الرئيسية / المكتبة الصحفية / المستشرق التونسي #سانتلانا الذي نقل الفقه المالكي إلى الغرب الأوروبي

المستشرق التونسي #سانتلانا الذي نقل الفقه المالكي إلى الغرب الأوروبي

أبدأ بتفسير الصدمات الكهربية التي يحملها العنوان أو التي شحنت فيه، فأما أولى هذه الصدمات فهي تلك المتمثلة في التنافر بين كلمتي المستشرق والتونسي، وسأزيل هذه الصدمة جزئيا بأن أنقل عن عالم عربي حكيم هو السفاريني (المتوفى ١٣٩٥) قوله: “متى سكن الإنسان ببلد ثلاث سنين فصاعداً صحّ أن يُنسب إليها” وقد عاش هذا المستشرق سانتلانا في تونس منذ ولد في 1855 ولم يتركها إلى لندن إلا بعد أن قارب العشرين من عمره، ولهذا السبب فقد كان يعرف العربية معرفة ممتازة، بل كان يُجيد الفصحى، والكتابة والتعبير بها.

 

وهنا نأتي إلى الصدمة الثانية التي لم أشأ أن أفسح لها المكانة الكافية في العنوان، وهي أن هذا الرجل يصنف عند مؤرخي العلوم على أنه من أعلم الناس بالفقه المالكي!، نحن نعرف أن عالم المصريات القديمة قد لا يكون مصريا من الأساس، وقياسا عليه فإن أهل فلسفة العلم لا يشترطون في العالم بالفقه الإسلامي أن يكون مسلما ولا شيخا ولا أزهريا، والدليل على هذا يتجسد في هذا المستشرق، فقد ساعدته نشأته وحياته في تونس على أن يكون من أفضل علماء الأوروبيين بالفقه الإسلامي، إن لم يكن أفضلهم، وبالفقه المالكي على وجه التحديد وذلك على الرغم من أنه ظل على يهوديته.

 

وإلى جانب اهتمام سانتلانا العميق والحثيث بالفقه المالكي وجهده في إفادة الأوروبيين به، فقد درس التصوف الإسلامي على نحو متميز وإن لم تكن آثاره فيه قد لقيت حظها من النشر، ومن الجدير بالذكر أنه صدر لهذا المستشرق في الثمانينات وبعد وفاته بخمسين عاما كتابان الأول: الوجود الإلهي بين انتصار العقل وتهافت المادة، صدر في دمشق بتعليقات من عصام الدين محمد على، والثاني هو المذاهب اليونانية الفلسفية في العالم الإسلامي، صدر في بيروت بتحقيق وتقديم محمد جلال شرف.

 

إسباني وبريطاني وإيطالي

أما جنسيات دافيد سانتلانا ١٨٥٥-١٩٣١ الأوروبية فلم تقف عند جنسية واحدة، فهو من أصل إسباني قديم لجأت عائلته اليهودية إلى تونس مع اضطهاد الإسبان لليهود والمسلمين، لكن هذه العائلة وقت ميلاده كانت تحمل الجنسية الإنجليزية، بل إن والده كان قنصلا لبريطانيا في تونس، وبهذه العلاقات نال سانتلانا وظيفة مبكرة كسكرتير للجنة الدولية للشئون المالية لتونس حين كان لا يزال في السادسة عشر من عمره!

 

وفيما بعد فإن دافيد سانتلانا التحق بجامعة روما ليدرس الحقوق، ومن المدهش أنه اشترك أو أُشرك (وهو طالب) في هيئة الدفاع الإنجليزية عن الزعيم أحمد عرابي بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر (1882) فقد كان الإنجليز على طريقتهم قد شكلوا محكمة لمحاكمة الزعيم أحمد عرابي، وفي الوقت نفسه شكّلوا هيئة دفاع من المحامين تتولى الدفاع عنه أمام المحكمة، وهي لجنة معروفة، وتقريرها منشور ومترجم بالعربية، وقد كان سانتلانا بمثابة خبير من خبراء هذه الهيئة، بسبب معرفته بالشريعة الاسلامية وإتقانه للغة العربية وتمتعه بالصفة الديبلوماسية البريطانية. وعلى نحو ما سميناه في هذه المدونة بالتونسي فإن إيطاليا منحته جنسيتها بسبب دراسته في جامعة روما، وكان هو نفسه يجيد الإيطالية من قبل ذهابه إيطاليا لأنها فيما يرجح أستاذنا العلامة الدكتور عبد الرحمن بدوي كانت لغة التخاطب في عائلته.

 

لجنة القوانين التونسية

بدأت علاقة سانتلانا بالشريعة الإسلامية على مستوى التشريع والتقنين حين اختير بعد تخرجه في جامعة روما ليكون واحداً من لجنة خماسية شكلها الاستعمار الفرنسي لوضع القوانين التونسية تحت حكم الاحتلال الفرنسي، وعلى مدى ثلاث سنوات نجح دافيد سانتلانا في وضع ما عرف على أنه المجلد [الضخم] الأول من أعمال لجنة تقنين القوانين التونسية (1899) شاملا القانون المدني والتجاري التونسي فيما يزيد على ثمانمائة صفحة، ومن المعروف أن قانون الأحوال الشخصية في الولاية على النفس والمواريث بقي على نحو ما هو عليه في الفقه المالكي دون أي تعديل.. وهكذا.

 

كانت تونس كالعهد بها في الريادة قد بدأت في كل التحولات الديمقراطية والسياسية الحديثة، ومنها سياسة التقنين على هذا النحو الذي شارك فيه سانتلانا مشاركة فريدة لم يكن من الممكن لغيره أن يؤديها على هذا النحو المنجز السريع، فقد أنجز وحده قانونا كاملا في الالتزامات من 2479 مادة وبيّن مصادرها من المذهب المالكي، ونظائرها في القوانين الأوروبية، وأظهر هذا العمل التأسيسي الضخم قدرة دافيد سانتلانا وعلمه وفقهه من ناحية، كما اثبت من ناحية أخرى قدرة الفقه المالكي على التصدي بنجاح للواقع التشريعي الحديث.

 

اعتقاده الخاطئ

كان من الطبيعي بحكم نشأة سانتلانا وديانته وثقافته وعائلته أن ينشأ عنده اعتقاد بأن الشريعة الإسلامية استمدت بعض أحكامها من القانون الروماني، ومن الطبيعي أيضا أن يراه المسلمون مخطئا تماما في هذا الاعتقاد لكن حقيقة الأمر تدلنا على ما لا يحب الجانبان الاعتراف الصريح به من أمر عميق وهو أن الخالق جلّ جلاله واحد، وأن الله الذي هو الخالق العظيم قد هدى خلقه إلى الحقائق الجوهرية في الفلسفة والقانون من قبل أن يهديهم إلى الأديان السماوية التي شرعها لهم، ولهذا فإني بحكم عقليتي الطبية لا أجد عجبا في أن يكون في تشريعات قدماء المصريين أو في تشريعات قدامى الأوروبيين من رومان ويونان وغيرهم بعضاً ممّا شرّعه الله في دياناته السماوية، بل إن القرآن الكريم كان حريصا إلى الإشارة إلى “ما كتبه” الله جلّ جلاله على بني إسرائيل في التوراة مما هو في حد ذاته جوهر من جواهر التشريع الإسلامي. وعلى كل الأحوال فالأمر في نظري سواء في الأنماط الفكرية الثلاثة، أي سواء في هذا إن كان اعتقاد سانتلانا عقليا قاده إليه بحثه ومقارنته، أو كان هذا الاعتقاد عنصريا منحازاً إلى اصوله ليثبت أن الإسلام نقل منها، أو كان براجماتنا استهدف به أن يقرب التشريع الإسلامي لأذواق الأوروبيين وثقافتهم بالقول بوجود تناظر أو تماثل قوي بين كبار الفقهاء المسلمين في المدينة والكوفة وقرطبة وبين آرائنا (نحن) الأوروبيين! يدلنا أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي على أن سانتلانا كرر هذا الرأي في كتابه الرئيسي «نظم الشريعة الإسلامية».

 

من الجامعة المصرية إلى جامعة روما

تفرغ سانتلانا بعد هذا للبحث في الشريعة الإسلامية بعيداً عن المناصب وفي 1910 دعته الجامعة المصرية (الأهلية) ليحاضر فيها، واستعانت على إقناعه بالحكومة الإيطالية، وأصدقائه من العلماء، ونحن نعرف أن الملك فؤاد (الذي كان لا يزال أميراً ورئيسا للجامعة) كان على علاقة قوية بإيطاليا التي تربى فيها مع والده الخديو إسماعيل حين نُفيّ بعد عزله، وقد قضى سانتلانا العام الجامعي في مصر وألقى محاضراته باللغة العربية في الجامعة المصرية، وقد أشار طه حسين في الأيام وغيره إلى هذه الحقيقة، وبقيت هذه المحاضرات مخطوطة في مكتبة الجامعة، وكان الأستاذ الأكبر مصطفى عبد الرازق قد دعا الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى نشرها لكنه فيما يروي رآها لا تصلح للنشر على الحال التي كانت عليه.

 

في ذلك الوقت كان هناك متغير سياسي جديد وهو احتلال إيطاليا لليبيا في 1911، واهتمام الحكومة الإيطالية بالدراسات العربية والإسلامية، وهكذا كان من الطبيعي أن ينتقل سانتلانا من أستاذية الفلسفة الإسلامية في الجامعة المصرية الأهلية 1910/1911 ليتولى أستاذية الشريعة في جامعة روما طيلة عشر سنوات ما بين 1913 و1923 وليتولى في الوقت نفسه وضع التشريعات لليبيا بتكليف من إيطاليا، وقد اختار أن يقوم بترجمة وشرح مختصر خليل في الفقه المالكي الذي كان بعضه قد تُرجم إلى اللغة الفرنسية من قبل، وها هو مختصر خليل يترجم كله للإيطالية على يد سانتلانا، ليس هذا فحسب ولكنه يتحول على يد سانتلانا إلى قانون كامل أكثر شمولا من ذلك النص الفرنسي الذي أخذ عن متن خليل قبل ذلك. ولهذا السبب فقد قال المستشرق الإيطالي العظيم كارلو نللينو (١٨٧٢- ١٩٣٨) عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة إن هذا العمل الذي أنجزه سانتلانا مع زميله جويدي على مدى خمس سنوات يُعد واحداً من أبرز الأعمال في علم الفقه الإسلامي.

 

كتابه عن نظم الشريعة الإسلامية

على أن الدكتور عبد الرحمن بدوي، كما أشرنا، يرى أن أعظم آثار سانتلانا هو ما يصفه بأنه كتابه الرئيسي «نظم الشريعة الإسلامية بحسب مذهب مالك مع مراعاة أيضا لمذهب الشافعي»، وبهذه الترجمة الدقيقة للعنوان (والتي تركناها كما هي) يكشف الدكتور عبد الرحمن بدوي عن طبيعة هذا الكتاب الذي استحوذ على إعجابه رغم أنه قام على الفكرة المعتمدة في نظرية سانتلانا في التأويل الروماني للفقه الإسلامي وأحواله.

 

ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب صدر في جزأين طبع الأول في 1926 وطبع الثاني في 1943 أي بعد وفاة صاحبه في 1931 باثنتي عشر عاماً وإن كان مسجلا عليه أنه طبع في ١٩٣٨ وذلك بسبب تاريخي طريف وهو أن أمراً صدر في نهاية 1938 بمنع نشر مؤلفات المؤلفين اليهود، ولهذا فإن الجزء الثاني الذي صدر في 1943 كتب عليه أنه طبع في 1938 كي يتفادى ناشروه الوقوع في مخالفة الأمر الصادر في نهاية 1938.

 

فضله

وفي كل الأحوال فإنه يبقى لهذا المستشرق فضل الريادة في تجديد تقديم الشريعة الإسلامية للأوربيين لا عن دعاية لها ولكن عن استجابة لتوظيف منهجها الفقهي في التشريع للحياة وهو ما استعادت أوروبا المعاصرة من خلال جهده الرائد بأكثر مما استفادت به من جهود من سبقوه من الفرنسيين رغم طنطنتهم المبالغ فيها.. لكن المفاجأة التي أخرتها إلى النهاية هي أن جهود سانتلانا قد سبقت من حيث حجمها كل جهود المسلمين أنفسهم، بما في ذلك من مارسوا فكر التقنين قبله، ولهذا فقد كنت حريصا في كتابي «الشريعة الإسلامية في عصر القانون والتقنين» وهو الكتاب المحجوب عن النشر بسبب ما أنا فيه أن يتضمن الكتاب فصلا عن سانتلانا يستطيع من خلاله من درسوا الفروع المتصلة بالشريعة الإسلامية أن يروا حجم الجهد الجاد الذي أنجزه الآخرون من خلال شريعتنا على مدى حيوات حافلة بالثمار.

 
 

 

 

 

 

 

 
 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

 
ض

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

 
 

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com