذه الدراسة المتأنية أيضا إلى كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه.

أراجيز رؤبة والعجاج

 وامتد منهج الشيخ سيد المرصفي أيضا إلى مقاربة أراجيز رؤبة على الرغم مما تحفل به من غرائب الألفاظ الوعرة.

حديثه عن منهجه

لخص الشيخ سيد المرصفي نفسه منهجه في الدراسات الأدبية مقارنا هذا المنهج بمنهج أسلافه وزملائه فقال في مقدمة كتابه أسرار الحماسة:

“… وقد رأيت نفوس القوم مصروفة إلي تحقيق المسائل العلمية، والمباحث العقلية، والعليم عندهم مَنْ نظر إلي الاستدلال، وأكثر طرق الاحتمال، وولّد ما لا يولد، وأوجد من الأفهام ما لا يوجد، ولو علموا، هداهم الله، ما علمناه من خصائص اللغة وأساليبها، وما أودعت من لطائف الأسرار في تراكيبها، لهجروا تلك الكتب ذوات التنافر والتعقيد، وغنموا لغة القرآن المجيد، والحديث الحميد”.

وصف الدكتور البيومي لأستاذيته

سبقنا الدكتور محمد رجب البيومي إلي وصف طبيعة أستاذية الشيخ سيد المرصفي وصفا دقيقا فقال:

” استطاع سيد بن علي أن يعيد إلي القاهرة في مطلع هذا القرن مجالس بغداد في أسطع عصورها الزاهية، فكنت تتخيله وقد عكف وحده بين زملائه الشيوخ علي دراسة الأدب واللغة إماما كبيرا من صدور السلف، كأبي عمر، وأبي عبيدة، والأصمعي، والخليل، والمبرد، فهو يروي الشعر الجزل، ويناقش التركيب الناشز، ويعالج اللفظ الغريب، ويرد النسبة المخطئة إلي وضعها الصحيح، ويناقش بعض ما اتفق عليه من قواعد اللغة والتصريف في ثقة خارقة، وعن بصر نفاذ، ولعله كان أشبه أسلافه بأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، فقد كانا يؤثران أدب العصر الجاهلي ويفضلانه، وكذلك كان المرصفي بهذا الأدب ولع شغوف” .

موسوعيته وإحاطته بدقائق العلوم

“كان الأستاذ المرصفي، قبل هذا و بعد هذا، عالما موسوعيا قادرا على الإلمام بدقائق علوم الشريعة والأصول، والنحو والصرف، ويكشف شرحه للمبرد عن كل هذا، إذ ترينا نصوصه كيف كان يناقش نصوص سيبويه، وابن جنّي، والخليل حتي لو كانت هذه النصوص تتناول أدق التفصيلات من قواعد النحو والصرف، وكان يقوم بهذا الجهد بأسلوب الند للند دون وجل، أو اعتماد علي ما هو موجود من نصوص الأقدمين”.

ثناء الشيخ عبد العزيز البشري

وقد وصف الشيخ عبد العزيز البشري حال الدراسات الأدبية قبل الأستاذ المرصفي فقال:

“.. والأدب في ذلك الوقت أن تقول شعرا مقفي موزونا، فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك أوزان الشعر، فحسبك أن يكون المصراع في طول المصراع، علي شرط أن تتغزل، فتتغزل كلما طلبت مديحا أو رثاء أو هجاء، وكان الأدب يحمد من (المجاور) عند أشياخه، إلا أن يسرف فيه، ويجرد له صدرا من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك منه، لأنه في الواقع يشغله بقدر ما عن توفير الذهن علي الدرس والاستذكار، ويرون هذا منه آية علي (عدم الفتوح)، وحسبه في العام قصيدة يمدح بها شيخه يوم يختم الكتاب، وقصيدة أو اثنتين يرثي بهما مَنْ يموت من علية العلماء، فإذا أمكن الأستاذ المرصفي في هذا الوسط أن يجعل مؤلفات المبرد، وأبي علي، وأبي تمام، وابن عبد ربه تجد مكانها بين حواشي الإسنوي والصبان والباجوري والسيوطي والعطار، فذلك فضل كبير” .

ثناء الدكتور طه حسين عليه في كتابه عن المعري  

لا أظن أن أحدا قد حفل بثناء الدكتور طه حسين واعترافه بأستاذيته مثل الأستاذ المرصفي، حتى إنه يقول في كتابه تجديد ذكري أبي العلاء:

“.. أستاذنا الجليل سيد بن علي المرصفي أصح مَنْ عرفت بمصر فقها في اللغة، وأسلمهم ذوقا في النقد، وأصدقهم رأيا في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر، ولاسيما شعر الجاهلية وصدر الإسلام.

” كان يدرس الأدب في الأزهر الشريف، وبدأت أختلف إليه، ولما أعدُ السادسة عشرة فلزمته أربع سنين، ما أذكر أني انقطعت عن درسه، أو تخلفت عن مجلسه، ولم يقف الأمر بيني وبينه على ما يكون بين الأستاذ والتلميذ من صلة، بل نشأ بيننا نوع من المحبة يشوبها في نفسي الإجلال والإكبار، وفي نفسه العطف والحنان، وتبعث كلينا على أن يتعصب لصاحبه، ويناضل عنه، على نحو ما يكون بين الأبناء البررة، والآباء المثقفين”.

“سعدت بهذا الحب قديما، وسأظل سعيدا به طول الدهر، لأنه صادف قلبي في غضارة الطفولة، ونضارة الصبا، ولأنه حب مصدره العلم، لم تفسد عنصره المادة، ولم تكدر جوهره مآثم هذه الحياة”.

“حب الأستاذ ودرسه قد أثرا في نفسي تأثيرا شديدا، فصاغاها علي مثاله، وكونا لها في الأدب والنقد ذوقا علي مثال ذوقه” .

حديث الدكتور طه حسين عنه في كتابه الادب الجاهلى

وقد تحدث الدكتور طه حسين بحب أشد عن المرصفي في كتابه الادب الجاهلي فيقول:

” .. ومذهب القدماء ما كان يمثله الأستاذ الشيخ سيد المرصفي حين كان يفسر لتلاميذه في الأزهر ديون الحماسة لأبي تمام، أو كتاب الكامل للمبرد، أو كتاب الأمالي لأبي على القالي، ينحو في هذا التفسير مذهب اللغويين النقاد، من قدماء المسلمين بالبصرة والكوفة وبغداد، مع ميل شديد عن النحو والصرف، وما ألف الأزهريون من علوم البلاغة.

مديح الأستاذ أحمد حسن الزيات له  

أما حديث الأستاذ أحمد حسن الزيات عنه فلا يقل امتنانا لأستاذية الشيخ المرصفي عن أحاديث طه حسين، في مديحه ومديح أسلوبه في الأستاذية، ومن ذلك قوله:

” كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم: على غرار الحماسة، وفي النثر على غرار الكامل، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبرا كأبي عبيدة.

إعجاب الأستاذ محمود شاكر بإلقائه للشعر

عبر الأستاذ محمود محمد شاكر عن إعجابه بطريقة المرصفي في إلقاء الشعر، وما كانت هذه الطريقة تيسر به تمثل الشعر وفهمه، حيث قال:

“كان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرأه، فيقف حين ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرأه فهمته، على ما فيه من غريب، أو غموض، أو تقديم، أو تأخير، أو اعتراض فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلي شرح أو توقيف، وكان في صوت الشيخ معني عجيب من الثقة والاقتدار، وفي نبراته حين ينشد الشعر معني الفهم الذي يتلوه عليك، فلا تكاد تخطئ المعاني التي ينطوي عليها، لأنها عندئذ ممثلة لك في صوته”.

رأي الدكتور محمد كامل الفقي

رصد الدكتور محمد كامل الفقي أثر الشيخ المرصفي في التعليم والثقافة في كتابه ” الأزهر وأثره في النهضة الأدبية” فقال:

“كان المرصفي  يعقد درسه في الرواق العباسي، وقد حدثنا أحد تلامذته الخلصاء الأدباء “هو العالم المحقق الأديب الفذ الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد” أن حلقة درسه كانت مهرجانا يضم الأدباء والشعراء على اختلاف بيئاتهم وألوانهم، فلم تكن مقصورة على الأزهريين فحسب، بل كانت ندوة يؤمها عشاق الأدب دميعاً، وكان يقيم بجهة باب الفتوح على مقربة من الأزهر، وبلغت الصلة بينه وبين تلامذته وعشاقه حداً غريبا، فهم لا يقنعون بما انتفعوا به في دروسهم، ولكنهم يصحبونه إلى منزله، فلا يزالون في حديث أدبي موصول، ودراسة طريفة ممتعة، ويشق عليهم أن يدعوا لأستاذهم فرصة ينفرد بها”.

اختياره عضوا في جماعة كبار العلماء

اختير الشيخ سيد المرصفي عضوا في جماعة كبار العلماء، في 7 ربيع الأول سنة 1343 هجرية، (أكتوبر 1924) متوجا حياة مثمرة بالأستاذية، وكان من حظه أنه عاش حتى رأى تلاميذه في قمة المجتمع الثقافي والعلمي في مصر.

صورته البديعة  كما رسمها كتابه الأيام

كان من عوامل تفوق كتاب “الأيام” أن الدكتور طه حسين رسم فيه بدأب واقتدار عددا من الشخصيات التي أثرت في حياته وشخصيته وصنع مجده، وكان في مقدمة هؤلاء أستاذاه سيد المرصفي وعبد العزيز جاويش وقد صورهما شخصيتين حيتين فاعلتين مضطربتين بالرضا والسخط، والفعل والانفعال، والمبادرة والتوجيه، ومن وجهة النظر الفنية، في المقام الأول، فقد تفوق طه حسين في رسمه لهاتين الشخصيتين على رسمه البروتوكولي الممتن والمعجب لشخصيات من قبيل عبد الخالق ثروت باشا أو الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا.

تصوير طه حسين لإقبالهم على دروسه

“وفي ذات يوم من أول العام الدراسي أقبل أولئك الشباب متحمِّسين أشدَّ التحمُّس لدرسٍ جديدٍ يُلقى في الضحى، ويُلقى في الرواق العباسي، ويلقيه الشيخ سيد المرصفي في الأدب، (يقصد دروسه عن ديوان الحماسة) وكانوا قد فُتنوا بهذا الدرس حين سمعوه فلم يعودوا إلى غرفاتهم حتى اشتروا هذا الديوان، وأزمعوا أن يحضروا الدرس وأن يُعنوا به وأن يحفظوا الديوان نفسَه، وأسرع أخو الصبيِّ كعادته دائمًا، فاشترى شرح التبريزي لديوان الحماسة وجلَّده تجليدًا ظريفًا، وزيَّن به دولابه ذاك، وإن كان قد نظر فيه بين حين وحين. وقد جعل أخو الصبي يحفظ ديوان الحماسة ويُحفِّظه لأخيه، وربما قرأ عليه شيئًا من شرح التبريزي، وكان يقرؤه على نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والأصول، ويَتَفَهَّمُه على نحو ما يَتَفَهَّمُ هذه الكتب”.

“وكان الصبي يحس أن هذا الكتاب لا ينبغي أن يُقرأ على هذا النحو ولا أن يفهم على هذا النحو. كان الشيخ الفتى وأصحابه يرون ديوان الحماسة متنًا، و كتاب التبريزي شرحًا، وكانوا يأسفون على أن أحدًا لم يكتب على هذا الشرح حاشية. وكانوا كثيرًا ما يقصُّون حديث الشيخ إليهم وعبثه بهم وتندُّره على أساتذتهم وعلى كتبهم الأزهرية. يقصون ذلك ضاحكين منه معجبين به، ماضين على الرغم منه في درسهم الأزهري لا يفترون عنه ولا يُقصرون فيه.

تكاسل الطلاب العاديين عن حضور دروس الشيخ

“وكان صاحبنا يسمع أحاديثهم، فيبتهج لهم أشد الابتهاج، ويشتاق إلى هذا الدرس أشد الشوق. ولكن أولئك الشباب لم يلبثوا أن أعرضوا عن هذا الدرس كما أعرضوا عن غيره من دروس الأدب؛ لأنهم لم يَرَوْهُ جِدٍّا، ولأنه لم يكن من الدروس الأساسية في الأزهر، وإنما كان درسًا إضافيٍّا من هذه الدروس التي أنشأها الأستاذ الإمام، والتي كانت تسمى دروس العلوم الحديثة؛ وكانت منها الجغرافيا والحساب والأدب، ولأن الشيخ كان يسخر منهم فيسرف في السخرية، ويعبث بهم فيغلو في العبث”.

“ساء ظنه بهم، فرآهم غير مُستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج إلى الذوق ولا يحتمل الفنقلة، وساء ظنهم به، فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح ولا بارع فيه، وإنما هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال، ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شيء.

ما اشتهر عن حماية الأستاذ الإمام للشيخ المرصفي

“وكانوا مع ذلك حُرَّاصًا على أن يحضروا هذا الدرس؛ لأن الأستاذ الإمام كان يحميه، ولأن الشيخ كان مقربًا من الأستاذ الإمام، ينتهز كل فرصة لينشئ في مدحه قصيدة يرفعها إليه ثم يمليها على الطلاب، ويأخذ بعضهم بحفظها على أنها من جيد الشعر ورائعه، وكانوا يرونها جيدة رائعة؛ لأنها كانت في مدح الأستاذ الإمام.

” وقد بذلوا ما استطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس، ولكنهم لم يطيقوا عليه صبرًا، فانصرفوا عنه وعادوا إلى شايهم يستمتعون به في الضحى على مهل، وانقطع عن صاحبنا ذكر الأدب بعد أن حفظ من ديوان الحماسة جزءًا صالحًا “.

المحبة بين المرصفي وطه حسين بدأت مع تدريسه للنحو

” … أشيع ذات يوم أن الشيخ المرصفي سيخصص يومين من أيام الأسبوع لقراءة المفصل للزمخشري في النحو، فسعى صاحبنا إلى هذا الدرس الجديد. ولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى أحبه وكلف به، وحضر درس الأدب في أيامه من الأسبوع، ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت”.

“وكان الصبي قويَّ الذاكرة، فكان لا يسمع من الشيخ كلمةً إلا حفظها، ولا رأيًا إلا وعاه، ولا تفسيرًا إلا قيده في نفسه. وكثيرًا ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها أو إشارة إلى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من درسه، فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيَّد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشراحها، وتصحيحه لرواية أبي تمام، وإكماله للمقطوعات التي كان أبو تمام يرويها.

أول من صحب طه حسين إلى المقهى

“وإذا الشيخ يحب الفتى ويكلف به، ويوجه إليه الحديث في أثناء الدرس، ويدعوه إليه بعد الدرس فيصحبه إلى باب الأزهر، ثم يدعوه إلى أن يصحبه في بعض الطريق. وقد دعاه ذات يوم إلى أن يُبعدَ معه في السير، حتى انتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ آخرون إلى قهوة فجلسوا فيها، وكان هذا أول عهد الفتى بالقهوات. وقد طال المجلس منذ صُلِّيت الظهر حتى دعا المؤذن إلى صلاة العصر، وعاد الفتى سعيدًا مغتبطًا قوي الأمل شديد النشاط”.

حديثه نقد لاذع لبيئة الأزهريين

” ولم يكن للشيخ حديث إلى تلاميذه إذا تجاوز درس الأدب إلا الأزهر وشيوخه وسوء مناهج التعليم فيه. وكان الشيخ قاسيًا إذا طرق هذا الموضوع، وكان نقده لاذعًا وتشنيعه على أساتذته وزملائه أليمًا حقٍّا، ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوًى، وكان يؤثر في نفس هذا الفتى خاصة أبلغ تأثير وأعمقه.

الزملاء الثلاثة  في دروس الشيخ

” وإذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئًا فشيئًا، ويختص اثنين من التلاميذ المقربين إلى الشيخ بمودته ثم بوقته. وإذا هم يلتقون إذا كان الضحى فيسمعون للشيخ، ثم يذهبون إلى دار الكتب فيقرءون فيها الأدب القديم، ثم يعودون إلى الأزهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممر بين الإدارة والرواق العباسي، يتحدَّثون عن شيخهم وعمَّا قرءوا في دار الكتب، ويعبثون بشيوخهم الآخرين، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب. فإذا صُلِّيتِ المغرب دخلوا الرواق العباسي فسمعوا درس الشيخ بخيت (مفتي الديار في ذلك الحين) الذي كان يقرأ في تفسير القرآن مكان الأستاذ الإمام بعد أن توفي.

كيف  بث المرصفي الحرية في نفس طه حسين

” وما أعرف شيئًا يدفع النفوس، ولاسيما النفوس الناشئة، إلى الحرية والإسراف فيها أحيانًا كالأدب، وكالأدب الذي يُدرَّس على نحو ما كان الشيخ المرصفي يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم الحماسة  أو يفسر لهم الكامل  بعد ذلك؛ نقد حر للشاعر أولًا، وللراوي ثانيًا، وللشرح بعد ذلك، وللغويين على اختلافهم بعد أولئك وهؤلاء، ثم امتحان للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال في الشعر أو النثر، في المعنى جُملةً وتفصيلًا، وفي الوزن والقافية وفي مكان الكلمة بين أخواتها، ثم اختبار للذوق الحديث في هذه البيئة التي كان يلقى فيها الدرس، وموازنة بين غلظة الذوق الأزهري ورقة الذوق القديم، وبين كلال العقل الأزهري ونفاذ العقل القديم، وانتهاء من هذا كله إلى تحطيم القيود الأزهرية جملة، وإلى الثورة على الشيوخ في علمهم وذوقهم وفي سيرتهم وأحاديثهم بالحق في كثير من الأحيان، والإسراف والتجني في بعض الأحيان” .

كان له الفضل في أن أصبح لعصبة الثلاثة شأن

” ومن أجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه الذين كثروا أول الأمر إلا نفرٌ قليل، وامتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة، فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث أن بعد صوتها في الأزهر، وتسامع بها الطلاب والشيوخ، وتسامعوا خاصة بنقدها للأزهر وثورتها على التقاليد، وبما كانت تنظم من الشعر في هجاء الشيوخ والطلاب، وإذا هي بغيضة إلى الأزهريين مهيبة منهم في وقت واحد”.

رأي طه حسين في قيمة المرصفي كأديب

” ولم يكن الشيخ أستاذًا فحسب، ولكنه كان أديبًا أيضًا، ومعنى ذلك أنه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقي الناس أو جلس للتعليم في الأزهر، فإذا خلا إلى أصدقائه وخاصته عاش معهم عِيشة الأديب، فتحدَّث في حرية مطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع، وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم وسيرتهم ما يثبت أنهم كانوا أحرارًا مثله، يقولون في كل شيء وفي كل إنسان لا متنطعين ولا متحفظين، كما كان يقول”.

مثالية المرصفي

” وكان أيسر شيء وأهونه أن يذهب الطلاب مذهب شيخهم، ولا سيما إذا أحبوه وأكبروه، ورأوا فيه المثل الأعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل، والتعفف عما لا يليق بالعلماء، والترفع عما كان ينغمس فيه كثير من شيوخ الأزهر من ألوان السعاية والنميمة والكيد والتقرب إلى الرؤساء وأصحاب السلطان.

” كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك رأيَ العين ويلمسونه بأيديهم، ويعيشون معه، في حين كانوا يزورونه في منزله، ذلك المتهدم الخَرِب القديم في حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها: حارة الركراكي، هناك في أقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ، يسكن بيتًا قذرًا متهدمًا، تدخل فيه من بابه، فإذا أنت في ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة، قد خلا من كل شيء إلا هذه الدَّكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التي قد أسُندت إلى حائط يتساقط منه التراب.

صالون الشيخ المتواضع

“وكان الشيخ ينزل لتلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة، ولكنه يجلس راضيًا مطمئنٍّا، يسمع لهم باسمًا ويتحدَّث إليهم أرقَّ الحديث وأعذبه وأصفاه وأبرأه من التكلف، وربما كان مشغولًا حين يقبل تلاميذه لزيارته، فيدعوهم إلى غرفته، فيصعدون إليه في سلم متهدم، ويسلكون إليه دهليزًا خاليًا من كل شيء قد انتشر فيه ضوء الشمس، حتى إذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحنٍ قد جلس على الأرض، ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة يريد أن يتمها، أو بيت يريد أن يفسره، أو لفظ يريد أن يحققه، أو حديث يريد أن يصحح الرأي فيه، وعن يمينه أدوات القهوة.

روح المودة التي كان الشيخ يضفيها

“فإذا دخلوا عليه لم يقم لهم، وإنما تلقَّاهم مستبشرًا فرحًا، ثم دعاهم إلى الجلوس حيث يستطيعون، ودعا أحدهم إلى صنع القهوة وإدارتها عليه وعليهم، ثم تحدث إليهم لحظات، ثم دعاهم إلى أن يشاركوه فيما كان بسبيله من بحثٍ أو تحقيق.

” ولم ينسَ الفتى وأحد صديقيه أنهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر، فلما صعدا إليه لقيا شيخًا قد جلس على فراش متواضع ألُقي في هذا الدهليز، وإلى جانبه امرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض والشيخ يطعمها بيده، فلما رأى تلميذيه هش لهما، وأمرهما أن ينتظراه في غرفته شيئًا، ثم أقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكًا راضي النفس: كنت أعشِّي أمي.

كان يعيش المجد مع صعوبة أحواله المادية

“كان هذا الشيخ إذا خرج من داره اتخذ صورة الوقار والدعة، وأمن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير… وصورة الغنى واليسار”

” لا يحس من يتحدث إليه إلا رجلًا قد يُسِّرَّ عليه في الرزق، فهو يعيش عيشة أمن وهناءة وهدوء.  ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم أنه كان من أشد الناس فقرًا وأضيقهم يدًا، وأنه كان ينفق الأسبوع أو الأسابيع لا يطعم إلا خبز الجراية يغمسه في شيء من الِملح، وكان على ذلك يُعَلِّمُ ابنه تعليمًا ممتازًا، ويرعى غيرَه من أبنائه الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر رعاية حسنة، ويُدلِّل ابنتَه تدليلًا مؤثرًا،

طه حسين يفصّل القول في دخله المالي

” يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه. كان من أصحاب الدرجة الأولى، فكان يتقاضى جنيهًا ونصف جنيه لذلك، وكان الأستاذ الإمام قد كلفه درسَ الأدب فكان يتقاضى لذلك جنيهين، وكان يستحي أن يقبض راتبه أول الشهر، ويكره أن يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على المباشر ليتقاضوا منه رواتبهم، فكان يدفع خاتمه إلى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل في الضحى ويؤديه إليه بعد الظهر”.

الحياة البائسة الحرة الممتازة

” كذلك كان يعيش هذا الشيخ، وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه في حياته تلك البائسة الحرة الممتازة، وكانوا يرون ويسمعون من أمر شيوخ آخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظًا وحقدًا، ونفوسهم ازدراءً واحتقارًا، فأي غرابة في أن يُفتنوا بشيخهم ويتأثروه في سيرته وفي مذهبه وفي ازدرائه للأزهريين وثورته بما كان لهم من تقاليد! “

احتذاء نوابغ جيل طه حسين بالمرصفي

” اندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم إليه حبهم للشيخ وتأثرهم به، فأسرفوا على أنفسهم وعلى شيخهم أيضًا.  لم يكتفوا بهذا العبث الذي كانوا يعبثونه بالشيوخ والطلاب، ولكنهم جعلوا يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الأزهرية، يقرأون كتاب سيبويه أو كتاب المفصل في النحو، ويقرأون كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، ويقرءون دواوين الشعراء لا يتحرجون في اختيار هذه الدواوين ولا في الجهر بإنشاد ما كان فيها من شعر المجون أحيانًا في الأزهر. ويقلدون هذا الشعر، ويتناشدون ما ينشئون من ذلك إذا التقوا، والطلاب ينظرون إليهم شزرًا، ويتربصون بهم الدوائر، وينتهزون بهم الفرص”.

“وربما أقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويريدون أن يتعلموا منهم الشعر والأدب، فيغيظ ذلك نظراءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدةً عليهم وائتمارًا بهم”.

  كيف نصح طه حسين بعدم دخول الامتحان

“…. حتى إذا لم يبق بينه وبين شهود الامتحان إلا سواد الليل، وأقبل عليه شيخه المرصفي رحمه لله فأنبأه هذا النبأ العجيب الذي لم يحمله إليه في ضوء النهار، وإنما حمله إليه في ظلمة الليل، بعد أن صُلِّيت العشاء.  قال الشيخ: إذا أصبحت يا بُني فاستقلْ من الامتحان ولا تحضره من عامك هذا، فإن القوم يأتمرون بك ليسقِّطوك. قال الفتى: وما ذاك؟!  قال الشيخ: تعلم أني عضو في لجنة الامتحان التي ستحضر أمامها غدًا، والتي يرأسها الشيخ دسوقي العربي، فقد دُعِيَ رئيس اللجنة إلى الشيخ الأكبر وأمُر بإسقاطك مهما تكن الظروف.  قال الفتى: ولكني سأحضر أمام لجنة أخرى يرأسها الشيخ عبد الحكم عطا.  قال الشيخ: فإن هذه اللجنة لن تجتمع؛ لأن رئيسها أبَى أن يسمع للشيخ الأكبر حين أمره بإسقاطك، فلما ألحَّ الشيخ الأكبر عليه ألحَّ هو في الإباء، فلما خيره الشيخ الأكبر بين إسقاطك وبين ألا تجتمع لجنته، آثر ألا تجتمع اللجنة، وقال: إنما هو غداء وثلاثون قرشًا! وأبَى الفتى أن يستقيل على رغم إلحاح الشيخ المرصفي عليه في ذلك، ونام ليله هادئًا موفورًا، واستقبل صباحه راضيًا مسرورًا، وغدا على لجنة الامتحان، وكانت مجتمعة في مكان في الدرَّاسة لا يعرف الفتى أقائم هو أم درس فيما درس من المنازل والدور.

آثاره:

ـ رغبة الآمل في شرح الكامل للمبرد (في ثمانية أجزاء).

ـ أسرار الحماسة (شرح الحماسة: طبع منه الجزء الأول والباقي مخطوط).

ـ شرح الأمالي لأبي على القالي (مخطوط).

ـ ديوان شعر (مخطوط).

ـ الدر الذي انسجم على لامية العجم.

ـ تحفة العصر الجديد في الفقه والتوحيد.

ـ القصيدة المرصفية في مدح حامي الديار المصرية أحمد عرابي باشا.

وفاته  ومكتبته

توفي الشيخ سيد المرصفي عن خمسة وسبعين عاماً 10 فبراير سنة 1931، ودفن في قرافة المجاورين قرب مدفن الخديو توفيق، ويروى أن مكتبته آلت إلى جامعة الإسكندرية، وتتميز بتعليقات مهمة على هوامشها.

 

، وإن كان الدكتور محمد رجب البيومي قد أثبت أنه امتداد لابن بلده الشيخ حسين المرصفي الكبير (١٨١٠ – ١٨٨٩) صاحب كتاب الوسيلة الأدبية.

أستاذ الجيل الذي تحقق فيه معنى اللقب

والشيخ سيد علي المرصفي هو أستاذ الجيل الذي تحقق فيه معنى هذا اللقب قبل الأستاذ أحمد لطفي السيد، فإذا كان الأستاذ أحمد لطفي السيد أستاذ الوجاهة في المجتمعات الثقاقية ؛ فإن الأستاذ سيد المرصفي هو أستاذ الوجاهة في معاهد العلم لأنه كان الأستاذ الأكاديمي المعلم الموجه المهذب الدال على الصواب، وعلى المنهج، وعلى مصادر العلم ومصادر النقد ومصادر التصحيح.

كان وجوده، مجرد الوجود في حد ذاته، في صحن الجامع الأزهر أو في حرم تلك الجامعة المصرية الوحيدة المتاحة في الأزهر وما حوله، هو السبب الرئيسي وربما الوحيد في إقبال الأزهريين أو أساتذة المستقبل على الأدب وعلى دراسته، وفي تفضيل كثير من هؤلاء للاستماع إلى دروس الأدب لا على دروس العلوم الأخرى فحسب، ولكن على دراسة العلوم الأخرى؛ لأنهم كانوا يرون في دراسة ما يحاضر فيه الأستاذ المرصفي حياة حية تغريهم بالاضطراب فيها يوما بعد يوم، وتغريهم أيضًا بالتفرغ لها بعد ذلك.

وعلى هذا النحو نفهم غرام طه حسين وأحمد حسن الزيات وغيرهما بالأدب، نفهمه كرد فعل عميق لهذا الشعور الأخاذ الذي كان لا يفتأ يقتنصهم وهم يعودون من طريقهم إلى سيد المرصفي، ويجتذبهم وهم يذهبون إليه، ويتملكهم  مرة أخرى وهم يعودون إلى هذا الطريق مرة بعد أخرى وقد أحبوا أن يعودوا إليه مرة بعد أخرى.

وقد قلنا في مقدمة كتابنا هذا إنه أول من أهل الأدب ليكون علما دراسيا بالفعل بعدما دعا الأستاذ الشيخ محمد عبده الى هذا بالفكر والقدوة وضرب القدوة وقدم ما يسمى في العلم بالعينة. وقلنا أيضا في المقدمة إن الأستاذ المرصفي هو أول من عاش المعنى الذي يدل عليه لقب أستاذ الجيل، ولا تتعارض أستاذيته مع أستاذية أحمد لطفي السيد، ذلك أن أستاذية المرصفي أستاذية تكوين، وأستاذية لطفي السيد أستاذية تلميع، كما أن أستاذية المرصفي أوسع ميدانا، وأبلغ أثرا، وقد كانت أستاذية فارضة لنفسها وطبعها وتوجهاتها إلى حد عميق.

نشأته

ولد الشيخ سيد علي المرصفي عام 1857، أي أنه يكبر الزعيم سعد زغلول بعامين على أرجح الأقوال في مولد كل منهما، وجعل حياته كلها للعلم على طريقة العلماء المتصوفين المتفرغين الزاهدين الذين يغرهم العلم بالعلم ويغريهم به.

ولد هذا الأستاذ، واسمه بالكامل سيد بن علي بن حسن المرصفي، في درب الركراكي بشارع باب البحر بالقاهرة سنة 1857، وتلقي تعليما دينيا والتحق بالأزهر الشريف، ودرس على عدد من كبار علماء عصره ولما أجازه أساتذته العلماء عين بمدرسة والدة عباس، ثم مصححا بدار الكتب المصرية، ثم عاد للعمل مدرسا للغة بالأزهر الشريف، ومدرسة بولاق، وظل طيلة حياته منشغلا بالأستاذية بمعناها الواسع والمثالي معا.

وفي أثناء عمله بالتدريس بالأزهر لعب دورا رائدا ومتصلا في إعادة  الاهتمام بالدراسات الأدبية الي مكانتها المرموقة في  مناهج التعليم الازهرية ، وإلي بؤرة اهتمام الطلاب حتي أصبح  الأدب من الدراسات الأكاديمية، ومن مكونات مؤسسات التعليم الوطنية، وذلك بفضل ارتقائه بأداء واجب هذه الأستاذية علي مدي سنوات طويلة، وهو أداء تميز كما وصفناه في مقدمة هذا الكتاب بالاقتدار والاصطبار والإثمار، وجمع هذه العوامل معا في سلاسة ويسر، وقد تمكن من صبغ الدراسات الأدبية في الأزهر (ومن ثم المؤسسات التي تلته) بأسلوبه القادر علي النقد والتحقيق، وعلي الصياغة والتعبير، وعلي معاملة التراث بندية وحب وذكاء، وهكذا ضرب بسهم وافر في جذب النابهين إلي ميدان الدراسات الأدبية، وفي رفع شأن هذه الدراسات الى جوار العلوم الشرعية التي كانت تستحوذ علي صورة الأزهر في عيون المجتمع.

تأثيره العميق غير المسبوق

كان تأثير سيد المرصفي في تلاميذه أسطوريا، إذ كان صاحب فضل في الأخذ بيد تلاميذه إلي مواطن الجمال في التراث العربي، والدفع بهم إلي مدارج الارتقاء الفكري من خلال الفحص والنقد والتمحيص والتمثيل والإفادة.

 وقد  تمكن سيد المرصفي بدأبه أن يحول تلاميذه  إلي ما أصبحوا عليه بالفعل: بناة نهضة فكرية وتربوية وصحفية من دون أن يفقدوا قدراتهم الأولي، ولا انتماءاتهم الأصلية، وهكذا فإنه  كما نقول دائما كان أستاذ الجيل الحقيقي في جيله ، ولعل تعداد أسماء بعض تلاميذه يعطينا فكرة عن أستاذيته التي أظلت كلا من: مصطفي لطفي المنفلوطي، وأحمد حسن الزيات، وطه حسين، وعبد العزيز البشري، وعلي عبد الرازق، وزكي مبارك، ومحمود حسن زناتي، وأحمد محمد شاكر، وحسن السندوبي، ومحمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد الههياوي، وعبد الرحمن البرقوقي، ومحمد إبراهيم هلال، ومن الشعراء المجيدين: علي الجارم ، وأحمد الزين، وحسن القاياتي، ، ومحمود رمزي نظيم، وأحمد شفيع السيد، ومن تلاميذه أيضا الشيخ محمد الخانجي البوسنوي، وزكي مجاهد صاحب كتاب الأعلام الشرقية، والشيخ محمود العشماوي شيخ البيومية، والشيخ أحمد إبراهيم شاهين السناري، والشيخ سعيد الطيب الجزائري.

بيته امتداد للازهر

كان بيت الشيخ المرصفي نفسه امتدادا للجامع الأزهر من حيث كان الأزهر جامعة وحيدة، وكان تلاميذه يتبعونه إلي بيته فينعمون بالاستماع إليه، أو بمواصلة الاستماع إليه، ويفيدون من مكتبته وتعليقاته، وقد عاش حياته أستاذا في الأزهر إلي أن أدركته الشيخوخة وكسرت ساقه فاضطر إلي البقاء في بيته، وهكذا تحول بيته تلقائياً إلي امتداد للأزهر تعقد فيه حلقات الدرس، وظل كذلك إلي أن توفي.

تحقيق الدكتور البيومي لمرحلة تكوينه العلمي

إلي الدكتور محمد رجب البيومي يعود الفضل في وصف طبيعة الحلقة الأولى  من سيرة الحياة العلمية للأستاذ سيد المرصفي ، فقد تواترت أقوال المراجع علي أنه روى أنه كان تلميذا للسيد عبد الهادي الإبياري، لكن الدكتور البيومي رأي استحالة هذا بسبب اختلاف ذوق الرجلين (وإن كنت لا أري هذا عاملا حاسما تماما فكم رأيت في الطب من أساتذة بنوا مجدهم على مناقضة أساليب أساتذتهم)، وقد ذهب الدكتور البيومي إلي أن الأستاذ المرصفي الأول (أي الشيخ حسين المرصفي صاحب “الوسيلة الأدبية المتوفي 1889) هو أستاذ المرصفي الثاني (أي سيد بن علي المرصفي)

فخر الدكتور زكي مبارك بصحبته للمرصفي

يقول الدكتور زكي مبارك:

“صحبت الأستاذ سيد المرصفي ستة أعوام، فتلقيت عليه شرح الحماسة، وشرح الكامل، وشرح الأمالي، وكان في ذلك العهد أعلم الناس بأسرار العربية، وكنت أكتب كل ما ينطق به من جد وهزل، حتى جمعت ثلاثين كراسة، هي اليوم أنفس ما أملك من ذكريات الأزهر الشريف”،

“لقد فكرت كثيرا في الظروف التي كونت الشيخ سيد، ثم انتهيت إلى أنه فضل الله يؤتيه من يشاء”.

اعتزاز الأستاذ محمود شاكر بما تلقاه عنه من العلم

يقول الأستاذ محمود شاكر:

“ثم الفضل الأكبر للرجل الثاني، فقد كان شيخي وأستاذي الذي علمني العربية، وهو الشيخ سيد بن علي المرصفي، مات منذ دهر طويل، أكثر من خمسة وخمسين سنة، كان عالما لا يُبارَى، وكان في حالة فقر شديد في أول أمره، وهو عالم من علماء الأزهر، وكرهه الأزهريون لأنه كان لا يدرس إلا الأدب، كتاب الكامل للمبرد، والحماسة لأبي تمام، فأغفلوه إلى أن جاء والدي وكيلا للأزهر، وكان يعرف فضل الشيخ المرصفي، فبحث عنه.

مارواه الشيخ محمد شاكر لابنه محمود عنه

” وأقص عليكم قصته كما رواها والدي: في غرفة أو غرفتين في حواري الأزهر العتيقة، عرف بيته وذهب إليه، فوجده جالسا وحوله الكتب، ومحيطاً نفسه بدائرة من العسل حتى لا يزحف البق إليه، فعينه والدي مدرسا للأدب. وأنا أدركت الشيخ عندما كنت طالبا في المدارس الثانوية وصاحبته، وهو الذي علمني العربية، وقرأت عليه كتاب “الكامل” للمبرد، و”الحماسة” لأبي تمام، وفصولا من “أمالي” أبي علي القالي.

“هذا الرجل اشتغل أول أمره مصححاً في دار الكتب، وقد نشر كتاباً واحداً وهو الجزء الأول من كتاب “الخصائص” لابن جني، وهي الطبعة الأولى، قبل أن يطبعه كاملا الشيخ النجار في ثلاثة أجزاء، فهذا الرجل بقي في دار الكتب سنين يشتغل مصححا”

كان يحتفظ لنفسه ببعض أسرار العلم

” وكانت له خبرة بجميع كتب الأدب التي كانت في دار الكتب، وكان أيضا لا يحب البوح بعلمه، أشياء معينة لا يخبر أحداً بها، مما قرأته عليه في شرح كتاب الكامل أنه رجع إلى مخطوطة في دار الكتب من ديوان ابن مقبل، لما توفي الشيخ، بحثت عن هذه النسخة في دار الكتب فلم أهتد إليها إلى هذا اليوم”.

مشاركته في الثورة العرابية

بقي أن نشير إلى التوجه السياسي للشيخ المرصفي، ومن الجدير بالذكر أنه كان مؤيدا للزعيم أحمد عرابي وشارك في الثورة العرابية مؤازرا واعتقل مع من اعتقلوا.

قصيدته المرصفية في مدح عرابي باشا

ألف الشيخ المرصفي القصيدة المرصفية في مديح ذلك الزعيم الوطني، وقد طبعت هذه القصيدة في مطبعة بولاق (1882)، وفيها يقول الشيخ المرصفي:

 

يا آل مصر تنبهوا فمن الذي            

 

يرضي بذل في الخليفة أنكد

يا آل مصر علمتمو ما حل فيً

 

هند وتونس من بلاد سرمد

هذا وللمولي الكريم نمد أيد

 

ينا لنصر جيوشنا بتأيد

 

تجدر الإشارة إلي أن احتلال تونس تم في عام 1881 في العام السابق علي احتلال مصر (1882)، وهو ما كان المرصفي واعيا له.

قصيدته في مدح الشيخ الشربيني

كان الشيخ المرصفي منذ مرحلة طلبه للعلم محبا للشيخ الشربيني الذي صار بعد ذلك شيخا للأزهر، و لم يكن يجد حرجا في الجمع بين حب ذلك الشيخ وكونه من أتباع الشيخ محمد عبده، وقد أنشد بين يديه قصيدته في تحيته التي يقول فيها:

 

ملاك العلا في غرة ملكت يدي

 

أمن شأن مثلي في العزازة أن يدي

أبت عزمتي أن آخذ الحمد هينا

 

بغير سنان أو لسان محدد

فلما انتهى من قصيدته قال الشيخ الشربيني: “علقوها فوق رأسي”، فسميت ثامنة المعلقات منذ ذلك الحين، وقد لاحظنا أن بعض المصادر تخطئ فتذكر أنه أنشد هذه القصيدة في الشيخ الإنبابي.

حصوله على العالمية من الدرجة الأولى

تقدم الشيخ المرصفي لامتحان العالمية فحصل عليها من الدرجة الأولى الممتازة في شعبان 1310 هجرية (فبراير ١٨٩٣) .

رواية الأستاذ شاكر عن تخليه عن وظيفته

” … واشتغل بتدريس العربية في مدرسة عباس باشا الابتدائية، فعتب عليه شيخ الأزهر الإمام الإنبابي أن يحرم الأزهر فضله وعلمه، فشكا من أن مرتبات الأزهر لا تكفيه، فتفضل الشيخ الإنبابي ومنحه مرتب التدريس بالأزهر على أن يلقي درسا في جامع الزاهد بجهة باب البحر، بين المغرب والعشاء، فيجمع بينه وبين التدريس بمدرسة عباس باشا الابتدائية، فكان يؤم درسه الأدباء والفضلاء”.

” وحين كان مدرسا بهذه المدرسة تأخر قليلا عن الموعد المقرر، فاستدعاه الناظر، فكان جوابه تقديم الاستقالة، ومما أثر عنه أنه كان يقول: “ذهبنا إلى المدارس فوجدناها نظاما بلا علم، وجئنا للأزهر فوجدناه علما بلا نظام، فآثر العلم واشتغل بالتدريس في الأزهر”.

حبه للمبرد وإحياؤه لكتابه  

كان الشيخ سيد المرصفي محبا للمبرد، وقد اشتهر كتابه أو موسوعة رغبة الآمل من كتاب الكامل (ثمانية اجزاء).. إلي حدود قصوى، لكن حبه للمبرد العظيم لم يمنعه من نقده وتصويب رواياته ومقالاته في إخلاص ودأب وتجرد.

وقد أشار الشيخ سيد المرصفي نفسه في مقدمة الجزء الأول من شرحه الكبير للمبرد إلى أنه لم يجعل من كتابه رغبة الآمل شرحا تفسيريا لنصوص الكامل فقط، بل اهتم ببيان ما اختار أن يصفه بقوله: ” حاد فيه أبو العباس المبرد عن سنن الصواب من خطأ في الرواية، وخطر في الدراية، إذ كان المبرد يعتد كثيرا في لفظه علي جودة حفظه، فربما نزع في غير منزع عن القصد سهمه، أو صعد في الأدب مرتقي زلت به إلي الحضيض قدمه”.

تصويبه لبعض آراء  المبرد متأثرا بحماس الأزهريين في تفنيد الخطأ

هكذا  تناول الأستاذ المرصفي كتاب الكامل للمبرد متأثرا بحماس الأزهريين في تفنيد الخطأ،  ومع هذا الذي يبدو وكأنه نوع من تعالي المرصفي علي المبرد ، وهو سلوك أزهري معهود يبرره في رأينا حماسهم  المتدفق للعلم والحق ، فإن المرصفي هو صاحب الفضل في اعتماد كتاب “الكامل” للمبرد، ليكون محورا للدراسات الأدبية في عصره وما بعد عصره، وقد أخذ علي عاتقه أن يحقق هذا الكتاب ويقدمه لتلاميذه، فكان الكامل بين يديه : يتم قصائده، ويشرح الألفاظ الصعبة فيه ، ويتعرض لنسبة الأبيات، ويترجم لصاحب الأثر الذي استشهد المبرد بنصوصه ، ويشرح ما تركه المبرد دون إيضاح.

حبه لكتاب الأمالي لأبي علي القالي

وكذلك فعل الشيخ سيد المرصفي مع كتاب “الأمالي” لأبي على القالي، حيث ناقش لغوياته، وعارض نصوصها المختلفة، وبحث في المخطوطات المتآكلة عما غاب من القصائد، ليكمل ما نقص.

أسرار الحماسة

أما كتاب أسرار الحماسة فقد خصص الجزء الأول منه لشرح ديوان الحماسة لأبي تمام بالأسلوب المشهور له في الشرح والتعليق.

العقد الفريد لابن عبد ربه

وقد امتد منهج الشيخ سيد المرصفي بأسلوب هذه الدراسة المتأنية أيضا إلى كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه.

أراجيز رؤبة والعجاج

 وامتد منهج الشيخ سيد المرصفي أيضا إلى مقاربة أراجيز رؤبة على الرغم مما تحفل به من غرائب الألفاظ الوعرة.

حديثه عن منهجه

لخص الشيخ سيد المرصفي نفسه منهجه في الدراسات الأدبية مقارنا هذا المنهج بمنهج أسلافه وزملائه فقال في مقدمة كتابه أسرار الحماسة:

“… وقد رأيت نفوس القوم مصروفة إلي تحقيق المسائل العلمية، والمباحث العقلية، والعليم عندهم مَنْ نظر إلي الاستدلال، وأكثر طرق الاحتمال، وولّد ما لا يولد، وأوجد من الأفهام ما لا يوجد، ولو علموا، هداهم الله، ما علمناه من خصائص اللغة وأساليبها، وما أودعت من لطائف الأسرار في تراكيبها، لهجروا تلك الكتب ذوات التنافر والتعقيد، وغنموا لغة القرآن المجيد، والحديث الحميد”.

وصف الدكتور البيومي لأستاذيته

سبقنا الدكتور محمد رجب البيومي إلي وصف طبيعة أستاذية الشيخ سيد المرصفي وصفا دقيقا فقال:

” استطاع سيد بن علي أن يعيد إلي القاهرة في مطلع هذا القرن مجالس بغداد في أسطع عصورها الزاهية، فكنت تتخيله وقد عكف وحده بين زملائه الشيوخ علي دراسة الأدب واللغة إماما كبيرا من صدور السلف، كأبي عمر، وأبي عبيدة، والأصمعي، والخليل، والمبرد، فهو يروي الشعر الجزل، ويناقش التركيب الناشز، ويعالج اللفظ الغريب، ويرد النسبة المخطئة إلي وضعها الصحيح، ويناقش بعض ما اتفق عليه من قواعد اللغة والتصريف في ثقة خارقة، وعن بصر نفاذ، ولعله كان أشبه أسلافه بأبي عمرو بن العلاء، ويونس بن حبيب، فقد كانا يؤثران أدب العصر الجاهلي ويفضلانه، وكذلك كان المرصفي بهذا الأدب ولع شغوف” .

موسوعيته وإحاطته بدقائق العلوم

“كان الأستاذ المرصفي، قبل هذا و بعد هذا، عالما موسوعيا قادرا على الإلمام بدقائق علوم الشريعة والأصول، والنحو والصرف، ويكشف شرحه للمبرد عن كل هذا، إذ ترينا نصوصه كيف كان يناقش نصوص سيبويه، وابن جنّي، والخليل حتي لو كانت هذه النصوص تتناول أدق التفصيلات من قواعد النحو والصرف، وكان يقوم بهذا الجهد بأسلوب الند للند دون وجل، أو اعتماد علي ما هو موجود من نصوص الأقدمين”.

ثناء الشيخ عبد العزيز البشري

وقد وصف الشيخ عبد العزيز البشري حال الدراسات الأدبية قبل الأستاذ المرصفي فقال:

“.. والأدب في ذلك الوقت أن تقول شعرا مقفي موزونا، فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك أوزان الشعر، فحسبك أن يكون المصراع في طول المصراع، علي شرط أن تتغزل، فتتغزل كلما طلبت مديحا أو رثاء أو هجاء، وكان الأدب يحمد من (المجاور) عند أشياخه، إلا أن يسرف فيه، ويجرد له صدرا من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك منه، لأنه في الواقع يشغله بقدر ما عن توفير الذهن علي الدرس والاستذكار، ويرون هذا منه آية علي (عدم الفتوح)، وحسبه في العام قصيدة يمدح بها شيخه يوم يختم الكتاب، وقصيدة أو اثنتين يرثي بهما مَنْ يموت من علية العلماء، فإذا أمكن الأستاذ المرصفي في هذا الوسط أن يجعل مؤلفات المبرد، وأبي علي، وأبي تمام، وابن عبد ربه تجد مكانها بين حواشي الإسنوي والصبان والباجوري والسيوطي والعطار، فذلك فضل كبير” .

ثناء الدكتور طه حسين عليه في كتابه عن المعري  

لا أظن أن أحدا قد حفل بثناء الدكتور طه حسين واعترافه بأستاذيته مثل الأستاذ المرصفي، حتى إنه يقول في كتابه تجديد ذكري أبي العلاء:

“.. أستاذنا الجليل سيد بن علي المرصفي أصح مَنْ عرفت بمصر فقها في اللغة، وأسلمهم ذوقا في النقد، وأصدقهم رأيا في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر، ولاسيما شعر الجاهلية وصدر الإسلام.

” كان يدرس الأدب في الأزهر الشريف، وبدأت أختلف إليه، ولما أعدُ السادسة عشرة فلزمته أربع سنين، ما أذكر أني انقطعت عن درسه، أو تخلفت عن مجلسه، ولم يقف الأمر بيني وبينه على ما يكون بين الأستاذ والتلميذ من صلة، بل نشأ بيننا نوع من المحبة يشوبها في نفسي الإجلال والإكبار، وفي نفسه العطف والحنان، وتبعث كلينا على أن يتعصب لصاحبه، ويناضل عنه، على نحو ما يكون بين الأبناء البررة، والآباء المثقفين”.

“سعدت بهذا الحب قديما، وسأظل سعيدا به طول الدهر، لأنه صادف قلبي في غضارة الطفولة، ونضارة الصبا، ولأنه حب مصدره العلم، لم تفسد عنصره المادة، ولم تكدر جوهره مآثم هذه الحياة”.

“حب الأستاذ ودرسه قد أثرا في نفسي تأثيرا شديدا، فصاغاها علي مثاله، وكونا لها في الأدب والنقد ذوقا علي مثال ذوقه” .

حديث الدكتور طه حسين عنه في كتابه الادب الجاهلى

وقد تحدث الدكتور طه حسين بحب أشد عن المرصفي في كتابه الادب الجاهلي فيقول:

” .. ومذهب القدماء ما كان يمثله الأستاذ الشيخ سيد المرصفي حين كان يفسر لتلاميذه في الأزهر ديون الحماسة لأبي تمام، أو كتاب الكامل للمبرد، أو كتاب الأمالي لأبي على القالي، ينحو في هذا التفسير مذهب اللغويين النقاد، من قدماء المسلمين بالبصرة والكوفة وبغداد، مع ميل شديد عن النحو والصرف، وما ألف الأزهريون من علوم البلاغة.

مديح الأستاذ أحمد حسن الزيات له  

أما حديث الأستاذ أحمد حسن الزيات عنه فلا يقل امتنانا لأستاذية الشيخ المرصفي عن أحاديث طه حسين، في مديحه ومديح أسلوبه في الأستاذية، ومن ذلك قوله:

” كان أستاذنا المرصفي يطبعنا في النظم: على غرار الحماسة، وفي النثر على غرار الكامل، ويزين لنا أن ننظم معلقة كطرفة، أو ننشئ خبرا كأبي عبيدة.

إعجاب الأستاذ محمود شاكر بإلقائه للشعر

عبر الأستاذ محمود محمد شاكر عن إعجابه بطريقة المرصفي في إلقاء الشعر، وما كانت هذه الطريقة تيسر به تمثل الشعر وفهمه، حيث قال:

“كان الشيخ حسن التقسيم للشعر حين يقرأه، فيقف حين ينبغي الوقوف، ويمضي حيث تتصل المعاني، فإذا سمعت الشعر وهو يقرأه فهمته، على ما فيه من غريب، أو غموض، أو تقديم، أو تأخير، أو اعتراض فكأنه يمثله لك تمثيلا لا تحتاج بعده إلي شرح أو توقيف، وكان في صوت الشيخ معني عجيب من الثقة والاقتدار، وفي نبراته حين ينشد الشعر معني الفهم الذي يتلوه عليك، فلا تكاد تخطئ المعاني التي ينطوي عليها، لأنها عندئذ ممثلة لك في صوته”.

رأي الدكتور محمد كامل الفقي

رصد الدكتور محمد كامل الفقي أثر الشيخ المرصفي في التعليم والثقافة في كتابه ” الأزهر وأثره في النهضة الأدبية” فقال:

“كان المرصفي  يعقد درسه في الرواق العباسي، وقد حدثنا أحد تلامذته الخلصاء الأدباء “هو العالم المحقق الأديب الفذ الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد” أن حلقة درسه كانت مهرجانا يضم الأدباء والشعراء على اختلاف بيئاتهم وألوانهم، فلم تكن مقصورة على الأزهريين فحسب، بل كانت ندوة يؤمها عشاق الأدب دميعاً، وكان يقيم بجهة باب الفتوح على مقربة من الأزهر، وبلغت الصلة بينه وبين تلامذته وعشاقه حداً غريبا، فهم لا يقنعون بما انتفعوا به في دروسهم، ولكنهم يصحبونه إلى منزله، فلا يزالون في حديث أدبي موصول، ودراسة طريفة ممتعة، ويشق عليهم أن يدعوا لأستاذهم فرصة ينفرد بها”.

اختياره عضوا في جماعة كبار العلماء

اختير الشيخ سيد المرصفي عضوا في جماعة كبار العلماء، في 7 ربيع الأول سنة 1343 هجرية، (أكتوبر 1924) متوجا حياة مثمرة بالأستاذية، وكان من حظه أنه عاش حتى رأى تلاميذه في قمة المجتمع الثقافي والعلمي في مصر.

صورته البديعة  كما رسمها كتابه الأيام

كان من عوامل تفوق كتاب “الأيام” أن الدكتور طه حسين رسم فيه بدأب واقتدار عددا من الشخصيات التي أثرت في حياته وشخصيته وصنع مجده، وكان في مقدمة هؤلاء أستاذاه سيد المرصفي وعبد العزيز جاويش وقد صورهما شخصيتين حيتين فاعلتين مضطربتين بالرضا والسخط، والفعل والانفعال، والمبادرة والتوجيه، ومن وجهة النظر الفنية، في المقام الأول، فقد تفوق طه حسين في رسمه لهاتين الشخصيتين على رسمه البروتوكولي الممتن والمعجب لشخصيات من قبيل عبد الخالق ثروت باشا أو الأستاذ أحمد لطفي السيد باشا.

تصوير طه حسين لإقبالهم على دروسه

“وفي ذات يوم من أول العام الدراسي أقبل أولئك الشباب متحمِّسين أشدَّ التحمُّس لدرسٍ جديدٍ يُلقى في الضحى، ويُلقى في الرواق العباسي، ويلقيه الشيخ سيد المرصفي في الأدب، (يقصد دروسه عن ديوان الحماسة) وكانوا قد فُتنوا بهذا الدرس حين سمعوه فلم يعودوا إلى غرفاتهم حتى اشتروا هذا الديوان، وأزمعوا أن يحضروا الدرس وأن يُعنوا به وأن يحفظوا الديوان نفسَه، وأسرع أخو الصبيِّ كعادته دائمًا، فاشترى شرح التبريزي لديوان الحماسة وجلَّده تجليدًا ظريفًا، وزيَّن به دولابه ذاك، وإن كان قد نظر فيه بين حين وحين. وقد جعل أخو الصبي يحفظ ديوان الحماسة ويُحفِّظه لأخيه، وربما قرأ عليه شيئًا من شرح التبريزي، وكان يقرؤه على نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والأصول، ويَتَفَهَّمُه على نحو ما يَتَفَهَّمُ هذه الكتب”.

“وكان الصبي يحس أن هذا الكتاب لا ينبغي أن يُقرأ على هذا النحو ولا أن يفهم على هذا النحو. كان الشيخ الفتى وأصحابه يرون ديوان الحماسة متنًا، و كتاب التبريزي شرحًا، وكانوا يأسفون على أن أحدًا لم يكتب على هذا الشرح حاشية. وكانوا كثيرًا ما يقصُّون حديث الشيخ إليهم وعبثه بهم وتندُّره على أساتذتهم وعلى كتبهم الأزهرية. يقصون ذلك ضاحكين منه معجبين به، ماضين على الرغم منه في درسهم الأزهري لا يفترون عنه ولا يُقصرون فيه.

تكاسل الطلاب العاديين عن حضور دروس الشيخ

“وكان صاحبنا يسمع أحاديثهم، فيبتهج لهم أشد الابتهاج، ويشتاق إلى هذا الدرس أشد الشوق. ولكن أولئك الشباب لم يلبثوا أن أعرضوا عن هذا الدرس كما أعرضوا عن غيره من دروس الأدب؛ لأنهم لم يَرَوْهُ جِدٍّا، ولأنه لم يكن من الدروس الأساسية في الأزهر، وإنما كان درسًا إضافيٍّا من هذه الدروس التي أنشأها الأستاذ الإمام، والتي كانت تسمى دروس العلوم الحديثة؛ وكانت منها الجغرافيا والحساب والأدب، ولأن الشيخ كان يسخر منهم فيسرف في السخرية، ويعبث بهم فيغلو في العبث”.

“ساء ظنه بهم، فرآهم غير مُستعدين لهذا الدرس الذي يحتاج إلى الذوق ولا يحتمل الفنقلة، وساء ظنهم به، فرأوه غير متمكن من العلم الصحيح ولا بارع فيه، وإنما هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال، ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شيء.

ما اشتهر عن حماية الأستاذ الإمام للشيخ المرصفي

“وكانوا مع ذلك حُرَّاصًا على أن يحضروا هذا الدرس؛ لأن الأستاذ الإمام كان يحميه، ولأن الشيخ كان مقربًا من الأستاذ الإمام، ينتهز كل فرصة لينشئ في مدحه قصيدة يرفعها إليه ثم يمليها على الطلاب، ويأخذ بعضهم بحفظها على أنها من جيد الشعر ورائعه، وكانوا يرونها جيدة رائعة؛ لأنها كانت في مدح الأستاذ الإمام.

” وقد بذلوا ما استطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس، ولكنهم لم يطيقوا عليه صبرًا، فانصرفوا عنه وعادوا إلى شايهم يستمتعون به في الضحى على مهل، وانقطع عن صاحبنا ذكر الأدب بعد أن حفظ من ديوان الحماسة جزءًا صالحًا “.

المحبة بين المرصفي وطه حسين بدأت مع تدريسه للنحو

” … أشيع ذات يوم أن الشيخ المرصفي سيخصص يومين من أيام الأسبوع لقراءة المفصل للزمخشري في النحو، فسعى صاحبنا إلى هذا الدرس الجديد. ولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى أحبه وكلف به، وحضر درس الأدب في أيامه من الأسبوع، ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت”.

“وكان الصبي قويَّ الذاكرة، فكان لا يسمع من الشيخ كلمةً إلا حفظها، ولا رأيًا إلا وعاه، ولا تفسيرًا إلا قيده في نفسه. وكثيرًا ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها أو إشارة إلى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من درسه، فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيَّد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشراحها، وتصحيحه لرواية أبي تمام، وإكماله للمقطوعات التي كان أبو تمام يرويها.

أول من صحب طه حسين إلى المقهى

“وإذا الشيخ يحب الفتى ويكلف به، ويوجه إليه الحديث في أثناء الدرس، ويدعوه إليه بعد الدرس فيصحبه إلى باب الأزهر، ثم يدعوه إلى أن يصحبه في بعض الطريق. وقد دعاه ذات يوم إلى أن يُبعدَ معه في السير، حتى انتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ آخرون إلى قهوة فجلسوا فيها، وكان هذا أول عهد الفتى بالقهوات. وقد طال المجلس منذ صُلِّيت الظهر حتى دعا المؤذن إلى صلاة العصر، وعاد الفتى سعيدًا مغتبطًا قوي الأمل شديد النشاط”.

حديثه نقد لاذع لبيئة الأزهريين

” ولم يكن للشيخ حديث إلى تلاميذه إذا تجاوز درس الأدب إلا الأزهر وشيوخه وسوء مناهج التعليم فيه. وكان الشيخ قاسيًا إذا طرق هذا الموضوع، وكان نقده لاذعًا وتشنيعه على أساتذته وزملائه أليمًا حقٍّا، ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوًى، وكان يؤثر في نفس هذا الفتى خاصة أبلغ تأثير وأعمقه.

الزملاء الثلاثة  في دروس الشيخ

” وإذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئًا فشيئًا، ويختص اثنين من التلاميذ المقربين إلى الشيخ بمودته ثم بوقته. وإذا هم يلتقون إذا كان الضحى فيسمعون للشيخ، ثم يذهبون إلى دار الكتب فيقرءون فيها الأدب القديم، ثم يعودون إلى الأزهر بعد العصر فيجلسون في هذا الممر بين الإدارة والرواق العباسي، يتحدَّثون عن شيخهم وعمَّا قرءوا في دار الكتب، ويعبثون بشيوخهم الآخرين، ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب. فإذا صُلِّيتِ المغرب دخلوا الرواق العباسي فسمعوا درس الشيخ بخيت (مفتي الديار في ذلك الحين) الذي كان يقرأ في تفسير القرآن مكان الأستاذ الإمام بعد أن توفي.

كيف  بث المرصفي الحرية في نفس طه حسين

” وما أعرف شيئًا يدفع النفوس، ولاسيما النفوس الناشئة، إلى الحرية والإسراف فيها أحيانًا كالأدب، وكالأدب الذي يُدرَّس على نحو ما كان الشيخ المرصفي يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم الحماسة  أو يفسر لهم الكامل  بعد ذلك؛ نقد حر للشاعر أولًا، وللراوي ثانيًا، وللشرح بعد ذلك، وللغويين على اختلافهم بعد أولئك وهؤلاء، ثم امتحان للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال في الشعر أو النثر، في المعنى جُملةً وتفصيلًا، وفي الوزن والقافية وفي مكان الكلمة بين أخواتها، ثم اختبار للذوق الحديث في هذه البيئة التي كان يلقى فيها الدرس، وموازنة بين غلظة الذوق الأزهري ورقة الذوق القديم، وبين كلال العقل الأزهري ونفاذ العقل القديم، وانتهاء من هذا كله إلى تحطيم القيود الأزهرية جملة، وإلى الثورة على الشيوخ في علمهم وذوقهم وفي سيرتهم وأحاديثهم بالحق في كثير من الأحيان، والإسراف والتجني في بعض الأحيان” .

كان له الفضل في أن أصبح لعصبة الثلاثة شأن

” ومن أجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه الذين كثروا أول الأمر إلا نفرٌ قليل، وامتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة، فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث أن بعد صوتها في الأزهر، وتسامع بها الطلاب والشيوخ، وتسامعوا خاصة بنقدها للأزهر وثورتها على التقاليد، وبما كانت تنظم من الشعر في هجاء الشيوخ والطلاب، وإذا هي بغيضة إلى الأزهريين مهيبة منهم في وقت واحد”.

رأي طه حسين في قيمة المرصفي كأديب

” ولم يكن الشيخ أستاذًا فحسب، ولكنه كان أديبًا أيضًا، ومعنى ذلك أنه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقي الناس أو جلس للتعليم في الأزهر، فإذا خلا إلى أصدقائه وخاصته عاش معهم عِيشة الأديب، فتحدَّث في حرية مطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع، وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم وسيرتهم ما يثبت أنهم كانوا أحرارًا مثله، يقولون في كل شيء وفي كل إنسان لا متنطعين ولا متحفظين، كما كان يقول”.

مثالية المرصفي

” وكان أيسر شيء وأهونه أن يذهب الطلاب مذهب شيخهم، ولا سيما إذا أحبوه وأكبروه، ورأوا فيه المثل الأعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل، والتعفف عما لا يليق بالعلماء، والترفع عما كان ينغمس فيه كثير من شيوخ الأزهر من ألوان السعاية والنميمة والكيد والتقرب إلى الرؤساء وأصحاب السلطان.

” كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك رأيَ العين ويلمسونه بأيديهم، ويعيشون معه، في حين كانوا يزورونه في منزله، ذلك المتهدم الخَرِب القديم في حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها: حارة الركراكي، هناك في أقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ، يسكن بيتًا قذرًا متهدمًا، تدخل فيه من بابه، فإذا أنت في ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة، قد خلا من كل شيء إلا هذه الدَّكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التي قد أسُندت إلى حائط يتساقط منه التراب.

صالون الشيخ المتواضع

“وكان الشيخ ينزل لتلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة، ولكنه يجلس راضيًا مطمئنٍّا، يسمع لهم باسمًا ويتحدَّث إليهم أرقَّ الحديث وأعذبه وأصفاه وأبرأه من التكلف، وربما كان مشغولًا حين يقبل تلاميذه لزيارته، فيدعوهم إلى غرفته، فيصعدون إليه في سلم متهدم، ويسلكون إليه دهليزًا خاليًا من كل شيء قد انتشر فيه ضوء الشمس، حتى إذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحنٍ قد جلس على الأرض، ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيها عن مقطوعة يريد أن يتمها، أو بيت يريد أن يفسره، أو لفظ يريد أن يحققه، أو حديث يريد أن يصحح الرأي فيه، وعن يمينه أدوات القهوة.

روح المودة التي كان الشيخ يضفيها

“فإذا دخلوا عليه لم يقم لهم، وإنما تلقَّاهم مستبشرًا فرحًا، ثم دعاهم إلى الجلوس حيث يستطيعون، ودعا أحدهم إلى صنع القهوة وإدارتها عليه وعليهم، ثم تحدث إليهم لحظات، ثم دعاهم إلى أن يشاركوه فيما كان بسبيله من بحثٍ أو تحقيق.

” ولم ينسَ الفتى وأحد صديقيه أنهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر، فلما صعدا إليه لقيا شيخًا قد جلس على فراش متواضع ألُقي في هذا الدهليز، وإلى جانبه امرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض والشيخ يطعمها بيده، فلما رأى تلميذيه هش لهما، وأمرهما أن ينتظراه في غرفته شيئًا، ثم أقبل عليهما بعد حين وهو يقول ضاحكًا راضي النفس: كنت أعشِّي أمي.

كان يعيش المجد مع صعوبة أحواله المادية

“كان هذا الشيخ إذا خرج من داره اتخذ صورة الوقار والدعة، وأمن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير… وصورة الغنى واليسار”

” لا يحس من يتحدث إليه إلا رجلًا قد يُسِّرَّ عليه في الرزق، فهو يعيش عيشة أمن وهناءة وهدوء.  ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم أنه كان من أشد الناس فقرًا وأضيقهم يدًا، وأنه كان ينفق الأسبوع أو الأسابيع لا يطعم إلا خبز الجراية يغمسه في شيء من الِملح، وكان على ذلك يُعَلِّمُ ابنه تعليمًا ممتازًا، ويرعى غيرَه من أبنائه الذين كانوا يطلبون العلم في الأزهر رعاية حسنة، ويُدلِّل ابنتَه تدليلًا مؤثرًا،

طه حسين يفصّل القول في دخله المالي

” يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذي لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه. كان من أصحاب الدرجة الأولى، فكان يتقاضى جنيهًا ونصف جنيه لذلك، وكان الأستاذ الإمام قد كلفه درسَ الأدب فكان يتقاضى لذلك جنيهين، وكان يستحي أن يقبض راتبه أول الشهر، ويكره أن يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على المباشر ليتقاضوا منه رواتبهم، فكان يدفع خاتمه إلى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل في الضحى ويؤديه إليه بعد الظهر”.

الحياة البائسة الحرة الممتازة

” كذلك كان يعيش هذا الشيخ، وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه في حياته تلك البائسة الحرة الممتازة، وكانوا يرون ويسمعون من أمر شيوخ آخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظًا وحقدًا، ونفوسهم ازدراءً واحتقارًا، فأي غرابة في أن يُفتنوا بشيخهم ويتأثروه في سيرته وفي مذهبه وفي ازدرائه للأزهريين وثورته بما كان لهم من تقاليد! “

احتذاء نوابغ جيل طه حسين بالمرصفي

” اندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم إليه حبهم للشيخ وتأثرهم به، فأسرفوا على أنفسهم وعلى شيخهم أيضًا.  لم يكتفوا بهذا العبث الذي كانوا يعبثونه بالشيوخ والطلاب، ولكنهم جعلوا يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على الكتب الأزهرية، يقرأون كتاب سيبويه أو كتاب المفصل في النحو، ويقرأون كتابي عبد القاهر الجرجاني في البلاغة، ويقرءون دواوين الشعراء لا يتحرجون في اختيار هذه الدواوين ولا في الجهر بإنشاد ما كان فيها من شعر المجون أحيانًا في الأزهر. ويقلدون هذا الشعر، ويتناشدون ما ينشئون من ذلك إذا التقوا، والطلاب ينظرون إليهم شزرًا، ويتربصون بهم الدوائر، وينتهزون بهم الفرص”.

“وربما أقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون إليهم، ويريدون أن يتعلموا منهم الشعر والأدب، فيغيظ ذلك نظراءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدةً عليهم وائتمارًا بهم”.

  كيف نصح طه حسين بعدم دخول الامتحان

“…. حتى إذا لم يبق بينه وبين شهود الامتحان إلا سواد الليل، وأقبل عليه شيخه المرصفي رحمه لله فأنبأه هذا النبأ العجيب الذي لم يحمله إليه في ضوء النهار، وإنما حمله إليه في ظلمة الليل، بعد أن صُلِّيت العشاء.  قال الشيخ: إذا أصبحت يا بُني فاستقلْ من الامتحان ولا تحضره من عامك هذا، فإن القوم يأتمرون بك ليسقِّطوك. قال الفتى: وما ذاك؟!  قال الشيخ: تعلم أني عضو في لجنة الامتحان التي ستحضر أمامها غدًا، والتي يرأسها الشيخ دسوقي العربي، فقد دُعِيَ رئيس اللجنة إلى الشيخ الأكبر وأمُر بإسقاطك مهما تكن الظروف.  قال الفتى: ولكني سأحضر أمام لجنة أخرى يرأسها الشيخ عبد الحكم عطا.  قال الشيخ: فإن هذه اللجنة لن تجتمع؛ لأن رئيسها أبَى أن يسمع للشيخ الأكبر حين أمره بإسقاطك، فلما ألحَّ الشيخ الأكبر عليه ألحَّ هو في الإباء، فلما خيره الشيخ الأكبر بين إسقاطك وبين ألا تجتمع لجنته، آثر ألا تجتمع اللجنة، وقال: إنما هو غداء وثلاثون قرشًا! وأبَى الفتى أن يستقيل على رغم إلحاح الشيخ المرصفي عليه في ذلك، ونام ليله هادئًا موفورًا، واستقبل صباحه راضيًا مسرورًا، وغدا على لجنة الامتحان، وكانت مجتمعة في مكان في الدرَّاسة لا يعرف الفتى أقائم هو أم درس فيما درس من المنازل والدور.

آثاره:

ـ رغبة الآمل في شرح الكامل للمبرد (في ثمانية أجزاء).

ـ أسرار الحماسة (شرح الحماسة: طبع منه الجزء الأول والباقي مخطوط).

ـ شرح الأمالي لأبي على القالي (مخطوط).

ـ ديوان شعر (مخطوط).

ـ الدر الذي انسجم على لامية العجم.

ـ تحفة العصر الجديد في الفقه والتوحيد.

ـ القصيدة المرصفية في مدح حامي الديار المصرية أحمد عرابي باشا.

وفاته  ومكتبته

توفي الشيخ سيد المرصفي عن خمسة وسبعين عاماً 10 فبراير سنة 1931، ودفن في قرافة المجاورين قرب مدفن الخديو توفيق، ويروى أن مكتبته آلت إلى جامعة الإسكندرية، وتتميز بتعليقات مهمة على هوامشها.

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com