الرئيسية / المكتبة الصحفية / الإعجاز في قوله جل جلاله: “يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا”

الإعجاز في قوله جل جلاله: “يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا”

وقف العلماء والمفسرون كثيراً حول هاتين الآيتين اللتين تجتمع فيهما أربعة مواضع من الإعجاز القرآني، وأخذوا على سبيل المثال بما فتح الله به عليهم ينشغلون بتفسير السبب في نصب “عين” ولجأوا إلى تقديرات مختلفة من ثلاثة مذاهب أو تسويغات لن نتطرق إليها إلا بعد أن نذكر ما فتح الله به علينا في فهم هاتين الآيتين اللتين تقدمان أربعة إعجازات تتعلق بمعاني المزاج والكافور والتفجير والعين، وفي ضوء هذه الإعجازات لا تكون هناك حاجة إلى ما انشغل به العلماء من تأويل إعراب “عينا”.

 

نبدأ بالتدريج فنقول لو أن القرآن الكريم صاغ هذه الآية على طريقة الأسلوب البسيط في أننا نشرب ماء زمزم مثلاً في كأس أو قدح أو كوب ما كان الأسلوب ليرقى إلى الإعجاز الذي أراده الله للتنزيل العزيز في التعبير عن المشروب والوعاء الذي يتم الشرب منه، لكن الله جلّ جلاله جعل كتابه العزيز يقدم هذا المعنى بأفضل صورة معجزة فالمشروب هنا (نحويا: المفعول به) هو ماء ذلك العين، كما تقول شربنا زمزم أو شربنا إيفيان، أو بركة أو حصة أو الريان وما إلى ذلك من أسماء المياه المعدنية التي تعرفها الآن كل الأقطار (تشبُّها بما نعرف عن تسمية زمزم باسم العين التي تنبع منها) حيث تعبأ المياه المعدنية بأسماء تجارية، وهكذا فإن عيناً هي المفعول به لفعل الشرب وليست على نحو ما قالت المذاهب النحوية الثلاثة في تفسير نصبها وهي مذاهب لجأ فيه أساتذتنا المفسرون إلى الجمع بين تقديرين فالمذهب الأول مثلا يقول إنها بدل من المفعول به، ومع أن المفعول مجرور فإنهم يقدرون البدل منه في حاله الطبيعي منصوباً، والمذهب الثاني ينصبها على المدح، وهو أسلوب عربي بليغ معروف (نعرفه على نحوما نعرف أسلوب الاختصاص) والمذهب الثالث ينصبها على أنها حال، (بل وصل الحال إلى نصبها على أنها تمييز.. الخ).

أما بما فتح الله به علينا فإن كل هذه التأويلات لا لزوم لها فالشرب كما يقول النُحاة وقع على العين نفسها، حتى وإن تأخر اللفظ عن الفعل على ما هو معروف من عدم ضرورة الالتزام بالمجاورة الكاملة بين الفعل و المفعول به، ويؤكد هذا ما وصف الله به هذه العين من صفة خاصة وهي أنها “عين” خاصة بهم يفجرها الله جل جلاله لهم ولهذا فإن الحق جلّ جلاله حين ذكر فعل التفجير بناه للمجهول من باب التعظيم الذي يصيب الأفعال التي لا يقدر عليها إلا المولى جلّ جلاله، وزاد الإعجاز القرآني درجة أخرى من البلاغة وهي أنه جعل هذا الفعل الذي نتوقع تعديته للمستفيد به بحرف اللام يتعدى بنفسه بعد بنائه للمجهول، مثلما نقول هبة وهبوها (بدلا من قولنا: هبة وهبت لهم)، وذلك إيحاء بأن هذا التفجير الذي يُفجره الله للعين مباشرة لأهل هذه العين التي لا تكف عن التفجر لهم، وهو ما يوحي به استخدام كلمة تفجيرا، فإن المصدر إذا جاء مع الفعل أفاد التكرار والدأب والدوام الذي لا ينتهي، وهكذا فإن هؤلاء الأبرار يُسقون عينا تُفجر لهم ، أو بالتعبير القرآني الذي يُعجز البشر عن مثله يُسقون عيناً تُفجر لهم على الدوام.

 

انظر إلى هذا التعبير الذي يجعل هذه العين وكأنها تذاب تماما وتندفع (تتفجر) لهؤلاء الذين رُزقوها كما يُذيب المفجِر المفجَّر. ونعود إلى بداية الآية الأولى حيث يشير الله سبحانه وتعالى في هذا النص القرآني المعجز إلى وصف مهم للكأس الذي هو الوعاء وهو وصف التطهير الفائق الذي يتحقق بالكافور الذي يُستخدم في التطهير، وحتى نفهم هذا المعنى الدقيق الذي أُجهّد فيه أساتذتنا المفسرون أنفسهم ووصلوا إلى اجتهادات عظيمة من دون أن يصلوا إلى جوهره فإننا نبدأ بفهم كلمة “المزاج” فهذه الكلمة قد توحي بأنها تتصل بمعنى الرائحة كما ذهب كثير من أساتذتنا المفسرين متأثرين بمعلوماتهم المسبقة عن رائحة الكافور الطيبة لكنهم كانوا يجدون أنفسهم عاجزين عن المضى إلى النهاية مع لجوئهم إلى هذا التفسير القريب لأنهم يعرفون أن طعم الكافور ليس بالطعم المستحب، وبخاصة أنه في استخداماته الدوائية يحتاج مسوغا لطعمه، فلا يمكن تعاطيه مجرداً أو كمستخلص قابل للتعاطي والتجرع بكميات كبيرة.

 

لهذا نعود إلى كلمة “المزاج” التي من الواضح أنها تستعصي على أن تقبل التفسير على أنها رائحة فحسب أو طعم فحسب فنجد المعاجم المعاصرة متأثرة في شرحها بعلم النفس وحديثه عن المزاج والحالة المزاجية  ونجد المعاجم القديمة متأثرة في شرحها بنظرية الأخلاط الأربعة التي حكمت الطب قرونا متصلة من الزمن ، ويغيب عن هذه وتلك التقاط المعنى الذي يدركه العرب بسليقتهم، وحتى نشرح هذا المعنى بأسلوب علمي فإننا نبدأ بأن نتأمل في بنائها الصرفي فنجد أن هذه الكلمة من بنية كلمات كثيرة تستخدم للدلالة على معنى يرتبط بالوسائل الكفيلة بتحقيق الغايات وذلك من قبيل وقاء في الدلالة على الدواء الواقي أو الأسلوب الواقي أو حتى الدرع أو الملبوس الواقي، وقل مثل هذا في رِباط، ضِماد، لِقاح، مِهاد، غِطاء، سِماد، حِذاء، فكل هذه الكلمات تدل على أدوات أو خامات تُساعد على الربط أو التضميد أو على التغطية أو التسميد أو المحاذاة (سواء في المشي أو في الصف) أو التلقيح… الخ وقل مثل هذا في كلمات أكثر شيوعا أخّرتُ التمثيل لك بها من قبيل سِلاح ودِفاع ورِهان ودِهان ووِعاء.

 

وهكذا فإن الكؤوس أو الأوعية في حاجة إلى مطهر، ومن العجيب أننا نعرف عن طبع (فيزيقا) المطهر أنه يكون جميل الرائحة، غير مستساغ الطعم، وهكذا هو الكافور وهو الذي ورد في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يُتمّم غسل ابنته المتوفاة به.

 

وعلى هذا فإن المعنى الواضح لهذا النص القرآني المعجز لا يختلف عما يحسه أيّ مؤمن يسمع النص القرآني فبفهم منه مباشرة أن الأبرار يشربون شربا متصلاً (غير محدد) مما يريدون شربه وقد تفجر (متوجها) لهم دون غيرهم، ويظل يتفجر لهم على الدوام على هيئة عين لا ينضب ما تقدمه من شراب (أيا ما كان هذا الشراب (ماء أو لبنا أو خمراً) فالقرآن الكريم علّمنا وعوّدنا أنه لا ينص على هذه التفاصيل ليكون النص عام الدلالة كما نعرف، وعظيم الإشارة كما هو الإعجاز، وهم يشربون هذه العين أو ماء هذه العين أو السائل المتفجر من هذه العين في كأس مطهرة بأفضل مطهر وهو ذلك المطهر الطبيعي ذي الرائحة الجميلة والطعم غير المستساغ.

 

ونأتي الآن إلى آخر النقاط في هذا الفهم وقد أجلناها عن عمد حتى نقدمها بعد أن تتضح الصورة، ولنتأمل النص القرآني لو عبرنا عنه بلغتنا القاصرة مهما كانت بليغة حين نريد أن نقول إنهم سيشربون من كأس مطهرة بالكافور أو من كأس طهرها الكافور أو ما إلى ذلك من المعاني الواضحة المفهومة.. لكن النص القرآني أفادنا مصطلحا واسما جديداً للمطهر الذي لا يطهر الإناء لا بالغسيل ولا بالمسح الظاهري فحسب ولكنه يُطهره عن طريق مستوعب مستغرق للمادة المصنوع منها الإناء وهو طريق فيما يبدو يفوق طريق الإشعاع (الحراري أو الضوئي أو حتى المغناطيسي أو الذري) هو يُطهر بأن يقدم نفسه لمن يطهر به على هيئة “مِزاج” أي وسيلة تطهير تمتد لكل الذرات والمكونات الممتزجة فتطهرها تطهيراً لا يترك شيئاً ممتزجا منها ببعضه أو بغيره إلا وطهره.

 

وهكذا نستفيد من النص القرآني أن أقوى المطهرات المتوقع استخدامها في الحياة هي ما يستلهم صورة المِزاج الكافوري القادر على كلّ درجات التطهير، مع إعطاء رائحة جميلة وطعم غير مستساغ، وإلا فإن المطهر يختلط (أو يمتزج) بالوعاء أو بما في الوعاء الذي يُطهره. هل نستطيع الآن أن نتصور جملة تفيد من إعجاز القرآن الكريم فتقول «اللهم ارزقنا الجنة، وارزقنا مِزاجها» أي التطهير بالمطهر المستغرق للذنوب والخطايا الذي يجعلنا أهلاً لها؟

 

هل تجد في العربية لفظة تفي بما وفت به لفظة المِزاج التي وردت في القرآن ونمر عليها فنفهمها ونود لو أن الله فتح علينا بها وبفهمها. هل أصبح المعنى واضحاً وهو أن هؤلاء الأبرار يشربون “عينا مفجرة من كاس مطهرة المزاج” أو “عينا مفجرة في كأس مطهرة المزاج”، هل يمكن لنا الان أن نفرق بين كلمتين التبستا على بعض أساتذتنا وهما مَزاج بالفتح ومِزاج بكسر الميم فالأولى تعني ما يُمكن وصفه بالحالة المعنوية أما الثانية فتعني شيئا مناظرا للقوام الذي يصف النسيج من حيث التكوين على حين أن المزاج يصف النسيج من حيث التطهير (والطهر والطهارة) والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

 

 

 

 

 

 

 


تم النشر نقلا عن موقع مدونات الجزيرة
لقراءة المقال من مدونات الجزيرة إضغط هنا
للعودة إلى بداية المقال إضغط هنا

شارك هذا المحتوى مع أصدقائك عبر :
x

‎قد يُعجبك أيضاً

أيمن نور للجزيرة مباشر: المؤرخ محمد الجوادي نموذج للمفكر المصري (فيديو)

نعى أيمن نور رئيس اتحاد القوى الوطنية المصرية، الطبيب والمؤرخ المصري محمد ...

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com