الرئيسية / المكتبة الصحفية / كتاب الطغاة والبغاة للأستاذ جمال بدوى

كتاب الطغاة والبغاة للأستاذ جمال بدوى

في هذا الكتاب يجمع الأستاذ جمال بدوي بعضاً من الفصول الجميلة والشيقة التي استمتع بها قراء جريدة الوفد، وهو حين يقدم هذا الكتاب عن «الطغاة والبغاة» لا يقف عند نوع معين منهم، وإنما هو يرينا أنواعاً متعددة، كالذين ظلموا الحسين، والذين ظلموا أنفسهم من رجال الثورة الفرنسية، والذين ظلموا شعوبهم ورعاياهم. وهكذا فإنه يقدم الصور المختلفة للبغي والطغيان.

ومما تجدر الإشارة إليه أن كتاب جمال بدوي يصدر في الوقت الذي يعلو فيه ضجيج مفتعل بالإشادة بكتابات للذين عُرفوا بتفوقهم وإجادتهم القيام بدور المحلل أو المبرر أو المنظر للبغي والذين لا يزالون يعرضون أنفسهم خدما علي مَنْ قد يبتغي منهم القيام بهذا الدور، والذين لا يجدون حرجاً في أن يتلذذوا بهذا الإفك الذي يصنعونه بإتقان.

 وفي وسط هذا الخضم العالي الصوت يرزق الله أمتنا بما يكتبه جمال بدوي في هذا الكتاب وفي غيره صادراً عن روح عالية هي روح البشر الأسوياء بل روح المتطهرين من البشر المتسامين المعنيين بموقف المظلومين وبعاقبة الطغاة قبل أن يعنوا بعبقرية الطغاة وإلهامهم وإدارتهم للأنشطة السرية وغير السرية، ونحن نري الأستاذ جمال بدوي في هذه الفصول منحازاً إلي جموع الشعب معنياً بالإجابة عن السؤال القائل: هل كان في وسع الناس أن يتجنبوا البغي أو الطغيان؟ وهل كان هذا التجنب أكثر فائدة للبشرية والإنسانية؟ أم أن التصدي للطغيان حتي ولو كانت العواقب معروفة سلفا هو الأجدي علي الإنسانية المعذبة؟

يدير الأستاذ جمال بدوي هذه الحوارات الفكرية الصعبة في شىء من التجرد للحقيقة وللحق، وبقدر كبير من الذكاء الفكري والموضوعي الذي يعرض السؤال والجواب الخاطئ قبل أن يضع الصواب والجواب الصائب، وهو حين يفعل هذا يصدر عن عقلية حافظة مستنيرة، أضاءها الاطلاع وغذاها بالقدرة علي تقديم حركة التاريخ في الجانب الأسمى منها الذي لا يدركه إلا المفكرون الحقيقيون حتي وإن ظن بعض الناس أن الأدعياء قد وصلوا إليها.

ويحس القارئ لما ضمنه الأستاذ جمال بدوي هذا الكتاب من أفكار أن هذا الرجل لا يقدم تاريخا بقدر ما يقدم فكرا مستنيرا يستشهد عليه بالتاريخ من دون أن يحس القارئ بذلك الذي يفعله المؤلف، فإذا أحس فإنه يشعر في الوقت نفسه بالسعادة حين يجد الأفكار المتصارعة في عقله منذ زمن بعيد وقد وصلت إلي إجابات تفرزها حركة التاريخ نفسه.

وفيما بين العصور الأولي للإسلام والعصور الحديثة في أوروبا يري القارئ المؤلف الفذ وهو ينتقل من هنا إلي هناك ويشعر القارئ في انتقال المؤلف وحركته بل وقفزاته ووثباته بمنتهي الرشاقة.

 ولا يقف هذا الشعور عند الإدراك الظاهري، لكنه يتعمق ليجعل القارئ أكثر اقتناعا بفكرة أن تاريخ البشرية ما هو إلا حلقات متصلة، وقد تكون متكررة، وأن هذه الحلقات ما هي إلا متوالية مختلفة الأطوال من الخطأ والصواب، والحق والباطل، والاستسلام والكفاح، والثبات والتغير، ولكن جمال بدوي في خضم هذا كله قادر علي أن يمنحنا البصيرة الكفيلة بفهم هذه المتواليات أو المتتابعات التي تبدو صعبة الإدراك،  ولكنه يُشكل لنا هذه البصيرة الحية بقلمه المنطلق في آفاق الماضي وآفاق المستقبل كذلك، وهو لا يبخل علينا بالنصوص التي تضمن لنا الفهم أو تسهله علينا أو تقربه من أفهامنا العميقة المتأملة، وإن كان السياق الجميل الذي يقدم به الأحداث في غير حاجة إلي نصوص تقوي حجته.

ويضيف الأستاذ جمال بدوي إلي هذا مكرمة أخري حين ينتقي لنا بذوق رفيع وإخلاص محبب لقارئه وفكرته مزيجا من الروايات التي تضىء لنا الأحداث بما يسمح لنا أن نفهم معها ما ينبغي لنا أن نفهمه بكل السهولة واليسر، وبشىء غير قليل من التفكير المتبصر بما نقرؤه للمؤلف أو بما يقرؤه لنا المؤلف.

وعلي الرغم من أن الإنسان بطبعه يجد الحرج في أن يضع اسمه إلي جوار الطغاة والبغاة، وعلي الرغم من أن المؤلفين في العادة يحبون أن يتنصلوا من كل خلق جالب للمشكلات ومن كل صفة مقترنة باللعنة ومن كل احتمال لأن يكونوا من مؤيدي الشر أو أصحابه، علي الرغم من كل هذا فإن مؤلفنا قد وجد في نفسه الشجاعة أن يتصور الأمر كله في إطار أعمق من هذا لأنه إطار نبيل دقيق يعني بالنفس البشرية وصراعها قبل أن يعني بالصراع التاريخي الذي يقود إلي صناعة التاريخ حسبما تتاح الفرصة لقوي الخير أو الشر.

وليس هذا كل ما في هذا الكتاب من مزايا اكتسبها من روح مؤلفه العظيم، ذلك أن في الكتاب حسا مسرحيا عاليا  يستعين  به المؤلف علي إدارة الحوار الكفيل بإضاءة الموازنة ـ قدر الإمكان ـ بين الحجج والأسانيد المتعارضة للآراء المتضاربة، ويأخذ المؤلف نفسه بإبراز تفصيلات هذا التناظر بين الجانبين قبل أن يأخذ بأيدينا إلي جانب الصواب الذي ينحاز إليه بحكم انحيازه إلي قضايا الإنسان في كل هذه الصراعات، وتتبدي نزعته الإنسانية العميقة في تعاطفه الشديد مع كل ضحايا الطغيان والبغى.

وقد أحسنت دار الشروق صنعا حين قدمت هذا الكتاب بهذا الغلاف المعبر بصورة منفرة عن الطغاة والبغاة صاغها باقتدار الفنان المتميز حلمي التونى، وإن كان هذا اللون الأحمر في حاجة إلي شىء من التلوين الدقيق الذي يجعله بعيداً  عن الالتباس بالحرية الحمراء.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com