الرئيسية / المكتبة الصحفية / محمد خليفة التونسي الشاعر الذي رثا العقاد بقصيدة من أربعمائة وأربعين بيتا

محمد خليفة التونسي الشاعر الذي رثا العقاد بقصيدة من أربعمائة وأربعين بيتا

الأستاذ محمد خليفة التونسي (1915 ـ 1988) واحد من أبرز تلاميذ الأستاذ عباس العقاد، ومدرسته في الشعر والنقد وهو شاعر وناثر ومرب بارز لكنه بالإضافة هذا حقق مكانة متميزة في ميدانين مهمين، الأول هو ميدان الثقافة اللغوية والتثقيف اللغوي، والثاني هو ميدان التراث الديني اليهودي والإسرائيليات السياسية، وقد كان من دواعي اعتزازي أنني كتبت المخل الخاص بالتعريف به في قاموس الأدب العربي الذي حرره أستاذنا الدكتور حمدي السكوت، وبالطبع فإن مادة المدخل كانت مختصرة مكثفة.

ولد الأستاذ محمد خليفة التونسي في قرية تونس بصعيد مصر عام 1915، وإلى هذه القرية ينسب اسمه الذي قد يوحي خطأ بأنه منسوب إلى الدولة التونسية! ولا سبيل بالطبع إلى أن نتعالم فننكر على من يضعونه ضمن أعلام تونس ما فعلوه فهو بعروبته وعربيته تونسي أيضا، وكلنا تونسيون، ويقال إن نسب والده ينتهي إلى الأدارسة أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، أما والدته فكانت من أصول تركية.

تلقي الأستاذ محمد خليفة التونسي تعليما دينيا تقليديا في الأزهر الشريف، ثم في دار العلوم وتخرج فيها 1939. يجدر بي هنا أن أعقد مقارنة سريعة بينه وبين اثنين من أنداده أولهما الشاعر محمود حسن إسماعيل الذي ولد قبله في ١٩١٠ وتخرج قبله في دار العلوم في ١٩٣٦ وتوفي قبله في الكويت ١٩٧٧ ونقل جثمانه ليدفن في مصر وثانيهما هو الأستاذ عبد الستار أحمد فراج الذي ولد أيضا ١٩١٥ لكنه تخرج بعده في دار العلوم ١٩٤٣ وتوفي قبله في الكويت ١٩٨١. ومما يؤثر في نفسيتي أشد التأثير أن هؤلاء الشعراء الأفذاذ الثلاثة تمكنوا في عهد الملكية والليبرالية أن ينشروا دواوينهم الشعرية وهم طلاب ومن قبل أن يتخرجوا في دار العلوم، لكنهم بعد كل ما وصلوا إليه من الأمجاد والتقدير والمناصب والجوائز كانوا مضطرين إلى العمل الشريف في خارج مصر في الكويت حيث توفي ثلاثتهم وهم يعملون، بينما بقيت لهم أعمال لم تنشر مع استحقاقها للنشر، أدعو الله أن يوفقني للقيام بهذا الواجب.

عرف الأستاذ محمد خليفة التونسي صالون الأستاذ العقاد منذ بداية دراسته وحتي وفاته (1932 ـ 1964) وظل من أشهر حوارييه، ويري الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم أن قصيدته في رثاء العقاد واحدة من كبريات القصائد في الشعر العربي

بعد تخرجه تأهل الأستاذ محمد خليفة التونسي للعمل في التدريس (بدراسات تربوية) وعمل به بالفعل، وبالتوجيه الفني للمدرسين (1939 ـ 1964)، ثم كان من طلائع المدرسين الذين عُهد إليهم الحكومة بمهمة المناهج، وتطويرها في الأزهر الشريف بحكم ثقافته الأولي، كما انتدب للتدريس في المعهد النموذجي للأزهر (1961) الذي أسس على غرار مدرسة المتفوقين النموذجية، ثم أعير للعراق (1964 ـ 1972)، ثم عمل في مجلة «العربي» الكويتية (1972 ـ 1988) حتي توفي، وقد دفن في أرض الكويت بناء على وصيته أن يدفن حيث يموت. على حين دفن الأستاذ التونسي في الكويت.

مقالاته في الثقافة اللغوية

عُرف اسم محمد خليفة التونسي على نطاق واسع بمقالاته الصحفية التي بسط فيها كثيرا من حقائق اللغة وقواعدها، كما عرف بتقريبه النصوص الشعرية والأدبية من أذواق الجمهور المعاصر، وقد وصل إلى أوسع نطاق في هذا الميدان حين واظب على كتابة صفحة شهرية في اللغة في مجلة «العربي» التي هي أوسع المجلات العربية انتشارا، وأعلاها قيمة. وكان التونسي من الذين اتجهوا منذ مرحلة مبكرة إلى الكتابة في الصحف والمجلات محققين ذاتهم، ومعبرين عن آرائهم النقدية والفكرية، وناشرين لإبداعهم الفني، فكتب في مجلتي «الرسالة» و«الثقافة» في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، كما كتب في «الأساس» و«البلاغ» وملحقها الأدبي، وفي عهد الثورة كتب في «تراث الإنسانية»، و«الكتاب العربي»، و«الجمهورية»، وفي دولة الكويت كتب في «الكويت»، كما كتب للكثير من الصحف العربية: «الضياء»، و«الصرخة»، و«الرأي العام»، و«الوطن». وفي مجال الولاء للثقافة اللغوية العربية نشر الشاعر محمد خليفة التونسي «أضواء على لغتنا السمحة» في كتاب «العربي» (1985)، وترك مخطوطا حول «سماحة اللغة العربية: أصول وفصول»، وجمع بعض مقالاته عن التراث: «قال الراوي: قصص من التراث».

قصيدة رثائه للعقاد

عرف الأستاذ محمد خليفة التونسي صالون الأستاذ العقاد منذ بداية دراسته وحتي وفاته (1932 ـ 1964) وظل من أشهر حوارييه، ويري الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم أن قصيدته في رثاء العقاد واحدة من كبريات القصائد في الشعر العربي، وربما في كل عصوره، إذ بلغت أربعمائة وأربعين بيتا من الخفيف علي روي الدال، كقصيدة «المعري» الدالية المشهورة في رثاء الفقيه الحنفي، يقول الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم: «ولا نقول إنها من كبريات القصائد لطولها فحسب، بل لأنها رسمت صورة صادقة لشخصية المرثي (العقاد)، ومَنْ كخليفة يصور شخصية العقاد، إنه عاشره اثنتين وثلاثين سنة، وكان أمين سره على حياته الأسرية حين كان الجبلاوي أمين سره في حياته العاطفية، وقد نظم قصيدته في العقاد في ثلاثة أسابيع». وفي هذه القصيدة بيتان مجيدان خالدان للتونسي في مديح العقاد:

          ذلك الـــرأس ما حنـاه لجبـــــار          سوي الله رب كل العباد

          تستوي عنده، رءوس المساكين          وأهل التيجان والأقلاد

ومن الإنصاف أن نضيف إلى ما ذكره الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم القول بأن دراسات محمد خليفة التونسي عن العقاد تتميز بالدقة والرؤية والحب، وقد اشترك في تأليف:

ـ العقاد: دراسة وتحية، 1958.

كما كتب:

ـ «فصول في النقد عند العقاد، 1952».

ـ «حول لواء العقاد».

أعماله الشعرية

أبرز أعمال الأستاذ محمد خليفة التونسي الشعرية ديواناه «العواصف» و«الرباعيات»، صدر الجزء الأول من «العواصف» (1935)، والثاني (1947)، وصدر الجزء الأول من «الرباعيات» (1966)، والثاني (1987)، ومن المعهود في تاريخنا الأدبي أن نقول ما ينقل عنا من أن شعره ينتمي إلى مدرسة دار العلوم بما امتازت به من رصانة، وقوة، وتجديد في المعاني والأساليب، ويعده كثير من النقاد من أبرز رموز مدرسة العقاد (أو ما بعد الديوان)، شأنه شأن عبد الرحمن صدقي، ومحمود عماد، والعوضي الوكيل، وأحمد مخيمر، ومحمود غنيم. وقد ترك من الدواوين المخطوطة «الفيصليات».

دراسته للتراث الديني اليهودي

انفرد الشاعر محمد خليفة التونسي بين أقرانه بالدراسات التي تناولت التراث الديني اليهودي، وله في هذا المجال ترجمتان شهيرتان: «بروتوكولات حكماء صهيون» (1946)، و«كنوز التلمود» (1989) وهو كتاب من تحرير ليفي ونشرته مكتبة دار البيان الكويتية عن طبعة لندن، وقد أضفي الأستاذ التونسي على هاتين الترجمتين من قدراته اللغوية البيانية ما جعل النصوص أقرب ما تكون إلى معانيها الأصلية، ومراميها الدقيقة، وهو ما ساعد بقدر كبير في أن تكون الدراسات المعتمدة عليها ذات طابع صائب وبعيد عن الغموض، وتذكر بعض المصادر أن له مخطوطات حول «العناصر النفسية لليهود»، و«همجية التعاليم الصهيونية».

وفي مجال الترجمة للأدباء ودراستهم

كتب الشاعر محمد خليفة التونسي

ـ «مع الشعراء».

ـ «الخليل بن أحمد: عبقريته الرياضية».

ـ «عبقرية المهلب».

ـ «بشار بن برد أول شاعر كبير في العربية».

ـ «شاعر مجرم.. مالك بن الريب».

وجمع عددا من مقالاته في:

ـ «تأملات حرة في الدين والفلسفة والأدب والفن، 1983».

إسلامياته

ظهر حب الشاعر محمد خليفة التونسي للإسلام ورموزه وأهل بيت النبي (صلي الله عليه وسلم) في عدد من الكتب والمخطوطات:

ـ التسامح في الإسلام، 1951.

ـ حول فلسفة الصيام.

ـ أسرة النبي صلي الله عليه وسلم.

المدينة: لماذا اختارها النبي صلي الله عليه وسلم موطنا لهجرته؟

كذلك عني بدراسة «الزندقة: أصولها وتطورها».

وقد ترك من الدواوين المخطوطة: «الأنوار المحمدية» وهي ملحمة شعرية

وامتدت دراسات الشاعر محمد خليفة التونسي إلى الموضوعات التاريخية التي كون رؤي خاصة فيها بحكم دراسته لتاريخ الأدب، وأثر التاريخ العام فيه، فكتب مخطوطين عن «المختار بن عبد الله الفقي»، و«ثورة الحسين بين الواقع والفن». ترجم «ما أعتقد» لبرتراند رسل.

غناؤه للقوة

كان الشاعر محمد خليفة التونسي يتغني بالقوة في بواكير شعره، وظل على هذا العهد حتى إنه يقول:

          فلست أحب العيش رخوا، وإنما          أريد حياة ملؤها الهول والرعب

ومع هذا فقد كان حريصا في قصيدة أخري على الحديث عن نبل أخلاقه:

          غير أني عف عن الظلم عمري          إنما الظلم من خصال العبيد

          لست أقسو على الضعيف ولا          أطلب في الضعف مظهرا لوجودي

كذلك فقد عبر الشاعر محمد خليفة التونسي بشعره عن وجدان ثري وذكي، وعن ثقة كبيرة في النفس نحن نراه في أجدي قصائده يهاجم غرور نفسه فيقول:

          مضي بي الســـــقم للفـــراش          فلما جاء آسي قال: ما الداء؟

          قلت: غرور طغي فأرهقني          فكل نفسي أسي وإعياء

          قال: فبشراك فالغرور يقوي          مَنْ له في السماء أهواء

من شعره في الفخر

وكان الشاعر محمد خليفة التونسي يداوم في شهره على إظهار الاعتزاز بأسلوبه الصادق في الحياة، وهو يقول على سبيل المثال:

          أنا إن فاتني التأنق في شعري          فحسبي أني صدقت المقالا

          هكذا عشت صادقا مع نفسي          مستريح الضمير حالا فحالا

          لا أشـاري ولا أمــاري صديقا          أو عدوا وإن جفا واستطالا

          وبحسبي غنما سكينة نفسي          وأنا بالسلام أنعم بالا

وظل يعتز أيضا بشعره وبجهده في صياغته ونسجه:

          من كياني غزلت شعري كما          يغزل دود الحرير صفو الحرير

          فإذا ما أكملـت غـزلي فقد          حققت ذاتي، ولم أبال مصيري

حياته الفلسفية والاجتماعية

ويحفل شعر الأستاذ محمد خليفة التونسي بتأملات فلسفية عميقة تنم عن شغفه بالتأمل والتفكير:

          كنت أخال العلم عقلا ولكني          رأيت العلم بدء الجنون

          يا لهف نفسي ما أمرّ اليقين          ما بال كوني بالأماني ضنين

كذلك يحفل شعره بالتعبير عن انطباعاته عن الحياة الخاصة، ومحنها، وسرائها، وهو على سبيل المثال يعبر عن امتنانه لزوجه فيقول مخاطبا إياها:

          أنــــــــت أغلي النســـاء عنـدي          وأعلاهن قدرا، وفي رضاك حياتي

          أنت إلفي، ومنك ولدي، وفي          كفيك تدبير كل ما في حياتي

          ما بنا حاجــة إلى سد عيني          وقلبي عن طيبات حياتي

          وحياتي ـ لا شك ـ أنت، ففيم          الخلف فينا، ما دمت أنت حياتي

وفي المقابل فإنه يصف ما عاناه والده من أسي وبؤس ووحشة بعد رحيل والدته:

          أبي «بتونس» يشكو من ضني الكبر          ووحشة النفس في أيامه الأخر

          يا لــيت أمي قـد عاشـــت لتـــرأمه          والزوج أحني حمي في أرذل العمر

          ما زلت أعهده جلدا، فمذ رحـلت          عنه تهاوي، كجذع شاخ منقعر

          قد خلفته يتيما، بل أشـد ضني          والشيخ أوهي وأوعي من ذوي الصغر

عداؤه للسياسات الناصرية والشمولية

وكانت للشاعر محمد خليفة التونسي مواقف سياسية واضحة لكنها كانت تبتعد قدر ما أمكنها عن الصدام مع سلطة الدولة، ومع هذا فقد هاجم الناصرية والاشتراكية والشمولية بأبيات قاسية تبلور رؤية بعض المثقفين (غير اليساريين) لنتائج تطبيقها في المجتمع العربي:

          أفقـــروا أغنيـاءهــم ثــم لــم          يغنوا فقيرا، فكلهم فقراء

          ثم زادوا الجميــع فقرا، وهاجوا          السوء فيهم، فعمت البغضاء

          واستبدوا بأمرهم، فانطوي كل          علي نفسه، ومات الولاء

          خـــال كلٌ أخــاه عيــــنا علــيه          ففشا الجبن بينهم والرياء

وهو يقدم، في يأس وسوء ظن بالناس، بعض نصائح المجربين فيقول:

          لا تـحــــــدث بنعمـــــة اللــــه قـومـا          حرموها، فيحسدوك عليها

          وتثـــير الأحقــــــاد فيهــــم، فــــلا يــــر          ضوا جزاء حتى يعروك منها

          حسبهم ـ غصة بها ـ ما تري أعينهم          في الخفاء طوعا وكرها

          أن يكـون الإنسـان ذا نعمــة ـ جـــرم          يسد الغفران عنه وعنها

وفاته

توفي الشاعر محمد خليفة التونسي في 11 يناير 1988، ودفن في مقبرة الصليبخات بالكويت، ورثاه الأستاذ عبد السلام البسيوني بمقال مؤثر في مجلة البيان.

 

 
 

تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة

 
 

لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا

 
 

للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com