الرئيسية / المكتبة الصحفية / أحمد تيمور باشا الذي ارتفع بقيمة الثقافة حتى جاورت السحاب

أحمد تيمور باشا الذي ارتفع بقيمة الثقافة حتى جاورت السحاب

أحمد تيمور باشا هو أبرز مثل عربي على النبلاء الذين يهتمون بالثقافة والحضارة، ويضيفون اليها، ويتركون بعدهم من المؤسسات او من الأوقاف او من الاعمال ما يضمن لدورهم حدودا معقولة من الاستمرار، لا يضاهيه في هذا الفضل الا احمد زكي باشا الملقب بشيخ العروبة. وقد كان أحمد تيمور عالما موسوعيا عن حق كما كان مثقفًا مطلعا وبحاثة، خصص حياته للبحث والتحقيق والكتابة والدراسة والتصويب، لكنه آثر ألا يسارع إلى نشر مؤلفاته لأنه ظل معنيا بتهذيبها في كل حين، وقد تألفت بعد وفاته (كما سنذكر) لجنة لنشر المؤلفات التيمورية، ونشرت عددا كبيرا من أعماله التي تركها مكتملة، ومع هذا لا تزال بعض أعماله القيمة مخطوطة.

أصله ونشأته

كان جد أحمد تيمور باشا ممن صحبوا محمد على باشا وعمل معه وعين كاشفا فمحافظا، أما والده إسماعيل باشا تيمور فوصل إلى رئاسة الديوان الخديوي، وقد توفى بعد ولادة ابنه أحمد بسنتين، وقيل بل بعدها بشهور قليلة، ولد أحمد تيمور باشا في 5 من نوفمبر 1871، ومن الطريف أنه ولد بعد صنوه ومنافسه شيخ العروبة أحمد زكي باشا بأربعة أعوام، وتوفي قبله بأربعة أعوام، وقد عاش كلاهما في القرن التاسع عشر عمرًا يقل عامًا عما عاشه في القرن العشرين إذ عاش تيمور 29 عامًا في التاسع عشر وثلاثين في القرن العشرين، وعاش أحمد زكي باشا 33 عامًا في التاسع عشر و34 عامًا في القرن العشرين. تولت شقيقته الكبرى عائشة التيمورية تربيته هي وزوجها محمد توفيق، وقد حفظ بعض القرآن على مدرس خاص، وتلقى مبادئ العلوم في مدرسة كلير الفرنسية، وكانت أرقى المدارس في وقتها، ثم انصرف إلى تعليم نفسه تعليما متميزا في بيته ومكتبه ومجالس العلماء، وكان ممن تتلمذ عليهم الأستاذ الإمام محمد عبده، والشيخ حسن الطويل، والشيخ الشنقيطي، أتقن الفارسية والتركية على العلامة الاثري صديقه وزميله المرحوم حسن عبد الوهاب، وتعلم من أستاذه الشيخ محمد عبده أن تكون له ندوة كندوته، وقد توفيت زوجه وهو في التاسعة والعشرين من عمره، فلم يتزوج بعدها حفاظًا على مشاعر أبنائه، وصار لهم أبًا وأمًا، وتوفى ابنه محمد تيمور قبل وفاته بثماني سنوات، فأصيب بالقلب وزاد من مرضه أن ابنه الثاني محمود اعتلت صحته.

قيمته العلمية ومكانته

كان أحمد تيمور باشا صاحب شخصية موسوعية أميل الى النمط الاكاديمي، وكانت شخصيته العلمية شخصية ناقدة قادرة على البحث والتحليل، وكان لسعة أفقه وغزارة علمه يجد أن من واجبه أن يقدم لدراساته وآرائه بالحديث عن أدبيات الموضوع المتاحة من قبله، وهكذا ظهرت في بعض أعماله خصال موسوعية يظنها البعض مرتبطة بالنقل والترتيب وحدهما، بينما هي موهبة متكاملة تقود إلى إنشاء العلم على نحو جديد شامل، ولعل ما فعله في كتابه «الأمثال العامية» يدل على هذا بوضوح، فالكتاب مرجع لا غنى عنه لكل دراسة فولكلورية على أي مستوى، كما أنه مرجع لغوي للهجة العامية، ولتصريفات الجملة المتبعة فيها. وقد ذكر العلامة محب الدين الخطيب أن العلامة الشنقيطي صرح بأنه لم ير في مصر مَنْ يفهم كلام العرب مثل الشيخ محمد عبده، وأحمد تيمور. وقال العلامة محمد كرد علي في الثناء عليه: «كنت إذا عرض لي أو لبعض أعضاء المجمع إشكال لغوي أو تاريخي، أو أحببت أن أعرف كتابا في موضوع يهمني البحث فيه، لا أجد من يشفي غلتي، خصوصا بعد فقد أستاذنا الجزائري، غير أحمد تيمور».

 عاش للعلم وللهوية

يصدق على أحمد تيمور باشا أنه كان كما أشرنا من طبقة النبلاء المستنيرين الذين عاشوا للعلم، وكان أغنى ما عنده في الوجود: أبناؤه، والدين الإسلامي، واللغة العربية، وخزائنه الخاصة، كان بالإضافة إلى هذه السمات العلمية دمث الخلق، كريم الطبع، وقد تحلى بكثير من الصفات الشخصية النادر اجتماعها من الجود والكرم، والتواضع، ونكران الذات، وبذل المعروف من جهده وعلمه وماله، ومع أنه بحكم طبعه كان منقبضا عن الجمهور، فإنه كان حفيا بالعلماء ومجالسهم. وكان له نشاط اجتماعي وخيري ومدني، وقد شجع على إنشاء جمعية الشبان المسلمين التي رأسها عبد الحميد سعيد باشا، وبذل لها من ماله. كما شارك في أنشطة جمعية الهداية الإسلامية التي رأسها الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين. وعلى الرغم من أصله الكردي فإن أحمد تيمور باشا كان يتعصب للعروبة تعصبا تاما، وقد كررت ولا أزال اكرر الإشارة الى قوله ان الاكراد عرب، وقد رغب إليه نور الدين مصطفى بك أن ينضم إلى جمعية تورانية تضم غير المصريين من الأجناس الأخرى فرفض رفضا تاما، وكان تعصبه للغة العربية وللحضارة الإسلامية مضرب الأمثال، ولم يكن يؤرخ إلا بالتاريخ الهجري، وقد اضطر البنك السويسري إلى أن يقبل منه شيكاته وتعاملاته بهذا التاريخ.

إسهاماته المؤسسية

تتمثل أبرز أفضال أحمد تيمور باشا المؤسسية الحكومية في نشاطه في دار الكتب، حيث اختير عضوا في مجلس إدارتها فأبدى الآراء الذكية في تنظيم الدار وتنسيق مقتنياتها على النحو الذي استمر بعده. كذلك اختير عضوا في لجنة إصلاح الأزهر عام1924، فكانت آراؤه التي شارك بها صدى لتعاليم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، ويذكر له أنه اشترك بجهد وافر في لجنة إحياء الكتب العربية التي أسسها الأستاذ محمد عبده. وقد اختاره الملك فؤاد لعضوية مجلس الشيوخ الأول، ومنحه الباشوية.

بيت تيمور باشا

كان بيت تيمور في درب سعادة بحي باب الخلق صالونًا ثقافيًا دائمًا وكذلك كان قصره في الزمالك، وكذلك كانت عوامة تيمور في النيل، وعزبته في قويسنا، وكان المثقفون من العراق والشام واليمن والمغرب العربي يتوافدون إلى هذه الصالونات الأدبية الأربعة، يقيمون بالقرب منها ويترددون عليها بالأسابيع، حيث يراجعون ما انتهوا إليه على ما هو متاح من الكتب ونوادر المخطوطات التي تنفرد مكتباته بها.

فضله في خدمة التراث العربي

كان لأحمد تيمور فضل كبير على التراث العربي في ميادين عديدة، فقد شرع مبكرًا فيما عرف به من نشاط ضخم في جمع المخطوطات العربية، وكان حريصا على الحصول على صور فوتوغرافية للمخطوطات العربية من مكتبات روما والآستانة وأثينا وباريس والفاتيكان، وقد ضمت خزانة كتبه عشرين ألف مجلد، وقد سجل كثيرا من التعليقات على هوامش مخطوطاته وصحف كتبه، وكان لا يبخل بمخطوطاته على مَنْ يريد الانتفاع بها، بل كان يرسلها إلى مَنْ يطلبها على نفقته، وسوف نتحدث حديثا خاصا عن مكتبته وتكوينها وقيمتها وفضلها .

فضله في خدمة التاريخ والاثار

على صعيد علم التاريخ يرجع إليه الفضل في استكمال الحلقة الناقصة في التاريخ المصري، ما بين تاريخ ابن إياس المصري وبين تاريخ الجبرتي، وقد كتب مخطوطا لم ينشر بعنوان «ذيل تاريخ الجبرتي». ومن المعروف أن أحمد تيمور هو الذي تولى مراجعة المواد التاريخية في دائرة معارف القرن العشرين التي وضعها الأستاذ محمد فريد وجدي وسجل تصويباته في مخطوط بعنوان «نقد القسم التاريخي من دائرة معارف فريد وجدي». ووضع كتابا مهما مطبوعًا ومتداولًا ومقدرًا إلى أقصى حد عن «الآثار النبوية»، وتولى في رسالة مطبوعة تحقيق موضع قبر الإمام السيوطي.

تاريخ المراسم

عُني أحمد تيمور بالجوانب الحضارية والبروتوكولية والمراسمية في التاريخ الإسلامي، فألف كتابا مرجعيا مطبوعًا عن «الألقاب والرتب»، وقد كان هذا الكتاب بمثابة مرجع قيم لأصحاب القرار في البلاد العربية حين رغبوا في العدول عن الألقاب التركية إلى الألقاب العربية، كما ألف كتابا آخر عن «تاريخ العلم العثماني» لا يزال بمثابة المرجع الأول في مجاله. ومن العجيب ان يصبح من أبنائه واحفاده أعلام مصريون في وظائف المراسم حتى في المستوى الأممي .

تاريخ الحضارة

ومن إحقاق الحق أن يقال إن أحمد تيمور كان رائدا فذا في دراسات التاريخ الحضاري العربي التي لم تزل بحاجة إلى عناية، فقد عُني بتتبع التراث الهندسي في الحضارة العربية تتبعا فنيا وتاريخيا وجماليا ونشر نتائج عمله في دراسة مهمة بعنوان «تراجم المهندسين العرب: أعلام المهندسين في الإسلام». ويدلنا كتابه هذا على مدى أصالة علمه، فهو تاريخ حي لجانب من أهم الجوانب في الحضارة الإسلامية، وفيه انتصار للعقلية العربية في مجال الهندسة، ودحض للافتراءات التي أساءت تصوير النضج العقلي لدى الخلفاء المسلمين في استعانتهم بخبراء أجانب كاستعانة الوليد بن عبد الملك بالصنّاع الروم في أبنيته، وقد أثبت بما حقق من وقائع تاريخية وروايات مدى ما وصل إليه الفن الهندسي العربي من قدرة ونجاح، كما برهن على أن الاستعانة بالأجانب كانت عن ثقة بالنفس وعن رغبة في زيادة التجويد.

ولم يقف أحمد تيمور عند حدود الحديث عن هندسة التصميم والمعمار، لكنه كان حفيا بالإشارة إلى فروع الهندسة التطبيقية التي نبغ فيها العرب كالنقش والدهان والرسم والزخرفة، كما كان تيمور حريصا على تحقيق المصطلحات الهندسية التي حفلت بها الحضارة الإسلامية على مدى قرونها المتصلة، وصلت أعمال أحمد تيمور في هذا الميدان إلى ذروة عالية في تاريخ الحضارة بكتابيه المرجعيين «التصوير عند العرب» ” لعب العرب»، وهما كتابان من أهم كتب تاريخ الحضارة.

عنايته بدور الحضارة الإسلامية في العلوم التطبيقية

كان أحمد تيمور باشا سابقا لعصره في لفت الأنظار إلى أهمية دراسة دور الحضارة الإسلامية في العلوم التطبيقية المختلفة. وقد احتفظ بذخيرة قيمة من الآثار الإسلامية من نقود وساعات أثرية وآلات فلكية وأوانٍ وعيون زجاجية، فضلا عن مجموعة من الصور الخاصة بأبطال التاريخ: صلاح الدين الأيوبي، وسليم الأول، وعبد القادر الجزائري، وكان تيمور باشا رائدًا لعلوم وفنون التسجيل الحي والوثائقي للتاريخ (قبل أن ينمو هذا الفن بطريقة مؤسسية ودولية) وقد أذنت له الحكومة المصرية في تصوير «الخليج المصري» قبل ردمه ليسجل حياة خليج كان له الأثر الكبير في معمار القاهرة فترة من الزمن.

تفوقه في ميدان التراجم

ولأحمد تيمور باشا نشاط متميز في ميدان التراجم، وقد وضع كتابا مرجعيا في ضبط الأعلام، ووضع مرجعًا في غاية الأهمية في التراجم: «أعيان القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجري»، وعلى الرغم مما كان متوقعا لهذا الكتاب من شمول وسعة، فإنه يُروى أن تيمور باشا مزق أكثره بسبب ما وجده من إلحاح معارفه عليه بأن يكتب عن أقاربهم بما لا يتفق مع حقائق التاريخ. ويميل منهج أحمد تيمور في كتابة التراجم إلى منهج شبه قصصي، حتى إن الدكتور زكي مبارك فيما نقله عنه الدكتور محمد رجب البيومي أشار إلى أن روح القصاص كانت تكمن لدى الرجل وحين غلبتها روح البحث فرت منه إلى ولديه محمد ومحمود. كذلك ألف أحمد تيمور باشا «ذيل طبقات الأطباء» ولا يزال مخطوطا، إضافة إلى جهده في الترجمة للمهندسين في كتابه السابق الإشارة إليه. كما اختص تاريخ أعلام أسرته بكتاب مطبوع هو «تاريخ الأسرة التيمورية». ويتصل بهذا أيضا ما كان لأحمد تيمور أيضا من جهود متميزة في تاريخ الفقه الإسلامي والفرق الإسلامية، وله كتابان مطبوعان «نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة» و«الزيدية ومنشأ نحلتهم».

جهوده اللغوية

لأحمد تيمور باشا جهود لغوية رائدة، وقد كان عضوا في مجمعين لغويين من المجامع اللغوية الباكرة التي لم يقدر لها الاستمرار في الحياة، وله دراسة متميزة عن «السماع والقياس» وأخرى عن «أسرار العربية»، وقد طبعت هاتان الدراستان، كما أنه ترك من دراسات التحقيق ما يوصف على أنه دراستان تصويبتان مهمتين تم طبعهما عن «تصحيح لسان العرب» و«تصحيح القاموس المحيط»، وبهذا كان لأحمد تيمور فضل كبير في علم متن اللغة، وفي ارتياد آفاق دراسات أو علم تصحيح أخطاء المعاجم، وقد ألف كتاب «معجم اللغة العربية» ليرد به علي الدعوة التي قام بها المغرضون لنصرة العامية علي العربية، كما ألف كتاب البرقيات، ليشهد بفضل اللغة واتساع صدرها. كما وضع أحمد تيمور باشا فهرسا لخزانة الأدب في 13 فهرسا (مفتاح الخزانة) .

تاريخ الأدب العربي

تنم دراسات أحمد تيمور باشا في تاريخ الأدب العربي عن إلمام واسع وتجويد منشود، وله منتخبات من الشعر العربي لا تزال مخطوطة، كما أن له دراسة مطبوعة عن «أوهام شعراء العرب في المعاني»، ودراسة أخرى مخطوطة عن «أبيات المعاني والعادات»، وله كتاب مطبوع شهير مما نسميه الآن كتب «التعبير الوظيفي» المبكرة هو كتاب «البرقيات للرسالة والمقالة»، وقد حظى هذا الكتاب بشهرة متصلة، كذلك كان تيمور باشا من أصحاب المنتخبات الشعرية التي عبرت بوضوح ودقة عن رقي الذائقة الشعرية لديه وقد ترك مخطوطًا بعنوان: «المنتخبات من الشعر العربي ». وقد عُني بدراسة الفكر الديني لأبي العلاء المعري في دراسة قيمة: «أبو العلاء المعري وعقيدته»، مقدمًا نموذجًا للدراسة المتأنية التي تصل إلى حقيقة الفكرة وجوهرها بعد استقصاء شامل، وقد انتهى فيها إلى أن ما يدل على إيمان أبي العلاء صريح في لفظه، وأن الذي يُتوهم محتمل لوجهين، وكان في إنصافه للمعري يذهب إلى الدعوة إلى فهم آرائه من زاويتها الإيمانية، أي ما يوافق من أحد الوجهين.

ميدان الأدب الشعبي

إما إسهامه الذي لقي ـ ولا يزال يلقى ـ شهرة وذيوعا واعتمادا عليه حتى الآن، فهو إسهامه في ميدان الأدب الشعبي وبصفة خاصة في جمع وتحقيق وفهرسة دراسة الأمثال العامية، وقد جمعها في مجلد ضخم ورتبها حسب حرف الهجاء الموجود في أول المثل، وشرحها شرحا وافيا دون تزيد، كما أشار بلمحة سريعة إلى أشعار العرب وأقوالهم التي عبرت عن مضامين هذه الأمثال العادية. والحق أن لأحمد تيمور باشا جهدًا متصلًا في المجال المتصل بلغة الشعب والأدب الشعبي في كتب لا يزال بعضها للأسف مخطوطا، منها «الألفاظ العامية المصرية» ومخطوط «الكتابات العامية» وهو مطبوع ومخطوط «قاموس الكلمات العامية» في 6 أجزاء.

إسهاماته الصحفية

كان أحمد تيمور باشا قارئا متابعا وناقدا لما ينشر في للمجلات الثقافية الصادرة في عهده، كالمؤيد والهلال والفتح والهداية والزهراء والمقتبس والمقتطف. وتمثل تعليقاته على بحوث ومقالات غيره ثروة من التحقيق والتدقيق والعلم الغزير. وأشهر أعماله في هذا المقام كتابه المطبوع «ضبط الأعلام» وهو كتاب قيم لا يستغنى عنه المحققون ولا الكتاب. وقد أوردنا في موضع آخر من كتبنا نماذج لرسائله العميقة والمفيدة في ضبط المفردات والأعلام والكتابة والإملاء والنصوص.

تفوقه في التأليف الموسوعي

لأحمد تيمور باشا عدد من المؤلفات ذات الطابع المعرفي والموسوعي: فأما كتابه «النوادر» أو نوادر المسائل فمخطوط ثمين جمع فيه ما وقعت عليه عينه من طرائف الأخبار والروايات. وله بالإضافة لهذا مخطوط كتاب «معجم الفوائد » الذي يعتبره الذين اطلعوا عليه بمثابة الكتاب الأم لمؤلفاته كلها، وأما كتابه «التّذكرة التّيمورية» فهو أبرز مؤلفاته الموسوعية المختصرة المفيدة للمشتغلين بالدراسات الأدبية، والتاريخ، والبحث العلمي. وهو في حقيقته دائرة معارف في الدِّين، وشؤون المجتمع، والأجناس والسكان، والطوائف، والبحار، والأنهار، وقد كان الوصف (القريب من العلم) لهذه السمات الموسوعية أنها الفوائد والنوادر .

وقد كتب الأستاذ خليل ثابت في تقديمه لهذا الكتاب: «إن مؤلّفه لم يتناول فيه من المسائل ما هو معروف في مظانه، وما يتناقله العلماء في المؤلفات المشهورة، وما يتوافر للمطالع أن يصل إليه بالرجوع إلى فهارس الكتب مما هو قريب التناول بأقل بحث وأقل نظر، وإنما اختص هذا المؤلّف النادر المثال، بل الفريد المثال، أن حوى اللقطات الغريبة واللفتات الرائعة مما تنطوي عليه بطون الكتب والأسفار، في اللغة والعلم والأدب والتاريخ، ولم تقتصر تلك اللقطات واللفتات على ما هو مطبوع من نفائس الكتب العربية، بل تضاف إليها لقطات ولفتات من نفائس المخطوطات التي احتوت عليها الخزانة التّيمورية الشهيرة التي تحتل ركنًا مهمًا من أركان مخطوطات دار الكتب المصرية، التي حرثها صاحبها حرثاً، وقتلها بحثاً، واستصفى منها الزُّبَدَ، وجمع الشذور، ولمَّ الشّتات، وضم كل شكل إلى شكله، وقرن الشيء بضدّه، حتى تكون لديه النظائر والأشباه، كما تكون لديه النقائض والمفارقات. وقد وضع المؤلّف في ذاكرته ونصب عينيه أكثر من سبعمائة موضوع، اتخذها رؤوس مباحث، وأمهات مسائل، ثم دار في خزانة كتبه في أبواب المعارف المختلفة، وظلّ يقرأ وهو يُذكي الفطنة، ويُحدّ النظر، حتى إذا لمح شيئًا يتصل بأحد هذه الموضوعات التي جعلها مباحث ومسائل، استخرجه من مصدره، واستبقاه عنده ليضيف إليه ما يكمله ويلائمه، ولا يزال كذلك حتى تتألف من كل موضوع صفحة حافلة بشتى التوجيهات إلى المصادر والمراجع والأصول».

وضرب الأستاذ خليل ثابت بعض الأمثلة الحية لما احتواه كتاب أحمد تيمور من فوائد ونوادر فقال: «وإن القارئ الباحث ليجد في «التّذكرة التّيمورية» من الفوائد والدرر ما لا يصل إليه إلا بعد بحث طويل مرهق، مثال ذلك: إن أول ملوك الفرس (جيومرت كلشاه) ومعناه ملك الطين. وأن (الأتابك) معناه أبو الأمير. وأن (إرم ذات العماد) قيل إنها اسم لدمشق». «وأن (الأرنؤود) هم طائفة من الألبانيين. وأن (أمير الجيوش) هو بدر الجمالي. وأن (بابليون) يعرف بقصر الشمع. وأن (بحر الروم) هو البحر الأبيض المتوسط. وأن (بحر الظلمات) هو المحيط الأطلسي. وأن (بحر القلزم) هو البحر الأحمر. وأن (الجاشنكير) هو الملك المظَّفر سلطان مصر. وأن (الدّربند) هو باب الأبواب». «وأن (دهاة العرب) هم: الـحُباب بن المنذر، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقيس ابن سعد بن عبادة، وعبد الله بن بُدَيْل، وزياد بن أبيه».  «وأن (الرّوزنامجة) هي كُرّاسة جمع بها الصّاحب بن عبّاد ما كان يكتبه إلى ابن العميد من بغداد لما زارها، يصف ما شاهده فيها ومن اجتمع به، وأن فيها تندير كثير ببعض مشهوري الشعراء والأدباء». «وأن (زقاق سبتة) هو مضيق جبل طارق. وأن (زياد بن أبيه) استلحقه معاوية بن أبي سفيان بأبيه أبو سفيان، وأن (شمهورش) هو القاضي الجنّي». «وأن (الشّهب السبعة) هم: الشّهاب ابن حجر، والشّهاب بن الشّاب التائب، والشّهاب بن أبي مسعود، والشّهاب بن مبارك شاه الدمشقي، والشّهاب صالح، والشّهاب الحجازي، والشّهاب المنصوري». «وأن (الغُزّ) طائفة من الترك. وأن (قبر قِس بن سَاعدة الإيادي) في جبل سمعان. وأن (الكُرد) أصلهم من العرب. وأن (المباهلة) وقعت بين الحافظ ابن حجر العسقلاني وبين ابن الأمين بسبب ابن العربي. وأن (الهياطلة) هم أسلاف أتراك خلخ وكيجنية بطخارستان».

تمتعه بروح العالم المنصف

كان أحمد تيمور باشا من التجرد والامانة بحيث أرشد، في كتابه هذا، إلى مواضع مهمة من البحث والتحقيق التي كان أسلافه قد أتموها، ومن ذلك إشارته إلى أن الثعالبي أجاد البحث في موضوع إلحاق (واو عمرو) في كتابه «خاص الخاص» وكذلك الجرجاني في كتابه «الكنايات». وإشارته إلى أن محمد جميل بيهم قد تحدث أحسن الحديث عن (يأجوج ومأجوج والسدّ) في العدد الخامس من «مجلة المقتطف». وأن هناك كلام مفيد للباحثين عن (اليمين والشمال) في «كتاب الحيوان» للجاحظ.

شهادة ابنه محمود تيمور في حقه

نأتي الآن إلى الوصف الذي وصفه به نجله الأديب العظيم محمود تيمور حيث قال:«لو أن متصفحا يتتبع سيرة «أحمد تيمور» فيعرف كيف كان ورعا شديد الورع، متحرجا بالغ التحرج، مطبوع النفس علي حفاظ وانقباض، مؤثرا للعزلة ما وسعه الإيثار، زاهدا أيما زهد في حومة الحياة وملتطم الناس .. فأي نهج يتمثله المتصفح لصاحب تلك السيرة، حين يعامل بنيه، في ذلك العهد البعيد ؟ وعلي أي نحو تراه يسوس فلذات كبده، وهو لهم راع، وعليهم رقيب ؟» « ألقيت علي نفسي هذا السؤال، لأجيب عنه بما شهدت، لا بما يعمد إليه متصفح السيرة من تكهن واستنباط، فما راء كمن سمع، ولا من خال كمن تخيل .. ولعل الجواب ألزم بي، أنا الذي كنت أحد أبناء «أحمد تيمور» حوله، فشهدت كيف كان يقوم علي تربيتنا ونحن إخوة ثلاثة، متلاقون علي عاطفة وشعور، وإن اختلفنا في الميول والنزعات بعض الاختلاف».

« في تلك الحقبة التي نشأنا فيها، منذ نصف قرن مضي، كانت التربية المنزلية تبيح للآباء نحو أبناءهم ضروبا من القيود، كما تفرض علي الأبناء لآبائهم ألوانا من التقاليد، فما كان لولد أن يسلك غير المسلك الذي يرضاه أبوه، وما كان لأب أن يدع لولده في مراحه ومغداه سبيلا إلى فكاك.. فالإمرة حق الأبوة، والطاعة واجب البنوة، ومن شذ من الآباء لا يأمر فهو متهاون موصوف بالتفريط، ومن تمرد من الأبناء لا يطيع فهو مستخف موصوم بالعقوق. ولم تكن للأبناء حيلة أو وسيلة إلا الملاءمة بين ما يأخذهم به آباؤهم الحكام المسيطرون وما تهفو إليه نفوسهم الغضة التواقة إلى الحرية والانطلاق». « وكانت هذه الملاءمة هي المخادعة والاستخفاء، وهي التفنن في إبداء الظواهر علي الوجه الذي لا يثير غضبا ولا ملامة، فلكل ولد مهربه إلى مأربه، في ستر من الله أو ستر من الشيطان !وكانت الفنون والحرف في تلك الحقبة الغابرة تتفاوت درجاتها في تقدير الناس، فمنها الرفيع ومنها الخسيس، وربما كان فن الصحافة وفن التمثيل أو حرفتهما أبخس الفنون والحرف نصيبا من حظوة العامة والخاصة علي السواء، ولعل الجمهور يومئذ كان يتخذ من ألقاب السوء والإصغار لقب «الجرنالجي» و«المشخصاتي».. فإن تولع بالصحافة أو التمثيل كريمٌ علي أهله، تمصصوا شفاههم رحمة له وإشفاقا عليه !».

تميزه في تربيته لابنائه

ولا جدال في أن الأديب الكبير محمود تيمور قد تفوق على نفسه في التصوير القيق المنصف والمحب لطبيعة تربية والده العظيم له ولأشقائه :  « .. وحسبي في تجلية ما كان من صنيع أبينا في تربيته لنا، وإشرافه علينا في تلك الحقبة التي أسلفت وصفها، أن أذكر أننا في منزلنا الذي كنا نأوي إليه، ونحن من أبينا علي مقربة ومرقبة، أنشأنا لأنفسنا صحيفة خاصة، نصدرها في المرة بعد المرة وأقمنا مسرحا للتمثيل، نخرج فيه الروايات واحدة بعد واحدة. وكنا نحن ومن أخذ أخذنا من الصحب، نتولي في الصحيفة مهمة التحرير والطبع والنشر، كما نضطلع في المسرح بشئون الإخراج والتمثيل والتفرج والانتقاد !».

« وامتلك قيادنا علي مر الأيام هوي الصحافة والتمثيل، فتعلقنا بهما كل التعلق وتعمقنا فيها كل التعمق، حتى إن أوسط الأخوة زاول التمثيل في المسارح العامة علي أعين الناس، وحتى إننا معا أصدرنا صحيفة السفور خالصة للأدب منشورة علي الجمهور، وبذلك أصبحنا نعد من محترفي الصحافة أو أشبهاه المحترفين. وكنا نري أبانا يمتعض من ذلك شيئا، ولكن في ترفق واتئاد، وينهانا عن التمادي والسرف، ولكن في غير جزم ولا مصادرة. ويتحيل لتوجيهنا إلى الدرس والاستذكار دون أن نحس منه وطأة التوجيه ومرارة الإلزام. ولم يكن يقف في طريقنا إلى ما يعده الآباء من لهو الصبا وعبث الشباب، وإنما كان يجنح إلى محاسنة وملاينة، فيناقشنا مناقشة الأنداد للأنداد، ويشير علينا بما يحب ويرضي، تاركا لنا أن نسلك السبيل الذي نختار» . « عاش بين التلال من كتبه، فلم يأخذ أحدنا نحن أبناءه بأن يكون معه يقرأ له، أو يملي عليه، أو يستملي منه، أو يطالع بجانبه بل يدع ذلك لأنفسنا خاصة، شئناه أو أبيناه، فلم يفرض علي أينا أن يحذو حذوه فيما يستن من سنة وما يرتضي من سلوك» .

شهادة الدكتور محمد رجب البيومي: نشدانه الكمال والنبل

وقد أشار أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي إلى أن الذي حفزه إلى الكتابة عن أحمد تيمور باشا، « كانت ناحية لها دلالتها البعيدة عن نفسيته الكبيرة، ذلك أنه ترك مخطوطات كثيرة من قلمه، كان يستطيع دون جهد ما أن ينشرها علي الناس، فلم يشأ الإعلان عن نفسه بذلك، وقد كان يشتري المخطوط القديم بعشرات الجنيهات ليضمه إلى مكتبته التي تقدر بعشرات الآلاف. ولكنه لم يُعن بنفقة ضئيلة ينشر بها إنتاجه الزاهر، فرارا من الشهرة التي يتكالب عليها الكتاب .وقد لحظته عناية الله فقدرت لمؤلفاته بعد وفاته لجنة علمية تقوم علي نشرها العلمي الدقيق وذلك ما يطمئنا إلى عدالة القدر، إذ الأعمال بالنيات» . «وقد عاش الرجل في عصر كانت المقالات العلمية به تجد تشجيعا ماديا من أصحاب الصحف، وحسب الكاتب أن يكتب فينشر، فذلك كل ربحه مما يعاني من البلاء، ولكن تيمور كان يتتبع المقالات الجيدة في صمت ثم يسأل عن أصحابها المغمورين، فإذا وجدهم من ذوي الحاجة إلى التشجيع قدر لهم مكافأة طيبة، لكل مقال يقرؤه، وقد أشار الأستاذ محمد علي غريب إلى شيء من ذلك فيما كتبه عن نفسه، مما يدل علي أن العلامة تيمور رحمه الله كان ذا رصيد خلقي ممتاز، فهو يسقط غيثه حيث يصادف الأرض الطيبة في صمت هادئ، كيلا يثير حوله الضجيج» .

«إن رجلا متواضعا ينحو هذا النحو المثالي في منهجه، لجدير بترداد مآثره، وبخاصة إذا كانت حياته شذوذا غريبا بين أبناء طبقته، فأكثر من نشئوا نشأته لم يكونوا يفكرون في علم أو أدب أو جهاد، بل عكفوا علي لذائذهم الفانية في النوادي المترفة والسهرات الصاخبة .وقد غشيت عقولهم طبقات من الجهل المتراكم، كما غشيت نفوسهم طبقات أخرى من التبلد والجمود». ويصل الدكتور محمد رجب البيومي إلى أن يصف تيمور باشا بقوله: «راهب يسبّح في دير العلم ويواصل الجهد الحافل في البحث والتنقيب، مضحيا بأعز ما يملك من صحة ومال ووقت».

بعض شهادات معاصريه في حقه

حظيّ أحمد تيمور باشا بكثير من التقدير في كتابات المنصفين والمؤرخين، كما كتب عنه الأستاذ محمد كرد علي في «ذكريات شخصية» والشيخ محمد الخضر حسين في مجلة «الهداية»، وخير الدين الزركلي في مجلة «المقتطف» الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة «المنار». وقد جمع الشيخ محمد ناصر العجمي ما كتب عنه في كتاب قدم له كل من الدكتور عبد الله بن يوسف الغنيم رئيس مجلس إدارة الصندوق الوقفي للثقافة والفكر، والدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، ومن مقدمة الأستاذ العجمي ننقل قوله:  «حفظت لنا كتب التراجم أخبار العلماء المغرمين بالكتب والعناية بها، والاهتمام بشأنها، والحرص الأكيد على الحصول عليها، والشغف بكل ما له صلة بها، فهي حديثهم العاطر، وجليسهم المسامر، يغذون أرواحهم منها في كل وقت، ويقطفون من ثمارها التي لا تنتهي، وإن من أولئك الذين كان لهم غرام بالكتب وفرح بالحصول عليها، العلامة الجليل والأديب اللغوي أحمد تيمور باشا صاحب أعظم خزانة خاصة في القاهرة، فقد انصرف رحمه الله تعالى بدء حياته العلمية إلى جمع نفائس الكتب والمخطوطات واستجلبت له من شتى الأماكن وكان يدفع أثمانها بسخاء، ويرى أن المال يذهب ويعود، وأن الكتاب النادر لا يعوض بالمال، ولهذا قصده تجار الكتب والوراقة، وكانوا يختصونه بأحسن الكتب والمخطوطات، وكان هو يختار منها الجيد، وينتقي أحسنها فيضعه في مكتبته».

«ولم تكن سمة العلامة أحمد تيمور باشا تقف عند هذا الحد، بل وصلت إلى العناية الشديدة بترتيب مكتبته، وتقسيمها عدة أقسام، وخدمتها بالفهارس المفصلة، وكان لا يدخل في مكتبته كتاب إلا وقرأه واحتفى به، وقد دعل هذه المكتبة حقًا مشاعًا للعلماء والباحثين من جهات الشرق وأنحاء الغرب، حيث وقفها ووقف عليها المال الذي يكفل لها البقاء، وما زال الانتفاع بها إلى يومنا هذا، وكانت له مجالس علمية وأدبية مشهورة تعقد بداره أو قصره أو ذهبيته في النيل، ومشاركة ثلة من رجالات القرن الماضي مثل العلامة الشيخ طاهر الجزائري والشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا، ومحمود سامي البارودي، وغيرهم كثير من الأدباء والفضلاء». ومن المشهور في أدبيات الإخوان المسلمين أن الإمام الشهيد حسن البنا تحدث عن معرفته بفضل أحمد تيمور باشا وفضل أصحابه في كتابه «مذكرات الدعوة والداعية» حيث قال: «كان ينفس عن نفسي كذلك التردد علي المكتبة السلفية، وكانت قرب محكمة الاستئناف، حيث نلقي الرجل المؤمن المجاهد العامل القوي العالم الفاضل والصحفي الإسلامي القدير «السيد محب الدين الخطيب»، ونلتقي بجمهرة من أعلام الفضلاء المعروفين بغيرتهم الإسلامية وحميتهم الدينية، أمثال فضيلة الأستاذ الكبير السيد محمد الخضر حسين التونسي، والأستاذ محمد أحمد الغمراوي، وأحمد باشا تيمور رحمه الله تعالي…»

من قصيدة الأستاذ محمد كرد علي في مديحه

أهذا الدجي والصبح ما زال خافيًا
أم الصبح وافي حائل للون داجيا
أقلّب وجهي في الحياة فلا أرى
لذيذًا وكان العيش بالأمس زاهيا
حمامة وادي النيل راع حشاشتي
هتافك إذ أرسلته اليوم شاجيا
سقى دوحك الوسمي وهنا فما لنا
نرى غصنه المياد أغبر داريا
نعي عبقري الشرق تميور فاغتدى
لمعناه قلب الشرق كالقرح داميا
حنانيك عز العلم والمجد والهدى
فقد كان علاما مجيدًا وهاديا
ترحل بالتقوى وأبقى وراءه
ثناء كنفح المسك يسطع ذاكيا
رعى الله قبرًا بل رعى الله روضة
تبوّأها من كان للعهد راعيا

شهادة الدكتور شاكر الفحام

ومن مقدمة الدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق لكتاب الشيخ محمد ناصر العجمي ننقل قوله: «كان عظيمًا من عظماء العصر، جمع إلى العلم والمعرفة الخلق الكريم، والسجايا الحميدة، والتواضع المحبب، وكان يسرع إلى تلبية من يطلب عونه، ويقدم بالرضا والارتياح من المصادر والمراجع النادرة، ما يسعف الباحثين والدارسين ليؤدوا للعربية وعلومها خير ما عندهم، فتعلقت القلوب بحبه، وأجله إخوانه وأصدقاؤه، وأحلوا بهم المكانة الرفيعة، وكما فارق دنيانا إلى الخلود أحس عارفوه جسامة ما نزل به، وتتابعوا يتحدثون عنه، ويعددون مناقبه ومآثره في مقالاتهم وخطبهم إكبارًا له، وتقديرًا للمنزلة التي كان له في نفوسهم. «وإني لآمل وقد نهض الأستاذ العجمي بعمله على خير وجه أن يجعله توطئة وتمهيدًا لعمل ثان يكمل الأول، هو دراسة آثار الرجل العظيم بعد أن طبع أكثرها، وصارت في متناول الطالبين، لتتجلى صورته واضحة القسمات، بيّنة السمات، تفصح عن صاحبها بأجلى بيان، وتكشف عما قام به في سبيل العربية وازدهارها».

الخزانة التيمورية

ونأتي الآن إلى ما وعدنا به القارئ من حديث موجز عن خزانته العامرة التي كانت تضم أكثر من عشرين ألف مجلد عربي، ما بين مطبوع ومخطوط. كما كانت تضم من المصادر الإنجليزية والفرنسية، ما يتصل بآداب العربية، وقد استنسخ لها بالصور الفوتوغرافية من نفائس مكتبات أثينا وروما والآستانة وباريس والفاتيكان كثيرا من ذخائرها العربية، ولما ذهب تيمور باشا لأداء فريضة الحج سنة 1312 وشاهد بالمدينة المنورة مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت هام بها بما تحتويه من نوادر المؤلفات وغرائب المخطوطات، فنسخ صورة من فهرسها الجامع، وأخذ يبحث عما تضمنته من مجلدات، وعندما أراد الشيخ طاهر الجزائري المحقق الكبير أن يتصرف في مكتبته بالبيع بعد احتلال فرنسا للشام، رأى أن يقدمها لأحمد تيمور بدلا من أن تذهب للأجانب.

فن الانتقاء

أجمع مَنْ كتبوا عن تيمور أنه كان منقطعا لمكتبته التي كانت أغنى مكتبة في مصر بعد دار الكتب والأزهرية، وأنه كان يسعى كل حين إلى ما يضمه إليها، وصارت الكتب تسعى إليه، وقد حفلت هوامش مقتنياته بتعليقاته فكان في المعاجم يعلق على هوامشها بما عن له، كما فعل مع لسان العرب، والقاموس المحيط، وكان في غيرها كلما مر على معلومة يراها تستحق التدوين، دونها منسوبة إلى مصدرها في كراس منفصل عن الكتاب، ولما كانت هذه المعلومات ذات موضوعات شتى فقد آثر أن يخصص لمعلومات كل موضوع «كراسة» خاصة بها حتى لا تختلط المعلومات ويتعذر العثور عليها، وقد ذكر أسماء كثير من هذه الكراريس في معجم العاميات، نجح تيمور باشا في أن يحيط بمقتنيات مكتبته إلمام المدقق الباحث، وكان يدون بخطه على أغلب مخطوطات مكتبته ما يفيد اطّلاعه عليها، ويسجل على أول المخطوطات بخطه «قرأناه»، وهكذا كان حريصا على قراءة المؤلفات بمكتبته قراءة واعية، ودراستها دراسة دقيقة، والتعليق عليها، حيث كان يدرس التراث ويصنفه ويصححه أو يوضحه إن لزم الأمر، ومن شدة عنايته بخزانته أنه قام بنفسه بعمل فهارس وافية لها في سجلات خاصة مبوبة تبويبا دقيقا.

عمله المؤسسي في بيته ومكتبته

وكان لتيمور باشا مساعدون ينسخون له أندر الكتب في الطب واللغة والتاريخ من الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب، كما نسخ هو نفسه عددا من نفائس المخطوطات بخط يده، وقد بدأت المكتبة في درب سعادة بالقاهرة، ثم نقلها إلى عزبته في قويسنا بمحافظة المنوفية، وهي إحدى مزارعه التي كان يؤثرها على غيرها، لذا لجأ إليها عندما ضاقت به العاصمة بسبب ضوضاء المدينة، وبعد وفاة صديقه الشيخ محمد عبده الذي كان يسكن بجواره، قرر الرحيل إلى مزرعته ورأى أن ينقل معه مكتبته إلى قويسنا ورتبها في خزائنها حيث كان يرجع إليها ليقرأ ويكتب، وقضى محمد كرد على والشيخ طاهر الجزائري في ضيافته بضعة أيام يقرأ عليهم أسماء الكتب، وقام محمد كرد على بوصفها في المقتبس (عام 1912)، إلا أنهما أشارا عليه بنقل الخزانة من قويسنا، خوفا من تعرضها للحريق، إذ إنها ملاصقة لبيوت الفلاحين الذين يضعون الخوص والعيدان على أسطح بيوتهم، فإذا اشتعلت النيران انتقلت من بيت إلى بيت فتحرق البيوت.

ومنذ بدأ في جمع مكتبته لم يبخل على باحث من الشرق أو الغرب إلا أعاره ما أراد من كتب ومخطوطات إذا تأكد أنه سيستفيد منها، وقد أثنى المستشرق د. ماكس مايرهوف على مكتبته ودورها العظيم ووصفها بأنها «مكتبة نادرة الوجود»، تعد من أتم وأفخر المكاتب المرتبة، وقال المعلوف عن هذه المكتبة: «هي أكبر خزانة في مصر بعد داري الكتب السلطانية والأزهرية، ولكن ما فيها من النفائس قد لا يوجد فيهما». وقد أهدى أحمد تيمور باشا دار الكتب المصرية 18.000 مجلد تضم أمهات نادرة لخلاصة الكتب المصرية عبر العصور، وأهدى مجمع دمشق العلمي 418 قطعة نقود أثرية، و34 ختمًا حكوميًا يرمز إلى كافة العصور التي مرت بها الحضارة الإسلامية.

لجنة لنشر المؤلفات التيمورية برئاسة أحمد لطفي السيد باشا

عقب وفاته شكّلت لجنة برئاسة أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد باشا، لنشر المؤلفات التيمورية وقد عنيت هذه اللجنة بنشر أعماله التي لم تنشر من قبل، مثل: تصحيح لسان العرب، أسرار العربية، معجم الفوائد، الكنايات العامية، الحب والجمال عند العرب، تصحيح القاموس المحيط، أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر، الأمثال العامية، ومن حين لآخر يتجدد الحديث عن فضل أحمد تيمور، وقد حدث هذا كثيرًا، وبخاصة عندما ينشر كتاب من كتبه في طبعة حديثة فينبهر الذين لم يطلعوا عليه من قبل، كذلك فإن الحديث عن فضله وفضل الأسرة التيمورية تجدد في السنوات الأخيرة وبصفة دورية كل عام مع الجهود التي بذلتها السيدة رشيدة تيمور حفيدة ابنه محمد التي نظمت احتفاليات دورية بجدها ومسابقات سنوية لتشجيع شباب المسرحيين كما أعادت نشر أعمال جدها الرائدة، وهي جهود دءوبة لفتت النظر إلى دور متميز لعائلة ارستقراطية راقية محبة للفكر والفن والأدب، وما أثمره هذا الدور المكثف والمعطاء من نفع لثقافتنا العربية انتاجًا وارتقاء .

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com