الرئيسية / المكتبة الصحفية / المرض الذي أودى بحياة الدولة العثمانية

المرض الذي أودى بحياة الدولة العثمانية

كان أخطر الأمراض التي قادت إلى نهاية الدولة العثمانية هو الاندفاع المقنن (بالإجراءات القانونية السلبية إن جاز هذا التعبير) في سياسة تقييد المعرفة ومنع انتشارها، وباختصار شديد فإن طبيعة الانفجار المعرفي، الذي نعيشه الآن كان موجودا دوما منذ خلق الله الأرض ومن عليها (على نحو مصغر)، ثم أصبح موجودا (على نحو أكبر) منذ بدء عهد الطباعة وما تلاه من ازدهار نشاطي الصحافة والنشر، حيث أصبحت الأفكار (سواء أكانت حسنة أم غير حسنة) تنتشر بسرعة لم يتخيلها؛ بل لا يتخيلها حتى الآن إلا من جربها (فيما كتب من فكر جديد أو غريب أو مبدع أو شاذ) وخاض التجربة بنفسه .

ومما يؤسف له أنه بسبب اجتهاد فكري (صدر وصور تحت شعار أنه اجتهاد فقهي) فقد حرّم من صوروا على أنهم هم الفقهاء العثمانيون الطباعة، وكانت هذه الخطوة أو الفكرة أو القناعة خطوة قاتلة لا خطرة فحسب، وكانت هي في رأينا المتواضع في المقام الأول (وليس غيرها من المعقبات الأخرى) سبب الكارثة، التي أدت إلى انهيار الدولة وآذت حضارة الإسلام على نحو غير مسبوق.

ومن العجيب أن المعطيات الفكرية التي استند إليها هؤلاء الفقهاء ما تزال موجودة، وما زالت تدفع بعض فقهاء معاصرين إلى الظن بحرمة بعض الأشياء أو بعدم نفعها على أقل تقدير، عند هؤلاء الملتزمين (أو السلفيين أو الأصوليين) فإنه يترتب على الحكم بعدم نفعية شيء ما أن يصبح بذل الوقت فيه مضيعة للوقت، مما نهى عنه الإسلام، وبهذا تصبح الخطورة كامنة في أن يدخل أي شيء جديد (لا يعرف من حكم على كنهه فائدة مباشرة له) إلى دائرة الكراهية الفقهية بسهولة ويسر، مع ما يترتب على هذا من الكوارث التي تكفل لأعداء الإسلام أن يبقى مجتمع الإسلام على الدوام مكافحا من أجل الوصول المتأخر إلى نقطة الصفر.

القروي الذي يشاهد صنبور المياه في المدينة قبل أن يعرف شبكات المياه يظن أن هذا الصنبور كفيل من تلقاء نفسه باستحضار المياه، بدون أن يدري أن هناك شبكات داخل الحائط وتحت الأرض يمر بها الماء قبل أن يصل إلى هذا الصنبور، ومثل هذا القروي السياسي إذا صادف دعوة كدعوة الاتحاد والترقي ظن أن مثل هذه الدعوى في حد ذاتها كفيلة بتحقيق التقدم والتصنيع والإنتاج، وكفيلة بمد السكة الحديدية والخطوط البحرية ما دامت قد عرضت للحديث عن مثل هذا الهدف ضمن خطابها السياسي أو برنامجها الانتخابي.

ومع أن وجه الحق في بيان هذا الموضوع يكاد يكون ساطعا للمنشغلين بالعلم، فإنه ليس كذلك أمام غير المشتغلين به، ولهذا فقد كنا وما نزال نعتقد في أن الأمر الأيسر هو تحويل أغلبية الناس أولا إلى مشتغلين أو منشغلين بالعلم، من خلال مناهج التعليم والدراسة المنتظمة على سبيل المثال، مهما كان مستوى هذا الاشتغال أو الانشغال فذلك أيسر وأجدى من الدخول المتكرر في المناقشات الفلسفية والمنطقية حول جدوى العلم، وهي مناقشات محكوم عليها مقدما بالفشل، وذلك لأن المنطق لا يستطيع أن يتجاوز ما هو حقيقي من وجهة نظره، فكيف بما هو أقرب إلى الخيال؟ مما لا يعرفه ولم يجربه.

العواقب السياسية لتقييد المعرفة

ننتقل إلى الموضوع السياسي قبل أن تستغرقنا نظرية المعرفة والتعليم والثقافة في مناقشات مثيرة؛ لكنها كفيلة بأن تبدو كأنها تبتعد بنا عن موضوعنا. فنجد أن المجتمع العثماني بسبب قصور معرفته بالدعاوى السياسية والتأريخ السياسي في عصر النهضة في أوروبا أصبح فريسة سهلة لأي صرعة براقة، وعلى سبيل المثال المؤذي لمشاعرنا، فإن القروي الذي يشاهد صنبور المياه في المدينة قبل أن يعرف شبكات المياه يظن أن هذا الصنبور كفيل من تلقاء نفسه باستحضار المياه، بدون أن يدري أن هناك شبكات داخل الحائط وتحت الأرض يمر بها الماء قبل أن يصل إلى هذا الصنبور، ومثل هذا القروي السياسي إذا صادف دعوة كدعوة الاتحاد والترقي ظن أن مثل هذه الدعوى في حد ذاتها كفيلة بتحقيق التقدم والتصنيع والإنتاج، وكفيلة بمد السكة الحديدية والخطوط البحرية ما دامت قد عرضت للحديث عن مثل هذا الهدف ضمن خطابها السياسي أو برنامجها الانتخابي.

عجز المجتمع العثماني عن اكتشاف القصور الفكري في الدعوات المناهضة لهويته

لم يكن المجتمع العثماني بحكم انعزاله عن الجدل السياسي الحقيقي قادرا على أن يكشف قصور أطروحات الجمعيات المغامرة من قبيل “تركيا الفتاة” و”الاتحاد والترقي”، ولهذا فقد كان من السهل على هذا المجتمع أن ينخدع في الدعاوى، التي طالبت أو رأت أن الأتراك أولى بخير بلادهم (“تركيا للأتراك” التي قلدها المصريون بمصر للمصريين) بدلا من أن ينفقوه على ولايات تابعة هنا وهناك، وبخاصة إذا كانت الأنباء الشحيحة تنقل صورة رغبة هؤلاء الأبناء المتمردين في هذه الولايات البعيدة في التمرد والانفصال مع أنهم مستفيدون من وجودهم في كيان الدولة العثمانية.

كان هذا هو التأثير القاتل الأول، الذي نشأ عن التمترس خلف سور يحجب الإفادة من الطباعة، وما تنقله من المعرفة والمعرفة المضادة والرأي والرأي الآخر، وما تخلقه من الوعي السياسي ذي الاتجاهات المتعددة في مقاربة القضايا.

أصبحت الدولة العثمانية تضم بين أبنائها من هم على استعداد ليكونوا أميركيين بدلا من أن يكونوا عثمانيين، وبالطبع فإن الأميركيين اعتبروا هذا إنجازا، بينما تجاهل الأوروبيون الأمر في ظل ما كان يطبع علاقاتهم بأوروبا من عنجهية الحضارة الأقدم والخبرة الأوسع؛ لكن النتيجة على مستوى الدولة العثمانية كانت للأسف الشديد مهددة للوحدة الوطنية وللسلام الاجتماعي وللأمن السياسي، على حد ما يعرف كل من قرأ تاريخ تلك الفترة من نهاية الدولة العثمانية

تحيز القرار ضد الأغلبية المسلمة في الدولة

وعلى صعيد ثان لم يتطرق إليه أحد من قبل، فقد كان هذا القرار نكبة على الأغلبية المسلمة في الدولة العثمانية، ذلك أن الأوروبيين بدأب شديد ودهاء أشد دفعوا الأقليات غير المسلمة أن ترتب لنفسها حقوقا خاصة، تستند فيها إلى ما كان سائدا مما تميزت به الدولة العثمانية على وجه العموم من التسامح مع غير المسلمين، وعليه في النهاية أصبحت طباعة الكتب الدينية المسيحية والتبشيرية متاحة، في الوقت الذي كان هذا ممنوعا على الكتب الإسلامية وكتب المسلمين لولا أن خزائنهم في مساجدهم كانت كفيلة بالحفاظ عليها، ولهذا فإن العهد الأخير من عهود الدولة العثمانية سجل بدون تأمل ما لم يكن موجودا من قبل، فقد شهد تفوقا تكنوقراطيا وفكريا لغير المسلمين على المسلمين لسبب وحيد، وهو أن كنائس هؤلاء والمعاهد الملحقة بها أصبحت تتمتع بمزايا وأجهزة مساعدة على التعلم (بما فيها المطابع)، مما لا يتمتع به المسلمون في مساجدهم ومؤسساتهم التعليمية بما في ذلك مؤسسات تعليم الدين.

المفارقة في قصة الكلية السورية

في مثل هذه الظروف نشأت الجامعة الأميركية في بيروت على سبيل المثال، ولم يكن هذا اسمها، وإنما كان الكلية السورية، وكانت تستهدف أن تكون بؤرة للتبشير ولنشر الديانة والثقافة والقيم المسيحية (بتعبير العصر الذي نعيشه الآن) بيد أن إرادة الله كانت نافذة، فإذا بالأميركيين أنفسهم ينحرفون بفكرة الكلية السورية في بيروت لتكون الجامعة الأميركية بدلا من الكلية السورية، مع الفارق الكبير والمبين الذي يلخصه تغيير الاسم على هذا النحو، ونستطيع في هذه الفقرة أن نلخص للقارئ ما كتبناه في كتابنا “الشمعة الأمريكية في نهضة الشام الثقافية الحديثة” من أن الإغراءات الأميركية المضادة سرعان ما أغرت الأميركيين أنفسهم بتحويل الدراسة في الكلية السورية لتكون باللغة الإنجليزية لا العربية، وهكذا أجهض الأميركيون أنفسهم وبأنفسهم تجربتهم التبشيرية في مرحلة مبكرة، حتى إن “فان ديك” المستشرق المؤسس لهذه الكلية/الجامعة آثر أن يستقيل، وأن يترك التجربة؛ لأنه اكتشف أن المسار قد انطلق بعيدا عن الهدف الديني الحقيقي؛ الذي ضحى وجاء من أجله.اعلان

و على كل الأحوال، فقد أصبحت الدولة العثمانية تضم بين أبنائها من هم على استعداد ليكونوا أميركيين بدلا من أن يكونوا عثمانيين، وبالطبع فإن الأميركيين اعتبروا هذا إنجازا، بينما تجاهل الأوروبيون الأمر في ظل ما كان يطبع علاقاتهم بأوروبا من عنجهية الحضارة الأقدم والخبرة الأوسع؛ لكن النتيجة على مستوى الدولة العثمانية كانت للأسف الشديد مهددة للوحدة الوطنية وللسلام الاجتماعي وللأمن السياسي، على حد ما يعرف كل من قرأ تاريخ تلك الفترة من نهاية الدولة العثمانية، وتمزق الشام على سبيل المثال.

كان الإصلاح السياسي يقتضي نوعا من أنواع الاندفاع “المأمُوني” -نسبة إلى مجمل سياسة الخليفة المأمون- وهو الإصلاح “التحضري” الذكي الهادئ خفيض الصوت، الذي اندفع إليه الخليفة المأمون، وهو يدفع وزن الكتاب ذهبا لمن يترجمه، وقد اقتنع تماما بهذا الاندفاع، الذي جعله يترجم كل شيء دون الوقوف عند نظرية العلم النافع والعلم غير النافع

الوقوع في أسر الأثر الدفين للأدب الفرنسي

الصعيد الثالث كان أخطر بكثير من الصعيدين الأولين، وهو أن الأدب الفرنسي وبخاصة الأدبين الروائي والمسرحي دخلا إلى الدولة العثمانية بدون استئذان لتسجيل تجاربها الاجتماعية من منظور فرنسي معاد ومتعال معا؛ بل متآمر أيضا، وفي ظل غياب الأدب العثماني عن تسجيل حالة مجتمعه، فقد أصبح الأدب الفرنسي مع الوقت هو المصدر التاريخي والفلكلوري لكل ما يحيط بالدولة العثمانية وصورة بنائها الداخلي، وأصبحت الرؤى الفرنسية الخيالية تسد مسد الحقائق التاريخية، فإذا تحدثت عن السلطانة “فلانة”، فأنت تروي ما صوره الأدب الفرنسي عن حياتها، وليس ما صوره العثمانيون أو غيرهم عن حياتها، فضلا عن أن تقرأ نصا صادقا يمكن أن يكون هو حياتها نفسها.

وهكذا رمى العثمانيون أنفسهم من حيث لا يدرون (ومن حيث لايكادون يصدقون حتى الآن) في المستوى الثالث من الافتراء الأدبي على التاريخ، فأصبح المتاح عن التاريخ العثماني والمتكرر (حتى عند بعض أبناء العثمانيين أنفسهم) لا يمت للواقع بأي صلة، ولا يعتمد على ما سجله أهله عنه، ولا على ما صور بناء هذا التسجيل، وإنما على ما ألفه وصوره عدو غير عاقل وغير عادل عن هذا التاريخ من أجل تشويهه، ومع الزمن بقي الأثر الأدبي الفرنسي ليكون بمثابة (إنجيل)؛ لأن الرؤية الأخرى أو الأمامية لم تكن موجودة بنسبة مناهضة، وذلك بسبب منع الطباعة والنشر، وبالطبع ما يسبق الطباعة والنشر من التأليف وما يسبق التأليف من القراءة و الاهتمام .

التصوير في محل التصور

وهكذا حلّ التلفيق المعادي محل التأليف الذاتي، وحل التصوير محل التصور، وحل المسخ محل الأثر، وحلت النصوص المفبركة محل النصوص المروية، بينما ينتمي العثمانيون إلى حضارة إسلامية ارتفعت بقيمة الرواية حتى رواية أساطير الأولين بطريقة الإسناد والعنعنة على نحو ما نرى في تفسير الطبري رضي الله عنه وأرضاه.

في مجمل الأحوال كان الإصلاح السياسي يقتضي نوعا من أنواع الاندفاع “المأمُوني” -نسبة إلى مجمل سياسة الخليفة المأمون- وهو الإصلاح “التحضري” الذكي الهادئ خفيض الصوت، الذي اندفع إليه الخليفة المأمون، وهو يدفع وزن الكتاب ذهبا لمن يترجمه، وقد اقتنع تماما بهذا الاندفاع، الذي جعله يترجم كل شيء دون الوقوف عند نظرية العلم النافع والعلم غير النافع، التي كانت كفيلة بطريقة أو بأخرى بتشجيع فتوى كانت سببا جوهريا في انهيار دولة من أهم دول العالم، وربما كانت هي أهم دول التاريخ الإسلامي كله بلا استثناء.

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com