الرئيسية / المكتبة الصحفية / الرئيس أحمد سيكوتوري أكثر الرؤساء الأفارقة التزاما

الرئيس أحمد سيكوتوري أكثر الرؤساء الأفارقة التزاما

أبدأ بالقول بأن خسارة الأرمن ودولة أرمينيا من الاستدعاء للأخير للحديث عن مذبحة يفوق بمراحل حجم الإيذاء الموجه إلى تركيا، ومن المفهوم بالطبع أن العرقلة المخططة والمتكررة للصعود التركي الواثق هو الهدف الغربي الأول من الاستدعاء المفتعل الراهن لقصة مذبحة الأرمن، ومن الحرص على تكرار فتح هذا الملف بهذه الطريقة المكشوفة في التناول والمقاربة، بدون نفي لمضمون القراءة التي أدركها الجميع بسهولة أرى أن الهدف لا يقتصر على تركيا ولكنه يمتد ليشمل دولة أرمينيا نفسها (أقل من 3 ملايين نسمة ) التي بدأت تتأذى وستتأذى من هذا الموضوع أكثر من تركيا لعدة أسباب :
– السبب الأول أن أرمينيا ستواجه دون رغبة ولا تخطيط تأجيجا في عداوة أفراد شعب كبير العدد واسع الانتشار كالشعب التركي (80 مليون) حين يستعيد ذكريات خيانة الأرمن وغدرهم بالوطن الكبير.
– السبب الثاني أنها قد تعاني من توهين مفاجئ في علاقتها الصاعدة بتركيا في عهد الرئيس أردوغان وهي العلاقة الطبيعية الأولى بالرعاية، فمَثل تركيا بالنسبة لأرمينيا كمَثل ألمانيا بالنسبة لسلوفينيا مهما كان تاريخ العلاقة والإحن والمحن، وحين تبلغ الشعوب والدول مرحلة النضج فإن تأثير استعادة التارات القديمة ينحو إلى الضعف لكنه مع الإلحاح يغدو بمثابة عامل استفزاز للأعصاب واستثارة للمشاعر.
– السبب الثالث أن الطريقة التي يعرض بها الموضوع الآن تستهدف تعميق النزاع القائم بالفعل بين أذربيجان وأرمينيا وهو موضوع طويل. لا يقف الأمر عند حدود أرمينيا لكنه سيمتد إلى كل من ينخدع في الملف من العسكر والطغاة الحاقدين على تركيا الحالية أو على تركيا ذات الأفق الإسلامي في الماضي والمستقبل، وستكون النتيجة أن خيبتي الأمل العاجلة والآجلة ستصيبان كل من يرقص بلا روية في هذا الموضوع مندفعا من الظن بأنه سينال مصداقية أو سيحصل على التعاطف في مجال العلاقات الدولية وسيجد أن العكس هو الصحيح، فالملف نفسه جزء من مساومة وليس جزءا من حقيقة، كما أنه موقوت الهدف وليس دائب الطابع، وقد قيل فيما حول واشنطن في وقت من الأوقات: إن المهمة الاستخباراتية الأمريكية الأولى هي المحاربة الهادئة من أجل إحباط الأصوات الانتخابية المسلمة ممن توجهت له ومكنته من الفوز في الصناديق، وهو ما يعني أنه اذا تصادف أن رئيسا غربيا فاز بالرياسة وكان لأصوات المسلمين دور مؤثر في هذا الفوز فلابد من المسارعة إلى دفعه دفعا حثيثا وبطريقة غير مباشرة إلى تكرار القول بتصريحات معادية لحلفائه الطبيعيين من مواطنيه المسلمين تجعل هؤلاء المسلمين يندمون على وقوفهم معه، وتجعلهم يؤثرون العودة إلى السلبية والعدمية.
وننتقل إلى موضوع المذبحة نفسه الذي قتل بحثا فكانت نتيجته في غير صالح الأرمن وبخاصة مع تكرار الإلحاح الإعلامي عليه، وعلى سبيل المثال فإننا في مصر اضطررنا إلى إحياء الحقيقة القائلة بأن الأرمن كانوا هم الطائفة الوحيدة التي خانت المصريين في ثورة ١٩١٩ بينما كان الإنجليز المقيمون يلتزمون الحياد ولم يساعدوا عسكر الإنجليز المحتل، كذلك فقد ذكرنا في إحدى تدويناتنا أن ثأر الأرمن لهذه الأحداث قد اكتمل تم على نحو لم يشهد التاريخ له مثيلا، وحقق لهم بلغة الثأر كل ما يبتغون إذ استطاع الأرمن مبكرا ووفق خطة صارمة قتل كل القادة العسكريين الأتراك الذين أمروا بما يسمى مذابح الأرمن بلا استثناء.
وعلى سبيل المثال فقد قتلوا جمال باشا السفٌاح وزير الحربية في الانقلاب العسكري العثماني (1872 ـ 1922) الذي كان قد قتل العشرات من خيرة رجال المسلمين ومع هذا فإنه لم يعاقب إلا بيد الأرمن، حيث قتله أرمني معروف في 21 يوليو 1922 في تبليسي عاصمة جورجيا ضمن عمليات مُخطٌطة ومهندسة .كذلك نجح الأرمن في قتل الصدر الأعظم محمد طلعت باشا (1874 ـ 1921) والذي شغل منصب وزير الداخلية في الانقلاب العسكري (1913 ـ 1917) ثم أصبح الصدر الأعظم (1917 ـ 1918) وقد قتل في العاصمة الألمانية برلين على يد أرمني في 15 مارس 1921. ومن الجدير بالذكر أن الاستثمار الغربي للمذبحة لا يتوقف إلا عندما يكون لإسرائيل مصلحة عند تركيا وقد ظل هذا الملف على الدوام من الملفات التي تلتزم إسرائيل فيها باتفاقها مع تركيا.
قلنا من قبل إن التعريف الأمريكي لمذبحة الأرمن يشير في سطره الأول بطريقة حصرية مُحدٌدة إلى أن مذبحة الأرمن تُشير إلى “القتل المُتعمٌد والمنهجي للسكان الأرمن من قبل الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى..” وفي هذا التعريف قدر “مُطلق” من المُبالغة الخاطئة فنحن نعرف بكل وضوح أن الحرب العالمية الأولى انتهت بزوال الدولة العثمانية على يد الاتحاديين الانقلابين من داخلها وعلى يد الحلفاء من خارجها بل هكذا تُردٌدُ الأدبيات الغربية كلٌها، فكيف تكون الدولة العثمانية مسئولة بعد زوالها عما حدث؟ مع أن جمعية الاتحاد والترقي استولت على الحكم على خطوتين سريعتين 1908 / 1909 ومارست الحكم المطلق منذ ذلك الحين وقد كان الهمٌ الأكبر الذي شغل العسكر الأتراك الانقلابين بعد دخولهم الحرب العالمية الأولى هو مواجهة خيانة مواطنيهم الأرمن لهم حيث انضم بعض هؤلاء الأرمن بطريقة غادرة إلى الروس وقتلوا مواطنيهم المسلمين المدنيين في الأناضول الشرقية.
وهكذا رأى العسكر الانقلابين بحكم عقليتهم العسكرية الصرفة أن ينشغلوا بتأديب الأرمن واتقاء شرهم، وقلنا إن من الملفت للنظر أن مُصطلح الإبادة الجماعية نفسه قد اختُرع لوصف هذه الأحداث، بل نشأت جمعيات دولية باسم “الجمعية الدولية لعلماء الإبادة الجماعية” ومن الجدير بالذكر أن هذه الجمعية وأمثالها لم تُعن على الإطلاق بما هو واجب أن تعنى به في ظل هذا الإلحاح الغربي الأخير الذي قد تضطره الظروف إلى مناقشة وإدانة ما حدث على يد العسكر الذين صنعهم الغرب ووجّههم في مذابح العشرية السوداء في الجزائر أو في مذابح الأسد في سوريا أو في مذبحة رابعة وأخواتها في مصر.

ومع هذا الاتزان كله فقد كانت علاقات الرئيس سيكوتوري العربية والإسلامية أكثر من ممتازة، وكانت صداقته لمصر ورؤسائها الثلاثة الذين عاصرهم مضرب المثل في الإخلاص والتعقل، ويكفي أنه هو الوحيد من بين أقرانه الذي جعل اسم الجامعة الوطنية على اسم الرئيس عبد الناصر، كما يكفي أن نُشير إلى أن جامعة الأزهر في 1982 كرّمته بمنحه درجة الدكتوراه الفخرية في احتفال مهيب في عهد رئاسة الرئيس مبارك ومشيخة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق للأزهر ورئاسة الدكتور محمد الطيب النجار لجامعة الأزهر.

كذلك يكفي أن نشير إلى أن هذا الرئيس كان هو مَنْ وقع عليه اختيار الزعماء العرب والمسلمين ليتولى الوساطة بين العراق وإيران في حربهما (80 ـ 1988) ومع أن بعض الأطراف التي وسّطته لم تكن تريد لهذه الوساطة أن تنجح فقد أدى الرئيس سيكوتوري مهمته بإخلاص لم ينتبه معه إلى ما لم يكن العقل يتخيّلُه من الطبيعة المستترة لذلك النزاع والمستفيدين منه
في كل هذه التوجهات كان الرئيس أحمد سيكوتوري من الذين فهموا الأصالة على نحو ذكي وبفهم سيكولوجي واجتماعي مكتمل ساعده عليه ارتباطه بدينه العظيم، ولم يكن مثل مُعاصره الرئيس موبوتو الذي اكتفى من فهم الصياغة بالمفهوم اللغوي أو الفلسفي، وهكذا استطاع الرئيس أحمد سيكوتوري أن يمنح مواطنيه الأمل في مستقبل واعد بعيداً عن الاعتماد على الآخرين كما أنه نجح في إنهاء الانخداع بالانتماء الفرنسي على الرغم من أنه ظل يتحدث الفرنسية التي تعلمها في مرحلة مُبكرة بعد أن كان قد تلقى تعليمه الديني التقليدي فيما يُناظر الكتاتيب والخلوات التي تستعين على التعليم بالقرآن الكريم مؤصّلة لتجربة تعليمية ناجحة دامت لأكثر من 13 قرناً من الزمن، وأمّنت لفقراء المسلمين القدر الكافي من المعرفة الكفيلة بالولوج الناجح إلى النظم التعليمية الأخرى.

هكذا أثبت الرئيس أحمد سيكوتوري نجاحه في التعليم الفرنسي الذي التحق به في وطنه غينيا واستطاع ان يُبلور نجاحاً دراسياً ونجاحاً في تكوين الشخصية القادرة على الأداء وعلى الحكم معاً، وكان أبرز زعيم عمالي يصل إلى رئاسة الجمهورية في وطنه، وكان قد وصل إلى رئاسة العمل النقابي الغيني في 1945 وأصبح سكرتيراً عاما لاتحاد نقابات عمال غينيا، ثم انضم للمؤتمر التأسيسي لحزب التجمع الافريقي الديموقراطي وخطا خطوة مهمة في 1947 حين أسّس حزباً قوياً يستهدف تحقيق الاستقلال الوطني، وقد اختار لحزبه هذا اسم الحزب الوطني الديموقراطي، قبل أن تعرفمصر هذا الاسم الدال بأكثر من ثلاثين عاما، ونجح من خلال النضال السلمي الدءوب (بالإضراب 73 يوماً) في أن يُجبر الفرنسيين على تطبيق قانون العمل في غينيا.

وكان طبيعيا أن ينجح الرئيس أحمد سيكوتوري في تحقيق استقلال غينيا في الوقت الذي كانت الدول الاستعمارية قد بدأت تتخلى عن فكرة الاستعمار القديم لتدخل حقبة الاستعمار الجديد، وهكذا فإنه في بداية عام 1958 لم يستجب لدعوة الرئيس الفرنسي ديجول إلى الاندماج في فرنسا وفضّل أن يمضي إلى تحقيق الاستقلال الذي أُعلن في 2 أكتوبر 1958، وذلك على الرغم من احتفاظه بالجنسية الفرنسية وعلى الرغم من أنه كان عضواً في البرلمان الفرنسي كما أشرنا، ومن الجدير بالذكر أنه توفي في أثناء علاجه بالولايات المتحدة الأمريكية على غير ما هو معتاد من علاج أمثاله في فرنسا. وكان للرئيس أحمد سيكوتوري تراث ثري من الكتب والمحاضرات التي ألقاها وقد تُرجم بعض هذا التراث للغة العربية.

من الطريف أن غينيا كانت تُسمى بغينيا كوناكري أو الفرنسية تميّزاً لها عن غينيا بيساو التي كان البرتغاليون قد استعمروها ولا تزال اللغة البرتغالية سائدة فيها، وبينما يبلغ عدد سكان غينيا بيساو مليونا ونصف فإن سكان غينيا يبلغون ثمانية أضعافهم 13 مليون، وتبدو النسبة نفسها في المساحة (غينيا 245 ألف كلم مربع، وغينيا بيساو 39 ألف ملك مربع) لكن متوسط دخل الفرد حسب إحصاءات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية فيبلغ 450 دولار في غينيا بينما هو ثلاثة اضعاف هذا في غينيا بيساو 1350 دولاراً وبينما تحتفظ غينيا بالفرنك الغيني فإن غينيا بيساو تشارك في عملة الفرنك الخاص بغرب إفريقيا.

 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

 

 

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com